الخميس، يونيو 21، 2018

عجائب الصين كما رواها المؤرخون المسلمون


ذكرنا في مقال سابق موجزا للعلاقة بين المسلمين والصين، ثم ذكرنا في المقال السابق المنافذ والمصادر التي تعرف المسلمون منها على الصين وأحوالها وعجائب أهلها، وفي هذا المقال نرى كيف ظهرت صورة الصين لدى المسلمين كما روتها مؤلفات التاريخ والآداب والرحلات والبحث العلمي.

قدمت رحلة سليمان التاجر، في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، صورة ممتازة عن الصين في ذلك الوقت المبكر. ورغم كونها مختصرة إلا أنها مكثفة واستوعبت الكثير من صورة الصين: في السياسة والاقتصاد والأخلاق والتقاليد والملابس والطعام والشراب، وهي أول أثر معروف يقدم تلك الصورة المتكاملة. بينما ظلت صورة الصين تتناثر وتجتمع في كتب العلوم المختلفة: المتخصصة والموسوعية.

وأبرز ما يلفت النظر في تلك البذور المبكرة المتينة لصورة "الدولة الحديثة" التي تُحْصِي البشر وأموالهم وتقوم على الحفاظ عليها وتراقب الطرق والبضائع وتشرف على التعليم وتستعمل التصوير، وهو ما يجعل فكرة الدولة الحديثة القائمة الآن لا تزيد عن أن تكون تطورا في التقنيات والأدوات فحسب. وهو أمر لا ريب سيُدْهِش من لم يكن يعرفه.

وسعيا لجمع أجزاء الصورة بما يسمح به المقام فقد اخترنا منها عشرة عناصر فحسب، نستعرض في هذا المقال ثلاثة منها:

احتفى التراث الإسلامي بما لملوك الصين من قوة السياسية وما تحفل به بلادهم من العدل، ووصف أهل الصين بأن "الخصب والعدل لهم شامل، والجور في بلادهم معدوم"[1]، والعقوبة تشمل الجميع فلا ينجو منها أمير ولا صاحب سلطان، بل "ربما جار الملك الذي من تحت يد الملك الأكبر فيذبحونه ويأكلونه"[2].

ويلفت النظر وصف المؤرخين المسلمين لملك الصين "كو خان" الذي تسبب بالهزيمة الكبرى للجيوش الإسلامية (531هـ) بالعدل والحكمة والسياسة وكراهية الخمر، إلا أنه لا ينهى عن الزنا ولا يُقبحه[3].

وحيث ذُكِرَ ملوك الصين في الكتب الإسلامية يتوقع المرء مباشرة فصلا من الحكمة والسياسة، والمحاورات التي سجلها التراث الإسلامي لملوك الصين تنضح بتلك الصورة، كمحاورة ملك الصين مع الإسكندر المقدوني[4]، والحيلة التي نجت بها مملكة الصين من اجتياح شمَّر بجيوش اليمن[5]، وأسباب امتناع ملك الصين عن إمداد يزدجرد بالجيوش[6]، والمحاورة مع سفراء قتيبة بن مسلم[7]، والمحاورة مع ابن وهب القرشي[8]، ومحاولة تهدئة سنجر والتوسط عنده لدى الترك[9]، وغيرها.

ويرجع نظام الصين إلى الملك المؤسس، المعروف في الرواية العربية باسم "توتال"، فهو الذي قرر أن "الملك لا يثبت إلا بالعدل، فإن العدل ميزان الرب"، وأنه أول من قرر أهمية اجتماع الناس على دين وشريعة فإنه أحكم للنظام وأعدل للمحكومين وألزم للحاكم "لجمع الشمل وتساوي النظام، فإنه متى عدم الملك الشريعة لم يؤمن هليه الخلل ودخول الفساد والزلل"[10]، فكانت قوانينه ومبادئ شريعته هي بداية انتظام أمر أهل الصين وهي سر استمرارها.

ومن طريف وسائل إقاة العدل في الصين أن العامة يستطيعون إيصال شكاواهم إلى الملوك عبر ما يشبه الآن شبكة الاتصالات أو شبكة إنذار، حيث تمتد شبكة من الحبال في سائر المدينة تنتهي بجرس في قاعة الحكم، فما على صاحب الشكوى إلا أن يحرك الحبل فيدق الجرس عند رأس الملك في قصره فيؤذن له بالدخول وعرض شكايته[11].

وقرر قانون الصين ألا يتولى الملك إلا من بلغ الأربعين ليكون ممن حنكته التجارب، فإن تولى الملك صغيرا كان في مجلسه من يقف وراءه فيصحح له ما يغلط فيه من الحُكم، ولا ينبغي أن يجلس الملك للفصل في المظالم إلا وقد أكل وشرب لئلا يغلط. ومن دلائل العدل وحسن السياسة أنه إن وقع الغلاء بالصين أخرج الملك الغذاء من خزائنه وباعه بأرخص الأسعار فيكثر المعروض وينتهي الغلاء[12].

واستمر المسلمون الذين عاشوا في الصين في وضع مكرم محترم منذ البداية حتى ما قبل عهد أسرة منج، بل تشير بعض الروايات إلى ما لهم من امتيازات حتى على أهل الصين، إذ يورد ابن فضل الله العمري رواية عن شيخه الشريف السمرقندي أنه رأى بالصين احترام المسلمين، "متى قَتَل أحدُ من الكفار مسلما، قُتِل الكافر القاتل، هو وأهل بيته، وتُنْهَب أموالهم، وإن قَتَلَ مسلم كافرا، لا يُقتل وإنما يطلب بالدية، ودية الكافر عندهم حمار، لا يطلب غير ذلك"، ولا ريب أن هذا من الظلم، إلا أن تلك الفترة كانت ذروة التميز الإسلامي في الصين لأن منهم عدد من أهم رجال الدولة ذوي المناصب الرفيعة في عهد قوبيلاي خان، وهو من سلالة المغول[13].
تسفر صورة الصين عن نظام إداري متقن وترتيبات محكمة، فالصينيون "لهم سياسة عظيمة وأحكام متقنة"[14]، "فأمورهم منتظمة وأحوالهم مستقيمة"[15]. ويبدأ النظام في شمول الصيني منذ لحظة مولده إلى وفاته، فيُسَجَّل لدى السلطة إحصاء المواليد، والوفيات، وتؤخذ من الشعب ضريبة على الرؤوس ما بين سن الثمانية عشرة والثمانين[16]، وتجري الأمور وفق أنظمة مستقرة وموثقة؛ فصاحب المظلمة إن رفعها إلى الملك فإنه يمر على كاتب يكتبها ثم يوقع باسمه، فالملك لا يعبأ إلا بالمكتوب، فإن عُثِر على خطأ بالمكتوب عوقب الكاتب[17]. وفي الصين ما يشبه الساعة العظيمة، إلا أنها أبواق، يُنفخ فيها خمس مرات في اليوم فيُعلم بها المواقيت والساعات[18].

والصيني إن شاء السفر حمل معه كتابين من الملك ومن الخصي، فكتاب الملك فيه اسمه وعمره وقبيلته ورفقته (ما يشبه الآن بطاقة الهوية) وكتاب الخصي فيه ما يحمله من الأموال والمتاع (يشبه الآن بطاقة البنك)، وتنتشر في الطرق نقاط شرطة تسجل بيانات من ورد عليها وتاريخ ورودهم وما معهم من الأملاك، فبهذا يُضمَن لكل واحد حقه، فإن فقد شيئا مما معه عُلِم أين فُقِد ومتى ومن الجهة المسؤولة عن رده، فرُدَّ ما فقد عليه أو على ورثته من بعده[19]، فإن حل الليل فإن الفنادق محروسة بقوات مسلحة فيحصي قائدها أسماء من فيها وممتلكات كل منهم قبل أن يغلقها، ثم يرسل معهم حال المسير من يحرسهم حتى يأتيه بكتاب من عند القائد المشرف على المرحلة اللاحقة بتسلمهم وأماناتهم[20].

ويستعين جهاز الأمن بالرسامين في رسم صور الغرباء بحيث إذا فعل غريب شيئا يستوجب المعاقبة وهرب بُعث إلى الأنحاء بصورته حتى يُقبض عليه[21]. فما أشبه هذا ببطاقة الهوية ذات الصورة الشخصية.

والتاجر المسلم حين ينزل بالصين إما أن يدخل في ضمان تاجر مسلم مُعيَّن من قبل السلطة لتلك المهمة، فيتسلم من التاجر القادم أمواله وأمتعته وينفق عليه منها بالمعروف، فإن ضاع منها شيء فيضمنها التاجر الكافل. وإما أن ينزل بفندق فتكون مسؤوليته على صاحب الفندق الذي يتسلم منه أمواله وأمتعته ويحسن الإنفاق عليه ويعينه على ما يريد من الإتجار أو التسري أو الزواج[22].

وتتسلم السلطات من البحارة أسماء المسافرين القادمين مع السفن والراحلين إليها، ويوضع هذا في سجلات تُحفظ، فإن عادت سفينة بعد السفر صعد إليها رجال السلطة وقارنوا قائمة المسافرين بقائمة العائدين، فإن فُقِد أحد كان على صاحب المركب تقديم الدليل على أنه مات أو فر أو ما سوى ذلك، وإلا كان هو المتهم فيه. وعليه أن يقدم إحصاء بما في السفينة من البضائع، ثم يُنزل ما فيها تحت إشراف الشرطة فإن عُثِر على أنه كتم شيئا منها صودرت أمواله[23].

ويخضع الصناع التابعون للسلطة إلى رقابة إضافية، وعددهم ألف وستمائة –في زمن ابن بطوطة- يعملون فيما يخص حاجة السلطة من الثياب وآلات الحرب، ولا يسمح لأحدهم بمغادرة العمل قبل عشر سنوات، ويُعرضون يوميا على الخان لإثبات عددهم، فإن مرت السنوات العشر خُير الصانع بين أن يواصل العمل أو يعمل حيث يشاء لكن لا يخرج من الصين[24]. وأغلب الظن أن هذا لئلا ينقل أسرار السلطة أو أسرار عملها فهو من نوع الموضوع الأمني.

في المقال القادم إن شاء الله نستعرض صورة الصين في الأخلاق والثقافة والتعليم والصناعات.



[1] المسعودي، 1/106.
[2] سليمان التاجر، ص56.
[3] ابن الأثير، 9/323؛ ابن خلدون، 4/522.
[4] القلقشندي، 15/251، 252.
[5] ابن هشام، التيجان في ملوك حمير، ط1 (صنعاء: مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، 1979م)، ص445.
[6] الطبري 4/172.
[7] الطبري 4/31، 32.
[8] المسعودي، 1/111 وما بعدها.
[9] ابن الأثير 9/321 وما بعدها؛ ابن خلدون 4/521، 522.
[10] المسعودي، 1/105 وما بعدها.
[11] سليمان التاجر، ص51؛ السيرافي، ص42، 43؛ القزويني، ص46.
[12] سليمان التاجر، ص51؛ السيرافي، ص41.
[13] توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص335 وما بعدها.
[14] ياقوت الحموي، معجم البلدان، ط2 (بيروت: دار صادر، 1995م)، 3/444.
[15] المسعودي، 1/106.
[16] سليمان التاجر، ص54؛ السيرافي ص45؛ القزويني، آثار البلاد ص46.
[17] السيرافي، ص41.
[18] سليمان التاجر، ص49.
[19] السيرافي، ص43.
[20] سليمان التاجر، ص51، 52؛ ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، (الرباط: أكاديمية المملكة المغربية، 1997م)، 4/134.
[21] ابن بطوطة 4/132.
[22] ابن بطوطة 4/133.
[23] ابن بطوطة 4/133.
[24] ابن بطوطة 4/146، 147.

الأربعاء، يونيو 20، 2018

مذكرات الشيخ رفاعي طه (3) أول اصطدام بالنظام، وأول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلامية


سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

أنهيت المرحلة الابتدائية وكنت الأول على مستوى الصف السادس الابتدائي بالمدرسة، والعشرين على مستوى المحافظة، كانت درجاتي تجعلني في المركز العاشر ولكن المتكرر من المتفوقين أنزلني إلى المرز العشرين، وكانت عادتهم في ذلك الوقت أن يأخذوا المتفوقين إلى "تنظيم البراعم" الملحق بالطلائع، وكانت الطلائع ملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، فدخلت تنظيم البراعم في الصف الأول الإعدادي وبقيت فيه فترة، فلما انتهت المرحلة الإعدادية دخلت الطلائع وبقيت بها حتى الصف الثالث الثانوي، ثم دخلت منظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وكنت مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو في المنظمة، وعندما دخلت الجامعة انضممت إلى الحزب الشيوعي لامصري لفترة، وبقيت فيه طوال فترة السنة الأولى في كلية التجارة، ولمست ظاهرة الفساد الأخلاقي إذ كنت متدينا بطبيعتي، وكنت قد التحقت بطريقة صوفية بعد أن أنهيت المرحلة الإعدادية.

أذكر حين كنت في الصف الثالث الإعدادي كان معنا زميل اسمه محمود حسن عبد الرسول، كان في عائلته على ما يبدو أحدٌ ممن يفهم السياسة أو أكثر، أو كان متدينا، المهم أن محمود حسن كان يقول لي:

-      لا بد أن نغيِّر جمال عبد الناصر، هل تعلم كيف أمسك جمال عبد الناصر بالحكم؟
-      كان ضابطا بالجيش وقام بثورة ثم حكم البلد
-      يمكننا أن نفعل مثله
-      ولماذا نفعل؟ هو رجل جيد
-      لا، ليس هو كذلك
-      لماذا؟ في الطلائع يعلموننا أنه رجل جيد. وأذكر له بعض الخطب
-      لا ليس كذلك.

كان من الواضح أنه متشبع برأي، إلا أنه لا يستطيع التدليل عليه. ولم يكن هو من الإخوان، لكني أتذكر أن أخاه الأكبر كان يملك متجرا للقماش "ماني فاتورة"، وكنت إذا ذهبت أجد عنده أصحاب كثيرون يجلسون ولا يشترون، وكان بيتهم في القرية كبيرا ويغلب عليهم التدين، ولعلهم من الإخوان القدامى، والله أعلم. إذ لم تطل صحبتنا، فقد افترقنا في الصف الثالث الثانوي.

مما أذكره من تلك الأيام أننا انتقلنا من مدرستنا إلى مدرسة أخرى أفضل أنشأها مصنع السكر، كانت مدرسة نموذجية نظيفة وبها فناء واسع على النمط الحديث وبها حديقة وبالحديقة صوبة لزراعة الورد، وجاءت مُدَرِّسة تدرس لنا مادة "التربية الزراعية"، وكانت ملابسها قصيرة جدا "الميني جيب والميكرو جيب" كما هي عادة أهل المدن في تلك الفترة، وأغلب الظن أنها من الوجه البحري وإنما جاءت في سياق المساكن التابعة لمصنع السكر، وهذه المساكن كانت كبيرة كأنها مدينة سكنية وكنا نسميها "المستعمرة"، وكانت كأنها قطعة من خارج البلد. وذات يوم كانت تعلمنا زراعة الورد، فكانت تميل إلى الأسفل فانكشفت ملابسها الداخلية، فصرخت فيها:

- هذا عيب جدا، لا ينبغي أن تنكشف ملابسك الداخلية

ففزعت واعتدلت وقالت لي:
-      ايه يا رفاعي حد يقول للمُدَرِّسة كده؟.. كسفتني (أحرجتني) أمام التلاميذ يا رفاعي!
-      هذا لا يصح، هذا عيب جدا.
-      هل إذا أتيت إلى المدرسة بملابس طويلة تضحكون عليَّ (تهزؤون وتسخرون مني)؟"
-      ولماذا نضحك عليكِ، إن ملابس أمي تصل إلى الأرض.

ثم فيما بعد أخبرت ناظرة المدرسة، ونصحتها الناظرة أن ترتدي ملابس طويلة، ثم جاءت الناظرة فحدثتني وقالت "عيب أن تقول هذا للمدرسة"، لكنه حديث تقدير أكثر من حديث لوم وعتاب. وهذه الناظرة كان زوجها مأمور مركز ادفو، وكان برتبة عقيد واسمه عبد المنعم حمودة، وكان لها بنت اسمها عزة، وكانت تمازحني أحيانا وتقول: سأزوجك من عزة!

وكان في المدرسة مدرس للغة الإنجليزية يدعى محمود عبد الرحمن، وهذا الأستاذ من أسباب تأخر اللغة الإنجليزية في المدرسة، فلقد كان يكتب الإنجليزي بالحروف العربية، فمثلا كلمة book يكتبها "بوك"، ولم أدرك فداحة هذه الطريقة إلا بعد أن كبرت. وكان هذا الأستاذ حريصا على أن يعطيني درسا خصوصيا، وكنت أقول له: إنني متميز ولا أحتاج إلى درس خاص وأنا الأول على المدرسة دائما. فنشأت بيني وبينه ما يشبه العداوة، حتى أنه جاءنا ذات يوم فأخبرنا أنه سيمتحننا غدا في حفظ قصة باللغة الإنجليزية تقع في صفحتين ونصف، وحاول الطلاب أن يعترضوا بضيق الوقت، لكنه أصرَّ، وشعرت أنه فخٌ مُعَدٌّ للانتقام مني، وتجنبا لما قد يحدث فقد بذلت جهدي فحفظتها عن ظهر قلب، لكن جاء الغد فلم يمتحنَّا ثم الذي بعده ثم الذي بعده، وكنت أطالبه بأن يختبرنا في القصة فيتجاهلني أو ينهرني بقوله "هذا ليس من شأنك"، فلما جاء اليوم الرابع، فاجأنا بالامتحان، وسأل بقية الطُّلاب قبلي وكانوا قد نسوا ما حفظوه منها، فمن لم يستطع تسميع القصة أبقاه واقفا بانتظار العقاب، حتى إذا وصل إليَّ سمَّعتُها له دون أي خطأ، فقال مغتاظا "يخرب بيت أبوك"، ولم يعاقب أحدا من الطُّلاب، ولو أني أخطأت لكان قد عاقبنا جميعا فلا يظهر أنه عاقبني منفردا.

لم أكن أستفيد من حصة هذا الأستاذ، وكان بالمدرسة أستاذة أخرى نصرانية اسمها "نادية" وكانت جيدة، فكنت أنتهز الفرص فأذهب إليها في وقت الراحة لتدرسني، وكانت تشعر أنني مجتهد، فضبطني هذا الأستاذ يوما معها وهي تشرح لي الدرس الذي كان يشرحه، فوبخني وضربني بالعصا، لكنني أمسكت بالعصا وصحت في وجهه: لن تضربني مرة أخرى، فظهر أننا نتشاجر، ولما شتمني بأبي شتمته بأبيه، ثم حضر أستاذ آخر فأخبره أني مريض بالربو، وحضرت الأستاذة فوزية ناظرة المدرسة فلامته وهدأتني فقد بدأت أزمة الربو في الظهور.

حضرتُ مرتين حفلات أوائل الطلاب على مستوى المحافظة، ومما أذكره أيضا أني حين كنت في الصف الثالث الإعدادي تلك المسابقة التي خسرناها من مسابقات المدارس، وكانت مسابقات المدارس تجري بانتخاب مجموعة من الطلاب يمثلون مدرستهم ثم تُطرح عليهم الأسئلة، فيتميز بعضهم على بعض، وقد نجحنا أن نحصل على المركز الأول على مستوى أسوان، ثم كان ينبغي أن ننافس على مستوى الجمهورية، لكنني أخطأت في الإجابة عن سؤال "27 رجب" فسارعت بالقول: "ليلة القدر"، اختلط على الأمر بين 27 رجب و27 رمضان، ثم سرعان ما استدركت قائلا: الإسراء والمعراج، لكن الممتحن كان قد سجَّل الإجابة الأولى، وبهذا خسرنا وتفوقت المدرسة المنافسة علينا، خصوصا وقد فازوا علينا في مسابقة الغناء.

وفاة عبد الناصر

أتذكر جيدا يوم وفاة جمال عبد الناصر، كان الحزن يخيم على مركز ادفو كله، حتى إن امرأة ألقت بنفسها من الطابق الثالث حين سمعت خبر موته، وخرجنا جميعا من المدارس نبكي بكاء هيستيريا، وكنت أبكي بحرقة!

لقد كان دخولي منظمة الطلائع من أسباب تعلقي الشديد بعبد الناصر، كنت أحفظ خطبه عن ظهر قلب، إذ كنتُ حينئذ قويّ الحفظ سريعه، فلذلك بكيته بكاء شديدا ومُرًّا. وكان الناس يحملون نعشا فارغا يجوبون به الشوارع، كأنهم بجنازتهم الرمزية هذه يشاطرون الجنازة الحقيقية في مصر.

مرَّ يوم ثم الثاني في حالة الحزن هذه ثم قدر الله لي أن أتحول تحولا شديدا، فعند انتهاء الجنازة في مركز ادفو، وكنت حينئذ في ادفو لكون مدرستي الثانوية هناك، صار الناس يعودون إلى بيوتهم، فشاء الله أن مرَّ بي أستاذ التربية الرياضية في المدرسة الإعدادية محمد الشاهد فرآني، وسألني:

-      ما بك يا رفاعي لماذا تبكي؟
-      هل هذا سؤال؟
-      نعم، أسألك لماذا تبكي؟
-      أبكي جمال عبد الناصر طبعا.
-      لا، أنت لا تبكي جمال عبد الناصر.
-      فسألت مندهشا: كيف؟! لماذا لا أبكي جمال؟
-      من أين لك أن تعرف جمال عبد الناصر حتى تبكيه؟
-      هل يوجد أحد لا يعرف جمال عبد الناصر؟
-      إنما رأيتَ الناس تبكي فبكيت، فلا تعاند!
-      فانتبهت لهذا المعنى لأول مرة وسألته: إذن ألست حزينا على جمال عبد الناصر؟
-      لا لست حزينا
-      كيف ذلك؟
-      تعال معي وسأشرح لك: لماذا لست حزينا عليه.

مضيت مع الأستاذ محمد، وكان من حي السيدة زينب في القاهرة، فقال:
-      أنت كنت معي مدة سنتين في المدرسة الاعدادية، وأنا أحبك، فأنت شاب متدين، ولهذا فإني أريد أن أُسِرَّ لك بأشياء لكن لا تخبر بها أحدا. لقد كنتُ ضابط احتياط في حرب اليمن، هل تعلم يا رفاعي أننا كنا نُحَزِّم المساجد بالديناميت ثم نفجِّرها فوق رؤوس الناس أثناء صلاة الجمعة؟! هؤلاء الذين نقتلهم ونفجرهم كانوا مسلمين، هكذا كانت تأتينا الأوامر العسكرية!
-      ولماذا تطيعون هذه الأوامر التي تأمر بقتل الناس وهم يصلون الجمعة؟
-      لقد أردنا أن نهزم ثورة اليمن، خرجنا من مصر وذهبنا للحرب لأجل هذا الغرض.
-      وما ثورة اليمن؟

فحكى لي عن الثورة، وعن عبد الله السلال والانقلاب الذي تم على الإمام أحمد البدر وأن أحمد البدر كان ملكا صوفيا وشيعيا من الزيدية، وأن جمال عبد الناصر أراد الوقوف مع الضباط لتكون مثل "الثورة في مصر". ثم قال:

"جمال عبد الناصر هذا مجرم، وليس زعيما كما يقال وكما تسمعون في المدارس، ولا يحب الدين. أنا من الإخوان يا رفاعي وأبي مات في السجن، مات في مذبحة طرة حيث اقتحموا على الناس الزنازين وقتلوهم".

كان في غاية التأثر، مما أثَّر فيّ كثيرا، فسألته:
-      معنى هذا أن جمال عبد الناصر سيء؟
-      كلمة "سيئ" لا تكفي للتعبير عنه.
-      فكيف يا أستاذ لا تخبرونا بالحقيقة كل هذه الفترة؟
-      لا نستطيع أن نقول هذا، وإلا ألقينا في السجون، الآن يمكن أن نقول هذا لأنه مات، أما ما قبل ذلك فلا يمكن.

وهكذا حصلت المفارقة، اليوم الذي كنت أشد ما يكون حزنا على عبد الناصر هو اليوم الذي أمسيت أبغضه أشد ما يكون البغض، انقلب الحب بغضا بنفس الدرجة!

جزى الله هذا الأستاذ محمد الشاهد عني خير الجزاء، كان له عظيم الأثر في أن يتحول مساري كثيرا، لا أقول بأني شهدتُ تحولا جذريا إذ أنني بقيت بعد هذه الصدمة في منظمة الشباب الملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، وبقيت كذلك في الطريقة الصوفية التي كنت قد انتسبت إليها.. لقد تم تحولي الجذري بالتدريج!

لم أفكر أبدا فيما إن كان كلامه كذبا أو مبالغة، لقد سلَّمت بما قال، كنت أحبه كأستاذ وكانت علاقتي به طيبة، وكان كذلك يحبني ويحترمني ولم يكن يتعامل معي كتلميذ بل كشاب ناضج، وكنت استشعر دفء العلاقة بيننا، كما هي بيني وبين كثير من الأساتذة في المرحلة الإعدادية والثانوية، إذ كانوا يعاملونني كصديق، لذلك لم أفكر في أنه قد يكذب علي أو يخدعني، إلا أنني لكي أستوعب هذا الكلام اضطررت إلى سؤال أساتذة آخرين، ولم تكن أسئلة مباشرة إنما جاءت عفويا في سياق أحداث أخرى.

بعد هذه الجلسة مع الأستاذ محمد الشاهد ذهبت إلى بيتي ودخلت في بكاء شديد، شعرتُ أننا نُخدَع، وأنه من الضروري أن تتغير هذه الأحوال، وتذكرت ذلك الكلام القديم الذي كان بيني وبين زميل المقعد في المدرسة الإعدادية محمد عبد الرسول حين كان يقول: يجب أن نقيم دولة إسلامية، نفعل مثلما فعل جمال عبد الناصر، ندخل الكلية الحربية، وننفذ انقلابا عليه!

وقتها لم أعطِ هذا الكلام كثير اهتمام، لكن بعد الذي قاله الأستاذ محمد الشاهد صرت أهتم به وأتذكره، لا سيما وأنا في المرحلة الثانوية، أي أنه بالإمكان بعد سنتين أن أدخل الكلية الحربية ثم ننقلب على عبد الناصر ونقيم الدولة الإسلامية، وبطبيعة الحال لم يكن في ذهني شيء واضح عن طبيعة الدولة الإسلامية، إنما هي أشواق طالب متدين وإن لم يكن لديه علم شرعي.. مجرد طالب في الصف الأول الثانوي.