الاثنين، يناير 21، 2013

الحضارة الإسلامية.. ومآثر الملوك


شاهدت قبل يومين فيلما وثائقيا عن "مسجد الشيخ زايد" لقناة "ناشونال جيوجرافيك".. عمل مبهر رهيب يداعب الخيال ويجمع زينة البناء وعجائب العمارة..

إلا أن ثمة موضع التباس ينبغي تحريره.. وخلاصته هي:

الحضارة لها جانبان: الجانب الروحي القيمي الأخلاقي والجانب المادي بتجلياته في السياسة والعمران والاقتصاد والأنظمة... إلخ.

وللحضارة الإسلامية خصوصية تنفرد عن غيرها من الحضارات متمثلة في أن "عصرها الذهبي" و"ذورتها العليا" قد حددت بنص من الوحي وهو "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، فعلمت الأمة أن لحظة الذروة للحضارة الإسلامية هي في عصر النبي والخلافة الراشدة وصدر الدولة الأموية..

والمعنى المباشر لهذا التحديد هو اليقين بأن الجانب الأخلاقي القيمي الروحي مقدم على الجانب المادي، إذ لم تكن الإنجازات المادية المبهرة في تلك القرون بل لقد جاءت في العهود التالية.

لكننا حين نتكلم عن عظمة الحضارة الإسلامية في المجال المادي فإننا نستعرض قصور الملوك والأمراء وعمائر البلدان وآثارها وإنجازاتها العلمية كنوع من استعراض إبداع المسلمين في عمارة الأرض وسياسة الحكم وابتكار الأنظمة ونحو ذلك.

ويزيدنا اندفاعا وتوضيحا لعظمة ومآثر تلك العمائر والآثار ما نشأنا عليه من ظلم للمسلمين وهضم لتاريخهم وحضارتهم سواء من المستشرقين أو من أتباعهم العلمانيين في بلادنا.

نعم، قد يكون الملك -الذي قد يكون ظالما- قد بنى مسجدا أو قصرا أو مدرسة أو غير ذلك من المباني ليخلد اسمه وذكره.. وقد نمر على هذا البناء فنصف عظمة العمائر ونثني على الإبداع الفني والهندسي، ونكون قد خَلّدنا بهذا سيرة الملك الظالم التي أرادها حين فعل هذا.

إن كل ملك يحب أن يخلد ذكره ويبقى أثره في العالمين.. لكن ثمة فارقا دقيقا يجب الانتباه إليه هاهنا..

إنه لا يسعنا أن نضع مسجد الشيخ زايد ضمن سلسلة الحضارة الإسلامية، ذلك أن الفريق الذي أبدعه إنما هم أجانب غير مسلمين، وإن عمل فيه بعض المسلمين في المتابعة والتخطيط وفي الأعمال اليدوية.. إنه -في جوهره- تعبير عن الحضارة الغربية التي نفذت حتى نقوشه الفنية الإسلامية.

إنه يصلح أن يكون مأثرة للملك لكن لا يصلح أن يكون من إبداعات الحضارة الإسلامية.. وهو -لهذا- أمر لا يُفخر به ولا أحسب أن التاريخ الحضاري الإسلامي سيسجله في أوراقه.

***
وما سبق إنما هو حديث الجانب المادي الحضاري وحده، بخلاف محاكمة هذا العمل للجانب الروحي القيمي الإسلامي الذي يرفض الإسراف والتبذير بالعموم فكيف إذا وُجِد الفقير واللاجئ والمحتاج في الأمة وهو أولى بهذا المال وبالرعاية؟! بل الإسلام يرفض زخرفة المساجد أصلا لئلا تخرج عن كونها مكان بساطة وخشوع وإقبال على الله فكيف وهذا المسجد أقرب إلى المتحف والقصر منه إلى المسجد، وهو حافل زاخر بزخرفة الدنيا وعجائبها حتى ما أحسب أنه يبقى للقلب فيه خشوع ولا إقبال على الله إذ الطرف حائر بين هاتيك الطرائف والفرائد؟!

ومما يلقي في النفس موعظة وعبرة أن صاحب المسجد مات قبل أن يكتمل بناؤه ويرى بنفسه أثره الذي أراد به المفاخرة وخلود الذكر في الدنيا.. وذلك مما يجبر المرء على المقارنة: ماذا لو أنه أنفق كل تلك الأموال في عمل الخير، أفلم يكن هذا خير له فيما يستقبل من أمر الآخرة؟!!!

الأحد، يناير 20، 2013

عصر العسكر



حين نتتبع المسار التاريخي لانحراف الأمة عن الحكم الرشيد الذي مثله العصر النبوي والخلافة الراشدة سنضع أيدينا حتما على هذه المحطات:

1- ظهور المذهب الشيعي الذي يرى بأن الخلافة «حق» لعلي وآل البيت من بعده، وليست اختيارا حرا ترضاه الأمة فهي التي تنصب الخليفة وهي التي تعزله إن رأت منه اعوجاجا.

2- ظهور أول خليفة يحكم بالتغلب، وهو عبد الملك بن مروان، حيث بايعته الأمة بعد أن استطاع أن يوحد البلاد بالغلبة ويهزم عبد الله بن الزبير في مكة.

3- اعتقاد الأمويين أنهم أهل لهذه الخلافة بقدر الله وبما أثبتوا واقعيا أنهم الفئة الأقوى والأشد شوكة فيها، والأقدر على حكمها وإعادة مجدها.

4- قيام الدولة العباسية على الفكرة الشيعية التي تقول بأن الخلافة حق موروث، فتسمى صاحب الدعوة ثم الخليفة بلفظ «الإمام» بما له من مدلولات دينية، ثم السجال العباسي العلوي حول الأحقية «الدينية» بالخلافة، مما جعل منصب الخلافة وإن كان يُحَصَّل بالشورى نظريا إلا أنه محكوم أيضا باختيار من داخل البيت العباسي (من وجهة نظر العباسيين) أو من داخل البيت العلوي (من وجهة نظر العلويين).
5- وبالتداخل مع عوامل أخرى -من بينها الاحتكاك الحضاري بالأعاجم، وسيأتي الحديث عنه بعد قليل- ظهر الخليفة الضعيف الذي يحظى بهالة التعظيم والاحترام لكونه من البيت النبوي، لكنه ليس أهلا للخلافة، وتوافق هذا مع وجود طبقة عسكرية من الترك، وهم بالنسبة إلى العجم كالأعراب بالنسبة إلى العرب؛ قوم محاربون بلا حضارة، ففتح ضعف الخلافة الباب أمامهم لتأسيس أول حكم عسكري في تاريخ المسلمين.

ونحن إذ نتحدث الآن بعد أكثر من اثني عشر قرنا من تلك اللحظة التاريخية، فإنما يعني هذا أن التجربة الإنسانية من الحكم العسكري قد صارت في حكم الحقيقة التاريخية، ذلك أن اجتماع القوة والسلطة في يد طرف من الأطراف هو باب الاستبداد والفساد والإفساد.

ولذلك يكون الحكم العسكري بداية انهيار الأمة حضاريا ثم عسكريا، ومؤسسا لاستبداد عنيف يعاني منه الجميع، ثم تكون النهاية في العموم هو الاحتلال الأجنبي لهذه الأمة؛ احتلال يستغل ضعفها العسكري أولا ثم ضعفها الحضاري وضعف مقاومتها للاستبداد، وعند هذه النقطة تذوق الأمة ويلات الاحتلال التي أفرزتها ويلات الاستبداد حتى يخرج منها جيل جديد يستلهم أصوله ويبني حركة المقاومة والجهاد التي تكون بداية النصر وإعادة التأسيس من جديد بعد تضحيات عظيمة وهائلة.

والترك كانوا أحد هذه الأمثلة..

لقد بدأوا كجنود محترفين في ظل الدولة فأنقذوها من الانهيار العسكري بعد تسرب الضعف إلى العنصر العربي والفارسي منذ عهد المأمون، واستطاعوا بالفعل إعطاء دفعة جديدة وهائلة لحركة الجهاد، سواء جهاد الروم في الشمال الغربي أو الأرمن في الشمال أو الهنود والصينيين والأتراك فيما وراء النهر، وسطروا في هذه الصفحات تراثا بطوليا رائعا!

لكنهم ما إن خرجوا من حيز الجندية المحترفة وصاروا من رجال السلطة حتى تراجعت قوة الدولة كلها، فضعفت الخلافة وازدادت الاستقلالات في الأطراف وابتدأ الاضطراب في مواقع السلطة بعزل الخلفاء وقتلهم، وما كان الإصلاح يسيرا فإن الأتراك –وهم الذين لم يحتمل أهل بغداد وجودهم لما فيهم من طبع البداوة- كانوا أبعد الناس بحكم تنشئتهم العسكرية عن التفكير في سبيل غير القوة لحل المشكلات.

وطوال عصر سيطرة العسكر لم تعتدل أحوال الخلافة إلا حين ظهر القائد العربي القوي الذي له من الشرعية –وهي في ذلك الوقت: النسب العباسي- ما يجعل أحدا من العسكر الترك لا يجرؤ على منازعته ولا منافسته، وله من القوة العسكرية والبطولة في الحرب والقتال ما يجعله مهابا قويا في عيونهم ونفوسهم فخضع له العسكر الأتراك، فذلك هو الموفق بالله، وكذلك كان الحال في عصر ولده المعتضد، ثم عصر حفيده المكتفي!

فإذا خفتت هذه البطولة العسكرية في عهد المقتدر، عاد الصراع مرة أخرى بين الجناح المدني المتمثل في الخليفة والوزراء وبين الجناح العسكري المتمثل في العسكر الأتراك وقائدهم مؤنس وبعض القادة الآخرين، وصحيح أن مؤنسا كان يفهم ضرورة الشرعية وأنه انزعج لمقتل المقتدر إلا أنه كان وحيدا في إدراك هذا المعنى.. وهكذا، عاد الضعف إلى الخلافة والجناح المدني فعاد انهيار الدولة من جديد وواصلت الأيام سيرتها حتى أسلمها الحكم العسكري التركي إلى الاحتلال العسكري البويهي.

إن إصلاح الدولة العسكرية هو واحد من أصعب الأمور وأكثرها كلفة بالنسبة للشعوب، ونادرا ما استطاع شعب أن يتخلص من حكم عسكري قبل أن يصل إلى مرحلة الاحتلال الأجنبي، وهو إن استطاع هذا فبتضحيات عظيمة!

وحتى لحظة كتابة هذه السطور ما تزال دراسات العلاقات المدنية العسكرية تؤكد ضرورة خضوع القوة العسكرية للسلطة المدنية ذات الشرعية.

إن طابع الإسلام المدني في الحكم والسياسة ظاهر بوضوح، ومن المؤسف أن يكون هذا جليا لمستشرق مثل جوستاف جرونيباوم –لدينا على إنتاجه ملاحظات وتحفظات- في الوقت الذي لا يكون ظاهرا لبعض أبناء الأمة الإسلامية، وقد رأينا أن ننقل من كلامه هذه الفقرة؛ قال بعد حديث عن الجهاد والشهادة في نظر المسلمين:

«ومع ذلك فإن الحضارة الإسلامية حضارة مدنية، فإن أَضْرُبًا مدنية من صور التطور الإنساني كالعالِم والولي والأديب قد اجتذبت إليها معظم طاقة الإسلام الخلاقة، والمدني يعلو على الجندي في ترتيب الطبقات الاجتماعي، والمفروض أن للوزير –وهو موظف مدني- حق الأسبقية على القائد، يدلك على ذلك أن ما عُقِد من الأبحاث على نظرية الحكم يبحث منصب الوزارة قبل إمارة الحرب، وكثيرا ما تولى الجند –بوصفهم طائفة- حكم الدولة الإسلامية، ولكن هذه السيادة الواقعية (غير الشرعية) لم تغير بأي حال «الإجماع» المنعقد على أن رئاسة الدولة وظيفة مدنية... ومهما يُكْثر الخلفاء من تولي الإمرة على جنده بشخصه، ومهما يكثر الشعراء من التغني بشجاعته، فإنه لم يكن إلا موظفا مدنيا أولا، وجنديا حين تلم المُلِمَّات. وصور الإنسانية المثالية التي هي من خواص الحضارة الإسلامية إنما تتمثل شخصية غير عسكرية وإن واصل القوم استحسان الفضائل العسكرية»

جزء من المجلد الثاني "العباسيون الضعفاء" من كتابي "رحلة الخلافة العباسية"

الاثنين، يناير 07، 2013

ولا ينئبك عن "كباريه الأندلس" مثل بلال فضل!

يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في موسوعته الفريدة الشهيرة "إحياء علوم الدين": "إذا دخل بزاز ونجار وبناء وحائك داراً معمورة مفروشة فإذا تفقدتهم رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها والحائك ينظر إلى الثياب يتأمل نسجها والنجار ينظر إلى السقف يتأمل كيفية تركيبها والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها، فكذلك سالك طريق الآخرة لا يرى من الأشياء شيئاً إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة".

قد يمر بك اسم الأندلس، فيتذكر السياسي عظمة الداخل وهشام ثم الناصر والمستنصر ثم الحاجب المنصور والمظفر، ويتذكر المجاهد بطولات موسى بن نصير وطارق والغافقي والسمح بن مالك وغالب الناصري وابن تاشفين ويعقوب الموحدي ويعقوب المريني، ويتذكر المهندس عظمة الزهراء والحمراء وجامع قرطبة وقنطرتها، ويتذكر الفنان جمال الزخارف والدقائق والحدائق والنافورات، ويتذكر العالم روائع الاختراعات وتلال الكتب ويتأسف على ملايين المخطوطات التي حرقها الهمج الإسبان (قبل أن يتعلموا علم المسلمين)، ويتذكر طالب العلم مكتبات قرطبة وجامعاتها، ويتذكر الاقتصادي مصانع الأندلس وخزائنها العامرة، ويتذكر الزراعي ثورة الزراعة في تلك المنطقة، ويتذكر باحث التاريخ دور الأندلس في النهضة الإنسانية العالمية.. لكن بعض الناس –كبلال- يتذكر "كباريه الأندلس"!

ذلك أن بلالا –كما عرفنا من حكايته عن نفسه- كان موظفا بالأرشيف وله اطلاع على فضائح الفنانين في "زمن الفن الجميل"! وهو كاتب أفلام ومسلسلات منها ما يصلح أن يكون عنوانه "قصة كباريه" مثل فيلم "علي سبايسي"!!
قصتي طويلة مع بلال فضل، احترام كبير وانبهار مع كتاباته الشجاعة في جريدة الدستور، ثم يخفت بالتدريج حتى ينسحق تماما على مر الأيام! كيف وأنا أراه لا ينقد أستاذه بحرف، وأستاذه هذا كاد أن يخلع عاريا وهو يحرض العسكر على البقاء في الحكم وحل البرلمان وتأخير الديمقراطية خصومة في الإخوان!!

وقد ظللت احترمه حتى بعد أن تفضل علي بالبلوك في حوار على تويتر أيام انتخابات البرلمان المغدور، حيث قال بأن الناس لم تنتخب عبد المنعم الشحات لأنها رفضت رأيه في نجيب محفوظ! وساعتها رددت عليه بأن هذا تخريف، فالانتخابات المصرية لا تعتمد على آراء المرشح في نجيب محفوظ! وكفى دليلا على هذا ما أتحفنا به البوب –الذي يحبه بلال- عن أناس دخلوا التأسيسية ولا يؤمنون بالهولوكوست ولا يسمعون الموسيقى –ياللهول!- يا دير شبيجل!

رأى بلال أن تلك إهانة فحظرني (بلوك) رغم أني لم أقل بغير قوله: الأمة في شغل بهمومها عن رأي مرشحها في نجيب محفوظ، وهو ما حاول أن يعظنا به: إذ الأمة في شغل بهمومها عن الأندلس!

لكن بلالا انصرف هو الآخر عن هموم الأمة ليحدثنا عمن فرغت عقولهم من هموم الأمة (كما يراها)! ولا أحسبه كتب مقالا من قبل ينعى فيه فراغ عقول البعض من هموم الأمة ليحتفل بالفلانتاين.. وعلى كل حال، فهاهو الفلانتاين في الشهر القادم وسنرى هل سيفرد له مقالا هو الآخر، أم أن مقاله عمن تذكروا الأندلس فقط؟!

وكما قال أحد الشباب على الفيس بوك: "اعتبره فلانتاين يا أخي"!

***

إنما أقبل أن يندد بلال بالاهتمام بالأندلس لأن حيز الوطن في ذهنه وقلبه هو ما رسمه له سايكس بيكو، فذلك أمر تم منذ قديم، وقد استسلم له من استسلم وقاومه البعض وما يزال ولو لم يملك إلا المقاومة بالقلب.. أقبل هذا تجاوزا وجدلا، فمن منطلق كوني إنسانا أولا ثم كوني مسلما ثانيا يجعلني حزينا على سقوط الأندلس، ولئن كان سيسوء البعض أن أتحدث عن هذا لأني مسلم فإليك كلام رجل فرنسي غير مسلم، يقول: "شأن العرب المدني لم يَبْدُ في قُطْر ملكوه كما بدا في إسبانيا، التي لم تكن ذات حضارة تُذْكَر قبل الفتح العربي، فصارت ذات حضارة ناضرة في زمن العرب، ثم هبطت إلى الدَّرْك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب"، وهو ذات الفرنسي الذي تحسر أن العرب لم يفتحوا فرنسا فلم يصب "أوروبا النصرانية المتبربرة" مثلما أصاب إسبانيا من النور والحضارة وبقيت قرونا في ظلام الحرب الأهلية.. إنه الفيلسوف الفرنسي والمستشرق الشهير جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب".. وحيث أن بلالا يتفاخر علينا بكثرة كتبه التي قرأها دون أن يحدد لنا هل قرأها بالفعل أم طالع منها مجرد صفحات أم قرأ مجرد العناوين.. فها نحن نضع أمامه أرقام الصفحات كي لا يتعب في البحث عن صدق النقل (انظر: حضارة العرب ص135، 317).

لم يكن لوبون يريد بحسرته هذه على الأندلس استرقاق بنات بني الأصفر واتخاذهن جواري! كما لم يكن يعرف الشيخ الحويني كيف وقد مات قبل ولادة الحويني بأكثر من ثلث قرن.. كان باكيا على التسامح الفكري والديني والإنجار العلمي الحضاري الضخم، كان باكيا على المأساة الإنسانية الرهيبة التي جمعت أبشع ما في تاريخ الإنسانية: محاكم التفتيش وحروب الإبادة، كان باكيا على التاريخ المفقود والتراث الضائع الذي ارتكبه مغول أوروبا الإسبان فلم يشابهه إلا مغول الشرق في بغداد!

إلا أن بلالا لم ير في الشباب الذي أحيا ذكرى الأندلس إلا إرادتهم العودة إلى الأندلس، ويتساءل –وبراءة الإجرام في عينيه- وهل نعودها فاتحين؟ أم نفتحها بالكلمة الحسنة؟!

هذا السؤال وحده دليل على أن بلالا لم يقرأ شيئا في تاريخ الأندلس الذي أوحى إلينا أنه يعرفه أكثر من "أمتنا التي لا تقرأ" –كما يعايرنا- فنحن أمة الفتوح التي لم تتكرر في التاريخ، نحن أمة الفتوح التي رحبت بها الشعوب لما رأته من العدل والرحمة والتسامح، بل نحن الأمة التي انضمت الشعوب الفاتحة إلى جيوشها لتواصل مسيرة الفتح؛ ربما لا يعرف الكثيرون أن طارق بن زياد فاتح الأندلس إنما هو مغربي!!

ربما لم يقرأ كثيرا، لعله شاهد مسلسلات الأندلس التي أبدعها المفكر المؤلف وليد سيف، لكن ما جاء في هذه المسلسلات الساحرة بحق –والتي رأيتها أكثر من عشر مرات بحد أدنى- يجعلنا نزيد حسرة على حسرة بشأن ضياع الأندلس لا أن ننصرف عنها مهموين بالوطن! ثم لِمَ لم يستنكر بلال على وليد سيف وحاتم علي انشغالهما بالأندلس وسط سقوط عواصم العرب والمسلمين في فلسطين وأفغانستان والعراق؟!! أيعجب بالمسلسل –وهو في أثره أشد وأقوى- ويستنكر وقفة شباب في ميدان؟!

سأبشرك يا بلال، فإن المؤلف العبقري يعد الآن مسلسله عن سقوط الأندلس، وسيحكي فيه عن مأساة الإبادة، وسنرى كيف سيكون أثر هذا على المسلمين بعد أن يستوعبوا بعضا من الحقيقة!

لكن المأساة الأهم في تلك العقول؛ العقول التي ترى في الفتح المتسامح الرحيم عملا يثير السخرية ولا ترى في الإبادة الرهيبة عملا يستحق الاهتمام!

إنه أمر لا يجرؤ عليه إلا من جمع بين الجهل والاندفاع، فحتى العثمانيين –الذين يراهم البعض أقل الفاتحين التزاما بأخلاق الفتوح- لم يسع المستشرق اليهودي المتعصب ضدهم برنارد لويس إلا أن يشهد بأن البلاد التي فتحوها ظلت حتى بعد خروجهم منها "بلغاتها وثقافاتها ودياناتها، وحتى -إلى حَدٍّ ما- بمؤسساتها، كل هذه الأمور بقيت سليمة وجاهزة لاستئناف وجودها الوطني المستقل، أما إسبانيا وصقلية فليس فيهما اليوم مسلمون أو ناطقون بالعربية" (تراث الإسلام، بإشراف شاخت وبوزوروث، دراسة الإسلام والحرب ص228).. فهذا قول واحد من أعداء العثمانيين ومن أعداء الإسلام!

يخشى بلال أن تكون وقفة الأندلس حجة لليهود تبرر استرجاعهم لفلسطين، وفي هذا المقام أحب أن أطمئنه بأمرين: أن حروب الإبادة الإسبانية طالت الأقلية اليهودية أيضا (فها نحن ننصر ونذكر بمظلمتهم التاريخية) وبأن اليهود قد احتلوا فلسطين فعلا ولم يعودوا في حاجة إلى مبررات ولا غطاءات شرعية.. ولا أظنهم من كثرة ما أحرجناهم بالسلام ونزع المبررات قد تخلوا عن شبر واحد لكي نواصل مسيرة الإحراج ونزع المبررات!

ولأن بلالا لم يقرأ في تاريخ الأندلس فهو يظن أن الشباب أحيوا "ذكرى سقوط الخلافة في الأندلس" ولا يعلم أن الأندلس وقبل أربعة قرون من سقوطها لم يكن بها خلافة!

ولأن بلالا وطني أصيل فهو يرفض "الاحتلال التركي لمصر"، فوطنيته التي تنبع من حدود سايكس بيكو لا تقبل أن يكون الخليفة في القسطنطينية وواليه في مصر! ولا أدري لم حظى الأتراك بتهمة الاحتلال ولم يحظ عمر بن الخطاب بمثلها، وكلاهما جاء قبل أن يأتي الرسم المقدس من سايكس بيكو؟!!

ولأنه لا يفهم نفسية الشباب الذين وقفوا فهو يظن أنهم لو عرفوا مدى ما وصلت إليه الأندلس من انحطاط أخلاقي فسيجعلهم هذا يجعلون يوم سقوطها عيدا! يا سبحان مثبت القلوب والعقول! فهل تتمنى يا شيخ بلال سقوط مصر لما فيها من انحلال أخلاقي ولئن حدث فستحتفل به عيدا؟! من في الدنيا احتفل بسقوط جزء من دولته وأمته نكاية في انحلال أخلاقي ساد بعض طبقاتها المترفة حينا من الزمن؟!.. وهل نعتبر هذه دعوة للاحتفال بسقوط بغداد والقدس وكابول؟ ومن قبلها سقوط القاهرة والجزائر والرباط وكافة العواصم أمام جيوش الاحتلال؟!

ثم ما رأيك: ماذا لو أن هؤلاء الشباب استفادوا من درس التاريخ فوقفوا في شارع الهرم واقتحموا الكباريهات وحطموا الخمور ومنعوا الرقص لئلا يتكرر سقوط الأندلس في مصر؟!.. ساعتها ماذا سيكون موقفك؟ هل ستراهم دافعوا عن مصر من السقوط؟ أم هم إرهابيون ضد حرية الفن والإبداع و"الانحلال الأخلاقي"؟!

ثم تعال هنا يا شيخ بلال! قل من يساهم في هذا الانحلال الأخلاقي بأفلام من نوعية: أبو علي وعلي سبايسي وسيد العاطفي وخالتي فرنسا وحاحة وتفاحة ومحطة مصر، وكلها حب وأحضان ورقص وحشيش أحيانا؟!.. من الذي قص علينا قصص أم ميمي التي كاد ولدها أن يغتضبها عقابا لها على شتمه ثم عرفنا أنها عاشت وحيدة بعدما اختلفت مع زوجها في تأجير البيت للدعارة؟!

صحيح أنك لست كغيرك وأن هذه الأفلام والقصص أخف انحلالا من غيرها، وأن بعضا رائع وهادف مثل (خارج على القانون، وواحد من الناس).. لا تستغرب، كنت أتابع إنتاجك وقت أن كنت معجبا بك مهتما بمعرفة اهتمامتك وأسلوبك!

لكن الصحيح أيضا أنها وبأي مقياس أخلاقي فهي أفلام وقصص منحلة!.. هل ترضى بمنع أفلامك إنقاذا لمصر من مصير الأندلس؟!!

ما موقفك لو اتجهت طاقة الشباب لتحطيم "كباريه الأندلس"؟!!