السبت، ديسمبر 21، 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (21) نظرة من الداخل على التيار الإسلامي في الجامعات المصرية


مذكرات الشيخ رفاعي طه (21)

من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

نظرة من الداخل على التيار الإسلامي في الجامعات المصرية

·        لأول مرة شعر الطلاب بأن أموالهم رُدَّت إليهم لما فاز الإسلاميون باتحاد الطلاب
·        كنا حريصين على مكافحة التحرش والاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة!
·        لم يكن الخلاف بيننا وبين الإخوان حقيقيا، لكنهم كانوا يتحاشون الصدام مع النظام

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لقراءة الحلقات السابقة:

كانت فرصة اتحاد الطلاب عظيمة، أعطت التيار الإسلامي قفزة كبرى لم تكن متوقعة، في تلك الفترة كانت ميزانية الاتحاد الطلابي قوية، وكانت هذه الميزانية تُنفَق من قبل على الفساد والإفساد، وتغير الحال لما جاء التيار الإسلامي فأنفقها في مصالح الطلاب: مساعدات للفقراء، أزياء إسلامية للأخوات اللاتي يرتدين الحجاب، إعانات للطلاب في دفع إيجار مساكنهم أو في شراء الكتب لهم، وسائر ما يقع في هذه المنافع التي شعر بها الطلاب بالفائدة الكبرى العائدة عليهم بوجود الإسلاميين في اتحاد الطلاب، لأول مرة ربما يرى الطلاب أن أموالهم التي تأخذها منهم الدولة قد رُدَّت إليهم، وقد كان هذا نفسه من دواعي ودوافع تحول الكثير منهم إلى الالتزام دينيا.

وتحولت هذه القوة الطلابية إلى قوة سياسية حين تبنى اتحاد الطلاب معارضة سياسة السادات في الذهاب لمفاوضات كامب ديفيد وتوقيع معاهدة السلام، ومثَّلت الحركة الطلابية ضغطا قويا حتى ارتكب السادات جريمته الجديدة بحل اتحادات الطلاب على مستوى الجامعات المصرية!

لكن قبل أن نتحدث عن حل الاتحادات الطلابية سيكون حسنا لو ألقينا نظرة على الشكل الداخلي لتنوعات التيار الإسلامي، والتي لم تكن ظاهرة ولا منظورة لمن كان خارج هذه البيئة الإسلامية. لقد كانت الصورة من الخارج يمثلها تيار إسلامي عريض منتشر في سائر الجامعات، لكن لم يكن هذا هو الواقع إذا نظرنا إلى الصورة من الداخل.

لقد أسلفت أن الصحوة الشبابية الإسلامية في الجامعات سبقت وجود جماعة الإخوان التي كانت في السجون الناصرية ولم تزل قياداتها مسجونة حتى أن البعض منهم لم يفرج عنه إلا عام 1974م، وحين خرجت هذه القيادات سعت في احتواء القيادات الشبابية التي كانت قد تزعمت حالة الصحوة الإسلامية في الجامعات، وقد نجحت بالفعل في اجتذاب قيادات جامعة القاهرة، بينما تفاوت نجاحها في بقية الجامعات! لكن كان لها وجودٌ وحضور قوي في سائر الجامعات!

أما بقية الحالة الشبابية التي لم تنجح جماعة الإخوان في احتوائهم فقد كان حضورهم ظاهرا في الجامعات لكن لا حضور لهم خارجها، لأنه لا امتداد لهم في الخارج، إذ لا جماعة غير الإخوان في هذا الوقت، على الأقل ليس ثمة جماعة كبرى أخرى غيرها.

وانتهت الحالة إلى أن تحتوي الإخوان الحالة الإسلامية في جامعة القاهرة بالأساس، ثم في جامعة الأزهر وجامعة عين شمس، بينما كنا نحن أصحاب الحضور الأقوى في جامعات الصعيد (المنيا وأسيوط)، وكلمة "نحن" هنا تعود على "الجماعة الإسلامية" التي احتفظت بهذا الاسم كما بدأت به، ثم صارت فيما بعد حالة تنظيمية يقودها الشيخ عمر عبد الرحمن والتي نفذت فيما بعد أحداث 1981 واغتيال السادات. وأما جامعة الإسكندرية فقد غلب عليها الاتجاه السلفي الذي صار فيما بعد جماعة "الدعوة السلفية" ذات الرموز المعروفة: محمد إسماعيل المقدم وياسر برهامي وأبو إدريس وغيرهم.

وإذا قلنا بأن جماعة الإخوان أخفقت في احتواء الشباب الإسلامي في الصعيد وفي الإسكندرية فليس معنى هذا أنهم توقفوا عن المحاولة، ولا معناه أيضا أنه لم يكن لهم حضور في هذه الأنحاء، بل لقد سبق وذكرت أن ما حصل عندنا في أسيوط سبَّب انشقاقا وبقي شباب الإخوان خطا مستمرا تحت قيادة الأخ الدكتور أسامة السيد، كما بقي شباب الإخوان في جامعة الإسكندرية تحت قيادة خالد الزعفراني وإبراهيم الزعفراني.

وبالرغم من وحدة الصورة للتيار الإسلامي كما تبدو لمن يراها بالخارج، فإن الصورة من الداخل ذهبت في سياق التنافس والتنازع، لا التنسيق ولا الوحدة، وكان الخلاف بين هذه الأطياف الرئيسية الثلاث خلافا شديدا، كان الإخوان يرون أنهم الجماعة الأكبر وأنهم لهذا يجب أن يكونوا أصحاب اليد العليا في سائر الجامعات، وأولئك الذين لم تسعهم عباءة الإخوان كانوا يقاومون هذا بشراسة، وكانوا شبابا لم ينضجوا بعد ولم يطرأ على بالهم اقتراح: تعالوا نجلس مع الإخوان المسلمين وننسق معهم.

وقد زاد في الخلاف بين الطرفين اختيارات الإخوان السياسية في تلك المرحلة، فلم يكن الإخوان قادرين على أن يدخلوا إلى احتواء الشباب من باب: تعالوا معنا، وستجدون عندنا ما ترجونه من دعوة وجهاد وحسبة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. لا، لا يستطيعون احتواء الشباب من هذا المدخل الذي هو ساعتها يمثل أصلا اصيلا في اتجاههم وحركتهم.

لقد كان الشباب وقتها عالي السقف عظيم الطموح مستعدا للفداء والتضحية ولا تردد عنده لو قاده أحد حتى لمواجهة الدولة، كانوا يسيرون عمليا نحو الصدام مع النظام.. نظام السادات. وكان الإخوان يتحاشون هذا أشد المحاشاة ويتجنبونه غاية التجنب، ومن ثم كانوا يبذلون غاية جهدهم في كفكفة الشباب الإسلامي عن قضايا إسلامية كثيرة كانوا يرون أنهم يجب خوضها.

من ذلك مثلا: مواجهة الانحلال الأخلاقي! وهذه تفردنا بها –نحن الجماعة الإسلامية- داخل جامعة أسيوط، فلقد كنا حريصين على صبغ الجامعة بالهَدْيِ الظاهر، نريد للشباب أن يلتحي، وللفتيات أن تتحجَّب، نرفض حصول الاختلاط بين الشباب والفتيات، ولا نعني بالاختلاط مجرد الكلام الذي يقع بين طالب وزميلته أو مجرد ما قد يجمعهما من أمور الدراسة فقد كان موجودا ولم نكن نستنكره، بل أعني بالاختلاط ما يكون من الاختلاط الفاحش كالذي يحدث في الحفلات من الرقص، وقد كان هذا موجودا في الجامعات آنذاك، أو ما يحدث من المزاحمة بينهما عند الدخول إلى المحاضرات والخروج منها، وكان يقع في أثناء ذلك تحرش وإسفاف كبير. كان الإخوان يرون أن نغض الطرف عن هذه الأمور كي لا تكون إثارتها سببا في الاشتباك مع أمن الجامعة أو إدارتها، وأن نصبر ولا نتعجل إصلاح هذه الأمور.

وكان لنا على الإخوان مطعن آخر، لقد كنا نرى أن الإخوان حركة لا تهتم بالعقيدة، ولا تعتني بالأساس العقدي للمنتسبين إليها، ويوجد في الإخوان من هو صوفي، وكان رأينا أن النزعة الصوفية تحتاج إلى الكثير من التخفف ومن التخلص من البدع والأهواء التي شابتها، لتعود إلى نقاء أهل السنة والجماعة. بينما كان الإخوان ينظرون إليها نظرة أخرى، فإذا ناقشناهم قالوا: نحن مدرسة للتربية، يدخل إليها الجميع، فيدخل إلينا الصوفي فيعيش بيننا ثم بعد فترة يقلع عن هذه البدع التي تعترضون عليها. وكنا نقول: أنتم لا تمارسون حتى التوجيه إلى نقد هذه البدع... وهكذا!

في الواقع لم يكن الخلاف بيننا وبين الإخوان حقيقيا، أقصد كحركة في الجامعة، كانت حقيقة الخلاف في طريقة الأداء والسلوك، لم يكن اختلافا جوهريا، لم يكن اختلافا عقديا، إلا أنه كان اختلافا مصبوغا بفارق الأجيال، الفارق الذي يجعل الاتصال عسيرا بين حماسة الشباب وطاقتهم، وبين تعقل الشيوخ وتريثهم!

لقد كان يأتي لزيارتنا إخوة كبار مشاهير، مثل الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله رحمة واسعة، أو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، أو السيدة زينب الغزالي رحمها الله، فكانوا رغم مكانتهم وقدرهم لا يراعون سن الشباب في لهجة خطابهم، يقول لنا الأستاذ التلمساني: أنتم تستعجلون الجهاد وكذا وكذا، وفي الواقع لم نكن نستعجل الجهاد بل ولا كنا نفكر فيه ساعتها، ولا كانت فكرة الجهاد نفسها موجودة ومطروقة، وغاية ما نفكر فيه كانت هذه المظاهرات الصاخبة المعارضة للسادات في كامب ديفيد أو في استقباله لشاه إيران، يعني مسائل بسيطة لا تستوجب هذه الحملة الشديدة التي يتصدى لها الأستاذ التلمساني نفسه، يرحمه الله!

وعن نفسي، كنت أقول: يمكن للإخوان أن يستوعبونا، ويمكن أن نكون من رجالهم، فقط لو أنهم قدَّروا سن الشباب واجتهدوا في احتوائه، بدل أن ينظروا إلى تصرفاتهم بعين النقد وبدل أن يعالجوها بما يُنَفِّر منهم!

لهذا أقول، لقد كان الخلاف بيننا وبين الإخوان في الأساس خلافا في الأداء والسلوك، لا في الرؤية، بل من الإنصاف أن أقول: لم يكن لدينا في هذه المرحلة رؤية أصلا!

لم يكن لدينا رؤية لأننا بالأساس لم نلتقِ أولا على رؤية، كانت لا تزال فكرة الانقلاب العسكري في ذهني، نعم، لكن كل ذهن كان يحمل فكرته الخاصة، وإذا كنا تعارفنا أجسادا وأرواحا فلم نتعارف بعدُ رؤىً وأفكارا، بل وقد كان فينا من لم تكن لديه فكرة مطلقا، إنما هو ينظر إلى الجماعة كمحضن أو كبيئة ينفق فيها طاقته وبذله لخدمة الدين. إنما كانت لقاءاتنا لقاءات الشباب المتدين الملتزم، وفيما بعد نشأت بينهم الألفة والمودة، ثم فيما بعد جاء دور التعرف على الأفكار وتمحيصها!

لهذا أقول، لو كان الإخوان المسلمون استهدفونا بشكل منظم، وخاطبوا كل واحد فينا بما يناسبه، لكان محتملا جدا أن يؤثروا علينا، ربما ليس الجميع، لكن الأغلب، ولو أنهم نجحوا لصاروا القوة الأولى في جامعة أسيوط لا القوة الثانية. ولكن يجب أن أثبت هنا للتاريخ أنهم كانوا القوة الثانية رغم كل شيء.

وحين أسترجع الأيام في ذهني، أقول وبأمانة، ربما يكون الخلاف أقل حتى من أن يكون خلافا في السلوك والأداء، لقد كنت أشهد شباب الإخوان وفيهم من يقيم الليل ويغض البصر، وسائر هذه الأمور التي هي سمت الشباب المسلم المتدين.

وبالعموم يمكن القول بأن فترة السبعينات بقدر ما شهدت ازدهار الصحوة الإسلامية، بقدر ما شهدت بذور الخلافات الأساسية بين التيارات الإسلامية المصرية، وهي الخلافات التي ستستمر نصف قرن آخر فيما بعد!



الخميس، ديسمبر 05، 2019

دروس منزوية في قصة مشهورة

استغرب بعض القراء من مقال العدد الماضي الذي تحدث عن شذرات من مجد المرأة المسلمة بعد سقوط الأندلس، وعاد البعض إلى المقال القديم "سيوف الإسلام الخفية" الذي يروي دور المرأة المسلمة في إسلام المغول وملوكهم، وذلك أن ثبات الرجال الأشداء في ميادين النكبة الرهيبة أمرٌ عزيزٌ نادر، فكيف بالمرأة الضعيفة المقهورة!

على أن هذا لا ينبغي أن يُستغرب، ففي كتابنا الكريم ضرب الله مثلا للذين كفروا بامرأتين: امرأة نوح وامرأة لوط، وكيف أصرتا على الكفر وهما في بيت النبوة، وأحدهما –وهو نوح- من أولي العزم من الرسل ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، والآخر بلغت امرأته أنها كانت تدُلُّ قومها على أضياف زوجها كما جاء في بعض التفاسير، أي أنها كانت محنة فوق محنة قومها، وقد كنتُ سألت بعض إخواننا المختصين في التفسير: ما السر في أن القرآن الكريم يحرص على ذكر امرأة لوط ضمن المشمولين بالعذاب مع قومها مع أنه لا يذكر امرأة نوح إذا جاء ذكر الطوفان الذي أغرق قومها، فأجابني بقوله: أظن أن ذلك لكون امرأة لوط كانت عونا لقومها على زوجها.

وكذلك لما ضرب الله مثلا للذين آمنوا ضربه بامرأتيْن: امرأة فرعون ومريم بنت عمران، والأولى منهما آمنت بالله وكفرت بأطغى جبار في التاريخ على الإطلاق، كفرت بالرجل الذي خضعت له الممالك والرقاب وتلقب بالرب الأعلى {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] والإله الوحيد {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقد صمدت لعذابه حتى لاقت ربها!

ويصلح هذا لموضوع السطور التالية، وهو عن امرأة أيضا ضربت مثلا عجيبا في الصبر والثبات، وقد أكرمها الله بكرامة لها ظلت خالدة تُروى إلى أن تقوم الساعة.. تلك هي ماشطة ابنة فرعون!

وقصتها، كما في الحديث، أنها كانت تُمَشِّط شعر ابنة فرعون (كوافيره بالمصطلح المعاصرة) فسقط منها المشط، فتناولته وهي تقول "باسم الله" فقالت ابنة فرعون: أبي؟ فقالت الماشطة: لا، بل ربي وربك ورب أبيكِ. فأخبرت الفتاة أباها فرعون، فألقى القبض عليها وعلى أبنائها معها، وشرع في التحقيق: ألكِ ربٌ غيري؟ فقالت: ربي وربك الله. فشرع في التعذيب، فأمر بوعاء كبير من النحاس، فأحماه بالنار (وبعض الأخبار تذكر أنه ملأه زيتا، حتى صار الزيت يغلي)، ثم أمر بأن يلقى ولدها فيه، فظلت على موقفها، ثم الثاني ثم الثالث حتى انتهى إلى طفلها الرضيع فانخلع قلبها عليه فكأنها ترددت، فأنطق الله الصبي فقال لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق.

وبداية الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في ليلة الإسراء والمعراج مرَّ برائحة طيبة، فسأل عنها جبريل، فأخبره أنها ماشطة بنت فرعون، وذكر قصتها.

وفي هذه القصة درس ظاهرٌ يتذكره الناس ويُذَكِّرون به، وفيها دروس منزوية نحاول أن نلفت النظر إليها.

فأما الدرس الظاهر فهو هذه القوة الإيمانية النفسية الرهيبة التي سكنت قلب هذه المرأة، تلك التي كان لها العذر في أن تسكت وتكتم وتنطق بالكفر وقلبها مطمئن بالإيمان، لكنها اختارت موقف العزيمة، وأي عزيمة؟! إنها مواجهة الفرعون الرهيب الجبار الذي يرتعد له آخر من في المملكة والذي لم تنتهي آثار طغيانه من نفوس بني إسرائيل بعد عشرات السنين من مهلكه أمام أعينهم!

ولو أنها واجهته بنفسها وحسب لكانت مثالا نادرا، فكيف وقد رأت احتراق أبنائها أمامها واحدا بعد الآخر، وشاهدت بعينها تفحم أجسادهم وسمعت بأذنها صراخاتهم وشمت بأنفها رائحة شواء جلودهم واحتراق لحومهم وعظامهم، هذا والله موقفٌ هائل لا يكاد يبلغ المرءُ القدرةَ على أن يتصوَّره في نفسه وأن يتمثله في عقله وخياله، فكيف بالتي واجهته حقا وحقيقة! ثم لم تتراجع!!

الموقف في ذاته موقف عظيم ضخم، وهو حين يُروى في أيامنا هذه موقف أعظم وأضخم، فإننا نشاهد هوان الدين على نفوس المسلمين، ونرى الشكوك والتردد يغزو قلوب أبناء المسلمين بأدنى شبهة ولأدنى شهوة وبأقل الضغوط. مع من فينا –والحمد لله- من الصابرين الصامدين الثابتين الباسلين الذين فقدوا أبناءهم في حروب ومظالم كثيرة، ولكنهم القلة، ثم يبقى فارق الاختيار وفارق المواجهة وفارق الصبر عظيما وضخما لصالح ماشطة بنت فرعون.
فما أجدر المسلم أن يتذكر كل حين هذه المسلمة وأمثالها، فيستعين بأخبار ثباتهن على ما هو فيه من المحنة، ويأخذ من صبرهن قبسا على أيامه وبلائه حتى يلقى الله.

وأما الدروس المنزوية التي تخفى على أغلب الواعظين، فمنها:

1. نفسية الجبار الطاغية، إن الرجل الذي دانت له الألوف وعشرات الألوف في عرض البلاد وطولها ارتاع وانزعج لأن امرأة لا قيمة لها في مُلكه انطوت في قلبها على عقيدة تناقض إرادته، ولم يُعرف رفضها هذا إلا بفلتة لسان عابرة، كان يمكنه أن يتجاهل ويتغافل، فلا قتل هذه المرأة يزيد في أمجاده ولا بقاؤها يخصم من هيبته، فلا مماتها سيُروى في أخباره ولا حياتها ستُنْقِص من دولته، ومع هذا لم تسمح نفسه أن يوجد في زاوية ما من مملكته من يعارض إرادته ولو سرًّا! فأفرغ لهذا وقتا من وقته وقدَّمها على شؤون السياسة والحكم كأنما إيمانها المكتوم هذا أمرٌ أخطر وأكبر.

ثم كان من قسوته أنه لم يذهب إلى قتلها وعقوبتها، بل أراد لها أن تتوب وتندم وترجع وتعترف له بالربوبية والألوهية، وقد كان يمكن له أن يقتلها بعد أن يعذبها فيشفي رغبة ثأره ويجعلها عبرة ومثلا، لكنه لم يفعل، لعله لو فعل هذا لبقي شعوره بالهزيمة أمامها كما هو، وبقي إيمانها في صدرها كما هو، إنما أراد أن تعلن هي إيمانها به وكفرها بالله، وأن ترجع هي بنفسها ولسانها عما تعتنقه في قلبها، ولهذا جاء بأولادها ليحرقهم أمامها واحدا تلو الآخر!

لم يكن في قلبه شيئ من الرحمة بهؤلاء الصبية الذين يحترقون انتقاما من إيمان أمهم، كان مشهدهم وهم يحترقون أقل من شهوته أن يرى خضوع أمهم ورجوعها. وكفى بهذا قسوة وغلظة وطغيانا!

يجب على المرء فينا أن يراقب نفسه وطباعه، فإن انطواء النفس على القسوة قد يصل بالمرء إلى هذه الطباع الوحشية، وإن تعلق المرء بالمنصب والنفوذ والقوة وإرادته أن يخضع الناس له قد تورثه مثل هذه الطباع التي تحمله على ارتكاب أمور بهذه البشاعة، وإن كل صاحب سلطة مهما صغرت مُعَرَّضٌ لخصلة من خصال الفرعونية بقدر ما له من النفوذ، ونحن نرى هذا بأعيننا كما نشعر به في نفوسنا، فحتى الموظف الصغير يجد لذة في تحكمه بورقة أو بختم أو بتوقيع، فكيف بمن فوقه؟!

2. ومن الدروس كذلك نفسية الخاضع للفرعون، إنه هذا المجهول الحاضر في القصة، الغائب باسمه وشخصه الماثل بفعله وأثره، هذا الجندي الذي كان ينفذ أمر الفرعون فيلقي بالصبي في القدر المحميّ أو الزيت المغلي، يسمع أمر الفرعون فيطيع دون تردد ولا نقاش.

هذا التابع المطيع، الذي رافق قصة فرعون من أولها إلى آخرها، كان في أولها يهجم على البيوت فإذا رأى المولود ذكرا ذبحه تنفيذا لأمر الفرعون، وكان في منتصفها يرى معجزة موسى وإيمان السحرة به فينفذ أمر فرعون بتعذيبهم وقطعهم، ثم هو في آخرها يرى المعجزة الكونية الهائلة ويشهد بعينيه انفلاق البحر لموسى لكنه مع ذلك لا يؤمن بل ولا يتوقف ولا يفكر، إنما يسمع لفرعون ويطيعه ويخوض وراء البحر حتى يغرق معه!

هذا الجندي الفرعوني المحترف، الذي ينفذ الأوامر كما تصدر إليه، يحذف عقله ومشاعره معا، لا يهتز قلبه لمرأى الطفل المرعوب إذ ينزعه من يد أمه، ولا لصراخه إذ يرفعه إلى القدر، ولا لاحتراقه بعد أن يقذفه فيها.

فهذا أسوأ المراتب وأحط المنازل، فقد خلا من عقل الفرعون، وخلا من فطرة الإنسان، وانهار ليكون أداة القتل والتعذيب.. فلا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله لنا ولكم النجاة من هذه المصائر.


نشر في مجلة الممجتمع، ديسمبر 2019

الأربعاء، ديسمبر 04، 2019

مصير المواطن الصالح


روى الشهيد سيد قطب في مذكراته قصة بليغة معبِّرة، وهي تتماس مع ما كنا كتبناه في العدد الماضي عن "نكبة الشعوب العزلاء"، وهذه القصة الحقيقية وقعت في قريته موشا التابعة لمحافظة أسيوط، وكانت في العقد الثاني من القرن الماضي، والجدير بالذكر هنا أن هذه المذكرات التي تحكي طفولة سيد قطب وأيامه في القرية إنما كُتِبَتْ ونُشِرَت قبل أن يتحول إلى الفكر الإسلامي وقبل أن يتعرف على الإخوان المسلمين. وأهمية هذه القصة في أنها تختزل كثيرا من الحقائق التي لا تزال حاضرة حتى الآن.

سأنقل القصة أولا، ثم أعقب عليها بما يهمنا من الوقوف عنده.

قال سيد قطب:

"صحت القرية مروعة على صهيل الخيل وقعقعة السلاح، وخطوات الجند الثقيلة، يأخذون مشارفها جميعا إلى الحقول، ويجوسون خلالها في جلبة وضوضاء على غير عادة لها من زيارة الجند في مثل هذا العديد وذلك الضجيج.
وكان أول من كشف الخبر أولئك الذين تقتضيهم أعمالهم أن ينهضوا مع الفجر مبكرين ليغادروا القرية جميعا، فأوثقوهم بالحبال والسلاسل، وجعلوهم عندهم رهينة حتى لا يعودوا فيُنَبِئوا القرية النبأ، ويفسدوا التدبير الذي وضعته القوة الهاجمة على الناس وهم نيام.

ونفذت الخطة نفسها مع خفراء المشارف، فأديرت أيديهم إلى ظهورهم، وكُمِّمت أفواههم بحيث لا يستطيعون الكلام ولا الصياح، ثم اقتيد الجميع في عجلة إلى دوار العمدة الذي أوقظ في البكور، وحُجِز في غرفة من غرف دواره، ريثما يجتمع إليه مشايخ القرية الخمسة الذين جاء بهم العسكر من بيوتهم، فصُنِع بهم هناك ما صُنِع بالخفراء.

وكانت القرية كلها قد استيقظت مروَّعة، لأن صهيل الخيل وقعقعة السلاح والهمسات الوجلة التي أخذت تتدسس إلى كل بيت ودرب قد فزَّعت الناس وملأت قلوبهم رعبا. ماذا؟ ماذا؟ إنها حملة لجمع السلاح!

حملة من مائتي جندي يقودها ضابط تعهد للسلطات بجمع السلاح من قرى المديرية جميعا، واختار هذه الطريقة المروّعة ليبدأ بها عمله، فلم تعلم القرية ماذا يبغي، ولا حتى العمدة والمشايخ، إلا بعد أن صار المقبوض عليهم بالعشرات، ومن بينهم مشايخ البلد الخمسة، وكلهم مكتوفوا الأيدي بالحبال، تتلقاهم الأيدي بالصفع، والأرجل بالركل، دون أن يعلموا شيئا عن حقيقة ما يُراد بهم.. سوى أن الحكومة هنا، والحكومة تصنع هذا وسواه.. فالذين عاصروا الحكم التركي لا يزال بعضهم يعيش.

كانت السلطات قد أصدرت أمرا عسكريا بجمع السلاح، وعهدت في تنفيذه إلى رجال الإدارة، وهؤلاء عهدوا بتنفيذه إلى عُمَد البلاد كالمعتاد، فاجتمع بذلك عدد من قطع الأسلحة كالذي يجتمع كلما صدر أمر من هذا النوع، وهو عادة لا يساوي إلا نسبة صغيرة من الموجود في أيدي القرويين.

ولكي ندرك حقيقة الحال، يجب أن نعلم أن السلاح في القرية يملكه فريقان؛ الفريق الأول: هم أصحاب الحقول والمواشي وخفراؤهم الخصوصيون الذين يسهرون على أموالهم من اللصوص، والفريق الثاني: هم هؤلاء اللصوص الكثيرون الذين يجدون هذه الحرفة –على ما فيها من مخاطر- أضمن للعيش من العمل المرهق في الحقول.

ونَقْصُ السلاح في أيدي أصحاب الحقول والمواشي معناه زيادة في ارتكاب الجرائم، والاعتداء على بيوتهم وحقولهم ومواشيهم، أما نقص السلاح في أيدي اللصوص فمعناه تجريدهم من بعض وسائل الرزق التي اختاروها لأنفسهم في الحياة!

كلا الفريقين إذن حريص على اقتناء السلاح، ولما كان العمدة يخشى أفراد الفريق الثاني تارة، وتتفق مصلحته الخاصة مع وجودهم تارة، فإن جمع السلاح في كل مرة كان ينصبّ على الفريق الأول بكل تأكيد.

ولكن الأمور لا تجري في القرية بالعنف، ولا حسب الأوامر الرسمية، إنما تجري حسب المواضعات العرفية، فالعمدة يعلم بالضبط كم قطعة من السلاح في كل بيت، وما نوع كل قطعة، فإذا طلبت الحكومة جمع السلاح اتفق مع بعض من يملكونه على تقديم القطع القديمة منه، ولكي لا تكون المسألة مكشوفة، فإن بعض القطع الحديثة تُزَيِّن المقدار المجموع، ويُوَرَّد للسلطات كآخر ما استطاع العمدة أن يحصل عليه.

وطبيعي أن هذا كله لا يتم بالمجان، فلكل شيء ثمن، ولكل خدمة مقابل في الريف، فإذا خطر للسلطات أن ترسل بقوة وعلى رأسها ضابط لتولي هذا العمل، فالمرجع هو العمدة وبإشارته يتم كل شيء، وغداءٌ فخمٌ على أوزي وبعض أزواج الديكة والدجاج والحمام كفيلٌ مع الوسائل الأخرى بتسوية كل شيء، وإتمام المحاضر على خير ما يرام!
أما هذه الطريقة المبتكرة، فقد تفَتَّقَت عنها عبقرية ذلك الضابط، الذي تعهد للسلطات بجمع السلاح جمعا حقيقيا من جميع قرى المديرية، فاتخذ هذا الأسلوب البارع المفاجئ الذي روعت له القرية كلها في جنح الظلام.

ونعود إلى هؤلاء المشايخ الخمسة الذين أديرت أيديهم إلى ظهورهم، أُلْصِقَتْ وجوههم بالحائط دون أن يعلموا شيئا مما يُطلب إليهم من مهام الحكومة التي اعتادوا أن يتلقوها بين الحين والحين، كجمع أنفار السخرة لإصلاح الجسور، ولتنقية الدودة من المزارع الكبيرة، أو قتل الجراد فيها، دون أن ينالوا على ذلك أجرا، لأن أجورهم –إن حُسِبَت لهم أجور- تذهب إلى جيوبٍ أخرى، وتؤخذ بصماتهم على أوراق لا يدرون ما هي، ثم ينصرفون وبحسبهم أنهم قد انصرفوا ناجين، بعد أن يكونوا قد كُلِّفوا استحضار طعامهم من بيوتهم طوال مدة السخرة التي تنقص أو تزيد!

لم يفصح لهم أحد عن هذه المهمة المطلوبة منهم في هذه المرة، ولكن أفصحت لهم السياط التي أخذت تلهب ظهورهم من أيدي الجنود، عن أن اليوم ليس كالأيام، وإنما هو العذاب الأليم الذي لا يملكون له ردًّا وهم مسجونون!

ثم أخذ الرصاص يدوي فوق رؤوسهم هم والخفراء المُوثقون، والأهالي الذين اصطيدوا من مشارف القرية ومن طرقاتها حسبما اتفق حتى امتلأ بهم فناء الدوار!

هذا الرصاص للإرهاب، وبلبلة الأفكار، وإتلاف الأعصاب، وبينما هذا الفزع الأكبر يُخيِّم عليهم، ويكاد يُفقدهم صوابهم، أُمِر كلٌّ من المشايخ أن يُملي على الشاويشية أسماء مائتي رأس أسرة ممن يملكون سلاحا في البلدة، وأن يُعَيِّن نوع قطع السلاح التي يملكونها!

وإذا كان قد بقي فيهم إلى الآن عقلٌ أو ذاكرة، فقد أخذ كل منهم يُملي الأسماء، وكلما توقف برهة ليتذكر، نزلت السياط على ظهره وجنبيه، فارتفعت حرارة العدّ، ومضى كالمجنون يُملي الأسماء!

وانتهت العملية فإذا في يد كل جاويش بيانٌ عن مائتي عائلة تحمل سلاحا، وأمام كل اسم نوع القطع التي يملكها رأس هذه العائلة.

ولسنا في حاجة إلى أن نقول: كيف كانت هذه البيانات، ولا مدى مطابقتها للواقع، فالشيخ المصلوب المجلود المهدد بالموت من الرصاص المتطاير فوق رأسه، لا يُطلب إليه في هذه الحال أن يتحرى شيئا، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن أحدا من كبار الأشقياء المرهوبين لم يرد اسمه في هذه القائمة، وإذا كانت بعض الأسماء قد وردت فإنما هي لصغار الأشقياء الذين لا عصبية لهم في البلد ولا نفوذ!

وانتهت هذه المرحلة ووقف المشايخ الخمسة يلهثون من التعب والفزع والألم، أما العمدة فقد اشترى نفسه وكرامته من أول الأمر، لقد كان حصيفا، رأى العين الحمراء، فسارع إلى وسيل مضمونة لإرضاء الحكام، هَدَتْه إليها تجربة طويلة وذكاء عملي ومقدرة على جميع الوسائل والاتجاهات!

ثم بدأت المرحلة الثانية، فانطلق الخفراء مع الجنود وهو مكتوفو الأيدي، يجوسون معهم خلال القرية ليدلوهم على البيوت، وليدقوا الأبواب يطلبون رؤوس العائلات، ويصروا على استحضار أكبرهم سنا، وكلما استحضروا منهم جماعة ذهبوا بهم إلى الدوار.. وهناك يُصنع بهؤلاء ما صُنِع من قبلُ بالمشايخ والخفراء قبل أن يُسْأَلوا شيئا وقبل أن يجيبوا، حتى إذا أُشْبِعوا ضربا وترويعا وإهانة صُرِّح لهم عما يُطلب منهم من قطع السلاح حسب البيانات. فأما إذا صادف أن كانت القطع المطلوبة من أحدهم مطابقة لما عنده فقد أحسّ بالفرج وبادر بالإقرار وطُلب أن يسمح له بإحضارها، ولكنه لم يُجَب إلى طلبه، إنما يُستدعى أحد أبنائه أو أحد أفراد عائلته، فيشاهده هكذا، ثم يلقى هو الآخر بعض الصفعات واللكمات، ثم يتلقى الأمر منه أن يستحضر قطع السلاح المطلوبة، فيخرج ركضا لاستحضارها، حتى إذا تمَّت معاينتها وظهرت مطابقتها للبيانات المكتوبة أُفرج عن الرجل وابنه أو قريبة، فخرجا لا يدريان النور من الظلام لشدة ما لَقِيا من اللكم والصفع، ومن الفزع والروع، وانصرف أهله لعلاج جروحه وكدماته بالزيوت والمُسَكِّنات!

وأما إذا صادف أن اختلفت البيانات عما عنده من السلاح، أو لم يكن لديهم سلاح أصلا، فالويل له والثبور، يُعاد جلده ولكمه وصفعه ما دام يُنكر، أو يقرّ بسلاح آخر غير السلاح المطلوب، وفي الحالة الأخيرة كان يُحْضَر السلاح الذي يملكه، ثم يظل يُطالب بقطع السلاح الأخرى التي أملاها الشيخ وهو في ذهول الروع والآلام!

عندئذ يضطر المسكين أن يعترف بما ليس عنده، وأن يطلب مهلة لإحضاره من مكمنه البعيد، وفي هذه المهلة ينطلق أبناؤه وأقاربه يبحثون عن قطعة سلاح مطابقة للبيانات، لشرائها حيث تكون، فإن لم يجدوها في القرية ركبوا أسرع دوابهم للبحث عنها في القرى المجاورة، فيسمح لهم الحراس بالخروج بحجة أنهم ذاهبون لاستحضار سلاحهم المودع عند أقاربهم في هذه البلاد، اطمئنانا إلى أن رأس الأسرة رهين لدى القوة، وعذابه مرهون بالوقت الذي يقضونه غائبين.

وعندما يُوفَّقون إلى القطعة المطلوبة يؤدون الثمن الذي يطلبه صاحبها مهما ارتفع. وكثيرون انتهزوا هذه الفرصة فبالغوا في أثمان القطع المطلوبة، كما أن الكثيرين أيضا ظهرت أريحيتهم في إنقاذ المكروبين بأرخص الأسعار.
عندئذ يبتسم الضابط العبقري وهو يشاهد قطع السلاح المطلوبة تُحضَر بعد الإنكار، ويردّ ذلك إلى عبقريته الفذة التي أرشدته إلى اختيار أقوم طريق!

في نهاية اليوم كانت الأسلحة المجموعة تُصَنَّف أكواما أكواما، فهذه بنادق، وهذه غدارات، وهذه مسدسات، وهذه طبنجات، وهذه سيوف، وهذه سكاكين كبيرة، وهذه بلط، وهذه مزاريق، وكل "ماركة" من هذه الأنواع مرتبة وحدها، والضابط العظيم ينظر مرتاحا منتفشا كالديك إلى انتصاره الكاسح على أولئك القرويين الملاعين..

وكان في كل بيت من بيوت القرية مناحة صامتة، فهذا مشجوج الرأس، وذلك مرضوض الأضلاع، وذلك ملتهب الجلد، وهذا ممزق الأشداق، وكان نسوة وأطفال القرية يغدون ويروحون بالزيوت وكمادات الماء الساخن والبارد يسعفون بها المصابين.

وكان كثيرون من أهل القرية قد باعوا مواشيهم وطعام أطفالهم وحلي نسائهم ليشتروا بها قطع السلاح التي قيل إنها عندهم، وهم لم يحملوا في حياتهم سلاحا. لقد كان هؤلاء هم جماعة الفقراء الذين أكمل المشايخ بهم العدد، وهم في مأمن من ردّ الجميل، إذ لا قوة لهم كالأشقياء، ولا جاه لهم كالأثرياء.

ويمرّ على هذه الحادثة أكثر من ربع قرن! والطفل لا يزال يذكرها كأنها حادث الأمس القريب، لقد فزع للهول كما فزع كل طفل وكل رجل وكل امرأة. وفي أثناء هذه السنوات يسمع أن هذا الضابط الوحش قد رُقّي فصار في وقت من الأوقات وكيلا لمدير الأمن العام، اعترافا بكفايته في صون الأمن وحفظ النظام، فيكمن في نفسه شعور بالأسى الدفين.

ثم يسمع إشاعات بعد ذلك أنه لاقى حتفه وهو يزاول شناعة من هذه الشناعات، فيحس أن كابوسا ثقيلا قد رُفِع عن صدره، وتنفس الصعداء".

انتهى الاقتباس من مذكرات الشهيد سيد قطب.. وبقي أن نُعَلِّق عليه بما هو مقصود المقال، فنقول وبالله التوفيق:

1. أما الطغيان والجبروت والإجرام في السلطة المصرية فهو حديث طويل، وليس هو المقصود بالكلام هنا، ولكنه إجرام متأصل قديم، وحتى إشارة سيد قطب إلى "الحكم التركي" الذي لا زال يعيش بعض من أدركوه، فإنما المقصود به حكم أسرة محمد علي وليس الحكم العثماني، فقد انخلعت مصر من الحكم العثماني منذ 1805 مع تولي محمد علي للسلطة، وهذا الهجوم الذي تنفذه السلطة على الناس إنما هو أسلوب محمد علي في جمع المصريين للتجنيد الإجباري، ويمكن العودة في تفاصيل هذه المآسي لكتاب "كل رجال الباشا" (ص145 وما بعدها)، ومن وقتها صار الشعب المصري كالعبيد لدى السلطة، حتى إن الرحالة الإنجليزي ريتشارد بيرتون –الذي زار مصر في منتصف القرن التاسع عشر- يتحدث عن تقليد مستقر في ضرب المصري بالقفا إذا دخل قسم الشرطة. (رحلة بيرتون، 1/9، 105).

إن الشعب قد صار مجموعة من العبيد بإمكان ضابط الشرطة أن يستبيحه كيفما شاء، أي أن العيش في مصر مرهون بمزاج ضابط الشرطة غالبا، فإذا خطرت له فكرة في إطار صلاحياته فبإمكانه أن ينفذها بما يحيل حياة الناس جحيما دون أن يبالي.

وبينما كانت تحتفظ القرى بنوع من الأعراف وحفظ المقامات واحترام الكبير، فإن السلطة لا تفهم هذا كله، إن حضور السلطة إلى القرية يعني انهيار كل القيم والأعراف والتقاليد، لتبرز الحقيقة الوحيدة: السيد والعبيد، وللسيد أن يفعل ما شاء بمن شاء كيفما شاء! لا معقب ولا رقيب.

ليس هذا فحسب، بل إن كفاءة الضابط تقاس بما يُحدثه من الترويع، ومن تحقيق علاقة السيد بالعبيد، فقد وصل إلى أن صار مديرا للأمن العام، ولم يلق جزاءه العادل إلا على يد مواطن "خارج عن القانون"!!

2. وأما اللافت للنظر والمثير للغيظ معا أن هذه السلطة المتوحشة لا تقيم الأمن، ولا تقضي على اللصوص، بحيث يضطر الناس إلى التسلح لحماية أنفسهم وأموالهم ، ولكن الحكومة تمنع حيازة السلاح تحت مبرر أنها الجهة التي تحتكر السلاح وتتكفل بحفظ الأمن وإقامة العدل. فكأنها تمنع عنك حيازة الماء لأنها تتكفل لك بإروائك من العطش ومع ذلك فإنها لا تفعل، فإذا حاولت أن تشرب فأنت مهدد بالعقاب!

لن نخوض الآن في حق حمل السلاح الذي هو حق أصيل للبشر منذ وُجِدوا على هذه الأرض، ولم يكن معرضا للنقاش إلا في عصر الحداثة هذا، مع أن بلاد الحداثة الآن تسمح بحمل السلاح وتتساهل في الترخيص به، إلا بلادنا، التي يُراد لشعوبها أن تعيش كالفراخ والدجاج تنتظر دورها على يد الجزّار. ولذلك كان التجريد من السلاح في مقدمة القرارات التي أصدرتها سلطات الاحتلال والتغريب منذ نابليون وحتى الآن.

لكن الذي يجب الخوض فيه والتركيز عليه، هو هذا الفارق بين الفريقيْن المسلحيْن في القرية، فثمة فريق يحمي السلاح ليدافع عن نفسه، وثمة فريق يحمل السلاح ليُهاجِم به فيسرق وينهب. أما الفريق الأول فهو خارج عن "القانون" في مسألة حمل السلاح وحدها، وأما ما سوى ذلك فهو مواطن صالح ملتزم بشروط السلطة: يؤدي الضرائب، يعمل بالسخرة، يتحاكم إلى المحاكم... إلخ! وأما الفريق الثاني فهو خارج عن "القانون" دائما، حياته هي نفسها الخروج على "القانون"..

فماذا كان المصير؟!

كان المصير أن هؤلاء الخارجين عن القانون هم الذين كانوا بمنأى عن السلطة، هم الذين كانت لهم من القوة والهيبة ما منع مشايخ البلد أن يُبْلِغوا عنهم حتى وهم في العذاب، لقد فضَّل مشايخ البلد أن يكتبوا أسماء الفقراء والتعساء ومن لم يحمل سلاحا قط ليُكملوا به العدد ولا أن يقتربوا من فئة اللصوص المسلحين..

وهكذا، لم يدفع الثمن إلا المواطنون الصالحون الملتزمون بالقانون، بل ودفعه أولئك الضعفاء الذين لم يحملوا سلاحا أصلا لأنه ليست لديهم أموال يحرسونها أو ليست لديهم أموال يشترون بها سلاحا، بينما نجا من هذا المصير أولئك الذين مزَّقوا القانون وخرقوه ووضعوه تحت أقدامهم وعاشوا حياتهم لا يعترفون به ولا يقيمون له وزنا.

وهذا الوضع مستقر مستمر حتى يومنا هذا، فالسلطة في بلادنا تتحالف مع اللصوص والبلطجية ومنظمات الإجرام وتجار السلاح والمخدرات والأعضاء البشرية والآثار، وبينهما تحالفات وصفقات وخدمات متبادلة، بينما لا يُطبَّق القانون إلا على "المواطن الصالح"، فهذا المواطن الصالح يعاني من البلطجي واللص والمجرم ثم لا يجد طريقا إلا أن يشتكي للشرطة، وعند الشرطة يعاني مرة أخرى، بحسب ما يجده من الظروف وما يكون من مزاج الضابط الذي سيتولى أمره.

في هذه الحال، يجب أن يسأل المرء نفسه: هل من المفيد أن تكون هذا "المواطن الصالح"؟

3. وقعت هذه القصة في قرية موشا المنزوية في بلاد الصعيد، ولكنها تعبير حقيقي ممتاز عن السياسة الدولية، القوة الدولية التي تمثل السلطة العليا يمكنها أن تستبيح ما تشاء من العبيد بفارق القوة التي تملكها، وحتى السلطة المحلية التي تخدمها وتوفر عليها الوقت والجهد، يمكن أن يعنّ لها في بعض الأحيان أن تتجاوزها وتتدخل بنفسها لتنفذ ما تراه في صالحها.

إن عمدة القرية لم يكن متمردا، ولا مشايخ البلد، بل هم ممثلوا السلطة العليا، هم الذين يديرون لها الأموال والثروة ويجمعون لها الضرائب والعاملين بالسخرة، ولكنهم يحتاجون في سبيل هذا لبعض المهارة والحكمة التي تفرضها الأعراف التي جعلتهم في موضع السلطة فيراعونها. السلطة القوية الغاشمة لا تعترف بهذا كله حين تريد. مثلما لا يتردد الضابط وجنوده في حبس العمدة ومشايخ البلد وإهانتهم، لا يتردد ترمب في إهانة وإذلال عملائه في السعودية ومصر رغم أنهم لم يفكروا في التمرد عليه، فهو ينهب بالمليارات ويفرض العقوبات ويهدد ويسخر، والعبيد يواصلون الخدمة ولا يفكرون في التمرد!

وحدهم الذين تسلحوا بأنفسهم، وغامروا بها، وخاطروا، وصاروا لا يبكون على شيء.. وحدهم الذين ينجون من الإهانة والإذلال.. فإما عاشوا كما أرادوا، وإما ماتوا موتا سريعا لا إهانة فيه ولا إذلال. وحدهم أولئك الذين استطاعوا الانتقام من الضابط الوحش الذي صار بوحشيته مدير الأمن العام!

استشهاد القسام وعزام

مرت في شهر نوفمبر ذكرى استشهاد رجلين من أعظم المجاهدين في التاريخ الإسلامي الحديث، وهما الشيخ عز الدين القسام (20 نوفمبر 1935م) والشيخ عبد الله عزام (24 نوفمبر 1988م)، وكلا الرجلين مثَّل رمزًا للمقاومة الإسلامية في عصره وفي الأجيال التالية له حتى يوم الناس هذا!

كلا الرجلين من رجال الأزهر الشريف، غير أنك لن تجد الأزهر المعاصر يحتفي بهما ولا يذكر لهما مآثرهما ولا يدرس سيرتهما، وما ذلك إلا أن محاولات تحطيم الأزهر وتدجينه قد آتت ثمرتها، وصار الأزهر يدفع عن نفسه وصمة التطرف والإرهاب!!
وكلا الرجلين وجد طريقه للجهاد حين أغلق عليه الجهاد في بلده، فقد جاهد القسام في سوريا حتى أغلق عليه السبيل وضاقت به المسالك، فوجد سبيلا له للجهاد في فلسطين حتى لقي الشهادة. وحاول عزام أن يتصدى في قلة للاجتياح الإسرائيلي لقريته في نكبة 1967 ثم ضاقت عليه سبيل الجهاد في بلده فوجد سبيله للجهاد في أفغانستان وكان شيخ المجاهدين العرب. وبهذا حقق الرجلان بسيرتهما واستشهادهما واقع أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وأن الأمة أمة واحدة، وأن الحدود بينها ليست إلا ترابا وخيالا ولو تواطأ على ترسيخها وتعزيزها طواغيت الغرب والشرق.

وكلا الرجلين لا يزال حيا في ضمير الأمة وبين صفوة شبابها رغم أن السلطة ومنافذ تعليمها وثقافتها وإعلامها يعمل على طمسه وطمره أو على وصف طريقه ومنهجه بالتطرف والإرهاب، فضمير الأمة أبقى وأعمق، هذا مع أنه يجب أن نلوم كثيرا من الحركات الإسلامية كذلك أنها لم تسع في إحياء سيرة هذين الرجلين ولا تدريس سيرتهما ولا العناية بإنتاجهما (لا سيما الإنتاج العلمي الكبير لعزام)، فالذين حملوا على عاتقهم إحياء هذه الذاكرة إنما كانوا من الشباب الذين خلت أيديهم من عوامل القوة والنشر والترويج.

حماس والجهاد الإسلامي

من أخطر ما وقع في الساحة الإسلامية الشهر الماضي هي الحرب التي عانت منها غزة، والتي بدأت باغتيال القيادي في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا. إن ثمة انقساما حصل في ساحة غزة التي هي من أهم معاقل المقاومة، ونموذج المقاومة الراشدة التي تمزج السياسي بالعسكري وتوازن بين قوة العقل وقوة الساعد، وغزة عزيزة على كل مسلم، ثم هي أعز على كل مهموم بشأن الإسلام وشأن المقاومة. إن غزة بقعة مضيئة في الصمود ونموذج لم يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا، مع ما في كل تجربة من الهنات والأخطاء التي لا تخلو منها تجربة بشرية.

لكن الذي حدث هذه المرة هو الأخطر في سياق أن العدو استطاع أن ينفذ عمليته بعد تخطيط وتصعيد إعلامي ثم عملية ميدانية تستهدف بوضوح إنشاء حالة الانقسام والشقاق بين حماس والجهاد، وهو الأمر الذي لا نستطيع القول أنه قد فشل فيه، بل على العكس، ما نراه من الحوارات بين شباب الفصيلين وما ندّ من بعض العناصر من الأفعال يشير إلى وضع مثير للخوف والقلق على العلاقة بينهما، وهو أمر يجب أن تتداعى له العقول والقلوب للإصلاح قبل أن يتسع الشقاق. ولعل هذا يكون أولى أولويات أهل الرشد في الساحة الفلسطينية!

الحكم بإعدام هشام عشماوي
أذاعت صفحة المتحدث الإعلامي للعسكر المصري أنهم حكموا بالإعدام على هشام عشماوي، رائد الصاعقة المنشق عن الجيش المصري، ومؤسس تنظيم المرابطين، ولكن اللافت للنظر أن جملة التهم التي أذاعتها هذه الصفحة لا تتضمن فيما بينها اعتداءا واحدا على مدنيين، بل كانت كل التهم هي مشاركته أو تنفيذه في قتال ضد العسكريين. وهذا الوضع طبقا للعلوم الأمنية العلمانية وتشريعاتهم القانونية لا تندرج تحت مسمى "الإرهاب"، بل يدرجونها تحت مسمى "التمرد"، فالإرهاب هو غالبا عمل ضد المدنيين وبلا أهداف سياسية وليست له حاضنة شعبية ولا يعبر عن قضية مشروعة، بينما التمرد هو عمل ضد نظام السلطة وله قضية مشروعة ويتمتع بحاضنة شعبية ويسعى لتحقيق أهداف سياسية.

والشاهد أن السلطة المصرية نفسها التي تهرف بوصف الإرهاب لم تحاول حتى أن تلفق تهمة "إرهابية" لخصمها الذي أزعجها، والذي لم تستطع أن تصل إليه بنفسها، وإنما سُلِّم لها تسليما.

وبالنسبة للسلطة المصرية فيعتبر الحديث عن محاكمة عادلة نوعا من الهزر والسفاهة، فإذا كان الذي هتف في وسط الجموع وأمام الشاشات "سلميتنا أقوى من الرصاص" قد حُكِم عليه بالإعدام عدة مرات وبمئات السنين، فكيف بالذي خاض المعركة ضدهم، من بعد ما كان واحدا منهم؟!

ولا يمكن في هذه العجالة الحديث عن قضيته، وقد تناولناها سابقا في هذا المقال، ولكن الذي يمكن قوله: إنه وإن لم ينصفه التاريخ بعد سقوط هذا الحكم العسكري، فحسبه أن الله هو الرقيب الحسيب الذي لا يُظلم عنده أحد.

نشر في مجلة كلمة حق