الخميس، أبريل 30، 2015

مدخل إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع

استعرضنا في المقال قبل السابق كيف تنوعت مذاهب الفلاسفة في رسم صورة للمدينة الفاضلة ثم كيف أنها جميعها قد فشلت، وفي المقال السابق رأينا كيف حصر كل فيلسوف أمر تحمل المسؤولية في فئة أو طبقة بعينها.

وسنحاول بإذن الله بداية من هذا المقال والمقالات التي تليه في شرح المنهج الإسلامي في صياغة المجتمع، وكيف أنه استوعب وتميز عن المناهج الوضعية نظريا، ثم كيف أنه قد تحقق عمليا بحضارة كبرى استمرت لألف عام ضربت مثلا فريدا في تاريخ الحضارات، ثم هي مرشحة في كل وقت للتجدد مرة أخرى.

ونحن حين ندخل إلى رحاب المنهج الإسلامي الرباني، لا سيما بعد ذلك الاستعراض للمناهج والأفكار الوضعية في أمر بناء المجتمعات وفلسفة المسئولية لديها، نزداد إيمانًا بنعمة الله علينا بهذا الدين القويم.

إن الصورة العامة لمنهج الإسلام في بناء المجتمع الإنساني ومعالجة الخلل فيه، تبدو كأنها صورة بناء كبير، مترابط متماسك، متزن منضبط، كالجسد الواحد الذي وصفه باعثه ومؤسسه محمد r بأنه "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

وهذا البناء الإسلامي يمكن دراسته عبر أربعة عناصر:

1. الأساس العقدي؛ إذ العقيدة تُشَكِّل الأفراد –الذين هم في مقام اللبنات- كما تهيمن على المجتمع –الذي هو الكيان النهائي- فالعقيدة هي المادة الخام، التي أُخِذ منها أصل البناء وهي -أيضًا- أساسه وعليها مُستَقَرُّه.
وهذه العقيدة المهيمنة على المجتمع الإسلامي تخاطب الأفراد عبر تكليفات فردية، كما تخاطبهم جماعة عبر تكليفات جماعية، فترسم بناءً لا ينهار باختلال أحد أجزائه؛ إذ لكل جزء مسئولياته التي إن قام بها الجميع كان المجتمع مثاليًّا، وإن قَصَّر فيها بعضهم هرع إليه غيره من الأجزاء يشده إليه ويعيد تقويمه.

وهذه العقيدة تشكل العناصر الثلاثة الأخرى:

2. المسئولية الفردية؛ حيث الأفراد –الذين يمثلون اللبنات- مُكلفون بمهمات فردية ومسئوليات تقع على عاتقهم، ينبغي عليهم إقامتها في كل وقت وفي كل حال، سواء أكانوا في مجتمع إسلامي أم في مجتمع غير إسلامي، أي أنهم يقومون بالواجبات الفردية ولو لم يكن البناء الاجتماعي قائمًا ولا أجزاؤه موصولة ببعضها، فذلك ما يفرض على اللبنات أن تكون ذات جودة وكفاءة وصفات في ذاتها.

3. النظام العام؛ وبه يكون البناء متماسكًا مترابطًا بما قام بين أجزائه من روابط واتصال واستمساك متين، فتلك هي الروابط الاجتماعية بين الفرد وأسرته وعشيرته وقبيلته، ثم بين الأسر وبعضها، ثم بين العشائر وبعضها، ثم بين القبائل وبعضها، ثم الأخوة التي تجمع كل من يقول: "لا إله إلا الله". ومن وراء ذلك روابط الرحم والجوار والتواصل والإحسان لكل الناس، ولو لم يكونوا مسلمين.

ثم يكون البناء بعد التماسك والترابط متزنًا منضبطًا، كل أقسامه وأجنحته متسقة لا يبغي بعضها على بعض، فلا فضل لأحد على أحد بعرق أو لون أو جنس، وليس للسلطة أن تطغى على الأمة، كما ليس للأمة أن تتمرد بغير حق على السلطة، وليس للابن أن يعق أباه، ولا للأب أن يعق ابنه، ولا للرجال أن يقهروا النساء ولا للنساء أن يعصين الرجال في معروف، بل لكل جزء من هؤلاء حق على الآخر وواجب نحوه.

4. ثم يبقى نظام الحماية العام، الذي هو بمنزلة جهاز الإنذار المنتشر في كل أرجاء البناء؛ فهو كالمظلة العامة والحارس اليقظ، فإن جاء صفير الخلل لم يتوان أحد عن التدخل والإصلاح؛ فذلك هو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، الذي يقوم به كل أحد تجاه أي أحد.

بهذه الصورة –التي ندعو الله أن يُوَفِّقنا لبيانها عبر المقالات التالية إن شاء الله- تقوى لَبِنات البناء في ذاتها، ثم تشتد بعضها إلى بعض في روابط متينة تزيد من قوتها، ثم تتصل أجزاء المبنى القوية في اتزان وانضباط يمنع بعضها من الطغيان على بعض.. فيرتسم قول النبي r: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا" وشَبَّك أصابعه[1].

في هذا البنيان وحده يبرز المنهج الإسلامي الفريد "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"[2]. فالمسلم مسئول عن نفسه، ثم هو مسئول عمن حوله بما لديه من روابط وصلات رحم وجوار، ثم هو مسئول عن جماعة المؤمنين بما بينهم من صلة الدين، ثم هو بعد هذا مسئول عن البشر أجمعين باعتبارهم موطن الدعوة وشركاءه في تلك الأرض المأمور بعمارتها.

وإذا شاء الله وتم بيان هذا المنهج نظريا، فسنتبعه بمقالات أخرى تبين حجم الإنجاز الإسلامي في التاريخ الإنساني، وكيف صنع المنهج واقعا حقيقيا في حياة الناس، بخلاف الأفكار الوضعية التي ظلت حبيسة الكتب والخيال.

(1)
الأساس العقدي

كيف غرس الإسلام في نفس المسلم المسؤولية تجاه الإنسانية؟

كيف صار إنقاذ الإنسان وتحرير الإنسانية جزءا من عقيدة المسلم؟

لقد كان ذلك عبر طريقين: غرس التوحيد، وبيان المهمة!

إن غرس التوحيد (لا إله إلا الله) يضرب القيم الأرضية، ويرتقي بالنفس الإنسانية، فحين لا يلتزم الإنسان إلا بأمر الله فإنه يتحرر من كل سلطة أرضية أو أهواء بشرية أو أفكار بالية أو شهوات نفس طاغية، فحينئذٍ ينبعث في الأرض إنسان مختلف عن باقي البشر، إنسان متهيأ لتحمل الأمانة مستعد للتضحية.

ثم إن هذا الإنسان يعرف ويعي مهمته في هذه الحياة، يعرف ماذا عليه تجاه نفسه وأهله وأمته والناس أجمعين، بل وتجاه الحياة كلها بأحيائها: نباتها وحيوانها وحشراتها وحتى جمادها! إنه مكلف بحمل الأمانة والسعي في الإصلاح.
فالصورة المثلى للمسلم هي صورة إنسان لا يخشى إلا الله ولا يتقيد إلا بأوامره، منطلق في طريق رسالته التي يعيها ويعرفها، لا يرجو إلا الله واليوم الآخر.

في المقال القادم إن شاء الله تعالى سنبدأ في بيان: معنى "لا إله إلا الله" وآثارها على الإنسان، وعلى الإنسانية.

نشر في ساسة بوست



[1] البخاري (467)، ومسلم (2585).
[2] البخاري (853)، ومسلم (1829).

السبت، أبريل 25، 2015

حصاد الاستشراق - الإخفاقات

يقال في الإخفاقات مثل ما قد قيل في الإنجازات، فقد يخفق المستشرق وهو حسن النية كما تشهد بذلك باقي كتاباته ومواقفه، وقد يسيء من حيث أراد أن يحسن.

وإخفاقات الاستشراق -كما نراها- تنقسم إلى ثلاثة جوانب: إخفاق في المنطلق، وإخفاق في القدرة، وإخفاق في الغاية.

1. إخفاق في المنطلق

"لقد مال المفكرون والمؤرخون الأوروبيون، منذ عهود اليونان والرومان، إلى أن يتبصروا بتاريخ العالم من وجهة نظر التاريخ الأوروبي والتجارب الثقافية الغربية وحدها. أما المدنيات غير الغربية فلا يعرض لها إلا من حيث إن لوجودها أو لحركات خاصة فيها، تأثيرا مباشرا في مصائر الإنسان الغربي"[1]. أو ربما لم يجدها تستحق الاهتمام أصلا كما فعل رونالد سترومبرج وهو يؤرخ للفكر الغربي فيقول: "علما بأن تلك الكنوز (فلسفة اليونان) قد تضاءلت كَمًّا بعض الشيء نتيجة لغزوات البرابرة التي فصلت عالم البحر المتوسط عن أوروبا، ابتداء من القرن السادس حتى القرن الحادي عشر"[2]، إن سترومبروج يرى في الحضارات الأخرى حضارات "فاترة الهمة بطيئة الخطى مكبلة بأغلال التقاليد والعادات، بينما حضارتنا (الغربية) بالغة القدرة على التبدل والتفكير"[3].

فمن كان هذا منطلقه كان أحرى به أن يخفق في فهم الآخرين، وأن يرسم عنهم صورة تحقق ما يستقر في ضميره لا ما هو مستقر في الواقع.

لقد سجل د. مصطفى السباعي خلاصة لقاءاته مع المستشرقين في قوله: "لقد كنت كتبت عن المستشرقين كلمة موجزة في كتابي "السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" قبل أن أزور أكثر جامعات أوروبا عام 1956م وأختلط بهم وأتحدث إليهم وأناقشهم. فلمّا تم لي ذلك ازددت إيمانا بما كتبته عنهم واقتناعا بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله، سواء كان تشريعيا أم حضاريا، لما يملأ نفوسهم من تعصب ضد الإسلام والعرب والمسلمين"[4].

ولو نجا المستشرق من التعصب الديني، وظل على قناعته بأن الغرب هو ممثل الحضارة دون غيره[5]، فإن ذلك أحرى أن يوقعه في ذات الفخ، فخ الإسقاط الذي يريه ما في ضميره لا ما هو في الواقع، ومثال ذلك ما شاع في إنتاج المستشرقين من تفسيرات مادية أو تفسيرات قومية للتاريخ الإسلامي[6]، وازورار أعينهم عن خصوصيات وظواهر تتنافى مع هذه التفسيرات، هذا إن لم يتكلفوا تأويلها لتؤدي إلى أغراضهم.

إن الذي ينطلق من أن الغرب هو خلاصة الحضارة، لا بد أن ينبش ما استطاع ليحاول إيجاد علاقة بين الشريعة الإسلامية وبين القانون الروماني كما فعل جولدزيهر وشاخت وجاتيسكي! وقد يتكلف من يؤمن بهذا أن يزيل كل الفوارق بين الإسلام والمسيحية ليقرب الإسلام من الغربيين كما فعل إميل درمنغم، وإن الذي لا يريد أن يصدق بأن محمدا r يتلقى الوحي من ربه، يتكلف البحث عمن قد يكون قد أعطاه هذا القرآن ولو كان رجلا عبر به للحظات في سفر وقت أن كان في الثانية عشرة من عمره، كما فعل جوستاف لوبون ومونتجمري وات!
وهكذا تفعل سائر المنطلقات إذا لم تكن حقائق راسخة!

2. إخفاق في القدرة

ويتجلى هذا لدى تصديهم للكتابة فيما هو شديد الخصوصية كاللغة والأدب والتفسير والفقه، وهي أمور تحتاج إلى ملكة يعسر أن يحوزها أعجمي لم ينشأ في بيئة عربية يستقيم فيها ذوقه، إلا أننا نجد كثيرا منهم اجترأوا على هذا فصدرت عنهم عجائب وغرائب، وهذا إذا أعملنا غاية الحسن ولم نفترض وجود الغرض.

وقد أفاض الشيخ محمود شاكر في بيان أمر اللغة والثقافة وكيف أنها من الخصوصيات التي لا تستقيم لمن يدخل فيها بعد الكبر، ويكرر د. عبد العظيم الديب استشهاده بقول المستشرق الروسي كراتشوفيسكي: "اللغة العربية "تزداد صعوبة كلما ازداد المرء دراسة لها"[7] كثيرا، وهذا برغم أن كراتشوفيسكي من أساطين الاستشراق وجهابذته، وقد أطال نُقَّاد الاستشراق في ذكر الأمثلة على هذا بما تغني شهرته عن إيراده. إلا أن المثال الأبرز والأقوى هو إخفاقهم جميعا في وضع ترجمة واحدة دقيقة للقرآن الكريم، وهو الكتاب الأول والأساس في الإسلام! فظل المسلمون يستدركون على هذه الترجمات ويرصدون عيوبها مهما كان المستشرق الذي أصدرها معروفا بإنصافه ونزاهته.

كذلك ثمة جانب آخر مهم في مسألة الإخفاق في القدرة، وهو إخفاقهم في التحرر من شبكة المصالح التي تمول الاستشراق لتجني ثماره، يقول إدوارد سعيد: "من المحال تفهُّم الأفكار والثقافات والتاريخ، أو دراستها دراسة جادة، دون دراسة القوة المحركة لها، أو بتعبير أدق دون دراسة تضاريس القوة أو السلطة فيها، فمن المخادعة الاعتقاد بأن الخيال وحده قد فرض خلق صورة الشرق... فالعلاقة بين الغرب والشرق علاقة قوة وسيطرة ودرجات متفاوتة من الهيمنة المركبة... ولم يكن سبب اكتساب الشرق للصورة التي رسم بها يقتصر على أن من رسموه اكتشفوا أنه يمكن أن يصبح "شرقيا" بالصورة الشائعة لدى الأوروبيين العاديين في القرن التاسع عشر، ولكنه يتجاوزه إلى اكتشاف إمكان جعله كذلك، أي إخضاعه لتلك الصورة الجديدة للشرق"[8].

ولذلك فقد دفع بعضهم ثمن إنصافه مع الإسلام فعانى من الاضطهاد في العمل أو النفور من أقرانه المستشرقين أو تلقي الهجوم الشديد لكتاب منصف ألفه، مثل الألماني يوهان رايسكه[9] والإنجليزي توماس أرنولد[10] والفرنسي رجاء جارودي.

3. إخفاق في الغاية

فمثلما أخفق الاستشراق في رسم صورة حقيقية للشرق، فقد أخفق كذلك في محاولة ترويضه وإدراك أسراره وتحقيق الهيمنة الكاملة عليه، ويبدو واضحا أن المجهود الرهيب والإمكانيات الضخمة التي بذلت للاستشراق ثم للجيوش التي تحركت لتنفيذ توصياته لم يحقق شيئا يناسب ما بُذِل، فما من جيش نزل أرض المسلمين صراحة إلا وهو هُزِم أو يعاني من جهاد شرس فلا يقر له قرار، وما من فرصة تتاح لاختبار اختيارات الشعوب وإرادتها إلا وتأتي بممثلي الفكر الذي قضى الاستشراق كل هذه القرون ليحاربه ويضع فكرا غيره في مكانه، وقد تقع المفاجآت التي تجعل تقارير الخبراء والمستشرقين لا تساوي الحبر الذي كتبت به!

إن القدر القليل الذي أتيح للمسلمين من قدرات البحث العلمي مكنهم من نسف الأساطير الاستشراقية، وإنزال قوم من كبارهم من المنازل العالية التي وُضِعوا فيها إلى منازلهم التي يستحقون، وكُشفت عمليات التزييف والتشويه ومناهجها وطرائقها، حتى صارت كلمة "الاستشراق" ملوثة كما قال برنارد لويس، وصار التتلمذ على المستشرقين نوعا من التهمة يدفعه صاحبه عن نفسه، من بعد ما كان في قبل نصف قرن شيئا مثيرا للفخر.

لقد فشل الاستشراق -كأداة للاحتلال والهيمنة- في سوق الشعوب نحو وحدة الثقافة التي حملها كرسالة يريد لها أن تسود، وما زالت المقاومة مستمرة، والجهاد ماضيا إلى يوم القيامة!

نشر في نون بوست



[1] محمد أسد (ليوبولد فايس): الطريق إلى الإسلام ص15.
[2] رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص18.
[3] رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص19.
[4] د. مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص65.
[5] قال أرنولد توينبي: "ظل التعصب المسيحي ضد المسلمين حيا في عقول كثير ممن نبذوا المسيحية نفسها".
[6] د. فاروق عمر فوزي: الاستشراق والتاريخ الإسلامي ص9 وما بعدها.
[7] كراتشوفسكي: مع المخطوطات العربية ص7.
[8] إدوارد سعيد: الاستشراق ص49.
[9] عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ص300.
[10] د. مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص32.

الجمعة، أبريل 24، 2015

من المسئول عن التغيير؟.. جولة في إجابات الفلاسفة

تصدر فلسفة المسئولية -بطبيعة الحال- كفرع عن التصور الفلسفي العام، فكل تصور توقف عند نقطة -باعتبارها موطن المشكلة أو بداية الحل- توجه إليها بالتركيز والإصلاح.

وبعدما استعرضنا في المقال السابق آراء الفلاسفة في الأحلام الفاضلة، يهمنا أن نركز في هذا المقال على إجابتهم عن سؤال التغيير، من المسؤول عن قيادة التغيير، ثم نخلص من كل هذا إلى الدخول في المنهج الإسلامي في التغيير الذي هو فرع عن المنهج في بناء الدولة والمجتمع.

لقد انصرف كونفوشيوس –ومن تبعه في هذه الوجهة- لإصلاح أخلاق الأفراد في عموم الشعب متصورًا أن نجاحه في نشر الأخلاق تدريجيًّا بين عموم الناس سيؤدي في النهاية لإصلاح حال المجتمع والسلطة، وبذل في هذا غاية جهده واستخلص فيه عصارة فكره، ولم يحفل بالبحث في إصلاح سياسة الحكم وقواعد السلطة، ولم يهتم كثيرًا بجانب القوانين باعتبار أن قوة الأخلاق في الناس تغني عن القانون، كما أن انهيارها يجعل القانون بلا فائدة.

ومن موطن العيب في هذا التصور هو توهم قدرة الناس على إصلاح السلطة دون الأخذ في الاعتبار قدرة السلطة على إفساد الناس، وأيهما أشد وأقوى تأثيرًا وأسرع حدوثًا؛ خصوصًا وكونفوشيوس لا يضع سبيلاً لإصلاح السلطة من قِبَل الشعب؛ بل يتمنى من خلال نشر الفضائل أن ينصلحوا من تلقاء أنفسهم، وكذلك التوهم بأن الناس سواء، وأن استعدادهم للتخلق بالأخلاق واحد وهو ما يناقض طبيعة البشر؛ إذ بعضهم أسرع استجابة للخير من بعض، وبعضهم تكفيه الإشارة فيما البعض الآخر لا يعالج شره إلا بالقوة والتأديب؛ فلا بد من وجود القوانين مع وجود الأخلاق.

ولقد انصرف أفلاطون –ومن تبعه في تصوره- إلى التركيز على الطبقة الحاكمة، والتي تمنى أن تكون من الحكماء والفلاسفة؛ حيث إن "العلم يحتم فعل الخير"، وهو لم يحفل بإصلاح الفرد باعتبار أنه وحدة أصغر من أن يمكن دراستها بوضوح، ورأى أن إصلاح الطبقة الحاكمة هو طريق إصلاح الدولة؛ ولهذا حظيت هذه الطبقة بحديثه التربوي الاقتصادي الإصلاحي، فهي بالنسبة إلى باقي الشعب بمنزلة الرأس من الجسد.

ومن مواطن العيب في هذا التصور حصره الخير في العلم، على الرغم من وضوح انفكاك الارتباط بينهما؛ فكم من عالم بالضرر يفعله لأنه ضعف أو هوى أو شهوة([1])! ومن العيوب كذلك حذفه لحقوق –ومن ثَمَّ: مسئولية- عموم الناس، وحبسه كل من في طبقة في مقامهم ومنعهم أن يتطلعوا إلى غيرها؛ بل هو لا يرى أن ينتقل صاحب الحرفة في ذات الطبقة من حرفة إلى أخرى([2])، والاستمرار في الاحتفاظ بطبقة العبيد التي لا يمنحها أي حقوق، ولا حتى لقب المواطن، ثم أسوأ من هذا كله افتقاد النظرة الإنسانية وسيادة النظرة العنصرية تجاه الأجانب؛ "فغالبًا ما يتطلب الولاء للدولة إنكار مشاعر التكافل والتعاون المتبادل، الذي يوجد بشكل طبيعي بين الناس، وتفرض الدولة أنواعًا معينة من قواعد السلوك التي تحدد العلاقة بين المواطنين والعبيد أو البرابرة، فكل ما هو محرم في العلاقات القائمة بين المواطنين المتساوين مسموح به تجاه أولئك الذين يعدون كائنات أدنى منزلة، وبينما تحلى المواطن اليوتوبي بالرقة ودماثة الخلق في تعامله مع من هم في نفس منزلته، فإنه يتسم بالفظاظة في تعامله مع عبيده، إنه يحب السلام في وطنه، ولكنه يشن أبشع الحروب خارج الحدود، وقد سمحت جميع اليوتوبيات التي حذت حذو أفلاطون بهذه الثنائية"([3]).

والخلاصة أن المسئولية في هذه الفلسفات واقعة على عاتق الفلاسفة والحكماء وحدهم.

وكذلك من رأى الحل في الإصلاح الديني علقها برقبة الكهنة والقساوسة، ومن رآه في القوانين المحكمة علقها برقبة المشرعين، وبحثت أغلب الفلسفات عن السلطة والدولة لما لديها من قدرة على تنفيذ الأفكار ووضعها موضع التطبيق ككل تصورات الشيوعية، فكانت المسئولية معلقة برقبة السلطة.

إن محاولتنا للتفتيش عن المسئولية في المناهج الوضعية أسفرت عن نتيجة مثيرة للخيبة والإحباط؛ ذلك أننا لا نجدها إلا في مجال القانون والعقوبات والجرائم، أما في مجال الإصلاح وحمل مسئولية التغيير فلا نكاد نجد إلا قليلاً، وحتى هذا القليل ظل حبيس النظريات ولم يُترجم إلى نموذج عملي واحد فيما نعلم، ثم فوجئنا بهذه النتيجة يقولها المستشرق الأمريكي مايكل كوك -صاحب أوسع بحث في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- يقول بلهجة قاطعة: إن الثقافة الغربية -وكذلك الثقافات الشرقية الأخرى- ليس لديها "فكرة واضحة عن واجب لا يفرض علينا التصرف بنحو لائق إزاء الغير فقط، بل كذلك منع الآخرين من فعل ما فيه تَعَدٍّ واضح على الناس، مع ذلك ليس لدينا نظرية عامة حول الأوضاع التي ينطبق عليها، والإرغامات التي تسقطه. إن القيمة الأخلاقية موجودة عندنا، لكنها ليست من القيم التي أولتها ثقافتنا صياغة متطورة ومتكاملة"؛ لذا فإنه نفسه لم يكتشف هذا المعنى إلا كنتيجة جانبية لبحوثه في الإسلام([4]).

لكننا وقعنا في أثناء البحث على أمور لا ينبغي إهمالها؛ أهمها:

1. أن من القوانين من جعل مسئولية الإنسان تجاه عائلته فوق الحق والعدالة، منها –على سبيل المثال- قانون نابليون الذي يُحَرِّم على الابن أن يشهد ضد أبيه وأمه في قضية مدنية أو جنائية([5]).

2. ظهرت فلسفات غارقة في المادية وفي التفسير المادي للإنسان؛ بحيث إنها سلبت منه -بوضوح أو بالمآل- الاختيار والإرادة الحرة، وقد انعكس هذا على مسألة "الأخلاق"، فحتى القرن التاسع عشر الميلادي كان علم الأخلاق يبحث في المبادئ وترتيبها واستنباطها وأهميتها للحياة بما يعني التطلع إلى مَثَلٍ أعلى ومُثُلٍ عليا للسلوك تعين على فعل الخير والابتعاد عن الشر، وبهذا كان علم الأخلاق من العلوم المعيارية؛ بمعنى أنه لا يدرس ما هو كائن، بل ما ينبغي أن يكون، ثم ظهرت في فرنسا مدرسة من علماء الاجتماع نظرت إلى علم الأخلاق باعتباره تفسير ما هو كائن، لا معيارًا لما ينبغي أن يكون، وبهذا تحولت الأخلاق لديهم إلى "القواعد السلوكية التي تسلم بها جماعة من الناس في حقبة من حقب التاريخ"، فنزعوا عن القيم الأخلاقية فكرة الثبات والدوام أي نزعوا عنها القداسة والاحترام([6]).

هذه النظرة هي بنت الفكر المادي الذي لا يرى في الإنسان إلا طبيعته المادية، وهي الطبيعة الحتمية التي لا تسمح له بالاختيار، يقول سبينوزا –الفيلسوف الهولندي-: إن "الأعمال الإنسانية، شأن جميع ظواهر الكون تنتج وتستنبط بالضرورة المنطقية نفسها التي يستنتج بها من جوهر المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين"، ومثله الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت الذي قال: إنه "لو كنا نعرف جميع الظروف والسوابق، فإن أعمال الإنسان يمكن التنبؤ بها بالدقة نفسها التي يُحَدَّد بها كسوف الشمس". ومآل هذه الفكرة المادية تنتهي عند كلمة ديفيد هيوم: "إن شعورنا بالحرية ليس إلا وهمًا". وبالتالي فلا معنى للتحلي بالأخلاق؛ لأنه لا قدرة على الاختيار، وهو ما يصرح به شوبنهاور: "هناك أناس طيبون، وآخرون خبثاء، وذلك مثلما يوجد حملان ونمور، فالأولون يولدون بمشاعر إنسانية، والآخرون يولدون بمشاعر أنانية، وعلم الأخلاق يصف أخلاق الناس مثلما يصف التاريخ الطبيعي خصائص الحيوانات"([7]).

إن أهون آثار هذا التفكير هو ما يجعل "النية" وحدها مقياسًا لحسن العمل أو قبحه، وهو ما قال به كانْت، وقد أحسن الشيخ محمد عبد الله دراز في الرد على هذا القول بما قاله سلفنا الصالح من قبل من أن "النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد". يقول الشيخ: "نحن متفقون تمامًا مع "كانْت" فيما يقرره من أن أكثر الأعمال نفعًا، وكذلك أكثرها نزاهة ليست له قيمة أخلاقية إذا لم تصحبه –بل إذا لم تحدده- إرادة الخضوع للقانون، وأن أسوأ الأعمال لا يستتبع مسئولية إذا لم يكن قد خالف القانون عن عمد، ولكن شتان بين هذا وبين أن نقول في حالة العكس: إن أكثر الأعمال ضلالاً مع النية الحسنة يسترد كل قيمته ويصبح قدوة للسلوك الأخلاقي، فإذا كانت النية الطيبة تعذر صاحبها؛ فإن ذلك لا يستتبع أن تنزل منزلة مبدأ مطلق للقيمة الأخلاقية، وعلى سبيل الإيجاز، ولكي نعطي لتفكيرنا شكلاً أكثر وضوحًا وتحديدًا، نقول: إن النية شرط ضروري للأخلاقية، وهي على ذلك شرط للمسئولية، ولكنها ليست بأي حال شرطًا كافيًا لهذه أو تلك"([8]).

3. إن الفلسفات التي تجاهلت مسئولية عموم الناس في التغيير والإصلاح، وقصرت ذلك على الفئات المؤثرة والحكام المتسلطين، هذه الفلسفات أمسكت بتلابيبهم في جانب واحد هو: المسئولية القانونية! ومن المدهش أنها عامة القوانين الوضعية تعاملت بقسوة، فعاقبت حتى المجنون والأطفال والمعتوهين؛ بل والحيوانات والجمادات، وعاقبت على ما وقع بالصدفة وما كان غير متَعَمَّدٍ أيضًا.

وتلك هي خلاصة البحث الواسع للفرنسي بول فوكونيه Paul Fauconnet، والتي استعرض فيها أحوال المجتمعات البدائية والحضارات القديمة([9])، ومما جاء فيها أن التوراة([10]) عاقبت الثور القاتل بأنه "يُرجم ولا يؤكل لحمه، وهذا الإجراء مطبق حتى لو أقر المالك بأنه مذنب وعوقب بالموت"، وفي قوانين أفلاطون: "لو أن حيوانًا يقتل إنسانًا فإنه يُقتل، ويُرمى خارج الحدود، ولو أن شيئًا من الجماد يقتل إنسانًا فإنه يرمى كذلك خارج الحدود". وكانت الدعاوى ترفع على الحيوانات في كافة أوروبا منذ القرن الثالث عشر حتى الثامن عشر؛ بل والتاسع عشر في المناطق الشرقية منها، وعوقب الأطفال والمجانين على ما يرتكبونه، وكانت تخفف العقوبات أحيانًا أو لا تخفف، ولقد أعدم طفل في الثامنة من عمره في إنجلترا في القرن الثامن عشر من أجل القتل أو الحريق، وقد كان على القضاة في فرنسا أن يصدروا العقوبة العادية ضد المجنون، ثم يختص البرلمان بتخفيف هذه العقوبة أو إلغائها، أما فيما يتعلق بجريمة الاعتداء على الذات الملكية فلا تخفيف فيها.

وكانت القوانين –التي سادت المجتمعات القديمة- تعاقب -أيضًا- على ما ارتكب عن غير قصد أو بالصدفة؛ ففي نظام دراكون (الذي بقي في أثينا حتى الغزو الروماني) كانت عقوبة القتل الخطأ هي النفي المؤقت، وفي أقدم القوانين الرومانية (قانون الألواح الاثني عشر) فإن الضحية الذي يُبتر له عضو من أعضائه، على إثر جناية غير متعمدة، كان يستطيع أن يجري القصاص إذا لم يقبل الدية، وفي القانون الصيني كان القاتل بطريق السهو أو الصدفة يعاقب بالجلد مائة جلدة وبالنفي، وفي التوراة عوقب القاتل غير العامد بنوع من النفي، ومن الممكن شرعًا لصاحب الدم أن يقتله لو أنه غادر منفاه قبل المدة المحددة، وفي القانون الكنسي كانت الكفارات القاسية تفرض خلال سنوات كثيرة للتكفير عن خطايا لا إرادية، ارتكبت بسبب الجهل، وفي إنجلترا حتى أوائل القرن التاسع عشر لم يكن القاتل غير المتعمد يفلت من الإدانة علاوة على مصادرة أمواله إلا بفضل رحمة الأمير، ويبرز هذا الوضع الأخير -أيضًا- في القانون الفرنسي القديم([11]).

وبهذا نزعت المناهج الوضعية من البشر حقهم في إصلاح أحوالهم، ووضعتها بيد الحكام أو الكهان أو الفلاسفة، ثم ترصدت لهم فيما يفعلونه فعاقبتهم على غير ما قصدوه؛ بل عاقبت غير ذوي الأهلية!!

نشر في ساسة بوست



([1]) د. محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص188.
([2]) ديفيد جونستون: مختصر تاريخ العدالة ص66.
([3]) ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ ص22.
([4]) مايكل كوك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي ص25، 26، 803 وما بعدها.
([5]) Code Napoleon, livre I, Ture 2 I. نقلاً عن: د. محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص143، 144.
([6]) د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفلسفة ص205 وما بعدها، د. مصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام ص15 وما بعدها.
([7]) د. محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص181، 182.
([8]) السابق ص179، 180.
([9]) ولم يكن من بينها الحضارة الإسلامية، ولذلك انتهى في دراسته إلى ارتقاء الغرب حضاريًّا عن كل ما سبق، وهو ما أثار غضب الشيخ محمد عبد الله دراز؛ لأنه لم يبحث عن "المسئولية" في الإسلام، ولو فعلها لكان قد رأى أن الإسلام هو أول من تحدث عن المسئولية برقي غير مسبوق ولا ملحوق، وكادت لهجة الشيخ دراز تتهمه بالتعمد في هذا الإغفال، وترميه بالغرض في نصرة الحضارة الغربية الحديثة.
([10]) وهي التوراة المحرفة بطبيعة الحال لا التي أنزلها الله على موسى u.
([11]) د. محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص222 وما بعدها.