الثلاثاء، أبريل 19، 2022

فاتن أمل حربي، مأساة صنعتها الدولة والقانون


لئن تصفدت شياطين الجن في رمضان، فلقد انطلقت شياطين الإنس، يفتنون الناس عن دينهم..

 لقد اخذت هذه الأنظمة الحاكمة على عاتقها أن تُفسد على المسلمين دينهم ودنياهم، وجعلت جرعة الإفساد في شهر رمضان مكثفة، تعويضا عما ينقص هذا العالم من شرور الشياطين في هذا الشهر.. فنعم أولياء الشيطان حقا!

 وفي مصر، تولت السلطة إفساد أفكار الناس وتصوراتهم على سائر المستويات، فدفقات من الشهوات تقذف بها البرامج والمسلسلات والحفلات، ودفقات من الشبهات تقذف بها مسلسلات صنعتها السلطة على عينها.

 فإن كنت من أهل الاهتمام بالشأن العام فها قد جاءك الجزء الثالث من مسلسل الاختيار الذي بلغت ميزانيته أكثر من ميزانية عشر مسلسلات!!

 (ويجب أن تتذكر كلمات طبيب الفلاسفة: احنا فقرا أوي.. كده خربانة وكده خربانة.. قولوا لي اعمل ايه.. حد يقول لي اجيب فلوس منين.. يا رب احنا وضعنا صعب أوي... إلخ!)

 وهدف هذا المسلسل في نهاية الأمر أن يُقنعك أن ما أنت فيه من الفقر والقهر والذل والعبودية إنما هو نعيم الوطنية.. فأنت الآن تعيش في الإنجاز الكبير الذي صنعه عبد الفتاح السيسي الذي أنقذ مصر!!..

 وفي الواقع فليست الخطورة في هذه "الشهوة الوطنية" التي يوقظك فيها هذا المسلسل لتعيش مغفلا وتموت مغفلا وأنت تعتقد أن مؤسسات الدولة مؤسسات وطنية ملائكية محترفة.. لا لا.. ليس هذا هو الأخطر.. الأخطر حقا هو ما يتسرب إلى وعيك ويتكون في ضميرك من الوثنية، نعم.. وثنية "الدولة" وصنم "الوطن"!.. ستخرج من المسلسل وقد تشكل في ضميرك إله جديد تشرك به مع الله، وهو هذا الإله الذي اسمه الدولة أو الوطن..

 (إذا كان لديك وقت، وأحببت التعرف على هذا الوثن، فتجول هنا:

https://melhamy.blogspot.com/2014/06/blog-post_21.html

 https://melhamy.blogspot.com/2014/07/blog-post.html

 https://t.me/melhamy/5262)

 فإذا لم تكن من محبي السياسة، فلقد ادخرت لك السلطة مسلسلات أخرى، يقوم على كتابتها أمثال إبراهيم عيسى.. وبينما أنت تتابع قصة اجتماعية لامرأة مظلومة مهضومة، فما هو إلا أن تجد نفسك قد خرجت من المسلسل، وقد نفرت من المشايخ الجهلاء، والفقه الظالم، والدين المُخْتَرَع، وتسرب إلى ذهنك أن أبا هريرة والبخاري وابن تيمية والأزهر مسؤولون عن ضياع المرأة والأطفال في عصر الملاك البريئ عبد الفتاح السيسي!!

 وبدلا من أن تفكر في حل طبيعي منطقي لإنقاذ المرأة والأطفال في هذا الواقع المعاصر، إذا بالمسلسل يأخذك لتعديل دينك، وخوض معركة مع المحدثين والفقهاء والمشايخ، بل والصحابة والسنة، لتجد نفسك في مواجهة الدين، وفي مواجهة فقه يتمدد على طول أربعة عشر قرنا، وعلى عرض الديار الإسلامية من الصين حتى الأندلس!!

 في المشهد الشهير الذي ذاع وانتشر حول حضانة الأم لأطفالها، وهو المشهد البائس علميا وفنيا معا، كان الحوار فجًّا ومباشرا وقبيحا انتهى بقول الشيخ: هو ده اللي أنا حافظه، وبقول المرأة: ربنا أرحم من إنه يقول كده!!

 وقد شاهدت بعض الردود القوية عليه، ولن أكرر ما قالوه، فقد أفادوا وأجادوا، ويمكنك أن ترجع إليها هنا:

 رد الشيخ عبد الله رشدي | https://youtu.be/x2CWRRgbcSM

 رد الأستاذ معاذ عليان | https://youtu.be/zwV2HnPXDAQ

 رد الأستاذ حسام عبد العزيز | https://youtu.be/a8n8VtG8g4s

 رد الشيخ ياسر النجار | https://youtu.be/HOMTT4Q3q3U

 لكن أمرًا واحدًا لم يتطرق إليه أحد، اللهم إلا الشيخ ياسر النجار في التفاتة سريعة، أرى أنه في الغاية القصوى من الأهمية، وأحب أن ينتبه له سائر القارئين، وأن يدلي بدلوهم فيه سائر الرادّين على هذا المسلسل وأشباهه.

 ذلك هو أن مأساة المرأة والأطفال في واقعنا المعاصر، هي النتيجة المباشرة لتنحية الشريعة وإلغاء القضاء الشرعي، بل ولا مبالغة إذا قلنا أيضا بأنه من آثار تقنين الشريعة.

 باختصار شديد:

 القاضي في النظام الإسلامي له مساحة اجتهاد واسعة في النظر وفي القرار، وذلك كالتالي:

 1. القاضي لا يحكم بقانون أنتجته الدولة، بل يستمد أحكامه من كتب الفقه الإسلامي، وهذه الكتب أنتجها علماء المسلمين بغير تدخل من السلطة ولا تأثير فيها.

 2. لأن النصوص -مهما اتسعت- محدودة، فإن مساحة الاجتهاد أمام القاضي واسعة.. هذا ما وفَّره له الفقه الإسلامي نفسه.. فللقاضي أن يحكم في القضية المعروضة أمامه بما يناسبها من أقوال الفقهاء داخل مذهبه، أو حتى يحكم فيها بقول من مذهب آخر يرى أنه الأنسب في هذه الحالة.

 3. مسألة حضانة الطفل في كتب الفقه، مهما اتفق فيها العلماء أو اختلفوا، فالخط الثابت الواضح فيها أن المقصود من النقاش فيها هو: مصلحة الطفل نفسه. أو اختيار الطفل.. فقد يُحكم بالحضانة لأبيه أو لأمه أو لأم أمه أو لخالته أو لعمته.. على حسب ما تكون مصلحة الطفل واختياره.

 وتقدير مصلحة الطفل، ومشاهدة اختياره، أمرٌ يراه القاضي الذي ينظر في القضية.

 فتخيل معي الآن، أيهما أنفع للطفل: قاضٍ يختار من بين النصوص الفقهية الكثيرة القول الأنسب لحالة القضية التي أمامه، أم القاضي الذي نزل عليه من الدولة نصٌّ قانوني لا يستطيع أن يتعداه، فهو مُجبر على القضاء به حتى لو كان يرى بعينه أن الطفل سيضيع إذا أوكلت حضانته لأمه؟!

 4. القاضي المسلم في القضاء الشرعي كان شيخا، هو يرى في نفسه أنه مكلف بإقامة الدين في الناس، ومكلف بالتزام التقوى والأخلاق في نفسه، على هذا تربى ونشأ، وعلى هذا يحاسبه المجتمع! فالقاضي الشرعي يخدشه أنه لا يصلي الصبح حاضرا في جماعة، أو أنه يتفوه بالكلام الساقط، أو أنه يدخن، أو أنه يأتي عملا من خوارم المروءة.

 بينما القاضي المعاصر هو في أحسن الأحوال مستقيم اجتماعيا، كأن لا يكون ممن يرتشي أو ممن يظهر انحلاله الأخلاقي!

 والفارق هائل وضخم بين من يرى نفسه شيخا من ورثة الأنبياء والناس يتوقعون منه استقامة دينية فوق الاستقامة الاجتماعية.. وبين من أعلى أحواله الاستقامة الاجتماعية وحدها.

 مثلما أن الفارق ضخم بين من يرى نفسه مُكَلَّفا بالقضاء وفق ما يُرضي الله تعالى ويحقق مصلحة العباد، وبين من يرى نفسه مكلفا بإنفاذ القانون وإرضاء الدولة.. إنه الفارق بين عبد الله وعبد الدولة!

 فأما إن كان القاضي المعاصر في مصر المعاصرة، فنحن أمام نموذج آخر.. نحن أمام منظومة قضائية مبنية على الفساد والانحلال الأخلاقي، ومبنية على استبعاد العناصر الصالحة.. فالقضاء في مصر هو تركة يتوارثها الفاسدون، يدخلون إليها بالرشوة والمحسوبيات، ويشيع فيها تلقي الرشاوى والانحلال الأخلاقي، وهم يُفرزون فيصعدون ويُستبعدون بناء على تقييم السلطة لخضوعهم لها وتنفيذهم لرغباتها..

 القوانين التي تنظم عمل القضاة والمحاكم موضوعة أصلا لتحقيق هدف تطويع القضاء والقضاة للسلطة الحاكمة!

 وفي السنوات العشرين الأخيرة، فتحت السلطة بابا في القضاء يجعل ضابط أمن الدولة اليوم هو القاضي غدا!! وتأمل في حال منظومة قضائية يسودها عمالقة التعذيب والفساد والانخلاع من الدين!!

 5. والخلاصة التي أريد التركيز عليها عزيزي القارئ الصبور، الذي أشكره أن وصل معي إلى هذا السطر، أن مأساة المرأة والطفل في عصرنا هذا، هي فرع من مأساة ابتعادنا عن الدين وعن الشريعة، وهي فرع من مأساة إلغاء القضاء الشرعي وتقنين الشريعة.. ذلك التقنين الذي -هو في أحسن أحواله- نزع عن الشريعة إهابها الأخلاقي والروحي فأحالها نصوصا قانونية جامدة، يقوم على تنفيذها قضاة فاسدون مختلون، يعبدون القانون!

 فالمأساة المعاصرة هي الثمرة المباشرة للنظام العلماني لهذه الدولة الحديثة، وهذا النظام الطغياني الفرعوني المجرم.

 وإذا كان لديك وقت آخر.. فهذه بعض روابط عن الفارق بين الشريعة والقانون وعن تقنين الشريعة وعن ضعف العلماء:

 https://melhamy.blogspot.com/2011/10/blog-post.html

 https://youtu.be/K6VoJYEPWXc

 https://youtu.be/c4IRlQs9Pjw

 https://youtu.be/mkIHMWmTUMU 

الأحد، أبريل 17، 2022

مجرد عصابة عسكرية منظمة!

 

لمرة أخرى يجب أن نكرر ونؤكد ونقول من جديد بأن المشكلة القائمة الآن في عالمنا العربي ليست مشكلة بين الإسلاميين وأنظمة الحكم.. بل هي مشكلة بين أنظمة الحكم وبين الجميع!

نعم، الإسلاميون هم الأقوى والأقدر على مقاومة هذه الأنظمة، وهم الذين يتعرضون للجانب الأعظم من التشويه والتكسير لسبب بسيط: أنهم الإفراز الطبيعي للأمة المسلمة.

لكن الذي تفعله أنظمة الحكم المعاصرة هو ضد الدين وضد الوطنية وضد العقل وضد الشرف.. فأي إنسان مخلص لوطنه ولو من منظور علماني وطني مادي لا علاقة له بالدين، فهو سيتوصل في النهاية إلى عداوة هذه الأنظمة، وسيرى فيها عملاء العدو بكل وضوح.

بعبارة أخرى..

لو أن مصر يحكمها رئيس علماني وطني يرى أن الدين خرافة وأنه مصدر تخلف.. فهذا الرئيس الذي يحمل هذه الأفكار، هو نفسه الذي سيتحرك من منطلق وطني بحت في دعم الأزهر، لأن الأزهر يمثل قوة ناعمة مضافة إلى قوة البلد، الأزهر سيُوَلِّد له وجودا طبيعيا في مناطق شاسعة من إفريقيا وآسيا، وسيكون مدخله الطبيعي لعلاقات دولية واسعة، وسيضع في يده أوراقا كثيرة يمكنه أن يستعملها في تقوية مواقفه السياسية!

ذات الكلام سيُقال عن السعودية إذا حكمها حاكم علماني وطني.. إنه سيلقي بكل أنواع ثقله ودعمه لتعزيز مكانة الحرمين ونشر السلفية وطباعة كتب مشايخها واستقدام الدارسين من سائر بقاع الدنيا إلى السعودية..

مثلا، هذا التمدد الشيعي الذي يشتكي منه الجميع الآن، ما كان له أن يكون لولا الدعم التام الذي تقدمه الدولة للحوزة العلمية في قم ومشهد، وتلقي بثقلها السياسي والمالي كي لا يكون للشيعة حوزات علمية منافسة في العراق أو لبنان أو باكستان أو أفغانستان.. ولو أن الذي يحكم إيران ليس من آيات الله، وإنما هو حاكم وطني علماني بحت، فلن تراه يتراجع عن دعم هذه الحوزة العلمية لتتمدد في أنحاء العالم وتنشر قوتها الناعمة التي يستفيد منها سياسيا!

هذا ما فعله الغرب ذاته.. الغرب الذي شنق القساوسة واعتنق العلمانية وأقصى الكنيسة، هو ذاته الذي يسخو ويجود ويدعم حملات التنصير والإرساليات التبشيرية، وكانت جيوشه (العلمانية) تحتوي -أو تساند- البعثات الكنسية التي تنشر المسيحية في أدغال إفريقيا وبوادي آسيا! ولا يزال للفاتيكان نفوذ هائل وسطوة ضخمة في عالم السياسة، وهو مجرد كنيسة كبيرة!

ومن ثم، فما تقوم به هذه الأنظمة من ضرب معاقل القوة: كالأزهر في مصر والسلفية في السعودية و... إلخ، هو عمل من أعمال الخيانة.. ليست خيانة الدين فحسب، بل خيانة الوطن بالميزان العلماني المادي نفسه!

فبلادنا -من وجهة نظر علمانية وطنية بحتة- لن تكون ذات حضور سياسي ولا ذات قوة إقليمية ودولية إذا انخلعت عن دينها واعتنقت العلمانية الغربية، فماذا تكون قيمتنا في هذا العالم إذا كان أقصى ما سنستطيع تقديمه أن نكون خاضعين مخلصين للأفكار الغربية!

إن الغرب نفسه لن يسمح لنا بالالتحاق به عضوا محترما في عالمه، وكيف يسمح بذلك لمن انخلعوا من أنفسهم وجاؤوه خاضعين؟! متى رأيت غنيا ثريا سمح لخادمه أن يجلس إلى جواره ويكون ندًّا له، لمجرد أنه ارتدى نفس الثياب واجتهد في حفظ البروتوكول؟!

وأدلُّ دليلٍ على ما نقول، أن هذه الأنظمة الحاكمة لم تجتهد أبدا في بناء دولة على النمط الغربي بحق، فلا هي تعمل على تكوين قضاء مستقل نزيه تسود أحكامه على الرؤساء والأمراء والملوك، على نحو ما فعلت الدول الغربية. ولا فكروا في إنشاء صحافة حرة وإعلام قوي، ولا حتى اجتهدوا في إنشاء جيوش قوية تدخل في سباق محموم لتحقيق التفوق الإقليمي وتدافع بشراسة عن حدود الأمن القومي للدولة!

والغرب الذي يؤزهم أزّا، ويدفعهم دفعا، لهدم حصونهم الدينية والثقافية لم يضغط عليهم أبدا لصناعة ديمقراطية حقيقية أو مؤسسات مستقلة..

ومن هنا، فناتج ما يجري في بلادنا أنه هدم بغير بناء.. تُهدم صورة الشيخ الذي يُعَلِّم ويُفتي ويقضي، ولا تُبْنَى صورة القاضي المستقل أو البرلماني الحر أو المُعَلِّم الكريم!

تُهْدم الأسرة بضرب فكرة قوامة الرجل وبضرب الأحكام الدينية التي تنظم حياة الرجل والمرأة، ولا تُبْنَى المؤسسات التي يمكنها انتشال المرأة المطلقة والمعيلة من مجتمع قاسٍ، أو حماية البنت المراهقة من عبث الشباب، أو رعاية المرأة المسنة من عقوق الأولاد!

تُهْدم منظومة التكافل المجتمعية الذي تحتوي الفقراء والمساكين والعاجزين والمحتاجين والمراهقين والشباب، ولا تُبْنَى مؤسسات الدولة للرعاية والضمان الاجتماعي وحماية المظلومين!

أي إن الدول في بلادنا -كما يقول بحق تشارلز تيلي- مجرد عصابات عسكرية منظمة لتحقيق أكفأ نهب ممكن!!

ونحن في كل حديثنا السابق هذا، ننظر من منظور علماني وطني مادي بحت.. وإلا فيعلم الله أنني أحتقر هذا النموذج المادي وأراه قزما كسيحا أمام عظمة النموذج الإسلامي.. وإذا كان رجل مثل وائل حلاق -وهو الأستاذ الجامعي المرموق- يفضل أن يعيش ذميا في عصر بني أمية وبني العباس على أن يعيش في أمريكا الحديثة.. فماذا عسى مثلي أن يقول وأنا الذي ينقسم يومي بين مطالعة تاريخنا ومعايشة واقعنا في بلادنا المنكوبة المقهورة؟!

الاثنين، أبريل 11، 2022

أستاذتي وشيختي الأولى.. في ذمة الله


 كانت جارة لنا.. نشأت فرأيتها.. وهي أول من رأيتها تلبس النقاب، ولم يكن هذا شائعا في محيطي الأول..

 ولكن تحت النقاب نفس مشرقة، ووجه صبوح، وسَمْتٌ منير، وكلام يسيل منه الحب والرحمة..

 وقد أخبرتني أمي أنها تائبة، فقد رأتها أمي قبل مولدي بسنوات، وهي غير متحجبة، حين كانت تمضي إلى عملها، إذ كانت مديرة مدرسة.. لكن الله أنعم عليها بالتزام الدين وهي في الأربعينات!

 وإذا بالمعدن الأصيل والنفس الطيبة ينقلب حاله، فما هو إلا قليلٌ حتى انكبت على الدين وكتبه، وما هو إلا قليل حتى صار لها درس تعقده للنساء، وقد كنتُ شاهدا على النساء اللاتي تغير حالهن على يدها، بأثر من درسها!

 درجت إليها طفلا، كانت أول من علمني سور القرآن الصغيرة، وبعض الحساب، وذلك قبل أن أدخل إلى المدرسة، وهي أول من سمعت منه حديث الجنة والنار، نعيم الجنة وما فيها من القصور والطعام والشراب، وعذاب النار وما فيها من الجحيم والنكال!

 وهذه هي اللبنة الأولى التي حُفِرت في نفسي، وكان تأثيرها هو التأثير الباقي الدائم، فمهما توسع اطلاع المرء فيما بعد، إلا أن الأثر الأعظم هي لتلك الرجفة الأولى التي شعرتها وأنا بين يديها.. رجفة الشوق إلى الجنة ورجفة الخوف من النار!

 نزلت من عندها في هذا اليوم الذي لا أنساه وأنا عازمٌ على إقامة الصلاة..

 لقد كانت امرأة يشع منها الدين، تصدر عنها الأخلاق الحسنة طبعا وجبِلّة، لا يقارن أثرها على الأطفال إلا بأثرها على النساء.. وقد حضرت مع أمي بعض دروسها وأنا صغير، فكان كلاما لم أفهمه، ولكني فهمت أن النساء يجلسن أمامها كأن على رؤوسهن الطير!!

 وذات يوم قالت لي أمي وهي حزينة: لن تعطي الحاجة "هناء" دروسها..

 - لماذا؟

 - منعوها؟

 - من الذين منعوها؟

 - الحكومة

 - ولماذا تمنع الحكومة درس الحاجة هناء؟!

 لا أتذكر الآن كيف أجابت أمي على سؤالي، لكنها كانت المرة الأولى التي أعرف فيها أن هناك شيء اسمه "الحكومة" تمنع الخير وتصد عن سبيل الله!!

 فيما بعد عرفت كيف جاءها التهديد، كان على هذه الصيغة: انتهاء الدرس فورا، وإلا سيختفي زوجك وأبنائك إلى الأبد!

 ذات مرة رأيتها تقرأ في كتاب ضخم.. وقد ملأته بالخطوط، فسألتها: ما هذا الكتاب؟

 قالت: في ظلال القرآن

 - وما معنى هذا؟

 ولا أتذكر الآن كيف أجابتني أيضا!

 هُرعت إلى أمي وأنا أسألها: من الذي يستطيع أن يكتب كتابا كبيرا مثل الذي تقرأ فيه الحاجة هناء؟

 قالت أمي: هذا كتاب كتبه الشيخ سيد قطب

 - وأين هو الشيخ سيد قطب؟ (كنت أظن أنه في مدينتنا الصغيرة)

 قالت أمي: أعدموه.

 وللمرة الثانية أعرف أن هذه الحكومة التي تمنع دروس الدين هي التي يمكن أن تقتل العلماء.

 نعم، إنها المذاقات الأولى..

 ربما لم أستفد منها علما كثيرا، لكني استفدتُ منها ما هو أعظم من العلم.. التأثر!

 ملامحها لا تغيب عني وهي تصف لي وصف الجنة والنار، وهي تعلمني الوضوء والصلاة، وهي تعطيني "نجمة كبيرة" لأني أصبتُ في حل مسائل الحساب.. كان تعاملها وتشجيعها يشعرني أنني على قدر من الأهمية!!

 وعلى هذا النحو من الخلق الجميل كان زوجها رحمه الله، وكان ولداها حفظهما الله..

 ثم تقلبت الأيام وتباعدت الديار وانقطعت الأخبار.. حتى عرفت اليوم أنها قد تُوفيت منذ شهور، فكانت من شهداء هذا الوباء.. أحسبها كذلك والله حسيبها!

 مما لا أنساه من المواقف المؤثرة، ذلك الموقف العجيب الغريب الطريف الذي يخبرك أين وصلت بلادنا!

 كانت قد تقدمت في العمر واحتاجت لمن يخدمها، فجيئ لها بخادمة تحمل عنها بعض العبء، إلا أن هذه الخادمة سرقتها، ولما اكتُشِفت السرقة، ووُجِهت هذه الخادمة بجريمتها لم تنكر.. ولما هُدِّدت بإبلاغ الشرطة قالت: لا بأس، أبلغوا الشرطة وأنا سأقول: إنها كانت تستضيف في بيتها اجتماعات كثيرة حافلة بالمنتقبات والملتحين!!

 كانت خادمة وسارقة، ولكنها تفهم أحوال البلد خيرا من جمهرة المثقفين المتسكعين في الفضائيات والمراكز البحثية، أولئك الذين يبيعون الكلام!!

 فاجتمع على المرأة الصالحة في هذا الموقف قهر وعجز وخوف!!

 سلاما عليكِ يا معلمتي الأولى..

 أسأل الله تعالى أن يكتب لك أجرك المنثور فيمن تعلموا على يديك، وأن يجعلك من الشهداء، وأن يرفعك إلى عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا!!