السبت، أكتوبر 13، 2018

مذكرات الشيخ رفاعي طه (7) قصة ثورة في المدرسة


مذكرات الشيخ رفاعي طه (7)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
قصة ثورة في المدرسة الثانوية

·      لهذا كان ضابط الأمن يكثر الجلوس معي، ولكنه لم يكتشف تنظيمنا المصغر
·      بدأت ثورة المدرسة بقطعة طباشير وانتهت بتكسير أدراج وهدم شُرفتين!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي



بعد قصة التصوف هذه أعود الآن إلى خط الدراسة.. فقد كانت هذه الزيارة الأخيرة لأمن الدولة قد تركت أثرها عليّ، لقد صار يُنظَر إلي في المدرسة نظرة غير المرغوب فيه من الكثيرين، وقد أضيف إلى هذا أن المباحث العامة في مركز إدفو قد وضعت أعينها عليّ، وذلك أن ضابط المباحث في ذلك الحين كان هو زوج المُدَرِّسة "إكرام" التي ذكرتُ ما وقع بيني وبينها سابقا حين ذكرت في الإذاعة حديث "صنفان من أهل النار لم أرهما" فأُبْلِغ في أمن الدولة أني أُعَرِّض بها، وذلك الضابط في أمن الدولة الذي فهمت منه نصف الحديث الثاني كان هو نفسه قد جاء إلى المدرسة وتحدث معي أكثر من مرة.

لست أتذكر الآن ما إن كان مجيئه هذا قبل أم بعد الاستدعاء الثاني لأمن الدولة، وأغلب الظن أن ذلك كان بعدها، لكنه جلس معي ثلاث مرات أو أربع، كانت واحدة منها بسبب يعود أيضا إلى زوجة ضابط المباحث: إكرام.

كان الطلاب يلجؤون إلي لشهرتي بينهم لتفوقي ولطبيعة شخصيتي القيادية، ويتجاوزون رئيس اتحاد الطلاب نفسه، فإن كان ثمة شيء يطلبونه من المدرسة كنتُ أتولى الكلام فيه مع المدير والناظر، فإن استجابت إدارة المدرسة فبها ونعمت، وإلا حوَّلتُ طاقتي إلى تحريض الطلاب عليهم، وكنت أُحْسِن هذا، وقد وقعت الأزمة لأن هذه المُدَرِّسة كانت شديدة التبرج ومثيرة، وكان معنا في الفصل طالب تكرر رسوبه في الثانوية العامة حتى كان سنه أكبر منا جميعا، فلربما كان في العشرين من عمره، أي أنه قريب من عُمْر المُدَرِّسة نفسها، وكانت عيون المراهقين تنهب هذا التبرج حتى كان ذات يوم ألقى فيه هذا الطالب عليها خلسة قطعة من الطباشير، يمكن أن نعتبر هذا نوعا من التحرش أو نوعا من الإهانة والتحدي والمعاقبة أو كل ذلك معا، وكانت ردة فعلها بطبيعة الحال ساخطة، إذ صاحت فينا: من الذي فعل هذا؟! فلم يرد أحد.. ويمكن أن نعتبر هذا خوفا من الطالب الكبير السن أو شهامة ومروءة كالتي يرى الطلاب أنها من الرجولة تجاه بعضهم ضد المدرسين (الذين يُمَثِّلون السلطة داخل الفصول، بينما الطلاب هم ممثلوا الشعب والجماهير!)، وظلت تصيح بإصرار تريد معرفة الفاعل، وظل الطلاب ساكتين لا ينطقون، فخرجت من الفصل مسرعة إلى ناظر المدرسة الذي جاء هو الآخر مهرولا، وفي هرولته دفاع عن قِيَم المدرسة وانحياز لإدارتها كما فيها قلق مبعثه أن زوجها ضابط المباحث!.. فصاح بدوره يسأل عن الفاعل، فلم يجب أحد.. وظل هذا هو الموقف حتى انتهى اليوم وذهبنا إلى البيوت!

تصورنا أن المشكلة قد انتهت على هذا، إلا أننا فوجئنا في اليوم التالي أننا قد أوقفنا في ساحة المدرسة ولم يُسمح لنا بالصعود إلى الفصل الدراسي، وعاد الناظر يسأل مجددا عن الفاعل الذي أهان مُدَرِّسَتَه، والطلاب من جهتهم يقولون: لا نعرف. فقال: إذن، لا دراسة، ولا صعود إلى الفصول، وعودوا إلى بيوتكم!

غضب الطلاب واعترضوا ولكنهم في النهاية انصرفوا إلى البيوت ولم يبق إلا ثلاثة يتفاوضون مع الناظر على إنهاء هذا الأمر، وكنت من بينهم، وقد حاولنا مع الناظر وجادلناه خصوصا ونحن في السنة الثالثة الثانوية وهي سنة فارقة ومهمة في تحديد مصائرنا الدراسية، وقلت له: لا يمكن أن يُعاقَب الفصل كله بذنب طالب واحد. قال: أنتم تعرفون من فعل هذا ويجب أن تُخبروا به. قلنا: نحن لا نشي ببعضنا حتى ولو كنا نعرفه بالفعل (وكان هذا ضد معنى الرجولة بيننا في ذلك الوقت)، فقال: ومع أني أعرفه لكنني لن أصفح عنكم ولن أرجعكم للدراسة إلا إذا اعترفتم أنتم به، فقلت له: إذن الموضوع متوقف عندك، حيث أنك تعرفه فلتعاقبه ولينته هذا الأمر، وطال بيننا الجدال وفشلنا في الوصول إلى نتيجة، فخرجنا من عنده لا إلى البيوت ولكن إلى فصل دراسي آخر كي لا تفوتنا الدراسة، ولم يعترض هو على ذلك.

جاء الصباح التالي فتكرر نفس الموقف، لم يسمح لنا الناظر بالدخول إلى الفصل، ولكن هذه المرة لم يرجع الطلاب إلى بيوتهم بل بقينا في ساحة المدرسة، ثم عزمنا على أن نقسم أنفسنا ونتوزع على بقية الفصول فلا تفوتنا الدراسة، وبينما نحن ذلك إذ عملنا على تحريض الفصول الأخرى لتقف معنا (بمقتضى معنى الرجولة نفسه الذي منعنا من الاعتراف على زميلنا، والذي يقتضي عليهم التضامن معنا)، وهم من ناحيتهم أبدوا استعدادا لهذا، ووصلنا إلى اتفاق مع بقية الزملاء أن بداية الأسبوع القادم سيكون فاصلا، إما أن يُسْمَح لفصلنا بالدخول أو أن تضرب المدرسة عن الدراسة، ولا مانع من تكسير المدرسة أيضا!

وعند بداية الأسبوع سارعت إلى الناظر قبل بدء الطابور وقلت له: الطلاب اليوم مصرون على دخول الفصل، وكلهم أبناؤك والأفضل أن يدخلوا إلى فصلهم. فقال لي بحزم: لن يدخل أحد الفصل! قلت له: إن ثلاثة أيام من العقاب كافية وكل هؤلاء الطلبة هم أبناؤك حتى ولو أخطؤوا، وأنت بمثابة الأب لهم جميعا. فلم يُجْدِ كل هذا الكلام الحسن شيئا، وأصر على موقفه، فقلت له: إني أعلم أن الطلاب قد عزموا أمرهم وأنهم إن لم يدخلوا إلى الفصل اليوم فلن يدخل بقية الطلاب إلى فصولهم تضامنا معهم أيضا، فأبرق وأرعد وهددنا، فعدت مرة أخرى إلى الكلام اللين وأنه مثل الأب للجميع وأن الأمر لا يحتمل أن يستمر أكثر من ذلك. ولمرة أخرى لم ينفع هذا معه فقلت له في صيغة نصفها ودّ ونصفها تهديد: لقد قمت بما علي وأبلغتك بما يمكن أن يحدث إذا استمر هذا الوضع.

توجس خيفة من هذا الوضع، ولكنه أصر على موقفه، فاتصل بجهاز الأمن.

ومن جانبنا سارعنا بتوزيع أنفسنا على الفصول، فسارعت تلك الفصول للإضراب عن الدراسة ورفضوا أن يدخلوا إلى فصولهم، وفيما بعد اكتشف الصف الأول والثاني الثانوي أننا لم ندخل فعادوا من فصولهم بعد أن وصلوا إليها.. وبدأ التوتر يخيم على الموقف: المُدَرِّسون يحاولون سوق الطلاب إلى الفصول والطلاب يمتنعون، ثم انفجر الموقف حين أراد المُدَرِّس محمد سرور أن يستعمل القوة فصاح في الطلاب بعنف أن يدخلوا فردَّ عليه طالب طويل القامة قوي البنية واسمه عادل قائلا: هذا ليس من شأنك يا أستاذ سرور. وجُنَّ المدرس الذي لم يتعود أن يخاطبه أحد من طلابه هكذا، فصفعه على وجهه، وما كان هذا الصفع يليق أيضا على طالب يرى نفسه قد صار رجلا أمام زملائه، فكانت هذه هي نقطة انفجار الموقف.

انفلت الأمر، وتشتت الطلاب الغاضبون في كل جهة، وصعدوا إلى الفصول التي لم تنتبه بعد لما حصل، وأخرجوا الطلاب، وألقوا بالأدراج من الطوابق العليا، وسرت الفوضى التي لم يكن أحد قادرا على إيقافها مع غضبة الطلاب، بل هدم بعضهم شُرفتين من شُرَف المدرسة، وبدأ آخرون بملاحقة المدرسين ولم ينج منهم إلا من أغلق على نفسه بابًا واختفى من المشهد. كان الأمر أشبه بثورة شعبية مصغرة يطارد الشعب فيها ممثلي السلطة في لحظة قوتهم وضعفها ويُهدمون رمز المؤسسة السلطوية التي تحكمهم، وهي في حالتنا هذه: المدرسة.

كانت مدرستنا بين مدارس أخرى، فما إن سرى خبر "الثورة" في مدرستنا، حتى انتقل منها بغير تدبير إلى المدرسة الثانوية الصناعية المجاورة، وإذا بها وبغير سبب ما يوقفون الدراسة ويُكسرون المدرسة ويطاردون الأساتذة ويهتفون "معكم يا ثانوية عامة"!! وكان هؤلاء الطلاب، لظروفهم المعروفة[1]، أقل رغبة في الدراسة وأكثر رغبة في التمرد وأطول خبرة في معاركة الحياة كذلك فكانوا أكثر جرأة وشجاعة وإقداما..

سيطر الطلاب على المدرسة، ومطلبهم المعلن هو دخول فصلنا إلى صفه وانتظامه دراسيا، وعند هذه اللحظة حضر ضابط الأمن إلى المدرسة يحاول أن يفهم ما حدث، وفوجئ بهذا الوضع الجديد، فسارع إلى تهدئة الوضع وما إن استقر الأمر حتى دخل بنفسه إلى كل فصل وأخذ في سؤال الطلاب عن السبب والأزمة، فإذا به يسمع في كل فصل حادثة الطباشير وعقوبة المنع من الدراسة، ففهم أن الأمر لا يحمل معنى سياسيا وليس وراءه دافع من خارج المدرسة، فاتخذ لنفسه مهمة الوسيط بين الطلاب وبين إدارة المدرسة من أجل إنهاء الموقف.

ساعتئذ كانت إدارة المدرسة قد وقعت في الحرج، لقد انفلت الموقف حتى تمرد الطلاب وكسروا بعض أجزائها وأصابوا المُدَرِّسين وكسروا هيبة الإدارة، فاستغاثوا بجهاز الأمن لتأديب الطلاب وجعل ما حدث عبرة لمن يعتبر فلا يزالون يهابون المدرسة وإدارتها، ولا يترددون في الطاعة ولا يفكرون في العصيان، ثم ها هو جهاز الأمن الذي استغاثوا به يتحول فجأة من موقع العصا والتأديب إلى موقع الذي يتوسط لحل المسألة وتهدئة الأمور!! إن الأمر لو استمر على هذا الحال فلن يبقى للمدرسة ولا ناظرها هيبة ولا طاعة، بل وسيسهل على الطلاب التمرد في كل وقت، طالما التمرد يحصد المكاسب ولا يجلب العقوبة!! لكن المأزق الأهم هنا أن أحدا منهم لا يملك أن يعارض رغبة جهاز الأمن الذي هو فوق كل جهاز، لقد صار الموقف معكوسا فبدلا من أن يكون الطلاب والأمن في المواجهة صارت المواجهة الآن بين إدارة المدرسة التي تريد أن تعاقب وجهاز الأمن الذي يريد حل الموضوع!

أراد الناظر الخروج من الأزمة ببعض حفظ ماء الوجه فاشترط فصل بعض الطلاب، الذين هم الزعماء المحرضون كما قال، فلم يجد إلا الطلاب الذين بقوا وتفاوضوا معه، وكنت من بينهم بطبيعة الحال، إلا أن الأستاذ عيد الرافعي وقف معي وجادل عني وذكر كثيرا أنني لم أكن محرضا وإنما كنت وسيطا وإنما كان الطلاب يثقون بي ويُقَدِّمونني ولهذا كانوا يخبرونني عما ينوون فعله وكان دوري أن أخبر إدارة المدرسة وأحاول إنهاء الأمر لولا تعنت الناظر. وبعد مجهود وجدال استطاع أن يخرجني من بين الطلاب الذين سيقررون فصلهم. لكنهم وجدوا أن طالبا آخر من هؤلاء الخمسة هو ابن عمدة قرية قريبة، وكان الرجل كبيرا في قومه وصاحب نفوذ، ومسألة عقاب ابنه بالفصل من الدراسة قد يترتب عليه مشكلات فأخرجوه أيضا، وبقي طالبان أو ثلاثة لم يكن لهم ظهير فقرروا أن يفصلوهم من الدراسة.

ما إن بلغنا الخبر، ونحن كنا في لحظة انتصار وما بالك بنفسية المنتصر؟ وما بالك بلحظة الرومانسية الثورية التي تعقب النصر؟! فما إن بلغنا الخبر حتى كان موقفنا جازما لا تردد فيه: لن نسمح بفصل أي طالب ولا حتى لساعة، ولو أُخرج طالب من فصله فلن تستقر المدرسة. وبالفعل وبفضل موقف الطلاب المتوحد ألغيت قرارات الفصل، وخرج الطلاب من هذه "الثورة" وقد حققوا كل مكاسبهم، وكانت إدارة المدرسة هي الخاسرة كل الخسارة.

من بعد هذه الحادثة كان ضابط أمن الدولة يكثر الجلوس معي، اعتبرني زعيما للطلاب ومحرضا لهم، وكان يريد أن يفهم كيف أفكر، وممن أستلهم آرائي، وما هي علاقاتي... ومن جهتي كنت أكرر دوما أني من أعضاء الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وأني ابن البلد، ومن جيل الثورة، وأن لهذه الدولة والثورة الفضل علينا.. إلخ! كنت أعرف أنه من الضروري إقناعه أننا شباب صغير وليس بيننا وبين الدولة شيء!

كان يقتنع بما أقول، على الأقل: يُظهر لي هذا الاقتناع، وفي الواقع لم يكن لديه ما قد يشككه فيما أقول، بينما كنتُ بالفعل قد كونتُ جماعة من زملائي بدأت بأحد عشر طالبا، ثم زاد عددها في الصف الثالث الثانوي إلى ثمانية عشر طالبا، كما كنتُ قد ذكرتُ سابقا. ولكن الجديد الذي يجب قوله هنا ونحن في الصف الثالث الثانوي هو ذلك العهد الذي قطعناه على أنفسنا: أن ندخل جميعا الكلية الحربية!

كان هذا العهد فرع عن تصورنا الذي ذكرته من التفكير في انقلاب عسكري لإقامة الدولة الإسلامية، ودخول الكلية الحربية هو الخطوة الأولى منها، وتعاهدنا على ذلك والتزمنا سريته، وقد التزم الجميع بهذا العهد، وعند انتهاء الصف الثالث الثانوي قدموا جميعا أوراقهم إلى الكلية الحربية، لكن حصل ما لم نحسب له حسابا: لم يقبل من هؤلاء جميعا إلا طالب واحد فقط!

ومع ذلك فقد بقيت لنا صلة به، وكان يتابع معنا حتى أصبح ضابطا وحصل على رتبة ملازم أول، وحينها بدأ يتغير ويتخلص من هذا العهد الذي قطعناه معا قديما، كان يتعذر بأننا تأخرنا في الدراسة المدنية، وهذا صحيح وإن لم يكن عذرا، فقد توزعت مجموعتنا بين كليات الطب والهندسة والتجارة والعلوم، دخلتُ كلية التجارة وتأخرت فيها لظروف سأقصها فيما بعد، ومن دخلوا كلية الطب كانوا ينهون دراستهم بعد سبع سنوات، ومن دخلوا كلية الهندسة ينهون دراستهم بعد خمس سنوات، وهذا الذي قُبِل في الكلية الحربية كان يُفترض به أن يدخل كلية العلوم إلى جوار آخر من مجموعتنا، اسمه أحمد سالم، دخل العلوم بعدما لم يُقبل في الكلية الحربية وتدرج فيها حتى صار أستاذا، وأحسب أن هذا الذي دخل الكلية الحربية لا يزال في صفوف القوات المسلحة وإن كانت قد انقطعت علاقته بنا من ذلك الوقت البعيد.

غلب على هذه المجموعة الاتجاه الوطني وليس الإسلامي، وقد حصل لنا تحول آخر حين دخلنا الجامعة، إذ بقي الأغلب ضمن هذا الاتجاه الوطني ولم يتحول إلى الاتجاه الإسلامي سواي وآخرٌ معي.

لكن لهذا حديث آخر.. ويجب أن يكون قبله حديثٌ عن انضمامي لصفوف الطلائع في الاتحاد الاشتراكي.




[1] دفعت ظروف كثيرة في مصر، سياسية وتعليمية واقتصادية واجتماعية، لأن يكون التعليم الفني في مصر أقل قدرا ومكانة ومستقبلا من التعليم العام، فكان يدخل إليه الطلاب الذين لم يحققوا درجات عالية في الإعدادية، أو الذين لا تسمح ظروف أهاليهم بالإنفاق على تعليمهم العام ثم الجامعي، أو الذين حملهم التعثر في الدراسة أو الوضع الاجتماعي على الخروج لسوق العمل مبكرا فدخلوا إلى التعليم الفني لمجرد الحصول على شهادة.. فكان التعليم الفني (الزراعي والصناعي والتجاري) هو بشكل عام معبر عن طبقة اجتماعية أقل، ومثل هؤلاء يكونون أصلب في المعارك وأكثر خطورة وأسرع إلى التمرد أيضا.

الأربعاء، أكتوبر 03، 2018

مصانع الخيانة


روى الدكتور وليد سيف في مذكراته[1] أنه حين كان طالبا في لندن تعرف على عجوزٍ كان في شبابه جنديا بريطانيا خدم في فلسطين، يقول عنه: "صار بوسعه الآن بعد أن تحرر من التزامات الوظيفة أن يعبر عن تعاطفه مع الشعب الفلسطيني ويقر بدور بريطانيا في خلق نكباته ومآسيه... وإذ أجزم بصدق مشاعره في تلك اللحظات، فإني أجزم كذلك أنها ما كانت لتردعه أيام خدمته شابا في فلسطين عن النهوض بواجبات وظيفته بإخلاص وإتقان، مهما تكن جائرة بحق الشعب الفلسطيني. فالإنجليزي يُحسن الفصل بين عواطفه ومواقفه الفردية الذاتية من جهة، وبين مقتضيات وظيفته مهما تكن متعارضة مع الأولى من جهة أخرى. فالإخلاص لدولته ولعمله فيها مُقَدَّم على أي اعتبار ذاتي. وحديث الضمير مؤجل إلى ما بعد إنجاز المهمة. وليس عليه أن يلوم نفسه فيما لا يدخل في نطاق إرادته ومسؤولياته وتخصصه. فسياسة الدولة وقرارات الحرب والسلم من عمل الزعماء والساسة. واحترام الاختصاص والتراتب الوظيفييْن من عقائد الدين المدني. وكل ذلك نتاج حداثة غربية اندمجت فيها مفاهيم العقلانية (أو الترشيد) بالبيروقراطية (ومعناها الأصلي: التجرد من الاعتبارات الشخصية وتحكيم اللوائج والنظم في العمل والإدارة. وذلك بخلاف ما آل إليه المعنى عندنا إذ يفيد التعقيدات الإدارية المفرطة)، والاحترافية، والتخصص الوظيفي المجتمعي. وبقدر ما أسهمت هذه المفاهيم مجتمعة في تقدم المجتمع الغربي وقوته، أسهمت كذلك في قسوته وجفوته ووحشته. فمطلب الكفاءة في الإنجاز يمكن أن يُضَحِّي أحيانا بالاعتبارات الإنسانية والأخلاقية التي تلابس المهمة"[2].

هكذا طوَّرت "الحضارة" الغربية نظاما يمكن فيه للجندي أن يرتكب المذابح بكل وحشية (أو: بكل كفاءة) ثم إذا بلغ سنّ المعاش سمح لنفسه أن يتعاطف مع من ذبحهم بكل إخلاص (أو: بكل إنسانية)!!

***

هذه الصورة على بشاعتها وقبحها قد تبدو مفهومة في ميزان النظرة المادية المتجردة من كل اعتبار أخلاقي، لكن كيف يمكن أن يُقبل في أي ميزان أن يكون صاحب هذه المذابح رجل من أهل البلد نفسها، يعمل في خدمة المحتلين بكل وحشية (أو: بكل كفاءة؟!).. فلئن كان الإنجليزي يسمع ويطيع لحكومة هو انتخبها واختارها وهي تجعله في عافية ورفاهية وتؤمن له مستقبله ومستقبلا لأولاده، فما هي حجة وعذر من يفعلها من أبناء البلد المحتل؟!!

ما هي حجة فلسطيني يفعلها خدمة للإنجليز؟ أو جزائري خدمة للفرنسيين؟ أو مغربي خدمة للإسبان؟!.. وأيضا: ما هي حجة أي إنسان يفعلها خدمة لنظام جاء بالقهر والعنف والدبابة ومن ورائه جاء برغبة النفوذ الأجنبي المهيمن على بلادنا؟.. ثم ما هي حجة أي إنسان يفعلها وهذا النظام لا يُؤَمِّن له ولا لأبنائه طعاما نظيفا ولا تعليما مفيدا ولا طبا صحيحا ولا حياة طبيعية؟!

أحسب أني أعرف الإجابة: لقد فعلها هؤلاء جميعا لأن "الدولة" استطاعت صناعة عقيدة غرستها في النفوس.. لا يخلو الأمر من مكاسب يتمتع بها الخونة على سائر الناس لكن مجرد المكاسب لا تفسر وحدها هذا الإخلاص وتلك الوحشية (أو: الكفاءة) في خدمة النظام المحتل أو النظام المستبد.

لم يعد أولئك الذين يفعلون هذا يرون أنهم يخونون أو يظلمون، بل صاروا يحسبون أنهم يقومون بالواجب الوطني.. ومنهم من تفانى فيه حتى أهلك نفسه، وهو مقبل غير مدبر!!

***

هذه الصورة رواها د. خليل حسن خليل في مذكراته الروائية، وقد سُجِن في عهد عبد الناصر من بعد ما كان يعطي المحاضرات لعناصر الاتحاد الاشتراكي بل ومن بعد ما كان منتدبا للعمل في رئاسة الجمهورية، فسجل حوارا بينه وبين ضابط السجن الذي كان تلميذا له من قبل، سأله:

- هل تشترك في تعذيب المعتقلين؟
بهت الضابط عند سماع السؤال. تردد في الإجابة. ثم قال بصوت لا انفعال فيه ولا حسرة:
- طبعا!
-أنت؟! الإنسان الرقيق. التلميذ النجيب، ابن صديقي الحميم. لقد رباك أبوك تربية مهذبة طيبة.
- كل هذا اختفى أثناء تدريبنا في الكلية. ثم تلاشى تماما حينما وضعوا النجمة على كتفي!
- هل لا يدمى ضميرك، هذا التعذيب البشع الذي تباشره على الإنسان؟
- وهل يتعذب ضمير عشماوي حين يقصف برقاب المحكوم عليهم بالإعدام؟
- عشماوي يعدم الذين قضت المحاكم بإعدامهم.
- الفرق ليس كبيرا!
- ألهذه الدرجة؟
- نحن ضباط، نأكل العيش والجاتوه من هذه الوظيفة، ونتيه بها على الخلق. ونؤمر بالتعذيب فنستجيب.
- أتنفذون أوامر التعذيب بالضبط، أم تضيفون إليه؟
- أنا أنفذ العلاج الذي يضعه القادة بالضبط. أعطي للمريض الجرعة والحقن دون زيادة أو نقصان.
-كم أنت عادل!
- أنا أؤدي واجبي.
- وزملاؤك؟
- لا شأن لي بهم.
- علمت أن بعضهم ينهش لحم المعتقل، ويمصمص نخاعه، وكأنه وحش يستمتع بالوليمة.
- لا أريد أن أتحدث عن غيري. إنما لأنك أستاذي، وكنت تعطيني دروسا خصوصية بالمنزل مجانية، بحكم صداقتك لوالدي، سأقول لك:

التعذيب يثير في الإنسان غريزة غريبة. فبعض المعذبين يتشفى في المعتقل وكأنه عدوه، وكلما ألهب ظهره أو نفخ أحشاءه، كلما تملكته هذه الغريزة الحيوانية، وكلما اقترب من حرفة الجزارة! بفارق واحد، أن الخروف أو العجل يذبح ثم لا يحس بتقطيع أعضائه. وتبلغ الوحشية ذروتها، إذا بدت من المعتقل إشارة أو احتجاج أو تأفف. هناك يعتبر المعذب أنه أهين إهانة شخصية! لحقت بكرامته وعظمته وعظمة أسرته. فيتملكه سعار بربري، يصب أواره على المعتقل، وقد نفق كثير من المعتقلين بهذه الطريقة!
-  أنت تستخدم كلمة "نفق"؟
- في مثل هذه البيئة يستوي الحمار والإنسان[3].

***

خطر لي مرة وأنا أقرأ التحقيقات مع الثائر البطل أحمد عرابي أن أفتح ملفا لأحفظ فيه أسماء الخونة الذين حققوا معه، فقد كانوا يبذلون في التحقيق جهدا واضحا في المحاصرة والتضييق وانتزاع الأقوال! فما أكملت لحظة حتى عرفت أن المهمة ثقيلة والأسماء طويلة وكثيرة..

لقد صار الظلم والخيانة مؤسسة وجهازا ودولة، منذ عهد الطاغية الجبار محمد علي، حتى صارت وظائف كالشرطة والعسكر والقضاء والمخابرات والإعلام هي بنفسها معاقل لتفريخ وإنتاج وتصنيع الخيانة والعمالة للاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي.. حتى إن النادر القليل منهم مَنْ لم يتلوث بالمشاركة في هذه الأوحال! وأندر منهم من استقال من تلك المؤسسات فنجا بنفسه، وأندر من كل هؤلاء من فكر في المقاومة والإصلاح..

ذلك أن هذه الدولة وهذه المؤسسات جعلت الخيانة والعمالة والتعذيب والتزوير والبشاعة مدرسة فكرية، وجهة نظر، فلسفة ومنهجا، دينا متبوعا.. لقد أنتجت هذه الدولة ومؤسساتها عقيدتها التي جعلت كل هذا ينتقل من معنى الخيانة والعمالة والظلم إلى معنى الواجب الوطني والنظام والشرف!
نعم.. صارت مهمة ثقيلة طويلة أن نتتبع أسماء من قبضوا على الوطنيين ومن حققوا معهم ومن حاكموهم ومن عذبوهم ومن شوهوا صورتهم بالأشعار والأغاني والمقالات.. قائمة لا تكاد تحصى ولا تُحصر ولا تنتهي..

وإن بعض العزاء أن التاريخ يصحح سيرته بعد سنين طويلة، كما قد أبقي اسم عرابي علما على الثورة والجهاد، وأبقى اسم الخديوي توفيق علما على الخيانة والعمالة!

***

لقد أنشأ الاحتلال وما زرعه في بلادنا من أنظمة تابعة له، أنشأ أجيالا تؤدي واجبها في حرب أبناء البلد دون هوادة، وبعض أولئك يقرأ الآن هذه السطور، لا بغرض التأمل في معانيها بل بغرض رصد وتحليل ما تحمله من أغراض ورسائل! ولقد ضرب الله مثلا بكلماته وله المثل الأعلى فأخبرنا أن الآية نفسها يضل بها كثيرا ويهدي بها كثيرا، وأن القرآن ينزل على بعض الناس هداية ويزيد الآخرين كفرا وفجورا. وما ذلك إلا لأن البعض نظر فيها يطلب منها الهداية والآخر نظر فيها يبحث عن مواضع الجدل ويلتمس النقص والعيب وإثارة الشبهات.

في لحظة كتابة هذه السطور تشن حرب محلية على أبسط مظاهر الدين، أغلقت السلطات في موريتانيا جمعية تكوين العلماء التي أنشأها الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وهي جمعية تخرج من يتأصلون علميا بحفظ القرآن والسنة ومتون العلم، وبعدها بساعات صدر قرار من الحكومة الليبية التي لم يستقر لها قرار ولا تملك توفير رواتب للناس بعدم استقبال طلاب الابتدائي لمدراس التعليم الديني، وقبل ذلك عصف محمد بن سلمان بسائر الأنشطة العلمية والدعوية في مساجد بلاد الحرمين.. وأنى نظرت إلى بلد رأيت مثل هذا أو شيئا منه.

هذه الغارات العنيفة يقوم بها من يقولون بأنهم مسلمون، تحت عنوان مكافحة الإرهاب والتطرف، هذا مع أن سائر هذه الأنشطة والمؤسسات تبتعد تماما عن كل ما قد يثير حساسية الأنظمة والحكومات وأوليائهم، بل هي لم تنشأ أصلا إلا بموافقات وتصاريح أمنية ولم تمارس عملها إلا برقابة وتشديدات أمنية أيضا، أي أنها أبعد ما تكون عن هذه التهمة. وعندئذ لا يبقى لنا إلا تفسير من اثنين: إما أن هؤلاء القوم (تذكر دائما أنهم منتسبون للإسلام) يرون القرآن نفسه كتاب تطرف وإرهاب، وأنه مادة يجب مطاردتها وملاحقة تدريسها وتحفيظها. أو أنهم لا يفكرون في هذا أصلا وإنما يقومون بعملهم (بكفاءة) كما أُمِروا به، وطالما أنهم يقومون بوظيفتهم بكفاءة فلا معنى لأن يفكروا في شيء، ومن كان ينوي التفكير فليؤجله إلى لحظة سن المعاش كي يتعاطف مع من سجنهم وضربهم وآذاهم!

قبل أن ينشأ في بلادنا "صنم الدولة"، كان أهل العلم والفقه أصحاب مكانة وهيبة وتوقير، لا يجرؤ عليهم إلا من انخلع عامدا من الدين والأدب، ولا يتجاسر عليهم إلا من عرف من نفسه وعرف الناس منه السقوط والانحطاط.. أما حيث جاء صنم الدولة وانتصب معبودا فوق كل شيء، فلا ريب أن رغباته أوامر، وأن كل فرد في جهاز هذه الدولة إنما هو "عبد المأمور"!

إن أمام المجاهدين عملا طويلا ثقيلا لكسر هذا الصنم، وإعادة المرجعية العليا لتكون لله ورسوله، والعلماء هم أوائل المسؤولين عن إرجاع حجم "الدولة" لتكون خاضعة لله ولرسوله ولشريعته، وعليهم بذل المجهود كله في إفهام الناس أن كل ما خالف الدين هدر لا قيمة له ولا كرامة ولا احترام ولو صدر من الدولة، ولو قرره برلمانها ولو طبل له إعلامها..

إن حقيقة الصراع في كونه صراعا على السيادة، على المرجعية العليا، هل تكون لله أم لغير الله! وسيظل أهل العلم والدين والجهاد يتعرضون لإيذاء هذه الدولة مهما حاولوا الابتعاد عنها، فإنها تعرف أن عملهم في حقيقته هو تعظيم الدين ليكون مرجعية فوقها، ولتكون هي خاضعة له.. وهذا أمر لا يسمح به صاحب الباطل إلا مضطرا!

وهذا هو حقيقة التحرر والتحرير، وحقيقة الإخلاص والتوحيد.. أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، وألا يكون أحد من الناس عبدا لنظام أو ملك أو رئيس أو وظيفة، يضطر معها إلى إلغاء عقله وتجميد ضميره لتنفيذ الأوامر بكل كفاءة!! أو يضطر معها للإيمان بأفكار رؤسائه وابتلاع كلامهم كي لا يعيش تعذيب الضمير وإلغاء العقل إذ ينفذ أوامرهم بكل كفاءة!!

حقيقة التوحيد والتحرر ألا يصرف الإنسان طاعته إلا لله.. وإعادة غرس هذا في الناس مهمة عظيمة بعد تضخم أجيال آمنت "بالدولة" حتى حاربت في سبيلها أخلص أبنائها وصفوة عقولها.

***

لئن كان بعض العزاء أن التاريخ سيصحح مسيرته بعد تبدل القوى وتغير الحال، إلا أن العزاء كله، وهذا هو ما يشفي الصدر حقا، أن الحساب الأخير عند الله تعالى، الله الذي لا يغفل ولا ينام ولا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد ولا تغيب عنه هفوة.. فهذا هو العزاء حقا.. وهذا هو شفاء الصدر حقا.. وتلك هي الطمأنينة حقا!

فسبحان الله.. الحق العدل المبين..

سبحان الذي قال:

{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون؟}
{ووضع الكتاب، فترى المجرمين مشفقين مما فيه، ويقولون يا ويلتنا، مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}
{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين}
{عالم الغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}

ألا إنه لولا الله ولولا الدار الآخرة لكان نعيم هذه الدنيا في الانتحار والخروج منها.. فلله الحمد الذي جعل لعباده آخرة وحسابا وميزانا دقيقا، فلا يفلت منه عقوبته ظالم ولا من عدله ورحمته مظلوم.



[1] وهو لمن لم يعرف أفضل من كتب في الدراما التاريخية على الإطلاق، وهو قبل هذا أستاذ جامعي وأديب وشاعر ومفكر، وهو فلسطيني من
[2] وليد سيف، الشاهد المشهود، ص404، 405.
[3] د. حسن خليل حسن، الوارثون، ص369، 370.