الأربعاء، نوفمبر 29، 2017

زمن الجاهلية الجميل!

كانت الأصنام في الجاهلية كثيرة.. لكل قبيلة صنم، في كل بيت صنم، ومن أراد أن يتخذ صنما لنفسه فعل، وحين يكون القوم في سفر يحمل الرجل صنما صغيرا، إن تكاسل عن الحمل بحث في لحظات الراحة عن حجر فاتخذه صنما ليعبده، فإن مرَّ بحجر خير منه ألقى الأول وعبد الثاني، فإن كانوا بأرض غير ذات حجارة جمعوا ترابا ثم جاءوا بشاة فحلبوها عليها فتتماسك فيعبدونها ويطوفون حولها.. وهكذا! وحول الكعبة وحدها انتصب ثلاثمائة وستون صنما!!

كان عصر حريات دينية من أوسع ما يكون!

هذا إن كان الدين مجرد علاقة بين الرجل وربه، فليس يضر ملأ قريش أن ينتقل الرجل في اليوم بين خمسة أصنام أو ستة، أو يترك عبادة الأصنام كلها ويقضي يومه وليله يتأمل في السماء وينسج الأشعار، أو حتى يتعلم الكتاب الأول فيتهود أو يتنصر.. كل شيء مباح ما دام المرء مواطنا صالحا يمشي على النظام المتبع ولا يخرج عنه أو يخرج عليه.

من هنا فهم العرب التهديد الخطير الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهموه من الكلمة الأولى "لا إله إلا الله"، فهموا منه ما لا يفهمه أغلب الناس اليوم، فهموا في لحظة واحدة أن كلمة التوحيد تعني هدم الأصنام، وهدم الأصنام يعني تغيير النظام.. كانت كلمة "لا إله إلا الله" في أسماع ملأ قريش ككلمة "الشعب يريد إسقاط النظام" في أسماع الحكام العرب، إلا أن كلمة التوحيد بناء بعد هدم، وتصور شامل للحياة، ولهذا انتفض النظام القرشي ضد الدعوة الجديدة..

فلو أن متحدثهم ينطق بلسان اليوم أو أن متحدث الأنظمة اليوم كان في زمانهم لقال: "إن الدولة القرشية تدافع عن الحريات الدينية المكفولة لكل مواطن، فهي لا تدافع عن صنم بعينه ولا عن عبادة شمس أو قمر، بل تدافع عن حق كل مواطن في عبادة ما يشاء، فالدين هو مجرد علاقة بين العبد وربه، لا دخل للدولة فيه.. وهذه الدعوة الجديدة التي جاء بها فتى بني هاشم إنما هي تطرف وتعصب بغيض ومحاولة إجبار الناس على عبادة إله واحد، وضرب استقرار المجتمع وتعكير السلم الاجتماعي وقلب نظام الحكم عبر السعي إلى السلطة بوسائل مخالفة للقانون والدستور القرشي الذي وضعه الآباء المؤسسون العظام". قد قيل كل هذا الكلام لكن بألفاظ أخرى، وصدق ربنا (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم).

قد كانت أزمتهم على الحقيقة أن الإسلام ليس مجرد طقوس وشعائر وعلاقة بين العبد وربه، إنما هو نظام ومنهج يصوغ الحياة وفق رؤية شاملة تمتد إلى مناحي السياسة والاجتماع والاقتصاد، ومثل هذا لا يمكن القبول به في دائرة الحريات الممنوحة في النظام الجاهلي. وتلك هي أزمة الإسلام حتى الآن مع الأنظمة الحاكمة ومع النظام الدولي.

على أن قوة الإسلام التي رسخت في الناس لا تجعل النداء بالعودة إلى "زمن الجاهلية الجميل" مقبولا، حتى من يتابع أحلام المستشرقين والمنصرين وتطورها يجدها في انحدار، ففي مطلع القرن الماضي كانت مؤتمراتهم ومؤلفاتهم تبشر بقرب تنصير العالم الإسلامي، ثم بدأت تظهر نبرة أن المطلوب ليس تنصيرهم بل المطلوب إخراجهم من الإسلام (وأوضح تطبيق على هذا المعنى أن الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى اكتفوا بإخراج الإسلام من القسطنطينية وقهرها على العلمانية ولم يحاولوا إعادتها إلى المسيحية)، وعند نهاية القرن وبداية القرن الجديد كانت التقارير الغربية وكثير من المستشرقين قد وصلوا إلى مرحلة "صناعة الإسلام المعتدل" ودعم الفئات "الإسلامية" التي تمثل دينا مستكينا مهتما بالعلاقة بين العبد وربه ومستسلما للنظام الحاكم ومن فوقه النظام الدولي. وتنوعت التوصيات من دعم فئات متدينة في حياتها الخاصة لكنها ملتزمة بالنظام السائد (كانوا يتوقعون أن تكون تجربة تركيا مثالا ناجحا على هذا) إلى دعم فئات لا تتدخل بالسياسة من قريب أو بعيد (كجماعة التبليغ التي تسمح لها الأنظمة بمعسكرات ورحلات وخطب على المنابر) إلى دعم فئات تتدين بعبادة الحاكم وتمهيد الأمر له (كما في حالة السلفية المدخلية والطرق الصوفية). ومع تضاؤل نجاحهم في التجربة الأولى ثم قلة نجاحهم في الثانية يبدو أن التوصيات الآن محتفية على وجه الخصوص بدعم السلفية المدخلية والطرق الصوفية.

قبل شهور طالعت دراسة عن قوانين التنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر، يقول كاتبها (الخبير في مكافحة الإرهاب!) في السطور الأولى أنه كتبها بغرض إقناع الجماعات الإسلامية التي تتطلع إلى الخلافة وحكم الشريعة أن الدولة العثمانية التي يعتبرونها خلافة إسلامية كانت في آخر أيامها تسير في الطريق إلى العلمانية وتقصي الشريعة الإسلامية وتستبدل بها القوانين العلمانية الأوروبية، وأن هذا قد حدث برعاية الخليفة، وأن الدولة العثمانية كانت أبعد ما تكون عن الخلافة الدينية التي يتطلع إليها الإسلاميون، إنما كانت إمبراطورية عسكرية برجماتية تسعى بأي وسيلة للبقاء على قيد الحياة[1].

هنا نصل إلى مستوى جديد من الخطاب، وهو مستوى يقول: التجربة التي تنشدونها وتتطلعون إليها إنما كانت في حقيقة الأمر علمانية، لم تكن بالصورة التي تتخيلون، فدعكم من الأوهام، واقتنعوا بالعلمانية. ويمكن تجميل الصياغة على نحو آخر لتصير: إن النموذج الإسلامي العظيم المتمثل في الدولة العثمانية التي كانت خلافة إسلامية كبيرة هو في حقيقته كان يسير نحو الحداثة والتطور ويتقبل بشكل رائع ومرن المستجدات العالمية، حتى إن الخليفة نفسه وفي ظل مشيخة الإسلام نفسها بدأوا في استبدال القوانين الأوروبية بالقوانين الإسلامية، وبقبول مفهوم المواطنة كبديل عن الأمة، وعلينا أن نواصل مسيرة الخلفاء والعلماء المستنيرين لنصل إلى ما لم يمهلهم الوقت ليصلوا إليه.

نفس هذا المنطق كان أحد أهم الدوافع وراء نشر وترويج كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق، فالكتاب يسوق لفكرة أن الدولة الإسلامية وإن كانت عظيمة ورائعة وبها من القيم ما تفتقر إليه الحداثة إلا أن تحققها في الواقع مستحيل، ومن ثم فعلى من يسعون في إعادة إحيائها أن يكونوا أكثر واقعية. ومن هنا أثار الكتاب ردود فعل مختلفة بين العلمانيين والإسلاميين جميعا، لأن كل طيف في كل فريق رآه داعما أو مهددا لفرضية أساسية لديه. فالإسلاميون الجهاديون والثوريون احتفوا بالكتاب لأنه يثبت تناقض الإسلام مع منظومة الحداثة تناقضا يمنع التقاءهما وهي فكرة داعمة للمسار الثوري الجهادي النضالي ثم اختلفوا مع استحالة التحقق فإن عودة الخلافة وعد الله، والإسلاميون الديمقراطيون تلقونه بالرفض لأن بناءهم الفكري يسوق لالتقاء الإسلام بالحداثة واستطاعته استيعابها أو التكيف معها أو الاستجابة لها بأخذ خير ما فيها ورفض شر ما فيها ثم قالوا بأن هذا هو دليل إمكانية التحقق لا استحالته كما يسوق المؤلف. وعلى الجانب الآخر: رفض فريق من العلمانيين الكتاب لما فيه من ثناء على التجربة الإسلامية وإثبات افتقار الحداثة لبعض قيمها بل واحتياجها للاستفادة من الإسلام، ومنهم فريق لم يهمه من الكتاب إلا أنه يقدم رواية فيها إرضاء للمتدينين والإسلاميين وتجربتهم العظيمة مع إثبات أنها كانت ولن تعود وأنها مستحيلة التحقق.

حين ننظر فيمن ترجم وروج للكتاب سنجدهم من الفريق الأخير.. فريق من يعتنق مفهوما علمانيا قوميا يحرص على نوع إرضاء أو لنقل عدم خسارة للتيار الإسلامي في مشروعه الجديد. ذلك هو مشروع عزمي بشارة صاحب النفوذ الثقافي الطاغي من خلال نوافذه البحثية والإعلامية، ومن لا يخفى على متابع سعيه في تصنيع الكوادر على نفس المثال.

عزمي بشارة، وهو ألطف من يتحرك في سياق تفكيك مفهوم الدولة الإسلامية، قال في فيديو منشور نفس ما قاله خبير مكافحة التطرف، يكاد أن يكون بالحرف، ولربما أن يكون قد نقل عنه، يقول ما مفاده: دراسة نهاية المرحلة العثمانية مهمة لنرى التطور الطبيعي لتبني العلمانية، والقوانين التي تبدأ باحترام الشريعة لتؤصل لإقصائها واستبدالها، وقد فعل هذا السلطان العثماني، الذي استعمل الديباجات الشرعية في سعيه "للإصلاحات المدنية"، حتى إلغاء الخلافة على يد أتاتورك إنما كان بفتوى!

وختم بشارة كلمته بقوله "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم"!!! في أسرع تطبيق عملي على مراده الذي نستطيع أن نقول إنه: إقصاء الإسلام عبر التأصيلات الشرعية نفسها، والشخصيات والمؤسسات والحركات الإسلامية نفسها.

تبدو الفكرة نفسها بائسة ومعبرة عن الإفلاس، ذلك أن الإسلاميين –من أول الغنوشي زعيم الحريات المدنية يسارا وحتى داعش زعيمة الخوارج يمينا- لا يفكرون في الاقتداء بالدولة العثمانية، بل هم يرون آخرها هذا هو المرحلة الكارثية التي أسقطت الخلافة، بل إنه لا تعجبهم ولا حتى الدولة الأموية أعظم الدول الإسلامية قوة واتساعا ونفوذا.. إنما يتعلق أولئك في تنظيراتهم وأدبياتهم بالخلافة الراشدة، ومن خلالها يستدل كلٌّ منهم لمشروعه. لكن اللافت للنظر هنا أن مستوى الخطاب الساعي لإقصاء فكرة الدولة الإسلامية وصل إلى مرحلة يدغدغ فيها مشاعر المسلمين ويحاول إرضاء الإسلاميين بتسويق العلمانية على أنها ليست متناقضة جوهريا مع الإسلام.

وهنا أتذكر كلمة صديقي الساخر: الإسلام دين وسطي جميل لا يتعارض مع الإلحاد!!

تحت نفس لافتة "الإسلام الوسطي الجميل" يتحرك السيسي ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد، كذلك يفعل حسن نصر الله وروحاني وبشار "يحاربون التكفيريين"!! بل إنك لتقرأ كلمات الإسلام المعتدل عند أفيخاي أدرعي ونتنياهو وترامب!! حتى أنشد صديق يقول:

إذا أفتى لأمتنا أوباما .. وعلمنا أصول الدين كيري
فدعنا من حلال أو حرام .. فقد طابت مسامرة الحمير

مهما تضاربت أو اتفقت مشاريع أولئك، فإن تسويقها يتخذ نفس الشعار "العودة إلى الإسلام الوسطي الجميل"، وهنا تتعدد التفسيرات والتأصيلات والفقهاء، بل ويتنوع الفقهاء أنفسهم، فربما كان إعلاميا كمحمود سعد الذي تحسر يوما على زمن الاعتدال الذي كانت تقف فيه المرأة في الشرفة بملابس النوم، ويمسك زوجها بزجاجة الخمر! أو أكاديميا كأسامة الغزالي حرب الذي لا يعترف بالحدود جزءا من الإسلام، أو حتى شيخا معمما يحكم بالجنة على من مات في سبيل الوطن وإن لم يكن مسلما!

القدر المتفق عليه بين كل أولئك أن يتخلى المسلم عن فكرة منافسة الحكام في مساحة النظام، وأن يكتفي من دينه بالشعائر والطقوس، فمن شاء كان سلفيا (مدخليا) أو صوفيا (مهادنا)، ومن شاء ترك الإسلام واعتنق ما شاء متى شاء وكيفما شاء، عش حياتك كما تهوى.. بشرط واحد: أن تكون مواطنا صالحا ملتزما بالنظام!

يكررون سيرة أشباههم من ملأ قريش.. تزعجهم "لا إله إلا الله" وتثير أعصابهم، على أن أولئك أرادوا إخمادها، وهؤلاء يريدون تذويبها وتزويرها!

قال تعالى (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي. إن الله لقوي عزيز)




[1] Ishtiaq Hussain, The Tanzimat: Secular reforms in the Ottoman Empire, (faith matter, 2011), p 4.

الخميس، نوفمبر 23، 2017

طبقات الاستبداد ومقاومة الأمة

ثمة أمور يجب على عقل المقاومة أن تستوعبه وتهضمه جيدا، من أهمها ما سنتناوله هنا، وسنحاول الحديث عنه هنا بتبسيط شديد:

1. الناس عبر التاريخ يثورون ضد الاحتلال الأجنبي أو ضد الاستبداد الداخلي. وكان التسامح مع المستبد أوسع وأكبر بكثير من التسامح مع المحتل، ولهذا تطول عصور الاستبداد أكثر بكثير مما تطول عصور الاحتلال.

2. قد ينقلب المستبدون بعضهم على بعض، وقد تشتعل ثورة فتسقط المستبد وتقتله بأشد الطرق وحشية، إلا أن الأهداف العامة للأمة لا تتغير، فالمستبد يعبر عن الأمة ويتحرك في سبيل أهدافها ولتقويتها، والذين ثاروا عليه إن انتصروا فهم يتحركون في نفس الأهداف وبنفس الدوافع.. لأن المستبد لم يكن ضد أمته ومناقضا لها بل كان ظالما مستبدا يستحوذ على مواردها، فإن كان قويا كان عصره رغم استبداده من عصور ازدهار أمته، وإن كان سفيها أو تافها أنفق موارد أمته على نفسه وحاشيته وبلاطه.

3. عامة ما جرى في التاريخ من تقلبات سياسية، ثورات وانقلابات، كان تعبيرا عن صراع القوى الداخلية لا عن نفوذ القوى الخارجية الأجنبية.. فالحاكم يتغير بثورة أو بانقلاب يعبر عن اتجاه آخر وقوة أخرى هي ضمن قوة الأمة نفسها وليست صنيعة لأعداء الخارج. نعم! وُجِد من يستعين على ثورته وتمرده بدعم ومدد من الخارج الأجنبي لكن هذه الحالة قليلة بالمقارنة بما حدث من تقلبات سياسية، ثم إنها أكثر ما تكون في مناطق الاحتكاك الحضاري بين أمتين كبيرتين، يعني في الممالك على الحدود والأطراف وليس في قلب الأمم الكبرى.

4. كانت السلطة دائما أقوى سلاحا وأكثر عددا ورجالا من الثائرين عليها، لكن الفارق بين ما تملكه الشعوب وما تملكه السلطة لم يكن عظيما، في النهاية يتقاتلون بالسيوف والرماح والسهام ويستعملون الخيل.. نعم، تملك السلطة مجانيق وقلاع محصنة مع نوع من الشرعية والقدرة المالية وهو ما يجعلها الأعلى يدا، إلا أن الفارق في النهاية لم يكن عظيما، فبالإمكان مع نوع تدبير وتخطيط ومفاجأة واستعانة بعصبيات وقوى أخرى أن تدور معركة متكافئة مع السلطة.

5. من سوء حظ أمتنا أن لحظة ضعفها وانهيارها الداخلي كان مواكبا للحظة نهضة أوروبية قوية، تلك النهضة مع ضعفنا كانت لها آثار شنيعة لا زلنا حتى الآن نعاني منها، فكيف تم هذا؟

أولا: رغم أن المسلمين اكتشفوا وجود الأمريكتين واكتشفوا إمكانية الانتقال من الغرب إلى الشرق بالدوران حول إفريقيا (طريق رأس الرجاء الصالح)، إلا أن من استفادوا بهذا هم الغربيون، لأن من حكموا العالم الإسلامي وقتها لم يستفيدوا من تلك الاكتشافات العلمية، بينما استطاعت أوروبا أن تسيطر على جبال الذهب والفضة والموارد الضخمة في الأمريكتين كما استطاعت أن تسيطر على موارد السواحل الإفريقية والآسيوية. نعم، كان هذا بالعنف والقهر والوحشية لكن هذا حديث آخر.

ثانيا: لم تكن استفادة الغربيين من تقدم العلوم مقتصرة على الجغرافيا، بل أخذ تقدم العلوم يلقي بتأثيره على كل المجالات، ويهمنا في سياقنا الآن أن السلطة استفادت من العلم في توسيع فارق القوة بينها وبين عموم الناس، تطورت الأسلحة التي تملكها السلطة، واتسع الفارق بينهم وبين الناس، ومن هنا استطاع الغزاة الأوروبيين رغم قلة عددهم اكتساح أمم أعظم منهم بكثير.. فالذي يحمل المسدس يستطيع مواجهة عشرات ممن يحملون السيوف. كما أن تقدم العلوم أتاح صناعة السفن التي تعبر المحيطات وتحمل أعدادا أكبر من البشر وأثقالا أعظم من الأسلحة والمعدات.. ومن هنا استطاع الغربيون السيطرة على أجزاء كثيرة من العالم في إفريقيا وآسيا مع الأمريكتين لأنهم أول من استفادوا من تقدم العلوم.

ثالثا: تواكب هذا الصعود العلمي مع طفرة اقتصادية، بدأت قبله، ومع تطور فكر سياسي ضد الكنيسة وضد الملكية.. أصحاب الأموال صاروا قوة مؤثرة، تمكنت مع الزمن من إزاحة الإقطاعيين والنبلاء ومن منافسة الكنيسة والملكية، وصار رجال المال من أهم قوى المجتمع الغربي ومن أهم أعمدة السلطة فيه، وربما كانوا أحيانا أهم أعمدة السلطة.

6. كانت نتيجة مجمل هذه التطورات أن الغرب وجد أمامه مساحات واسعة من الأراضي والشعوب والموارد الاقتصادية التي لا تحميها سلطات قوية، فبدأ عصر الاستعمار. ومن الطريف هنا أن كلمة "عصر الكشوف الجغرافية" تساوي كلمة "عصر الاستعمار"، رغم أن الأولى تبدو لأول وهلة شيئا جميلا وتقدما علميا والثانية تبدو شيئا شنيعا.. لكن الحقيقة أن تقدم العلم كان هو نفسه تقدم الاحتلال وسحق الشعوب والأمم الضعيفة.

7. بعد انتصار الاحتلال الأجنبي الناهض على أمتنا أراد أن يجعل بلادنا تابعة ورهينة له، عسكريا واقتصاديا وأيضا فكريا وثقافيا.. واقتضى هذا مجهودا طويلا وخرافيا في فهم أمتنا (وهو ما قامت به حركة الاستشراق) وفي تركيعها (وهو ما قامت به جيوش الاحتلال) وفي إعادة تركيبها وصياغتها فكريا وثقافيا وهو ما قامت به النظم السياسية.. لهذا كان تاريخنا الحديث هو تاريخ "تحديثنا" لنكون مثل الغرب.

8. هنا وقعت بأمتنا الكارثة.. لقد استطاع الاحتلال غرس نظامه فيها، بالعنف والقهر والظلم، استطاع دس حكام تابعين له في أرضنا، والسيطرة عليهم، وإنشاء طبقات حاكمة حوله، وإنشاء نخبة اقتصادية وثقافية مرتبطة به، ليتم له ربط بلادنا به لتكون تابعة له.. تلك هي قصة الشعوب الإسلامية العامة مع الاختلاف في التفاصيل.

9. كل تقدم علمي كان يُستعمل ضد أمتنا ولتثبيت النظام الأجنبي فيها وتوسيع الفارق بينها وبين الشعوب، فاتسعت الفجوة بين عدد وقوة ونوعية السلاح الذي تملكه السلطة وبين ما يملكه الشعب، وامتلكت السلطة جهاز الإعلام (المطبعة، الراديو، التليفزيون) فصارت الشعوب في وضع التلميذ الذي يسمع ويُلقن الأفكار بعدما كانت الأمة هي من تنتج أفكارها، وتطور نظام الدولة الحديثة ليجعل الدولة متحكمة في حياة الإنسان من وقت مولده إلى وفاته، فالدولة تربيه وتصنعه في المدرسة والجامعة والوظيفة، وقد كان من قبل يولد فيربيه أهله وبيئته ثم يتعلم في الكتاب والمدرسة الأهلية التي لم تنشئها الدولة ولا تسيطر على مناهجها، ثم يعمل في نشاط اقتصادي طبقا لموهبته أو لوراثته من أهله دون تدخل من الدولة في طبيعة ما يفعل.. وهكذا!

10. منذ تلك اللحظة صارت أمتنا مهزومة، وصار انهيار السلطة يساوي انهيار وضعها كله لأن السلطة تتحكم في كل شيء، وربما سلمت السلطة بنفسها الأمة للمحتل بغير مقاومة. أي أن السلطة صارت هي أول وأعظم هزائمنا ونكبتنا.. فهي سلطة تبدو كمستبد وطني بينما هي على الحقيقة القناع الذي يرتديه المحتل للسيطرة على الشعوب لئلا يستفزها منظر المحتل الأجنبي. ومن الطرائف أن السلطة في بلادنا تستعمل كل قوتها وكل عنفها إن اشتعلت في وجهها ثورة شعبية فتخرج الدبابات والطائرات والأسلحة الكيمائية وفرق مكافحة "الشعب"! ثم يأتي الأجنبي فيدعمها بنفسه وجيشه ليمنع سقوطها. بينما إن جاء الاحتلال رأيت الانسحابات واختفت الجيوش وسكتت الطائرات والدبابات وتسلم الأجنبي البلاد والعباد بغير مقاومة.

11. لو تدبرنا لرأينا أن كل انتصار في تاريخنا صنعته الشعوب وحركات المقاومة، بينما كل هزيمة وقعت بنا إنما تسببت فيها السلطة.. والسلطة في بلادنا بتحكمها في كل أنشطة الإنسان يجعل اختراق الأعداء لنا ومعرفتهم بنا اختراقا شاملا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والتربية... إلخ!

فكيف نقاوم هذا الاحتلال الشامل المطبق؟!

باختصار شديد: كل خروج للمجتمع من تحت يد السلطة هو قوة للمجتمع وخصم من السلطة.

1. انتشار الكتاتيب وتعليم القرآن وانتشار حفظته هو انتشار لمراكز تعليم ولمناهج لا تهيمن عليه السلطة. القرآن هو كتاب الأمة، ومن يتربى على القرآن ويتلقى عنه هو شخصية مضادة لكل فكر وتوجه سياسي وأخلاقي واقتصادي تريده السلطة العلمانية التابعة للمنظومة الغربية. وبقدر ما انتشر القرآن بقدر ما انتشرت مقاومة العلمنة ومقاومة الطغيان.. القرآن والطغيان لا يجتمعان!

2. انتشار التكتلات والتجمعات والمجموعات هو تقوية للمجتمع وخصم من السلطة، السلطة تريد الناس مواطنين فرادى تتعامل معهم كأفراد لا ككتل اجتماعية.. فكل تكتل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي لم يصدر بإنشائه تصريح من السلطة ولا يعقد اجتماعاته تحت عين السلطة ولا يجري في نشاطاته ملتزما بقوانين السلطة، ولا يحل أفراده الخلافات بينهم عن طريق السلطة.. كل اجتماع كهذا هو بذرة مقاومة، وهو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة.

3. السلطة جردت شعوبنا من السلاح لتستبد بهم، فكل انتشار للسلاح بيد الناس هو قوة للمجتمع وتهديد للسلطة، وكل وقوف في وجه سلاح السلطة لدفع ظلم من السلطة أو حماية مظلوم من السلطة هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولو أن مهندسي الأمة وعلمائها وصُناعها يحرصون على ابتكار الأسلحة الخفيفة سهلة الانتشار التي يستفيد منها عموم الناس لا السلطة لكان هذا من أهم وأعظم ما يعيد التوازن بين سلاح السلطة وسلاح المجتمع.

4. انتشار المجالس العرفية والمحاكم العرفية التي تفصل في خلافات الناس دون الرجوع للسلطة، والتي يحترمها الناس وينصاعون لها وينفذون ما تقضي به هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة.

5. انتشار التعليم المنزلي، وانتشار مجموعات التعليم المنزلي، وإنقاذ فطرة الأطفال والفتيان من تحكم الدولة ومناهجها وهيمنتها الفكرية هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة، وهذا الانتشار هو نفسه ما سيخلق مجموعات مستقلة وأنشطة مستقلة بل ومجالات عمل واقتصاد مستقل فيما بعد.

6. كل نشاط اقتصادي يقوم بعيدا عن عين السلطة ورقابتها ولا يدفع لها ضرائب ولا يلتزم بسياستها هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولا سيما الأنشطة الاقتصادية الداعمة لسائر ما هو مخالف للسلطة، فلو أن تلك الأنشطة الاقتصادية يذهب ربحها لدعم الكتاتيب والمجموعات الأهلية والمحاكم العرفية والتعليم المنزلي لكانت تلك هي الخدمة العظمى لمقاومة الأمة واستقلاليتها. بل لو استطاعت الأنشطة الاقتصادية التعامل بغير عملة الدولة أو ابتكار عملة لها تحوز القبول العام لكان هذا فتحا هائلا في العلاقة بين المجتمع والسلطة.

وهكذا نرى مجال المقاومة مجال واسع ممتد يستطيع الكثيرون المشاركة فيه، بل لا مجال لإنقاذ الأمة وتغير حالها من أن يشارك مجموعها فيه، كل بسهمه وبما يستطيع.. ومن هنا تظل المسؤولية الكبرى على القادة والعلماء.. القادة هم من يصنعون المنظومات العملية ويوجهون ويديرون، فتتحول الطاقات السائلة المبعثرة إلى تيار موجه ومنظومات متكاملة متعاونة. والعلماء هم من ينتجون الأفكار ويدعمونها ويُوَجِّهون إليها ويُحَرِّضون عليها ويظللون كل عمل بالمظلة الأخلاقية التي تمنع سائر تلك الأعمال من الانحراف عن وجهتها في خدمة الأمة إلى المصالح والأغراض الشخصية أو إلى خدمة الأعداء.

وسيجد العلماء في الإسلام مادة غزيرة لتعظيم الكتلة المجتمعية بقيم صلات الرحم وحسن الجوار، ومادة غزيرة لمقاومة الظلم والوقوف أمام الظالمين، ومادة غزيرة لتثوير الطاقات وتوجيهها.

قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77، 78]

الأربعاء، نوفمبر 22، 2017

بصمتنا الحضارية: الإنسان قبل البنيان

كانت الحضارة الإسلامية فصلا رائعا زاهرا من الحضارة الإنسانية، وما كُتب في فضل الحضارة الإسلامية كثير جدا، وما كُتب في فضلها على النهضة الغربية كثير جدا كذلك، وهو أمر من الحقائق المعروفة التي يشهد بها كثير من الغربيين أنفسهم. يقول المستشرق البريطاني المشهور مونتجمري وات:

"ومع ذلك فإننا -معشر الأوربيين- نأبى في عناد أن نُقِرَّ بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانًا إلى التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانًا تجاهلاً تامًّا، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين، أن نعترف اعترافًا كاملاً بهذا الفضل، أمَّا إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على كبرياء زائف"

بل بلغ ببعض الغربيين، حتى وهم ملحدون، أن يتمنوا لو كان الإسلام قد فتح أوروبا ودخل باريس، ولم يُهزم في معركة "بلاط الشهداء"، من هؤلاء المستشرق الفرنسي المشهور جوستاف لوبون والذي كان تفسيره لعدم محاولة العرب إعادة فتح باريس أنهم وجدوا جوها البارد لا يناسبهم، يقول:

"لنفرض جدلاً أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جَوَّ شمال فرنسا غيرَ باردٍ ولا ممطر كجوِّ إسبانيا، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربا؟ كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثلُ ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدثُ في أوربا التي تكون قد هُذِّبت ما حَدَثَ فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يَعْرِفْه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضَرَّجَت أوربا بالدماء عِدَّة قرون"

1. عصر الإنسان

لكن الذي يلفت نظر المستشرقين عموما في حديثهم عن الحضارة الإسلامية هي إنجازاتهم المادية، في التنظيم والعمران والحدائق والفنون والزخارف والعلوم والاختراعات وانتشار المكتبات، ولذلك يكاد يسيطر على المؤلفات المكتوبة في الحضارات الإسلامية الحديث عن العصر العباسي والمملوكي والأندلسي والهندي والعثماني، حيث ازدهرت كل هذه المظاهر الحضارية.

بينما الصورة مختلفة عند المسلمين، فالمسلمون وعلماؤهم لهم اهتمام خاص بعهد الخلفاء الراشدين، والحركات الإسلامية التي تعمل لإعادة الخلافة والوحدة الإسلامية إنما تتوق لإعادة عصر الخلفاء الراشدين لا عصر الأمويين ولا العباسيين ولا المماليك ولا غيرهم، وهذا الحرص والاهتمام إنما ينبع من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وقوله: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، وقوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".

لقد حددت هذه الوصايا من النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الحضارة الإسلامية وانحيازاتها وروحها واتجاهها.. إن عصر الراشدين لم تكن فيه تلك المظاهر الحضارية المادية، لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة، لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة للمسلمين والتي لا يتوق المسلمون الآن للعودة إليها كما يتوقون لعودتهم لعصر الخلافة الراشدة.

والسبب في هذا أن عصر الخلافة الراشدة كان هو عصر الإنسان! الفترة المثالية التي تحقق فيها للإنسان أقصى صور الأمن والعدل والعزة والكرامة، حيث لم يكن يستطيع الحاكم حتى إذا حكم ثلث الدنيا أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، بل حتى لو أبغض الخليفة رجلا فإن هذا لا يمنعه حقا من حقوقه، كما قال عمر لقاتل أخيه: لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فقال: هل هذا مانعي بعضا من حقي؟ قال: لا. فقال: فأحبب أو لا تحبب إنما تأسى على الحب النساء.

2. أمن الإنسان وأمن السلطة

بينما كانت عادة الدول أن تكون مهمة الأمن هي المهمة الأولى لدى الوالي، كانت دولة الخلافة الراشدة على غير هذا المثال، خطب عمر في موسم الحج حيث يجتمع الناس فقال:

"أيها الناس إني بعثت عمالي هؤلاء ولاة بالحق عليكم، ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم ولا من دمائكم ولا من أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم أمر دينكم وسنتكم، فمن فُعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، ومن كانت له مظلمة عند أحد منهم فليقم أقيده منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه"

وتكرر منه هذا المعنى في موسم حج آخر، حيث قال:
"اعلموا أنه لا حلم إلى الله أحب ولا أعم نفعاً من حلم إمام ورفقه، وإنه ليس جهل أبغض إلى الله ولا أعم من جهل إمام وخرقه"... " "وأيما عامل لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته ولم أغيرها فأنا ظلمته".

وكان الخليفة قريبا من الناس، يصلي بهم الصلوات ويخطب لهم الجمعة، ويستطيع سائر الناس أن يصل إليه ويحادثه، أو أن يقوم له معارضا أو مُذَكِّرا.. فلا يجد الخليفة بأسا أن يعود عن قوله إن رأى الحق خلاف ما كان عنده.

ولقد استطاع أبو لؤلؤة المجوسي أن يهدد عمر مع مهابته ويقول له: "لأصنعن لك رحى تتحدث بها العرب"، وتبين عمر في قولته هذه التهديد وقال "أوعدني العبد"، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمرا قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه.

وخرج عثمان يوما للصلاة فأبصر رجلا يقبل إليه ففهم في حركته الخطر فقال انظروا: فإذا رجل معه خنجر أو سيف. فقال له عثمان رضي الله عنه: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك.
قال: سبحان الله!! ويحك، علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن.
قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟
ثم قال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه.
فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليتُ أمر المسلمين، فأتاه برجل من قومه فكفل به فخلى عنه.
وبهذا عفا الخليفة عمن أراد قتله ظلما، ولم يعاقبه إلا بالمنع من دخول العاصمة.

وقد كفل عثمان لمن تمردوا عليهم حقهم في الاعتراض، وحاورهم وأبدى لهم حججه وأعذاره، وكان اختياره ألا يقاتلهم رغم أنهم صرحوا له بعزمهم أن يخلع نفسه أو يقتلونه، (وسنتعرض لتفصيل هذا الموقف في حلقة قادمة إن شاء الله)، ولكن المقصود الآن أن عصر الخلافة الراشدة كان عصرا تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.

كذلك فقد قُتِل علي رضي الله عنه على يد رجل من الخوارج، وهم فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب، ومع هذا استطاع أن يدخل إلى الجامع ويصل إلى علي بن أبي طالب فيطعنه.

إن بعض العلمانيين والمجرمين ممن يزيفون وعي الناس ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا، وينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، ولأن سياستهم جميعا تقدم أمن الناس على أمن السلطة، وتحفظ حق الناس فوق حق السلطة.

وهكذا رسم الراشدون سياسة النظام الإسلامي في العلاقة بين الناس والسلطة، ومن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!!

أو لعل هذا هو الطبيعي، وهو نتائج تخريب العقول والنفوس وتضييع الكرامة، فإن الذي نشأ وتربى وتشرب الاستبداد والفرعونية لم يعرف معنى الحرية والعزة والكرامة، فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته!

3. الرفاهية والرخاء أم العزة والكرامة

انحياز الحضارة الإسلامية إلى الإنسان له وجه آخر أيضا، فهو تقديم لبناء الإنسان على بناء العمران والبنيان، فالحضارة الإسلامية تسعى لإقامة مجتمع تسوده الكرامة والعزة والعدل والإنصاف، ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا!

وليس هذا شيئا هينا، بل هو افتراق خطير! فالذين تغرقهم الحسابات المادية يقبلون بقاء الظلم والطغيان والاستبداد ويدفعون ثمن هذا من كرامتهم وحريتهم، ولا يقبلون أن تشتعل ثورة تخرب البنيان والعمران طلبا لكرامة الإنسان وحريته.. وهنا يفاوضهم الطاغية ويساومهم، فإما أن يبيعوا كرامتهم ويقبلوا بالعبودية وإما أن يهدم البلد على رؤوسهم.. والواقع أن اختيار حركات التحرر عبر التاريخ كله هو أن تخرب البلد في سبيل الحرية والعزة ثم تكون لهم فرصة بنائها من جديد على قواعد جديدة! وقبل كل قصة تحرر توجد قصة شعب عاش المعاناة وذاق الجوع والخوف في سبيل التحرر!

إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور هو حكم سلبي، لأن الإنسان كان في هذه العصور أقل قدرا وشأنا من مكانه الذي يحق له في الإسلام.

نعم، قد نستدل بكل هذه المآثر المادية على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!

لقد بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص انتزع من أحد المجاهدين في القادسية سلب الجالينوس –القائد الفارسي- لأنه لم يستأذنه في اتباعه، فأرسل إلى سعد ينهاه عن هذا، ويوصيه ألا يتعامل مع رجاله بما قد يكسر نفوسهم ويعطل انطلاقتهم، وأمضى له غنيمته.

وفهم ابن خلدون من هذا أن الفارق بين جيل الصحابة وغيرهم، أن أولئك أخذوا أدب الدين من النبي الذي كان حريصا ألا يكسر نفوسهم، وأن من بعدهم إنما نزلوا عن هذه المراتب حين صار التعليم تأديبا فيه عقوبات وإجبار وكسر للنفوس، مما يورث التكاسل الذي هو سمة النفوس المضطهدة.

4. الخصومات والقضاء

ويظهر شأن الإنسان في عصر الخلافة الراشدة في مجال الخصومات والقضاء، وأول ما يطالعنا من الأخبار العجيبة أن الناس كانوا يتعاملون بالمروءات والصدق والأمانة فتقل بينهم الخصومات واللجوء إلى القضاء، وهي عادة المجتمعات السوية الراقية، حتى إن عمر بن الخطاب الذي ولي القضاء في عهد أبي بكر مكث سنة لا يأتيه رجلان. ويروي صديق سلمان بن ربيعة –أول قاض على الكوفة- أنه مكث يزوره أربعين يوما منذ تولى القضاء فيها لا يجد عنده أحدا من الخصوم.

واجتهد أحد الولاة من نفسه، وكان يتولى منطقة في أرض فارس، فأعلن في الناس أن هذه المنطقة يكثر فيها الفرس وهم يشربون الخمر وفيها من نسائهم من لا تتعفف، فمن كان أصاب حدا فليأت إلى الوالي ليقيم عليه الحد فيطهره، فلما بلغ ذلك عمر أرسل إليه: لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الذي سترهم. وأوضح له أن القضاء لا يقضي إلا حين يظهر الذنب لا إذا كان مستترا.

وقد جاء رجل من اليمن إلى المدينة وأخبر عمر أن ابنة أخيه وقعت في الفاحشة، فقال له عمر: "لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه"، وفي رواية: "أنكحها نكاح العفيفة المسلمة".

وهكذا كانت السلطة تحفظ الإنسان وعرضه وستره، ولا تعمل على التجسس عليه ولا هتك ستره، بل إن عمر رضي الله عنه سجن الذين يلغون في أعراض الناس كما فعل مع الحطيئة الشاعر الهجَّاء، إذ كان كثير الهجاء حتى أنه هجا أباه وأمه وزوجه ونفسه أيضا، حتى خرج ذات يوم فلم يجد من يهجوه، ثم نظر في بئر فرأى وجهه فأنشد يقول:

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بشر .. فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه .. فقبح من وجه وقبح حامله

ثم أطلقه عمر بعد أن دفع له أموالا مشترطا عليه ألا يهجو مسلما، فاشترى بهذا المال منه أعراض المسلمين.

لم يكن يضيع حق الإنسان في ظل الخلافة الراشدة، ومن ذلك أنه وُجِد قتيل بين حيين في خلافة عمر، ولم يُعرف القاتل، فألزم الحيان بالقسم خمسين يمينا على البراءة، ثم ألزم أقرب الحيين بدفع الدية.

وكان الخلفاء يخضعون أنفسهم للقضاء، ويحرصون على عدالته ونفاذ أحكامه في الكبير والصغير وفيهم هم كذلك، وللقضاة في هذا أخبار مشهورة، فمن ذلك أن عمر رضي الله عنه تخاصم مع أبي بن كعب في أمر، فحَكَّما زيد بن ثابت، فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه، قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم.
فتنحى له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: جرت يا زيدُ في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي.
فجلسا بين يديه. فادعى أبي وأنكر عمر.
فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره.
فحلف عمر. ثم حلف عمر لا يُدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.

وساوم عمر بن الخطاب بفرس فركبه ليجربه فعطب، فقال لصاحبه خذ فرسك. فأبى الرجل، فاحتكما إلى شريح، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت أو رُد كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضيا.

بمثل هذه السياسة كان حق الإنسان محفوظا ومكانته محروسة في عصر الخلافة الراشدة.

الخلاصة


لقد حكمت النصوص أن الفترة الذهبية للمسلمين هي فترة الخلافة الراشدة بحديث "خير الناس قرني" وحديث "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين".. ومع هذا فإن عصر الراشدين انتهى قبل أن يكون للمسلمين صروح علمية وقصور مشيدة وزخارف مترفة، إلا أنه كان العصر الذهبي في نشر العدل وحفظ الأمن وتوفير كرامة الإنسان.. ولهذا فإن الحضارة الإسلامية هي حضارة الإنسان قبل أن تكون حضارة البنيان، والمسلمون يتوقون للعودة لعصر الراشدين لا لعصر الأمويين والعباسيين والعثمانيين والأندلسيين، فأولئك رغم كل مفاخرهم الحضارية لم يبلغوا شأن عصر الخلافة في التقوى والعدل ونشر الأمن على الناس.. إن القراءة الإسلامية للتاريخ ترفع شأن الخلفاء الراشدين على من عداهم رغم أن ثلاثة منهم استشهدوا، وترفعهم فوق من ماتوا على فراشهم لأن هؤلاء آثروا أمن المحكومين.

الخميس، نوفمبر 16، 2017

حماس والقسام: خلاف مكتوم في نقطة ملتهبة

ينتهي جوهر الأزمة القائمة في غزة منذ أحد عشر عاما إلى مسألة وحيدة هي: "سلاح المقاومة"، تلك الصخرة التي تكسرت عليها جميع محاولات المصالحة سابقا، وبغير سلاح المقاومة الذي نفذ الحسم العسكري في قطاع غزة كانت حكومة حماس ستسقط عبر الاغتيالات والتصفيات المتتالية. وفي الأعوام العشرة التالية أثبتت حركات المقاومة قدرة غير متوقعة لا على الصمود فحسب بل على تأسيس وتطوير بنية تحتية متينة للمقاومة، ما جعل كل يوم يمضي على حماس في غزة يمثل خطورة متزايدة في قدرة المقاومة مثلما يمثل ضغطا سياسيا على حكومة حماس المحاصرة.

هذا الانقسام في الرؤى داخل حركة حماس نفسها بين جناح يزيده الزمن قوة وتطورا، وبين حكومة تزيدها الأيام أزمة وتدهورا يلقي بظلاله على مستقبل حركة حماس كلها، والتي ارتبطت مصائرها بالقطاع نفسه، وها هو القطاع يشهد من جديد مسألة تصنع أزمة داخل الحركة نفسها، فتسليم السلطة بقدر ما هو إنقاذ لحكومة حماس بقدر ما هو تهديد لجناحها العسكري. وهو ما أثار أزمة لا تزال تفاصيلها مكتومة بين حماس وجناحها العسكري ولكن أسفرت عنها لهجة خطاب متناقضة بين الطرفين.

أولا: أجواء العودة إلى المصالحة

بعد انتخاب يحيى السنوار رئيسا للحركة بقطاع غزة، ثم انتخاب إسماعيل هنية مسوؤلا للمكتب السياسي لحماس شهدت محاولات تحريك الوضع في غزة انتعاشة جديدة وصلت إلى مرحلة التواصل مع محمد دحلان العدو اللدود لحماس، وهو ما دفع محمود عباس إلى استعمال كافة ما في جعبته كورقة أخيرة بعد شعوره بالتهديد السياسي فقرر عددا من الإجراءات العقابية على قطاع غزة فقرر فرض ضريبة مضاعفة على الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء بغزة وتقليص ما تدفعه السلطة لإسرائيل مقابل تزويدها القطاع بالكهرباء بنسبة 45%، وخصم 30% من رواتب موظفي السلطة في القطاع (خمسين ألف موظف)، وإحالة 6 آلاف من موظفيها إلى التقاعد المبكر. وهي الإجراءات التي كانت فوق احتمال قطاع غزة وأُجْبِرَت حكومة حماس أمامه على حل اللجنة الإدارية التي شكلتها في مارس 2017 لإدارة شؤون القطاع حين لم تتول حكومة الوفاق مسؤوليتها، ودخل الطرف المصري على الخط ليجعل من إجراءات حماس عودة للمصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني.

سارت إجراءات المصالحة وإعلانها سيرا حثيثا لكن لم تُرْفَع الإجراءات العقابية عن غزة، بل وصرح عباس وغيره من مسؤولي السلطة أن تلك الإجراءات لن ترفع إلا بمقدار تمكن السلطة من قطاع غزة، كما تناولت التصريحات مسألة "سلاح المقاومة" بصورة أزعجت الطرف المصري الذي استنكر إثارة الأمر في هذا التوقيت. وتم توقيع الاتفاق بالقاهرة، ثم بدأت مشكلة التفاصيل، وعاد من جديد الحديث عن "سلاح السلطة هو السلاح الشرعي الوحيد" ليس على لسان مسؤولي السلطة وحدها بل على لسان حازم عطا الله مدير عام الشرطة الفلسطينية، وهي الجهة التي من المفترض أن تتولى الشأن الأمني في القطاع والتي تعلن استمرار التزامها بالتنسيق الأمني مع إسرائيل. ثم صدرت تصريحات على لسان موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي لحماس يعبر فيها عن انزعاجه بالطريقة التي جرى بها استلام المعابر، وكونها لا تنسجم مع المصالحة ولا تحترم الاتفاقيات الموقعة، وندد فيما بعد بإكثار حازم عطا الله من لقاءاته التلفازية وتصريحاته الاستعدائية.

لم ترفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة إلى لحظة كتابة هذه السطور، وهو ما يجعل كافة ما جرى منذ لحظة توقيع العقوبات مجرد تنازلات قدمتها حماس بغير مقابل حتى الآن، بل إن بعض المظاهر التي صاحبت إعلان المصالحة شهدت نوعا من الإذلال والنكاية في حماس كرفع صور عبد الفتاح السيسي ودخول الوفد المصري إلى قطاع غزة بكامل فريقه الأمني مثلما وبصحبته فريق إعلامي من الوجوه المعروفة بكراهيتها لحماس ودورها المشهود في شيطنتها.

ثانيا: ظهور الخلاف بين القسام وحماس

لا تزال العلاقات المدنية العسكرية واحدة من أهم النقاط الشائكة في التاريخ السياسي، ولئن كانت بعض التجارب السياسية توصلت إلى عدد من الصيغ يجعل الجهاز العسكري خاضعا للجهاز المدني بعد استقرار الدولة إلا أن الأمر ليس محسوما بشكل يندفع معه الخطر العسكري تماما على الإدارة المدنية. لكن المعضلة الأصعب هي في حالة حركات المقاومة التي لم تصل بعد إلى تأسيس الدولة واستقرارها، حيث تفرض ضرورات الواقع تضخما في الجهاز العسكري بما يجعله يفرض ضروراته على الحركة كلها.

حتى الآن تقدم حركة حماس تجربة ناضجة في العلاقة بين السياسي والعسكري ضمن تجارب حركات التحرر في العالم العربي في التاريخ الحديث، لا سيما ضمن التجارب الإسلامية الأخرى التي أخفقت في بناء واجهة سياسية من الأصل أو غلب عليها الجانب العسكري البحت. فعبر سنين عمل الحركة من بداية تأسيسها لم تُرْصَد أزمة كبيرة بين الجناح المدني والعسكري، وحرص الطرفان على تقديم خطاب يحترم توزيع الأدوار، ويفيد من الآخر، ولا يتدخل للضغط عليه.

ولا شك أن ظهور المنتديات على الانترنت ثم مواقع التواصل الاجتماعي ألقت بظلالها على الحركة، وبدأ ثمة ظهور لخلاف في خطاب حماس والقسام على موقعيهما وأدواتهما الإعلامية، حتى جاءت الحرب الأخيرة (2014) فأظهرت قدرا أعلى من الخلاف بين الطرفين، بل حاولت تصريحات لأبي عبيدة –الناطق باسم كتائب القسام- قطع الطريق على وفد فصائل المقاومة الموجود بالقاهرة في شروط وقف إطلاق النار، وهو أول تدخل معلن من نوعه في قرار سياسي. إلا أن الأزمة انتهت على ما اتفق عليه السياسيون وهو ما لم يكن مرضيا ولا محققا لشروط القسام.

وخفت شأن الخلاف حتى ظهر في أجواء العودة إلى المصالحة أغسطس الماضي، حيث نشرت (10 أغسطس 2017) مبادرة عُرفت بـ "مُقْترح القسام" بإحداث حالة فراغ سياسي في غزة، ومفادها أن لا تكون ثمة حكومة في غزة، فتتخلى حماس عن أي دور في إدارة القطاع وتتولى الأجنحة العسكرية التابعة لفصائل المقاومة ملف السيطرة الميدانية والأمنية، ويبقى جهاز الشرطة في تقديم خدماته المدنية، مع بقاء بعض المؤسسات المحلية بتسيير الشؤون اليومية. وقد اعتبر مراقبون أن المقترح ربما يكون تسريبا إعلاميا تم بالتنسيق مع القيادة السياسية بهدف الضغط على الأطراف المعنية لتحريك الأمور. إلا أن احتمالا آخر يظهر بقوة وهو أن المقترح القسامي إنما كان محاولة قطع طريق على السياسيين في طريق المصالحة، والتي تعني في أهم وجوهها: تسليم قطاع غزة للسلطة الفتحاوية، وهو ما يعزز منه ارتباك ردود أفعال القادة السياسيين والمتحدثين الإعلاميين للحركة، ففيم أقر خليل الحية بأن الحركة تدرس المقترح نفى صلاح البردويل تماما وجود مقترح كهذا أصلا ووصفها بالأخبار المفبركة. ومع إقرار خليل الحية بالمقترح إلا أن تصريحه يحمل التشديد والتكرار على أن القسام لا يتدخل في الشأن السياسي وأن الحركة قائمة على التخصصات وتوزيع الأدوار، وأن القيادة السياسية هي وحدها من تقرر ما سيكون بشأن المقترح. وهي رسائل لا تخفى دلالتها.

ثالثا: القسام يغرد بعيدا

اتسعت الفجوة بين خطاب حماس وخطاب القسام بوضوح منذ أواخر أغسطس الماضي، وبالاعتماد على متابعة حساب كتائب القسام على تطبيق التليجرام سيبدو بوضوح الرسائل المتعارضة بين تصريحات الطرفين، بل وسيبدو أن رمزيْن بعينهما من رموز حماس يُحتفى بهما ويكرر نشر أقوالهما، وهما: الشهيد نزار ريان والوزير السابق محمود الزهار، وكلا الرجلين يمثلان المواقف المعارضة لما تسير فيه القيادة السياسية.

كان نزار ريان واحدا من الرموز العلمية الشرعية لحركة حماس، وعُرِف بمواقفه القوية المضادة لإيران والمذهب الشيعي وبحدة تصريحاته ومواقفه ضد السلطة الفلسطينية والسلطة المصرية كذلك. وقد أشارت بعض التقارير الإخبارية إلى معارضة الزهار للسير في المصالحة بل وأفادت بعض الأنباء –من مصادر فتحاوية لا يمكن التسليم بصحتها- بأنه قيد الإقامة الجبرية بسبب مواقفه. وأيا ما كان الأمر فإن الحضور الطاغي لهذيْن الرمزين في خطاب القسام يمثل توجها واضحا.

في محاولة رصد اتساع الفجوة بين خطابي حماس والقسام سنتخير أهم ثلاث ملفات ساخنة في اللحظة الراهنة:

1. العلاقة مع إيران

بينما يمضي الجناح السياسي لحماس في إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع إيران، أي كما كانت قبل نشوب الثورة السورية، يتبنى الخطاب الإعلامي للقسام توجها آخر.

ففي (24 أغسطس 2017) صرح يحيى السنوار في مقابلة مع مجموعة من الصحفيين في غزة، بأن العلاقة مع إيران استراتيجية بالنسبة للحركة، وأنها الداعم الأكبر لكتائب القسام، وأشار إلى أن العلاقات ترجع إلى طبيعتها بعد التوتر الذي اعتراها. وقد تعزز كلام السنوار بوفد من حماس زار طهران (20 أكتوبر 2017) برئاسة صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، وبعدها بأسبوعين شارك وفد من حماس في التعزية بوفاة والد قاسم سليماني رئيس الحرس الثوري الإيراني (4 نوفمبر 2017)، كما تجددت الاتصالات واللقاءات مع حسن نصر الله أمين حزب الله اللبناني مع إسماعيل هنية وصالح العاروري، وتفصح المصادر الرسمية لحماس عن نية الاستمرار في تطوير العلاقات مستقبلا.

في الجهة المقابلة يتحدث حساب كتائب القسام على تطبيق التليجرام في اتجاه آخر، ففي 16 أكتوبر نشرت كلمة "الشيخ المجاهد" نائل بن غازي مصران "ليس لإيران فضل علينا". ولما قصفت القوات الإسرائيلية أحد الأنفاق مما أدى لاستشهاد عدد من المقاومين اتخذت القسام أسلوبا شديد الدلالة في إعلانها الثأر، فنشرت القناة (31 أكتوبر 2017) تصريحا يقول: "لسنا شبيحة بشار ولامرتزقة نصر الشيطان لنحتفظ بحق الرد..!! كلنا ثقةبقيادتنا ومجاهدينا"، وهي عبارة مكثفة تعبر عن الموقف من إيران وحزب الله مع الرفض لسياسة الاحتفاظ بحق الرد وتكبيل المقاومة بحسابات سياسية قد تفرضها المصالحة، وهو هنا محاولة قطع طريق على قرار سياسي بالتهدئة وعدم الرد. ثم ما لبث حساب القسام أن نشر على صفحته "هنية: أؤكد بإسمي وبإسم إخواني في قيادة حركة الجهاد، أن الدم الدم والهدم الهدم". وفي سياق آخر وبعد ثلاثة أيام نشر الحساب نفيا قاطعا لخبر تعزية حماس في والد قاسم سليماني، وهو ما يبدو أنها كانت محاولة أخرى غير ناجحة لقطع الطريق على الموقف السياسي.

2. العلاقة مع مصر

تغيرت لهجة الخطاب السياسي لحماس تجاه القاهرة منذ دخولها على خط التهدئة والمصالحة وإعادة إمداد غزة بنسبة من الوقود الضرورية لتشغيل محطة الكهرباء، ورعايتها لجولات اللقاء بدحلان ثم بالمصالحة. وفيما مضى الخطاب السياسي نحو الحديث عن تحسن العلاقات والحضن الدافئ والشقيقة الكبرى مضى خطاب القسام في نفس الفترة في اتجاه آخر.

في (24 أغسطس) نشرت قناة القسام أنها ستبدأ في نشر قصة القائد الشهيد رائد العطار وخطته التي حاول فيها إنجاح صفقة شاليط "من خيانة الجانب المصري والصهاينة"، وكان مختصر القصة أنه تم تجهيز عشرين استشهاديا لمصاحبة شاليط، وفي حال شعورهم بأية خيانة سيفجرون أنفسهم في الجميع بما فيهم الوفد المرافق المصري والفلسطيني جميعا"، ونشرت صورة لرائد العطار متسلحا بقاذف لاو المضاد للدورع متحفزا "لغدر من الجانب المصري". وذكرت القناة أن القيادة العليا للجيش الإسرائيلي نشرت بيانا بعد العملية تقر فيه بعبقرية رائد العطار وإفشاله خطة غدر مشتركة بين المخابرات المصرية والإسرائيلية.

وكررت القناة التركيز على القضية العاقلة مع النظام المصري، وهي قضية القساميين الأربعة الذين اختطفتهم السلطات المصرية لدى عبورهم الأراضي المصرية، وهي تنفي رسميا أي علم بمصيرهم بينما سربت حركة حماس صورا لهم في السجون المصرية وهم في حالة يرثى لها. وللمرة الأولى –في الفترة المرصودة- يحضر موسى أبو مرزوق في تصريحه (11 سبتمبر 2017) "السلطات المصرية أبلغتنا أنها لا تملك معلومات حول مصير المجاهدين الأربعة المخطتفين في السجون المصرية منذ أكثر من عام"، ثم أعادت نشر تنويه (29 سبتمبر) يقول: " 777 يوم ؛ على إختطاف مجاهدينا على يد الجيش المصري".

3. الموقف من فتح

عند الموقف من فتح تتسع الفجوة بين الخطابين السياسي والعسكري اتساعا كبيرا، فقد تابعت القناة أخبار المعتقلين في سجون السلطة بالضفة والتعذيب الشديد الذي يعانون منه وتدهور أوضاعهم الصحية، ونشرت عددا من القصص عن مجاهدي القسام الذين اعتقلتهم السلطة أو حاولت اغتيالهم، فضلا عن النشر المتكرر لكلمات أو مقاطع صوتية ومرئية الشيخ نزار ريان المعروف بمواقفه القوية ضد التصالح مع سلطة فتح. واستعملت في وصف السلطة مصطلحات "السلطة اللحدية" في إشارة إلى جيش أنطوان لحد في جنوب لبنان إبان الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة، وكذلك استخدمت مصطلح "زنادقة المخابرات" و"زنادقة العلمانية" ونحوها، وبعضها من مصطلحات الشيخ نزار ريان نفسه. ولم تتردد في إعلان تهديدها لمن يفكر بالمساس بسلاح المقاومة.

أ‌.       جرائم سلطة فتح

في أجواء الاستعداد للدخول في إجراءات المصالحة نشرت القناة (25 أغسطس 2017) فيديو لبهجت يامين أبو حبيب الأسير قسامي في سجون سلطة فتح بالضفة الغربية، يتحدث من داخل السجن عن التعذيب الذي نزل به والذي أدى لإصابته بشلل رباعي وبالعديد من الأمراض الأخرى، ثم حوكم أمام محكمة عسكرية لدى سلطة فتح. وفي 30 أغسطس نشرت القناة صورة مصحوبة بتعليق توضيحي: "آثار التعذيب على جسد الطالب في جامعة النجاح براء العامر على يد ميليشيات مخابرات "فتح" حيث أفرجت عنه مخابرات السلطة في نابلس على كرسي متحرك بعد يومين من اعتقاله".

وبعد يومين من إعلان وفد حماس من القاهرة (9 سبتمبر 2017) القبول بشروط عباس لتحقيق المصالحة، نشرت القناة (11 سبتمبر 2017) خبرا عن: نقل الطالب في كلية الاداب في جامعة النجاح  أسعد طويل من سجن أريحا المركزي إلى المشفى بعد تردي وضعه الصحي بسبب التعذيب الذي يتعرض له من قبل (مرتزقة المخابرات الفتحاوية). ثم في (25 سبتمبر 2017) نشرت خبرا "تدهورت الحالة الصحية للطالب أسامة مفارجة ممثل الكتلة الإسلامية في جامعة بير زيت، بفعل التعذيب في سجون زنادقة المخابرات "فتح" بمدينة رام الله ، واضرابه عن تناول الطعام والشراب منذ أسبوع".

وشهد يوم يوم 11 سبتمبر نفسه احتفاءا واسعا من القناة بذكرى أحداث (11 سبتمبر 2001) وأسامة بن لادن، وهو ما سنتناوله لاحقا، لكن دلالة الاحتفاء بتلك الأحداث بعد يومين من إعلان قرب توقيع إعلان المصالحة يبدو أيضا ذا دلالة لا تخفى عن اتساع الفجوة بين الخطابين السياسي والعسكري.

بعد يومين آخرين، وفي (13 سبتمبر 2017) تنشر القناة رثاء لمجاهدي قسامي توفي أثناء إعداده عبوة ناسفة، وكان مطلوبا لدى الصهاينة والسلطة الفلسطينية، حتى إن رابين توعد أن يقتله بيده، وفيه أطلق على السلطة وصف "السلطة الفلسطينية اللحدية" و"اللحديين". وفي نفس اليوم تنشر القناة: "يصادف اليوم الاربعاء ، الذكرى الـ 24 لتوقيع اتفاقية الخيانة أوسلو؛ الذي وقعه زنادقة فتح مع المحتل الإسرائيلي في واشنطن في 13 سبتمبر 1993، والذي نص على بيع مساحات شاسعة من ديار المسلمين والتي تقدر بـ 78% من الأراضي الفلسطينية لصالح المحتل الإسرائيلي مما أدى إلى تهجير الملايين من أبناء شَعبنا الفلسطيني في مخيمات اللجوء في شتى دول العالم".

وفي 6 أكتوبر نشرت صورة الشاب إسلام زيد الذي وجد مشنوقًا بعد خروجهِ من سجون زنادقة المُخابرات الفلسطينية "فـتح"، وفي 8 نوفمبر نشرت "قوات لحد الفلسطينية تحبط 7 عمليات ضد الصهاينة الشهر الماضي"، وفي نفس اليوم نقلت تصريح عبد الرحمن شديد القيادي في حماس بهذه الصيغة: "شديد: أجهزة الضفة "لحد" مستمرة في استهداف المقاومين".

ب‌.  حضور خطاب ريان والزهار

في (11 سبتمبر 2017) نُشِر مقطع صوتي "للشيخ المحدث العلامة القائد" نزار ريان بعنوان "إنها حرب إسلام وردة" وهي تتناول سلطة فتح وتصفهم بالعلمانيين الزنادقة والسلطة التي ربتها دولة العدو والتي تطعن المجاهدين من الظهر ومن الصدر.. إلخ! وهو من أهم التسجيلات الصوتية التي تعبر عن التوجه الذي يمثله الشيخ نزار ريان. ثم نُشِر (2 أكتوبر 2017) مقطع فيديو آخر لنزار ريان يتوعد فيه بمقاتلة من يفكر في مس السلاح، ويقول بأن الموقف تغير بعد استشهاد ياسين ولم تعد حماس تعتمد منهج "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"، وإنما صار منهجها "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني فلأقطعن رأسك". وفي نفس الإطار نقلت القناة تصريحات عباس عن سلاح المقاومة ثم وضعت الرد عليه من كلام نزار ريان "من يُريد أو يُفكر في الإقتراب ونزع بنادقنا من أيدينا سننزع عنقه". وكررت القناة نشر صور لنزار ريان مع إزجاء الثناء عليه، في أكثر من مرة وبغير مناسبة.

في ذات الإطار احتفت القناة بتصريحات الزهار وبالتحديد قوله: "نحذر أي "مجنون" يحاول أن ينزع بندقية واحدة من يد المقاومة"، وعقب الناشر بالقول: "محذراً زنادقه العلمانية فتح"، وقوله "لا نعرف حدود ال67 ولا ال48 بل نعرف فلسطين كلها ضمن الأمة الاسلامية".

ج. تهديدات القسام

سعيا منها لإثبات الحضور الفعال فيما يتعلق بالمقاومة، أعلنت القسام –عبر القناة- أكثر من مرة عن إلقاء القسام القبض على عميل في قطاع غزة، كما نشرت إعلانا لكل عميل بالأمان شرط التوبة. وهي خطوة متقدمة في إثبات أن شأن المقاومة وما يؤثر عليها لن يُسلم لجهة أخرى. ثم كانت أكثر حدة وصراحة حين نشرت الوثيقة المسربة من مكتب المخابرات الفلسطينية والتي تتحدث عن نزع سلاح حماس، ثم عقبت بالقول: "إن صحتّ التسريبات الصادرة عن مكتب المخابرات الفلسطينية فتح ستُنذر بعواقب لا يُحمد عقباها". وبعد المحاولة الفاشلة لاغتيال توفيق أبو نعيم أعلنت القسام مدينة النصيرات منطقة عسكرية أمنية مغلقة للبحث عن المنفذ. وبعد عملية قصف النفق أعلنت القسام حالة النفير العام. وقد حَضَرَ يحيى السنوار في الفترة المرصودة مرة وحيدة فحسب، حين صرح بأن "لدى كتائب القسام القدرة على أن تضرب تل أبيب بالصواريخ بـ 51 دقيقة مجموع ما تم ضربه فى الـ 51 يوم بحرب العصف المأكول".

إذن فقد حرصت كتائب القسام على تقديم رسالة إعلامية وموقفا عمليا لدى الاقتراب من شأن المقاومة، ووصلت في هذا الصدد حتى إعلان حالة النفير العام.

رابعا: مكون السلفية الجهادية في خطاب القسام

بحسب رصد لهيثم غنيم –الباحث المتخصص في الشؤون السيناوية بالمعهد المصري- فإن خمسة عشر عضوا من كتائب القسام قد أُعْلِن عن مقتلهم في صفوف تنظيم ولاية سيناء التابع لتنظيم الدولة الإسلامية. وقد نشر مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلنطي في واشنطن، تقرير بعنوان "جهاديو غزة وتقويض العلاقات المصرية الحمساوية"،  التقرير نقل عن مصدر مطلع في جهاز الأمن الداخلي التابع لحكومة غزة: انضمام 130 فلسطينياً على الأقل لتنظيم ولاية سيناء خلال الثلاث سنوات الماضية، بعضهم كانوا أعضاء بارزين في كتائب القسام، أبرزهم هو "محمد حسن أبو شاويش"، وهو من كبار قادة القسام الميدانيين في رفح الفلسطينية، والذي انضم لولاية سيناء في مطلع عام 2016.

يمكن بسهولة إدراك العوامل التي تقرب بين كتائب القسام وتنظيم أنصار بيت المقدس (ولاية سيناء فيما بعد)، فثمة عوامل ثابتة وقديمة كالأساس الإسلامي والاتفاق على الجهاد ضد إسرائيل بهدف تحرير بيت المقدس، لكن العوامل التي نشأت في سيناء منذ الانقلاب العسكري في مصر والذي أسفر عن إجراءات عنيفة ضد سيناء وقطاع غزة، يؤثر على كلا التنظيمين تأثيرا بالغ السلبية. لا سيما مع التحالف المعلن بين عباس والسيسي في تشديد الحصار على قطاع غزة. ومن هنا فليس ثمة ما يُستغرب في أن الجبهة المشتعلة في سيناء والتي تحقق أكبر قلق للنظام المصري وتوقع به أكبر الخسائر المادية والبشرية تمثل إغراء وجذبا لعناصر مجاهدة في جبهة خاملة، لا سيما وأن الجبهة المشتعلة كانت جزءا من مشهد أكبر قدَّم فيه تنظيم الدولة لعامين على الأقل صورة دولة الخلافة التي تتمدد في العراق وسوريا وتلهب خيال كثير من الشرائح في العالم الإسلامي.

أيضا ليس ثمة ما يُستغرب في أن يمثل هذا الوضع الجديد تهديدا لكتائب القسام التي هي فرع من حركة حماس المحسوبة على حركة الإخوان المسلمين التي تعاني في نفس تلك الأعوام تراجعا حادا وشاملا في كافة المناطق الساخنة، وهو ما يثير الإشكالات الكثيرة والسجالات الساخنة –خصوصا في أوساط الشباب- حول المنهج الأمثل وحكم الأنظمة الحاكمة وشرعية قتالها وقضية العلاقة بإيران الشيعية –خصوصا في ظل ما يحدث في سوريا والعراق واليمن- وما ينتج عن ذلك كله من تبادل الاتهامات بالتميع والغلو.

نتيجة لهذا فإننا نجد حضورا قويا لمضامين تنتمي إلى عالم السلفية الجهادية، ويتحصن الخطاب القسامي في مثل تلك الأجواء بشخصية مثل نزار ريان: العالم الشرعي السلفي المجاهد الذي سقط شهيدا مع عائلته في غارة إسرائيلية، ففي قوة خطابه ووضوحه ما يؤكد أصالة المنهج الذي تتبعه حماس ومفاصلتها للتشيع والتهاون مع "العملاء" و"المرتدين" و"العلمانيين".

لقد أعادت قناة القسام نشر نعي حركة حماس لبن لادن في ذكرى 11 سبتمبر، وهو النعي الذي كان ميسورا في لحظة وفاته (مايو 2011) حيث كانت الثورة العربية في أوجها، وكانت مساحة القول والتصرف عالية أمام الجميع: شعوبا وحركات، بمن فيهم حركة حماس. وهو ما ليس يمكن قول مثله في الظروف المعاصرة.

نشرت القناة النعي مع بيت شعر محرف عن شعر لمحمد إقبال يقول: "لن تنسى أمريكا ولا عملاؤها .. ضحكاتنا والبرج يقذف نارا"، ثم تواصل: "11 سبتمبر يوم عزٍ للإسلام و أهله". وفي سياق آخر نقلت القناة اقتباسا عن بن لادن: "هذهِ المَذلة ؛ وهذا الكُفر الذي طَغى وعم على أرض الإسلام لا سَبيل لدكّهِ إلا الجهاد"، وكان في سياق الكلام ضد سلطة فتح.

هذا النقل يؤشر إلى أن خطاب القسام يشعر بالحاجة إلى إثبات جهاديته، بل والتقائها مع تيار الجهاد حول العالم –ما عدا تنظيم الدولة- حيث كان السجال حول بن لادن نفسه واحدا من أوسع السجالات بين داعش من جهة وبقية التيار الجهادي من جهة أخرى، كلا الطرفين يرى نفسه على خط بن لادن ويرى الآخر خارجا عنه. إثبات الجهادية هذا هو الوجه الآخر لخطاب حماس السياسي الذي قد يؤدي في بعض تأثيراته إلى مزيد من خروج العناصر القسامية إلى جبهة تنظيم ولاية سيناء.

وفي نفس السياق نشرت قناة القسام مقطع فيديو لمحمود الزهار يهاجم فيها السعودية (دون أن يسميها) ويصف الدول التي تتعاون مع إسرائيل وتواليها وتناصرها بأنهم "كفرة"، وهذا الخطاب بهذه النبرة هو اقتراب لم يكن موجودا بالسابق مع خط التيار الجهادي. إلى جانب هذا فقد تناثر في منشورات القناة نصائح للمجاهدين بضرورة العلم الشرعي "فاطلب العلم الشرعي قبل خروجك لميادين الجهاد"، ونشرت اقتباسا من الهيئة الشرعية للقسام مفاده الوقوف ضد الغلو والتنازل.

وفي 6 أكتوبر أعلنت قناة القسام أنه "تم الإمساك بأخطر صاحب فكر مُنحرف في قِطـاع غزة قبل قليل وسط مُخيم البريج ويُعتبر المُغذي المالي الرئيسي لإحدى التنظيمات المُنحرفة فكرياً على مستوى بلاد الشام والعراق"، وهي خطوة جديدة في سلسلة المواجهات المندلعة بين حركة حماس والسلفية الجهادية في غزة.

الخاتمة:

تمثل قضية تسليم السلطة في غزة والسير في مسار "المصالحة" واحدة من أهم التحديات التي تواجه حركة حماس وجناحها العسكري، كل منهم على حدة، لكن أعقد ما في الأمر أنها تمثل تحديا كبيرا على العلاقة الداخلية بينهما. وبينما يمكن تصدير خطاب يتبنى توزيع الأدوار بين الجناح السياسي والعسكري إلا أن إنتاج مثل هذا الخطاب أمر عسر ودقيق ويشبه المشي على طريق تحفه الأشواك.

على أن المشكلة ليست في مجرد الخطاب وحده، بل في الأعباء العملية لمسار المصالحة والتي سيتحملها القسام في المقام الأول، إذ هو المقصود المستهدف بسائر الإجراءات التي تمكن للسلطة في فتح، وبينما تذكر العديد من التحليلات أن حماس تحاول كسب الوقت مع يقينها بعدم نجاح المصالحة إلا أن الوقت الذي سيكسبه الساسة هو الوقت الذي ستعمل فيه إسرائيل وسلطة فتح على تجديد معلوماتها الأمنية وشبكة عملائها واستهداف الكوادر والعناصر العسكرية للقسام والبنية التحتية للمقاومة التي قضت 11 عاما مريرا في تطويرها.

حماس الآن أمام واحدة من أهم لحظات تجربتها، ويبقى أن تثبت قدرتها على القيام بمتطلبات المرحلة.