الاثنين، نوفمبر 25، 2013

الجهاد والحضارة


يحلم الإنسان بالراحة والسعادة..

ولذا فهو يجتهد في تحصيل أسبابها، يسعى إلى المال لأن ذلك هو ما سيوفر له السفر، والجلوس على المقعد الوثير في المنزل الفسيح المطل على حمام السباحة، حين يأتي له الخادم بكوب العصير اللذيذ..

يحلم الإنسان -الأسمى نفسا- ألا يكون له أعداء، فيعيش في سلام نفسي مع كل الناس، حتى لو كانت الخلافات حتمية لأسباب كثيرة، فهو يتمنى أن تدار هذه الخلافات بما لا ينقلها لمرحلة العداء والمشاكسات وأخلاق الغدر والخيانة..

يحلم الإنسان -الأسمى أكثر- ألا يكون بين الناس صراعات تدور لأن أحدهم أناني أراد الاستئثار بالثروة أو بالسلطة بينما يعيش الآخر فقير أو ذليلا، ويتمنى أن تتخلص النفوس من الأنانية والأثرة وأن تكون أكثر رحمة وشفقة وإيثارا..

يحلم الإنسان -الأسمى أكثر وأكثر- ألا يكون في العالم حروب ونزاعات ومعارك على الأراضي والموارد، ويزعجه أن بعض البشر لا يتردد في ارتكاب مذابح هائلة وحروبا مدمرة تهلك فيها آلاف وملايين النفوس من أجل تحسين موقع نفوذه وسطوته على العالم أو لحيازة موارد أخرى من مزارع وسواحل وآبار نفط ومواد خام..

***

 

لكن المثير للتأمل أن كل هؤلاء البشر لم يحقق واحد منهم حلمه، رغم نبل نفوسهم ومثالية أحلامهم وروعة أفكارهم..

 

فالذي كان يحلم بالسعادة في الغنى لم يجدها، وهو حتى وإن جلس على الكرسي الوثير أمام حمام السباحة وأخذ في ارتشاف العصير المثلج فإنه لم يحقق ذلك الشعور الذي ظن أن سيغزوه حين تخيل هذا المشهد.. شعور الرضا والراحة!

فلقد كان في تلك اللحظة يخوض الصراع العقلي النفسي الطويل في تدبير الصفقة القادمة، والنجاة من الشريك المنافس، وتسديد ضربة للخصم، وكيفية إدارة العلاقة مع فلان الذي هو مضطر للتعامل معه ولكن لا يتحمل طباعه.. كان الرجل غارقا في التفكير القلق حول تثبيت ما حصل عليه ثم إنمائه وتوسيعه ثم الحفاظ عليه من المنافسين والخصوم.

هذا هو مصير أبسط الأحلام "السعادة الشخصية".. أما أحلام السلام النفسي مع الناس، والجنة الوطنية، والجنة الأرضية، فهي لم تتحقق أبدا.. وكل من حلموا ماتوا على طريق "الكفاح" دون أن يروا آثار حلمهم.

ثمرة التاريخ أنه يحكم على الأفكار.. فمهما بدت الفكرة نبيلة وأخلاقية ومتماسكة منطقيا فهذا لا يعني للأسف أنها صالحة للتطبيق، الواقع مختلف..

وبالنظر إلى التاريخ نجد أنه وباستقصاء الحروب المعروفة منذ بدء تاريخ البشرية حتى 1945م، ظهر أنه: نشبت 34531 حربا خلال 5560 سنة، بمعدل 6.2 حرب كل عام، وخلال 185 جيلا لم ينعم بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقط[1]!!

يمكن للإنسان أن يحلم بعصر تنتهي فيه الحروب ويسود السلام، لكن واقعه الصغير لم يسعفه أبدا، كما أن التاريخ الطويل يثبت أنه مجرد إنسان.. يحلم!!

***

أين تكمن المشكلة إذن؟

تكمن -ببساطة- في هذا "التصور المادي" للحياة، التصور الذي يريد أن يرى الجنة على الأرض، التصور الذي بحث منذ قديم الزمان عن "المدينة الفاضلة".. التصور الذي لا يريد أن يؤمن بأن الدنيا "دار ممر، لا دار مقرّ"..

وهذه ليست دروشة (وإن من آثار المادية التي اجتاحت عالمنا في عصور الاستعمار وما بعده أن تعتبر كل كلمة دينية في مقال فكري أو سياسي نوعا من الدروشة والسطحية) وإنما هي النتيجة التي ينتهي إليها حتى التفكير المادي.. هل تعلم أن نماذج المدينة الفاضلة التي تصورها الفلاسفة والمفكرون عبر التاريخ إنما تنتهي إلى أن تكون مجتمعات عسكرية صارمة؟!![2]

في كتابها المهم "المدينة الفاضلة عبر التاريخ"، تقول الباحثة الإيطالية، ماري لويزا برنيري -بعد رحلتها في بحث كل تصورات المدينة الفاضلة- بأن هذا يعود لعدد من الأسباب أهمها أن الفلاسفة بدلا من أن يحاولوا "اكتشاف قوانين الطبيعة فضَّلوا أن يخترعوها"، فلذلك رسموا في أذهانهم صورة للإنسان "المنشود" لتفكيره وطباعه وسلوكه، وللنظام "المنشود" سياسته واقتصاده واجتماعه، فأسسوا بذلك لـ "نظام ساكن ونهائي"، وما دام كذلك فهو لا يسمح حتى لمواطني المدينة الفاضلة بالكفاح لجعله أفضل من هذا![3]

ومن المعروف أن كل تصورات المدينة الفاضلة فشلت، سواء منها ما سعى إلى تطبيق نفسه أو ذلك الذي بدأ في الخيال وانتهى فيه.

نحتاج إذن أن نفهم أن الجنة ليست على هذه الأرض! ونفهم بأن الدنيا دار ممر لا دار مقر، وأنها كفاح لا استقرار، وعمل لا سكون!

أليس من المثير للتأمل أن الإنسان الذي حقق الغنى وجلس على الكرسي الوثير أمام حمام السباحة إذا سُئل عن سعادته لم يذكر هذه الجلسة بل طفق يتحدث عن "كفاحه" حتى وصل هنا؟

أليس من المدهش أن لحظات الفخر للأمم هي التي كانت فيها "تكافح، تحارب، تناضل" في سبيل "بناء" المجد لا فيما وصلت إليه الآن من "مجد" فعلي؟ ثم أليس لكل أمة حتى وهي في لحظة المجد كفاح آخر لتحقق به مجدا آخر؟!

لماذا تعظم الأمم جميعا شأن أبطالها المحاربين؟!

لا بأس أن ترى أن كل هذا كان خطئا، وأن البشرية ينبغي أن تفكر بطريقة أخرى وتسلك طريقا آخر.. لا بأس، إن لم يقنعك التاريخ الطويل فيمكنك أن تفني عمرك في محاولة أخرى!!!

ونعم، سيُفني الماديون أعمارهم في محاولة ومحاولات أخرى، فمن متلازمات الفكر المادي الاعتقاد بأنه كما تطور القرد إلى إنسان فإنه من المأمول أن يتطور الإنسان إلى "كائن أفضل".. وأن التاريخ ليس إلا خط الزمن الماضي لكنه لا يؤشر أبدا إلى "حقيقة وجودية" (أو: سنة كونية).

الفارق بين الماديين وأهل الدين لا يمكن ردمه..

***

وحيث وصلنا إلى نقطة أن السعادة في العمل لا في الخمول، وأن المجد في الكفاح لا في الرفاهية، وأن الدنيا بطبيعتها ليست الجنة المنشودة ولن تكون (لقد خلقنا الإنسان في كبد).. فإنه ينبغي علينا أن نفكر في طريق آخر:

هنا سيأتي الدين!

الدين يطرح تصورا عن أصل الإنسان، ما ينبغي عليه أن يفعل، جزاؤه الذي سيلقاه في الحياة الأخرى وليس على هذه الدنيا.

ولذلك، فبينما يتصور الماديون أن البشرية تحتاج (وتسير في طريق) أن تكتشف السبيل لإقامة الجنة على الأرض، يرى أهل الدين أن البشرية تعيش صراعا دائما بين "الحق" و"الباطل"، وأن اتباع الحق كفيل بإصلاح البشرية وتحقيق النهضة والرخاء والراحة والسعادة والرفاه المادي لكن المعركة مع الباطل تستلزم الكفاح الدائب الطويل!

أهل الدين يرون من يسقط في طريق الكفاح فهو في أسمى المنازل في الدنيا والآخرة (نموذج الشهيد)، بينما يحتم الفكر المادي اعتبار من يسقط "خسارة" في الطريق، وإن تعظيم من سقطوا في طريق الكفاح هو في عمقه أثر ديني لا مادي وقِيَمي لا عملي، فبالمقياس المادي: هذا أتعب نفسه في كفاح ولم يصل إلى الغاية، وما هو تعريف الخسائر إن لم يكن هذا التعريف؟!!

يذكرنا هنتنجتون في كتابه الشهير بقاعدة من قواعد التاريخ "الحضارات الكبرى قامت على الأديان"، لعل هذا يفسر لك لماذا نجحت الأديان "في الدنيا" رغم أنها تتطلع إلى الآخرة بينما فشلت المادية في الدنيا رغم أن الدنيا كل قضيتها (وفشلت في الآخرة طبعا).

وبنظرة عابرة سريعة سنكتشف أن الدول التي ليس لها "دين، فكرة، رسالة... إلخ" تعيش على هامش الحياة مهما كانت متقدمة ماديا وصناعيا واقتصاديا، وهي إن برزت يوما على سطح الحياة فلا تلبث أن تنتهي قبل أن تُكْمِل القرن أو نصف القرن، وهذا زمن لا يُقاس في عمر الحضارات.

***

فإذا وصلنا إلى أن السعادة هي ذاتها رحلة الكفاح والجهاد، وأن السعيد حقا هو صاحب الكفاح والجهاد، وأن مشهد الراحة الأخير هذا ليس إلا "ثمرة سعيدة" لرحلة جهاد طويلة..

وإذا وصلنا إلى أن الأمم التي لا رسالة لها تجاهد من أجلها، هي في أحسن الأحوال أمم تابعة لا وزن لها، وغالبا ما تكون ذليلة لا رأي لها، وكثيرا ما تكون مقهورة من غيرها أو مرشحة لأن تكون مقهورة..

إذا وصلنا هنا، علمنا أن الجهاد سر الحياة، وأنه لا حضارة بلا جهاد.


[1] عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ = 1986م. ص19.
[2] علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة: د. محمد يوسف عدس، مؤسسة بافاريا، ميونخ، ألمانيا، الطبعة الثانية، 1997م. ص239 وما بعدها، 246، 249.
[3] ماري لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ترجمة: د. عطيات أبو السعود، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 225، سبتمبر 1997م. ص19 وما بعدها.

الأحد، نوفمبر 17، 2013

أسطورة صلاح الدين الأيوبي


"وأُحذَّرك من الدماء والدخول فيها والتقلُّد لها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم"

[من وصية صلاح الدين لابنه الأفضل]

***

ليست من لحظة في تاريخ الإسلام كان يُمكن أن يرتكب فيها المسلمون المذابح الواسعة دون أن يتهمهم أحد بالقسوة مثل هذه اللحظة التاريخية.. لحظة استرداد بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد نحو قرن من الزمان. ذلك أن دخول الصليبيين لبيت المقدس شهد واحدة من أكبر المذابح المروعة في التاريخ الإنساني، حتى عدَّ المؤرخون من قُتِل من المسلمين يومئذ بسبعين ألفا، وروى بعضهم أن الخيول كانت تخوض في الدماء حتى رُكَبها.

لكن هذه اللحظة صارت أكثر خلودا وتألقا ولمعانا حين سجلت ما فعله صاحبها الخالد: السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي.

لقد ترفع صلاح الدين عن سفك الدم وعن الانتقام، وأبدى من الفروسية والرحمة والسماحة ما أُخِذ عليه في بعض الأحيان، إذ كان من ضمن الذين عفا عنهم ذوي غدر وخسة أثخنوا في المسلمين بعد ذلك، لكن الخسارة الوقتية في الحرب لا تقارن بالكسب التاريخي في الأخلاق، ولئن قالت ميادين الحروب أن صلاح الدين كان رحيما أكثر مما ينبغي لقائد عسكري فإن ميادين القلوب وقفت منبهرة أمام الفارس الذي تعفف عن سفك دم مقاتليه وفَضَّل أن يحفظ دماءهم وأرواحهم رغم كثرة الدواعي الدافعة لإزهاقها.

يمكن للمرء أن يكتب كتابا كبيرا عن صلاح الدين دون أن يخط جملة واحدة من عنده، بل ويمكنه أن يكتب مجلدا أو اثنين دون أن يخط جملة واحدة لكاتب عربي أو مسلم، فلقد بلغ انبهار المؤرخين من غير العرب والمسلمين بشخصية صلاح الدين وأخلاقه وفروسيته ورحمته ما جعله واحدا من أكثر الشخصيات التي كُتِب عنها في التاريخ الإنساني.

وما ذلك إلا لأن الرجل تعفف عن سفك دماء كثيرة كان يملك أن يسفكها! فليتأمل القادة والساسة والعسكريون كيف يكون الخلود!

***

"لقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية"[1]، إذ "لما غزا الصليبيون الأرض المقدسة سنة (1099م)، خلفوا وراءهم في كل مكان الموت والدمار، بيد أنه لما رد صلاح الدين الصليبيين على أعقابهم، لم يلجأ إلى وسائل الانتقام، ولم يخرب المسلمون الأماكن التي فتحوها، كما فعل المقاتلون الدينيون السابقون لهم من الممالك الأخرى"[2].

"حين تمكن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس -التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة- فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقاما لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خلقي تجاه كلمة الشرف أو الأسرى"[3].. "لم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش، فيبيد النصارى عن بكرة أبيهم؛ فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعا سلب شيء منهم"[4].

"كان صلاح الدين مستمسكا بدينه إلى أبعد حد، وأجاز لنفسه [في الحرب] أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى[5]؛ ولكنه كان في العادة شفيقا على الضعفاء، رحيما بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سُمُوًّا جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي -"الخاطئ" في ظنهم- رجلا يصل في العظمة إلى هذا الحد، وكان يعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه إلى مطالب الشعب جميعها، وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب، ولم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلا دينارا واحدا؛ وقد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصية لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية"[6].

***

إن "أخلاق صلاح الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا سحريا خاصا، حتى إن نفرا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين"[7]، وإن "شرف الفروسية الإسلامية سيكون مثار انبهار الأوربيين، بل وسيدفعهم نبله هذا إلى العديد من المواقف المحرجة، فما كان منهم إلا التماس أن السبب وراء أخلاقه الرفيعة والكريمة ما هو إلا لأن لديه دماء أوربية تجري في عروقه... ومثل هارون الرشيد، تجد القصص التي تحيط به لها طابع رومانسي وأسطوري"[8].

لقد "وصل الأمر إلى حدِّ أنه ظهرت في القرن الرابع عشر قصيدة طويلة جرى العرف على تسميتها "صلاح الدين" وأعيدت فيها صياغة حوادث الأساطير القديمة، وذلك لأن فارسا من هذا الطراز الرفيع يجب بالضرورة أن يصبح منتميا إلى الأسرة المسيحية، وهكذا قيل إن أمه هي الكونتيسة بونثيو التي تحطمت سفينتها على الساحل المصري، وأنه هو نفسه اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت"[9].

***

لم يزل صلاح الدين مُعَظَّمًا عبر العصور، ويوم أن زار وليام الثاني آخر الأباطرة الألمان الشرقَ (1899م)، وقف أمام قبر صلاح الدين، وخطب عنده خطبة أعلن فيها حبه للعرب وحمايته لهم، ووضع على القبر لوحة من البرونز صنعها له خصيصا، فهيَّج ذلك قريض أمير الشعراء أحمد شوقي فأنشأ يقول:

عظيمُ الناس من يبكي العظاما ... ويندبهم ولو كانوا عظاما

رعاك الله من ملك همام ... تعهَّد في الثرى ملكا هماما

أتدري أيَّ سلطان تحيَّي ... وأيَّ مُمَلّكٍ تهدي السلاما

دعوت أجلَّ أهل الأرض حربا ... وأشرفهم إذا سكنوا سلاما

نشر في مجلة الوعي الإسلامي -  العدد 580 - ذو الحجة 1434هـ - أكتوبر، نوفمبر 2013م




[1] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/141.
[2] ونالد ف بودلي: الرسول ص147.
[3] زيجريد هونكه: الله ليس كذلك ص34.
[4] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص329.
[5] فرسان المعبد وفرسان المستشفى هي كتائب مسيحية تابعة للكنيسة مباشرة، وكانت من أعنف وأشرس الكتائب في حربها على المسلمين.
[6] ول ديورانت: قصة الحضارة، 15/ 44، 45.
[7] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص111.
[8] مايكل ه مورجان: تاريخ ضائع ص268.
[9] مكسيم رودنسون: الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية، منشور في "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث، ص41، 42.


الأربعاء، نوفمبر 13، 2013

العسكر يفخرون بالعار



إنهم أقذر مما نتخيله من قذارتهم..

رغم كل البغضاء التي أكنها لعصابة العسكر، ورغم كل يقيني بأنهم مجرد كلب حراسة للعلمانية والمصالح الأمريكية والإسرائيلية، إلا أني فزعت حين رأيت هذه الصورة..

وهرولت إلى صفحة المتحدث العسكري لأنظر بنفسي وأنا أتمنى أن تكون الصورة مفبركة أو أي شيء آخر، وحين فتحت الصفحة كنت أزداد تعلقا بأن يكون الخبر كاذبا وأن تكون الصورة مفبركة، حتى وجدتها في وجهي صاعقة حارقة قاهرة..

في هذه الصورة يفخر الجيش المصري بأنه "عصابة"، بل ويفخر بأنه كان عميلا للإنجليز، أو على الأقل كان تحت سيطرة الاحتلال الإنجليزي.. هل رأيتم من قبل جيشا يفتخر بمرحلة كان فيها تحت الاحتلال والسيطرة الأجنبية؟!!!

ليس هذا فقط.. بل يفخر عسكر مصر بما قدمه أجدادهم من مجهود حربي في الحرب العالمية الأولى، وهو المجهود الحربي الذي كان موجها ضد (وانظر وتأمل) "العثمانيين في جهة الشام، السنوسيين في جهة ليبيا، السودانيين في جهة السودان".. وهو المجهود الذي صبَّ في النهاية في صالح الحلفاء.. تلك الدول التي احتلت بلادنا وقتلت أهلنا وأذلتنا ونهبت ثرواتنا وأفسدت علينا ديننا ودنيانا.. إنجلترا، فرنسا، إيطاليا، ومعهم بلجيكا واليونان.

إذن، فعسكر مصر يفخرون بأنهم كانوا في معسكر الكفر والاحتلال ضد معسكر المسلمين الذي على رأسه الخلافة العثمانية!!!

ويفخرون بأنهم شاركوا بمائة ألف، وأن كثيرا منهم نال "الشهادة".. الشهادة في سبيل الكفر وتحت راية الكافرين المجرمين المحتلين.. شهادة في سبيل الشيطان!!

ويفخرون بأن قتلاهم في هذه الحرب أُعْطُوا -بعد موتهم- وسام فيكتوريا!!!

ما زلت لا أستطيع التعبير عن ذهولي بهذا المستوى من الفجور والانحطاط، العسكر يعترف بأنه "عصابة" بل وأنه "خدم دول الاحتلال" وبذل في خدمتهم مجهودات رائعة استحق عليها وسام فيكتوريا.

وفوق هذا الفخر الذي ينسف "الوطنية" و"الاستقلال".. فخر آخر بحرب المسلمين وصد هجومهم على الحلفاء من النواحي الثلاث؟!!!!

وهم في هذه الحرب يفخرون بأنهم كانوا يدافعون عن "الحضارة الإنسانية".. والمعنى واضح: كان حلفاؤنا الإنجليز والأوربيين هم أهل الحضارة الإنسانية وكان المسلمون هم المتخلفون الهمج البرابرة المتوحشون الذين يهددون هذه الحضارة!!!!

هذا هو ما يراه القارئ في كلام المتحدث العسكري ولو لم يعرف أي شيء عن الحرب العالمية الأولى وما أحاط بها من ظروف وملابسات..

فكيف إذا عرف الآتي:

1. أن الشعب المصري كان وظل رافضا لخوض بلاده هذه الحرب، بل لا يختلف المؤرخون في أن السخط الذي عمّ مصر بعد هذه الحرب كان من أسباب ثورة 1919، وأنه لم يكن أحد ليجادل وقتها في هذا الرفض حتى إن بريطانيا -دولة الاحتلال- لم تكن تطمع في أكثر من بقاء هذا الاعتراض "سلميا" بل إن القائد العام الإنجليزي وقتها، الجنرال ماكسويل، ختم إعلانه الرسمي للحرب مع العثمانيين بهذه الفقرة:

"ولعلم بريطانيا العظمى بما للسلطان (العثماني) بصفته الدينية من الاحترام والاعتبار عند مسلمي القطر المصري فقد أخذت بريطانيا العظمى على عاتقها جميع أعباء هذه الحرب بدون أن تطلب من الشعب المصري أية مساعدة، ولكنها مقابل ذلك تنتظر من الأهالي وتطلب إليهم الامتناع عن أي عمل من شأنه عرقلة حركات جيوشها الحربية أو أداء أي مساعدة لأعدائها".

وجاء في بيان إعلان الحماية (الاحتلال) الإنجليزية على مصر "تاريخ مصر السابق يدل في الواقع على إن إخلاص المسلمين المصريين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسية التي بين مصر والآستانة" ولذلك كان أمل الاحتلال من المصريين "منع كل عون للعدو"

وقد جرت محاولتي اغتيال للسلطان حسين كامل الذي جاء به الإنجليز ليحكم مصر بعدما خلعوا الخديو عباس حلمي، ولبعض الوزراء، وحُكِم على مرتكبيها بالإعدام رحمهم الله.

وقد عطل الإنجليز انعقاد الجمعية التشريعية (البرلمان) خشية من أي مقاومة سياسية للاحتلال، برغم أن برلمان ذلك الزمان كان مقصوص الجناحين، (فالمحتلون وعملاؤهم لا يحبون الهيئات المنتخبة!!) وظل معطلا لعشر سنوات فيما بعد.

2. أن المصريين كانوا يُجْمَعون بالإكراه للمشاركة في هذا المجهود الحربي، ولم يكن هذا برضاهم، بل إن العُمَد ومشايخ القرى والمحافظين كانوا ينتهزونها وسيلة للدفع بأعدائهم عبر التجنيد في هذه الحرب، وكان المصريون يدفعون الرشاوى للخلاص من هذا التجنيد لهؤلاء العمد والمشايخ وحكام الإدارات.

3. أن المصريين لم ينظروا إلى اشتراك الجيش المصري في ذلك الوقت إلا على أنه خيانة بريطانية لتعهدها السابق بأنها ستحمل العبء كاملا، ولا يرى أحد من المؤرخين -فيما أعلم- أن الهجوم العثماني كان على مصر، بل حتى أرباب المدرسة الوطنية كالرافعي، يُحمِّلون الإنجليز مسؤولية تقدم القوات التركية نحو مصر، وأنها لم تكن موجهة إلى مصر أو المصريين بل كانت ضد القوات الإنجليزية.

ومثل هذا كان تقدم الشريف أحمد السنوسي الكبير من الغرب.

وأما "النصر" الذي حققه الجيش المصري في دارفور، فكان ذلك ضد ثورة من سلطان دارفور ضد حكومة السودان (والسودان تحت الاحتلال الإنجليزي) فاستُعْمِل الجيش المصري للقضاء على هذه الثورة، وفعلها بأسلوب قذر، وهو السيطرة على آبار المياه، وتلقى السلطان حسين كامل تهنئة من الملك جورج الخامس.. ويا لها من تهنئة بطعم العار، عار العمالة وحرب المسلمين لحساب الكافرين المحتلين المجرمين.

4. أن هذه الحرب لم تكلف مصر رجالا فقط (نحو مليون ونصف مصري أجبروا على العمل في المجهود الحربي) بل وثروات، فقد استولى الإنجليز على ما شاءوا من الجمال والبغال والخيول والحمير بأبخس الأثمان وبالمصادرات حتى لم يبق للمصريين إلا ما لا يصلح لقتال لمرض أو ضعف أو عيب، وأنقصوا المساحات المزروعة من القطن (الذهب المصري الذي كان يساوي أهمية النيل بالنسبة للزراعة) لزراعة الحبوب لتغطية أغذية الجنود، بل وقطعت ما لا يحصى من الأشجار لاستعمال الخشب.. حتى بلغ الشعب درجة منهكة من الفقر والعوز والحاجة.

5. أن التكلفة المصرية في هذه الحرب بلغت -في ذلك الوقت- ثلاثة ملايين جنيه، وهو مبلغ خيالي، غير أن حكومة مصر -عملاء الاحتلال- قرروا إعفاء بريطانيا منها اعترافا "بجميل بريطاني العظمى في صد الغارات عن البلاد المصرية"!!!!!!

والآن:

أي فخر في انتصارات كهذه يا عصابة العسكر؟؟

وإذا كان أغلب المصريين الآن لا يعرفون هذا التاريخ المخزي الفاضح للعسكر المصري تحت سلطة الاحتلال، فهل هذه محاولة لاستغلال جهلهم والإيجاء بأنه كانت لكم انتصارات تحاولون التغطية بها على حقيقة أنكم عسكر فاشل ليس لكم في كل التاريخ المعاصر ولا انتصار واحد؟؟!!

حتى حرب أكتوبر كانت نصف انتصار عسكري حولته السياسة (التي حكم بها عسكر) إلى هزيمة كاملة عسكرية وسياسية، حتى وصل الحال إلى حصار الغزاويين وقتلهم بينما الأبواب مفتوحة للصهاينة بل ولطائراتهم الحربية أن تقتل المصريين داخل سيناء.

هل ما زال #برهامي وحزبه، وشلة مشايخ السوء في الأزهر، يرون -بعد هذا الفخر بالانتصار على المسلمين لمصلحة الكافرين- أن هؤلاء خير أجناد الأرض وأنهم لا يعادون الدين وأنهم وطنيون؟!!!!

كم واحد في هذا الشعب كان يتخيل، مجرد تخيل، أن يفخر المتحدث العسكري بما أنجزه العسكر المصري في سبيل الإنجليز وضد المسلمين؟!!

إنه لأمر له ما بعده.. إنه أول بوادر "إعلان" الانخلاع من هذا الدين ومن هذه الأمة، "إعلان" الولاء والطاعة والانتماء لـ "الحضارة الإنسانية" التي قد تقتضي أن نقتل أهل غزة "الإرهابيين" وأن نتعاون مع "المتحضرين، المتنورين، المتقدمين" من الصهاينة والأمريكان والأوروبيين..

أفيقوا يا قوم، فهذا أمر له ما بعده.. وإنه لنذير شرٍّ وشؤم، وتسريب لتدبير مبير.

إنهم -حقا- أقذر مما نتخيل!!!!

السبت، نوفمبر 09، 2013

التعليم المحظور في بلادنا


تقول القاعدة التاريخية البسيطة بأن كل تقدم علمي لا ينعكس بالأثر على التقدم العسكري فليس مؤثرا في مسار التاريخ -التاريخ السياسي على الأقل- فكم استطاعت أمم متخلفة أن تقهر أمما أرقى منها علما وحضارة وثقافة لأنها كانت أضعف منها في المجال العسكري.

هكذا اجتاح المغول –وهم بدو أجلاف- عواصم الحضارة الإسلامية الزاهرة منذ بلاد ما وراء النهر مرورا ببلاد طبرستان وفارس والعراق حتى أوقفهم رجل كان قد استطاع إعداد العدة في أرض الشام. وقبلهم اجتاح النورمان –وهم بدو أوروبا الأجلاف- دولة الإسلام في صقلية واحتلوا أجزاء من الساحل الشمالي الإفريقي أيضا، وبين الحادثتين تقع النكبة الأشهر في تاريخ المسلمين: نكبة سقوط الأندلس على يد قوم لم يكن لهم ولا عشر معشار ما لدى المسلمين من تفوق علمي.

ولا تزال القاعدة سارية، يفهمها أعداؤنا ويغفل عنها كثير منا، فإسرائيل حريصة على أن تكون "قوتها العسكرية" أكبر من مجموع القوة العسكرية العربية مضافا إليها تركيا وإيران، ويمثل هذا أحد الخطوط الحمر الكبرى في سياستها. وقبل أيام من كتابة هذه السطور –وبالتحديد 19/9/2013م- كانت آن باترسون (السفيرة الأمريكية في باكستان ثم مصر) في جلسة استماع بالكونجرس، فكان من ضمن ما قالت: لقد نتجت عواقب استراتيجية كارثية حين أوقفنا الدعم عن الجيش الباكستاني 12 عاما؛ إذ يوجد الآن جيل من العسكريين لا اتصال لهم بالجيش الأمريكي لأنهم لم يدرسوا هنا ولم يتعرضوا لقِيَمنا، ولهذا فيجب أن نحافظ على علاقتنا بالجيش المصري.

هذه الكلمات تدلل على أشياء كثيرة، منها –في سياقنا هذا- أن القوم يريدون إبقاءنا "تحت المراقبة الكاملة"، كي لا نفلت من أيديهم، وإذا أفلتنا لأي سبب سياسي أو وضع متغير فينبغي أن نكون قد تعرضنا لقِيَمهم وأخلاقهم كي نواصل المسير على دربهم وإن فارقناهم في بعض التفاصيل.

ماذا يعني هذا؟

يعني أننا نواجه مشكلتين في لحظة واحدة؛ الأولى: مشكلة التخلف العلمي، والثانية: ضرورة انعتاقنا من الأسر الحضاري لأعدائنا.

غير أن المهم، وهذا هو هدف المقال، أن كلا المشكلتين لا يمكن حلهما بالتدرج أو التتابع، بل لابد من مواجهتهما معا، وإلا ذهبت كل المجهودات أدراج الرياح.

***

المشكلة الحضارية: فلسفة العلوم

تأسست الحضارة الغربية على الفكرة المادية، واستبعدت وجود إله، فمن لم يستبعد وجود الإله جعله كإله أرسطو "كصانع الساعة، أودع فيها قوانين الحركة ثم تركها فلا يدبر أمرها"، ومن هذه الفكرة المادية نشأت "فلسفة العلوم الغربية".

مثلا: يتأسس "علم الاقتصاد" على قواعد منها أن "الموارد تنضب"، وأن "البشر أكثر مما تحتمله الموارد"، ومن ثم يكون مفهوما أن يقول مالثوس –وهو مؤرخ واقتصادي وقسّ وصاحب نظرية التكاثر السكاني- بأن الحروب والنزاعات إنما هي حلول تعيد الطبيعة بها تنظيم نفسها ومواردها، وأن الجوع والمرض والموت إنما هي "موانع إيجابية" في مقابل "الموانع السلبية" كتأخير الزواج والشذوذ، وهكذا أعطى مبررا قويا للحروب وعمليات الإبادة، فهي –بهذا- "قدر محتوم" و"قانون تنظم الطبيعة به نفسها"، واقترح مالثوس أن أجرة العامل ينبغي ألا تتجاوز الحد اللازم لعيش الكفاف حتى لا يتكاثر كما يحلو له، واقترح أنه لا داعي لزيادة الإنفاق على العاطلين كيلا يؤدي هذا إلى الكسل وتضاعف عدد الأسرة فتتضاعف الأفواه، وطالب بوقف إعانات الفقراء ووضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد. وكانت مثل هذه الاقتراحات مبررات ذهبية للبرلمان البريطاني –حينئذ- ليبرر تخفيض إعانات الفقراء وإعانات البطالة وإعانات المرضى والمحتاجين، ولأصحاب المصانع للحفاظ على حد أدنى للأجور، لقد تلقوا آراء مالثوس -كما يقول ول ديورانت- "كوحي إلهي مقدس"[1].

بينما الأساس الإسلامي لعلم الاقتصاد قائم على أن الله هو الرزاق، وأن كل دابة في الأرض إنما على الله رزقها، وأنه ما يظهر من فساد في الموارد فإنه بما صنعت أيدي البشر، وأن السموات والأرض مكنوزة بالثروات (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، ولا يتصور المسلم أن الله العليم الخبير الحكيم يخلق خلقا ولا يجعل لهم رزقا.

وقس مثل هذا على سائر علوم الاجتماع والإنسانيات، بل على سائر العلوم –بما فيها العلوم البحتة- إذ أن العقول التي تعمل في حقل العلم تؤثر على اتجاهه وتطبيقاته، فثمة عقل لا يرى في الطبيعة إلا "ملكية خاصة" تمثل "مخزنا لثرواتنا ومستودعا لنفاياتنا"[2]، وثمة عقل يؤمن بأنه "مُستَخلف فيها" بحيث لا يعمل فيها إلا بأمر الله (واستعمركم فيها) وبنهيه (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).

***

المشكلة الثانية: ردم الفجوة العلمية بفاعلية

ونقول "بفاعلية" لأن العلم قد ينصرف إلى ما ليس يفيد الأمة، وها هي ألمانيا واليابان يحققان أقصى التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي لكنهما بلا أي ثقل في الميزان السياسي، لأنهما بلا جيش، وكما ذكرنا قبل سطور: فكل تقدم علمي لا ينعكس على التقدم العسكري فليس بمؤثر وليس يحمي الأمة من الاجتياح والسقوط، وذكرنا أشهر الأمثلة.

وعلى غير ما قد يظن الناس أن ردم الفجوة العلمية هذا يحتاج وقتا من الهدوء والاستقرار، يخبرنا التاريخ بأن هذا الردم لم تقم به الأمة إلا في لحظات المقاومة والمواجهة، أو بعبارة الراحل الكبير جلال كشك "تجربة التاريخ كله لا تثبت حالة واحدة استحال فيها على شعب متخلف اكتساب التكنولوجيا والتفوق فيها.. شرط أن يختار القتال"[3].

لقد اندهش الفرنسيون من مقاومة الأهالي المصريين، الذين استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى ليقول ضابط فرنسي "لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل"، ويشهد أحد مهندسي الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة "لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه –ومن رأى ليس كمن سمع- ذلك أنهم صنعوا المدافع"، بل يشهد كليبر-قائد الحملة الفرنسية آنذاك- بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورة[4].

أما التوهم بأن نقل العلم قد يتم –بين الأعداء- بالرضا في لحظات الهدوء والصفاء فذلك يدل على سذاجة وجهل، فذلك مينو –القائد الثالث للحملة الفرنسية- حين فكر في إقامة مصنع للجوخ في مصر لسد حاجة الجيش إليه في ظل الحصار البحري المفروض عليهم جاءته التقارير توصيه بألا يعمل في المصنع مصري، ذلك "أن مقدرة المصريين في تقليد المبتكرات الصناعية من شأنها أن تضر بالمصانع الفرنسية"، وقد كان!

وهذا الأمر مضطرد عبر التاريخ، قديما وحديثا، وانظر إلى الحركات التي هادنت المستعمر هل استطاعت أن تكسب من علمه شيئا، بينما انظر إلى الحركات التي قاومته إلى أين وصلت وكيف أوجعته؟

لقد ظلت إسرائيل نحو عشر سنوات تحاول مقاومة صواريخ فصائل المقاومة وهي حتى الآن لم تنجح نجاحا كاملا، برغم الفارق الرهيب بين الطرفين في كل شيء، بينما لم ينجح من هادنوها في أي شيء، وحين وقف وزير الحرب الإسرائيلي يبرر عجزه قائلا "إن أجهزة رصد الصواريخ التي لدينا عاجزة عن التقاط هذا النوع لأنه أقل تطورا من أن ترصده" فردّ عليه أحد أعضاء الكنيست بعبارة ساخرة ولكنها حقيقة جدا "إذن فلنصدر لهم صواريخ متطورة لكي نستطيع صدّها"!!

***

ما لم يدرك نظام التعليم هاتين المشكلتين: كيف ننظر إلى العلم، وكيف نطبقه بفاعلية.. فإنه سيظل دائرا في الفراغ، أو بالأحرى: دائرا تحت رقابة الأعداء.

 
نشر في مجلة الوعي الإسلامي، المحرم 1435 هـ


[1]  ول ديورانت: قصة الحضارة 42/ 251 - 253، 42/ 381 - 389، رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني: البيئة ومشكلاتها ص112، جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص27.
[2] جارودي: وعود الإسلام ص20.
[3] جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر ص305.
[4] الجبرتي: عجائب الآثار 2/326 وما بعدها، جوزيف ماري مواريه: مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر ص155 وما بعدها، الرافعي: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم 2/173.