اغلقت الصحيفة فى هدوء غريب كان يعلن عن جولة من جولات الصراع التى تدور فى رأسى ، لكن الصراع لم يدم طويلا ، وقررت فى سرعة ألا أخطو هذه الخطوة أبدا .
لم أفق إلا على ابتسامة أمى الصافية وقد وضعت أمامى طعام الإفطار وهى تصيح فى مرح سعيد وبصوت مطمئن :
- الإفطار يا " بشمهندس " .
رفعت عينى إليها ، وحاولت أن ابتسم ، لكن فمى أعلن عجزه عن الابتسام مما زرع القلق فى نفسها فشعرت بأن هناك مالايسر ، لكنها تجاوزت إحساسها بسرعة واستعادت ابتسامتها التلقائية لتجلس على سريرى المقابل صائحة بنفس السرور :
- هل تسمح لى بالجلوس معك قليلا .. أحب أن أشاهدك حين تأكل .
يستغرب الكثيرون من هذه العلاقة التى تربطنى بأمى حتى لكأننا صديقين ، ولاعجب فهى تكبرنى بتسعة عشر عاما ، مما جعل العلاقة بيننا تشتمل على كل العلاقات المتوقعة بين أم وابنها وأخ وأخته وصديق وصديقته .
وللمرة الثانية عجزت عن إجابة ابتسامتها الصافية لأقول فى هدوء : " تفضلى " .
شعرت فى هذه اللحظة أن هناك مايقلقنى وهمت أن تسأل ، لكنها تراجعت وقد تركز بصرها على الجريدة التى ماتزال فى يدى ، وحاولت لمرة أخرى أن تتجاوز هذا القلق لتسأل :
- ماهى أخبار العالم اليوم ياسيادة المحلل السياسى العظيم ؟
تظاهرت بأنى منهمك فى الطعام ولم أسمع سؤالها ، وأغمضت عينى حين ارتشفت من كوب الشاى فى مشهد يوحى بأننى فى استمتاع أخرجنى من العالم كله .
لم تخدعها محاولاتى وسألت بنفس الابتسامة الصافية ، ونفس الصوت السعيد :
- ترى هل فكرت ماذا سترتدى اليوم ؟
فاجأتها بسؤال لم تكن تحب أن تسمعه :
- أخبرينى يا أمى .. ماذا ستفعلين إذا حدث مكروه وفقد والدى عمله ؟ ماذا سيكون موقفك ؟
نفد صبرها واختفت ابتسامتها التى ظلت محافظة عليها طوال الوقت وقالت فى عناء :
- هل عدنا ثانية لهذا الحوار ؟
- أخبرينى ماذا ستفعلين ؟ .. إنما أسأل فقط .
- هذا الشيطان لايزال يسكن رأسك ؟؟؟!!! أقسم أن هذه الجريدة هى التى أعادتك لهذا الجنون .
- بعيدا عن الشيطان ، وبعيدا عن الجريدة .. أليس هذا هو الواقع ؟
- ماذا تعنى بهذا الكلام ؟
- أعنى أننى لن أتزوج ، ولن اذهب الليلة إلى أى مكان .
لم تتمالك دموعها ، ونظرت إلىّ نظرة المتوسل ، لكننى أبعدت عينى عنها وحولتها إلى هذا العنوان التى يتوسط صفحة الجريدة .
لم تحاول مسح دموعها ، بل قامت مسرعة بل قامت مسرعة إلى الباب ، فتحته ثم خرجت وتركتنى أسبح فى أفكارى .
أدرك تماما أننى أُسبب لأهلى قلقا بالغا ، ولكن أليس هذا القلق أفضل من فضائح مابعد الزواج ؟؟ ماذا سيكون موقفهم حين تنشب بينى وبين زوجة المستقبل الخلافات اللامتناهية لأننى فقدت عملى وصرت عاطلا ، أو حتى لأننى لا أستطيع الوفاء بحاجتها وحاجات الأولاد ؟؟ .. ماهو شعورهم ووضعهم أمام الناس حين أُلقى بنفسى فى قاع النيل ؟؟ .. أو حين تغلى الدماء فى عروقى فأقتل زوجتى وأمضى إلى السجن فيصبح الأولاد بلا أب ولا أم ؟؟ .. أو ماذا سيفعلون حين تنتشر أخبار عجزى لتصل إلى مسامع الجيران فى إحدى خناقات زوجتى الصاخبة ؟؟ .. هل يسعدهم أن تقف زوجتى أمام المحاكم لتطالب بالطلاق لكونى لا أصلح زوجا .
إننى أُجنب نفسى وأجنبهم هذه الفضائح القادمة لاشك إذا فقدت عملى الغير مستقر ، وهاهى نسبة البطالة ترتفع بمباركة حكوماتنا الرشيدة وعهدنا الزاهى .
" إنها ( جهاد ) .. بنت خالك ، وليست فتاة غريبة لتتوقع منها كل هذه الشرور "
هكذا كانت تقول أمى لتؤكد أن كل مخاوفى هراء وأوهام ، وأن ( جهاد ) لايمكن أن تفعل مايضر سمعة عائلتها .
( جهاد ) .. النموذج الأنثوى الوحيد الذى يُشبع كل رغباتى .. روحها الممتلئة حياءا .. بسمتها التى تشع وداعة .. عينيها العسليتين الغارقتين فى الهدوء الساحر .. لا أنسى أبدا يوم أن ضحكت لموقف ظريف فلما انتبهت إلى نظراتى لها سارعت بوضع كفها على فمها ، واحمرّ وجهها خجلا .. لم أر فتاة أخرى حققت صورة الفتاة التى حلمت بها .
لكن ...
هل ستبقى بنفس هذا الجمال والهدوء إذا عجزت عن توفير طلباتها .. هل سيدوم حياؤها وخجلها حين أصير بلاعمل وأجلس أمامها فى البيت ، هل ياترى ستقدر ظروفى وتحترم مشاعرى أم سيظهر الوجه الآخر الذى ظهر فى كل الحوادث التى تمتلئ بها صفحات الجرائد ؟
هل ستصبح اسمها ( جهاد ) واقعا أم أن الظروف ستصبح أقوى ؟
أحسست بشئ يضربنى فى ظهرى .. الفت فإذا هى ( ميار ) بنت أختى ، لابد أن أمى أرسلتها إلىّ كى تخرجنى من خرافاتى ، وبالفعل .. نسيت الدنيا معها وصرت ألاعبها وألقيها فى هواء الغرفة ، ثم التقطها ، وأطير بها وأدور ، وهى تضحك وتصرخ فى سعادة ، ومالبثت أن دخلت أختى :
- كيف حالك يا" بشمهندس "
- أهلا يا ( حنان ) .. الحمد لله
- تبدو غارقا فى اللعب مع ( ميار ) .
- ( ميار ) هذه كل حياتى
- هل تحب الأطفال إلى هذا الحد ؟!!
نظرت إليها باستغراب :
- كيف تسألين هذا السؤال ؟
انطلقت فى هجوم مباغت :
- إذن لماذا لاتريد أن تتزوج ؟
- آه .. تسألين عن الزواج .
- نعم .. لماذا تتخيل أن كل فتاة شيطانا ينتظر أن تقع فى فى مشكلة لكى تفضحك أمام العالم .. وتدوخك فى المحاكم ، أو تقف فى منتصف الميدان لتعلن للجميع أنك ضعيف وعاجز وعاطل .. ثم إنها بنت خالك ، وأنت تعرف أخلاقها ، وهى تحبك كما تحبها أنت .. فلماذا تفعل كل هذا ؟
- لأنه لايوجد دليل واحد يثبت أن ( جهاد ) لن تتحول إلى الصورة الأخرى .
- يعنى ؟؟؟؟؟
- يعنى لن أتزوج .
- وعواطفك ومشاعرك .. وحبك للأطفال .. والفطرة التى خلق الله بها كل الناس ؟؟!!!
- لتذهب كل عواطفى ومشاعرى إلى الجحيم .
سادت فترة من السكون وكل منا ينظر للآخر فى تحد ، ثم خفضت وجهها وقالت فى هدوء :
- ياحبيبى .. لماذا تتوقع الشر قبل الخير ؟
- أنا لا أتوقع .. أنا متأكد .. وانتظرى سأثبت لك .
مضيت خارج الغرفة لأُحضر ( ميار ) التى خافت من الجو المشحون بينى وبين أمها ، وجدتها فى حضن أمى التى كانت تحاول الاستماع إلى حديثنا .
وبعد أن داعبتها قليلا لأُخرجها من حالة الخوف قلت لها :
- ( ميار ) .. ماذا تفعلين لو لم يُحضر لك ( بابا ) العروسة التى تحبينها ؟
وبكل براءة قالت ( ميار ) :
- سأُحضر ( بابا ) غيره .
نظرت إلى امى وإلى أختى فى مرارة وقلت :
- ماذا تقولون الآن ؟
لم ينبسا بحرف ، ومضيت إلى غرفتى تاركا ورائى بحرا من دموع .
كتبت فى 25/3/2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق