الاثنين، ديسمبر 04، 2023

أين الطريق إلى نصرة غزة؟

 

أنهيت قبل فترة قراءة مذكرات موشيه ساسون، السفير الإسرائيلي الثاني في مصر، والتي ترجمت ونشرت بعنوان "7 سنوات في بلاد المصريين"، وهي تلك السنوات التي تلت اتفاقية السلام لتبدأ فيها عملية التطبيع (1981 – 1988م)، والواقع أنها مذكرات مفيدة للغاية، يحكي فيها السفير، بأقصى ما أوتي من مهارات سياسية وقدرات بلاغية قصة محاولة اختراق المجتمع المصري وإشرابه السلام مع إسرائيل.

وفي هذه المذكرات كثير من الأمور التي ينبغي التوقف عندها، إلا أنني أتوقف في هذا المقال مع ثلاثة أمور فحسب، هي الأخطر والأعظم فائدة في سياق حديثنا الآن عن كيفية نصرة غزة.

وها هنا أمر يجب بيانه: إن الحديث في نصرة غزة لا يختلف كثيرا عن الحديث في نصرة النبي ﷺ، وذلك من أربعة أوجه:

1.    نصرة غزة وبقية المسلمين هي من صميم نصرة النبي ﷺ، فإن نصرة المسلمين هو تنفيذ لتعاليمه ووصاياه ﷺ، وهو دفاع عن أمته ﷺ.

2.    نصرة غزة هي جزء من نصرة قضية المسرى، الأرض المباركة التي أسري به ﷺ إليها وعُرج به منها، ثم نزل ﷺ من السماء إليها كرَّة أخرى ليؤم الأنبياء والمرسلين! فهي أخصّ في النصرة مما سواها من القضايا!

3.    غزة ذاتها إنما انتفضت لأجل اقتحام مسرى النبي ﷺ ولأجل ما كان اليهود يتفوهون به من سب النبي ﷺ والإساءة إليه، وهو الأمر الذي شاهده المسلمون جميعا وعجزوا أن يفعلوا شيئا. فنصرة غزة إنما هي نصرة لأنصار النبي ﷺ، ودعمٌ وإسنادٌ لهم.

4.    لا تختلف الحركة في نصرة النبي ﷺ ضد الإساءات الموجهة إليه في فرنسا أو السويد أو الهند أو إسرائيل عن نصرة المسلمين في غزة، فإننا نجد أنفسنا في كل مرة مضطرين إلى إطلاق حملات إعلامية، وتدشين دعوات لمقاطعة اقتصادية، وإصدار البيانات والفتاوى، ثم نعجز عما فوق ذلك. وكثيرا ما نرى أنظمة الحكم قد عصفت بكل هذا وضربت به عرض الحائط وهرولت لعقد صفقة مليارية أو معاهدات اقتصادية جديدة، هذا إن لم تسلط إعلامها على تسفيه هذه الحملات والطعن فيها، وإن لم تسلط أجهزة أمنها على اعتقال هؤلاء الذين حاولوا نصرة النبي ﷺ!!

وبهذا نجد أننا، أعني الشعوب العربية المسلمة، في وضع لا يختلف كثيرا حين ننصر النبي ﷺ ضد الإساءات أو حين ننصر غزة ضد المذابح. إننا في عصر الدولة الحديثة التي تؤسس نظامها على أن تتحكم السلطة في كل شيء، فليس للإنسان أي قدر من الحرية خارج باب منزله، اللهم إلا أن يلهو ويأكل ويشرب ويطرب، فكل نشاط خارج المنزل هو نشاط يجب أن تأذن به السلطة. وما دام أن الوضع لا يختلف كثيرا، فإن البحث عن طريق الحل لن يختلف كثيرا.

 

أولا: سرُّ التغيير عند الحاكم وحده!

عرف موشيه ساسون أن مهمته في مصر ليست سهلة، ولما حضر إلى مصر قدَّر أن ثلاثة تخوفات تعترض طريقه، أهمها وأولها هو: ما مصير السلام إذا مات السادات؟

يقول ساسون: "كما هو الحال في كل الدول العربية في الشرق الأوسط: كل شيء يتم بواسطة الرئيس. كل القرارات الهامة، بما في ذلك قرارات عن الحرب أو السلام هي قرارات شخص واحد. "الزعيم"، وكثيرا ما يحدث أن الرئيس لا يكشف ما بداخل قلبه لأي شخص كان". ومن هنا فقد كان قرار السلام متعلقا ببقاء شخص السادات في سدة الحكم، وكان القلق سائدا ومسيطرا بشأن الوضع إذا ما اختفى هذا الشخص.

ولم تتأخر إجابة هذا السؤال، فبعد أشهر من قدوم ساسون إلى السفارة جرى اغتيال السادات أمامه في المنصة، وسارع الجميع إلى طمأنته وطمأنة إسرائيل بأن حسني مبارك هو ربيب السادات، وأن السادات قد أعدَّه لاستكمال هذه المهمة، وخرجت التصريحات الرسمية من المسؤولين، ومن أصدقاء السفير في الوزارات وأروقة السياسة، وحتى من جيهان السادات، وكلها يقول: لا تقلق! مبارك على خطى السادات.

وقد رأى السفير من مبارك ما جعله يستنتج في نهاية حصاد رحلته السياسية أن السلام قد استمر "بفضل شخص واحد: محمد حسني مبارك، لأنه لو أراد الرئيس مبارك، لكان في مقدوره –بعد اغتيال السادات مباشرة- أن يلغي بكلمة واحدة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، وذلك دون الكثير من المعترضين في الداخل ووسط هتافات العالم العربي كله... طالما لن يحدث في المنطقة شيء خطير جدا سيكون عمر اتفاقية السلام على الأقل مثل عمر الفترة التي سيظل فيها الرئيس مبارك جالسا على مقعد الرئاسة".

وبقية القصة معروفة، فلقد طال عهد مبارك لثلاثين سنة، وأنشأ جيلا من العسكريين ليس لهم من العسكرية إلا اسمها وزيُّها، بينما أحسنهم تاجر طامع، وأسوأهم عميل خائن، يشارك الآن بكل جهده في الحرب على غزة.

إننا نضيع الوقت والجهد والمال إذا لم نقصد إلى تغيير الحاكم، سواء أكان ذلك سلما أم حربا، بانتخابات أو بانقلاب أو بثورة أو بأي شيء آخر. والأمة المحبوسة كالسجين في زنزانته، إن لم يحتل لأخذ المفتاح فلا بد أن يكسر الباب أو يحفر النفق أو يقتل السجان.. وإلا ظل بقي في الأسر إلى أن يموت!

 

ثانيا: مصير الخيانة والتطبيع المرتعش!

أما التخوف الثاني الذي طارد موشيه ساسون فهو: هل سيبقى السلام قائما بعد إعادة كامل سيناء إلى المصريين؟

لمن لا يعرف فإن إسرائيل لم تستكمل انسحابها من سيناء إلا بعد ثلاث سنوات من توقيع اتفاقية السلام، أي أن السفير الإسرائيلي قد جاء وصار يسرح ويمرح في مصر ولا تزال سيناء محتلة!

ومصدر هذا التخوف لدى ساسون نابع من حقيقة أن الشعب المصري لم يكن مؤيدا للسلام مع إسرائيل، وأنه أجبر على هذا "السلام" بقوة السلطة وقهرها، وبينما كان السادات مندفعا في مسار التطبيع بلا حد إذ جاء اغتياله على المنصة فوضع حدَّا لهذا الاندفاع، وجعل مبارك يسير في مسار التطبيع بيد مرتعشة وإجراءات مترددة ومحاولات يوازن فيها بين التمسك باتفاقية السلام وترك مساحة للشعب لينفس عن نفسه.

وقد زادته السياسة الإسرائيلية حرجا وارتعاشا، فقد تصرفت إسرائيل في المنطقة بعربدة لم تبالي معها بأي إحراجات قد تسببها لمصر. لقد كان النظام المصري يسعى جاهدا لإقناع بقية الأنظمة العربية بفائدة السلام مع إسرائيل وضرورته، وبأن مصر لم تنخلع من مكانها ومكانتها العربية بهذا السلام المنفرد وإنما صنعت السلام لتستطيع حماية الدول العربية. وبينما هو كذلك إذ ضربت إسرائيل المفاعل النووي العراقي بعد ثلاثة أيام من لقاء السادات وبيجين في شرم الشيخ. ولما جاء مبارك غزت إسرائيل لبنان حتى اجتاحت بيروت ونُفِّذ تحت إشرافها مذبحة هائلة في الفلسطينيين (مذبحة صابرا وشاتيلا)، ثم اغتالت أبا جهاد في تونس، وغيرها من الأحداث. وبهذا وجد النظام المصري نفسه عريانا! وعايش الحقيقة الفاضحة! لقد اختطفت إسرائيل منه السلام، وجمَّدته واقفا في الزاوية لتستكمل هي عربدتها في المنطقة! ورأى العالم العربي الشقيقة الكبرى وقد استسلمت ووقفت تتفرج دون أن تجرؤ على فعل شيء!

وهذا هو التخوف الثالث الذي ضاق به صدر ساسون: ماذا سيكون مصير السلام مع مصر إذا دخلت إسرائيل حربا مع دولة عربية أخرى؟

في نهاية خدمته عاد ساسون وهو مرتاح لأسئلته الثلاثة؛ لقد بقي السلام بعد اغتيال السادات، وبقي بعد تسليم سيناء كاملة، وبقي رغم الحروب التي دخلتها إسرائيل مع العالم العربي. ولكنه مع ذلك عاد وفي صدره غصة: لأن التطبيع كان مرتعشا وبطيئا ومترددا، بل كان "ضحلا" كما يقول، وظل يتشكى من هذا الوضع حتى جلسته الوداعية الأخيرة مع مبارك.

وفي الواقع، لقد كان هذا البطء والارتعاش والتردد بفضل المقاومة، المقاومة التي كانت ذروتها اغتيال السادات نفسه. ومثلما كان اغتيال الملك عبد الله الأول ملك شرق الأردن قد عَطَّل قطار التطبيع العلني أربعين سنة، فقد عَطَّل اغتيال السادات التطبيع العلني أربعين سنة أخرى! وهذا ما صرَّحت به جولدا مائير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية في مذكراتها، حيث قالت: "قبل ستة أشهر من تأسيس الدولة (إسرائيل) تقابلت مرتين مع الملك عبد الله ملك شرق الأردن وجدّ الملك حسين. ومع أن كلا اللقاءيْن بقيا سرا... فلا أحد يعلم حتى اليوم مدى مسؤولية الشائعات التي انتشرت عنها عن اغتياله. والاغتيال مرض مستوطن في العالم العربي، وأحد الدروس الهامة التي يجب أن يتعلمها القادة العرب، وهي الصلة بين السرّية وطول الحياة. وقد أحدث اغتيال الملك عبد الله تأثيرا ظل قائما على كل القادة العرب الذين تلوه. وأذكر أن عبد الناصر قال لأحد الوسطاء الذين أرسلناهم إليه: لو أن بن جوريون جاء إلى القاهرة للتحدث معي فسوف يعود بطلا، أما إذا ذهبت إليه فسوف أُقْتَل عند عودتي. والواضح أن هذا الموقف ما زال قائما".

لكن السفير ساسون، ولأنه مكلَّف بمهمة تثبيت السلام وترويج التطبيع، بذل جهدا مضنيا لكي ينفي أي ارتباط لهذين الاغتياليْن بالعلاقة مع إسرائيل. ولكن مجهوده لم يغير من الواقع شيئا، لقد اضطر مبارك طوال عهده أن يسمح للشعب ونقاباته وجماهيريه بالإساءة إلى إسرائيل، ومنع السياحة إلى إسرائيل، وحظر التبادل التجاري، وأوقف العلاقات الثقافية، وسمح بمواد إعلامية تهاجم إسرائيل، ولم تجرؤ صحيفة على نشر بيانات السفير الإسرائيلي. كانت هذه طريقته لكي يحمي نفسه من الناس، ويمد يده إلى بقية الدول العربية، وليوصل إلى إسرائيل أنه ساخط على سياستها التي لا تأبه له!

يؤكد هذا أن هذا المسار الذي انتهجه مبارك كان ينحدر ناحية القرب من إسرائيل وتمكين التطبيع كلما شعر بأنه في أمان، وأنه قد قبض على زمام الحكم، حتى انهار تماما وصار مجرد شرطي في السنوات العشر الأخيرة من حكمه، لا سيما وقد أراد أن يضع ابنه جمال مبارك بعده!

لقد كانت المقاومة الشعبية لهذا السلام هي التي أجبرت الحاكم على أن يتزن ويداري خيانته ولا يتوغل فيها. وقد تعرض السفير نفسه إلى محاولتي اغتيال أثناء هذه السنوات السبع!

 

ثالثا: الناس على دين ملوكهم!

سرعان ما أفرزت سياسة السلطة نتائجها العفنة! في كل شعب أناس يطمحون ويطمعون وتحركهم مصالحهم، حتى لو أبدوا استعدادهم للخيانة! لقد استيقظت الخلايا التي أرادت الاستفادة من الوضع الجديد.

في الحفل الأول الذي حضره السفير في مصر، فوجئ برجل عجوز يقبل عليه ويسأله ثم يأخذه الحنين الشديد، ما كان هذا الرجل سوى كمال رياض مسؤول التواصل مع الإسرائيليين في عهد الملك فاروق، وأول من سعى للسلام معها قديما ولكن تعنت الإسرائيليين أفشل الأمر، فمن بعد ما اختفى طوال ثلث القرن استيقظ ليجدد الوصل مرة أخرى. وقد سار على هذا الدرب آخرون، ولقد كانت مهمة السفير أن يستكثر من هؤلاء وأن يبحث عنهم، فوجد بغيته في أسماء كثيرة، وروى مواقف عديدة له مع نجيب محفوظ وعمر الشريف وغيرهم من النخبة المصرية، فضلا عن أصدقائه الأعزاء من الطبقة السياسية والوزراء مثل: كمال حسن علي ويوسف والي وجيهان السادات وعبد الهادي قنديل الذي كان وزير البترول وغيرهم.

ولكن، جاء من وراء ذلك آخرون من عامة الشعب أرادوا أيضا أن يستفيدوا من الوضع الجديد، وأن تكون لهم علاقة طيبة بالسفير الإسرائيلي، أو أنهم سرعان ما استجابوا لأي بادرة بدأ بها السفير نفسه.

ومع ذلك فلم يصفُ للسفير ولم يطب له مقامه بالقاهرة، والسر في ذلك هو حصيلة الأمريْن اللذيْن ذكرناهما، لقد كانت حصيلة هذين الأمرين: انفراد الحاكم بالقدرة على التغيير، وكون الحاكم الذي جاء قد اتعظ من مصير الرئيس المغتال، أن سار حسني مبارك سيرة بطيئة مترددة مرتعشة، وعلى مثل مسيرته هذه سار كثير من الناس خلفه!

يقول ساسون: "علاقة الطبقة المثقفة في مصر بي كانت تتغير طبقا للأوامر، كل شيء حسب البارومتر السياسي"، بل ذكر السفير أن مجرد التلميح والإشارة من الرئيس كانت تترجم فورا إلى صلة أو قطيعة. فإذا كان مبارك راضيا فإنه يذكر السفير بقوله "السيد ساسون"، فكأنها كلمة سحرية تفتح له الأبواب، وأما إن كان ساخطا على إسرائيل فهو يقول: الخواجة ساسون أو المستر ساسون، فعندئذ تنغلق الأبواب المفتوحة!

وإذا أقام السفير حفلا في بيته جاء إليه أولئك المتسلقون، فإن وجدوا حضورا رسميا في الحفل رضوا وأكلوا وشربوا وطربوا، فإذا لاحظوا غياب التمثيل الرسمي انسلوا خارجين وما كادوا يجلسون!

يقول ساسون: "في دولة مثل مصر وحتى أيامنا هذه، كل شيء فيها طبقا لما يقوله الرئيس "الريس"، فإن تصريحات الرئيس أو تصرفاته تجاه إسرائيل لها آثارها المباشرة على تصرفات الطبقة الحاكمة في مصر".

إن الحكام يستطيعون إفساد الشعوب بأشد مما تستطيع الشعوب إصلاح الحكام، ويبلغ الأمر معهم حدًّا خطيرًا، فإن بعض الذين استأنسوا بالسفير وبادلوه ودا بود، كانوا أقارب لشهداء سقطوا على يد الإسرائيليين، وأحيانا كانوا عسكريين قد أصيبوا بالفعل في حروبهم مع الإسرائيليين! ومنهم ذلك العقيد الذي صار مديرا للمتحف الحربي وقد أصيب بالشلل لفترة أثناء عبوره القناة!

إن أشد ما في هذه المذكرات من الآلام قصة المرأة التي كانت تعمل خادمة في بيت السفير الإسرائيلي، لقد كانت أرملة شهيد أخذ إلى الحرب وقتل فيها، ثم لم يكفها المعاش الذي تصرفه الحكومة لها، فاضطرت أن تعمل خادمة، ثم ساقتها المقادير إلى أن تخدم سفير الذين قتلوا زوجها!! والأشد مرارة من هذا أن المرأة لا تعرف شيئا عن إسرائيل ولا عن الحرب.. لقد سلبت السلطة منها زوجها، ثم سلبت حقها في الحياة الكريمة، ثم سلبت وعيها حتى لم تعد تعرف عدوا من صديق!

ومثلها ذلك الفلاح الذي قُتِل أخوه في الحرب ثم فوجئ أنه سيعمل تحت إشراف خبير إسرائيلي، ولكنه لشدة الفقر وضيق الحال اضطر أن يكمل عمله وهو كاره، حتى إذا ألف اليهودي لم يعد يشعر معه بغضاضة! وأشد من ذلك أن من الفلاحين من لم يكن يعرف شيئا عن إسرائيل ولا أين تقع، لقد مسخت السلطة بما نشرته من الفقر والحاجة طبيعة الناس، حتى صاروا كما قال ميخال سيلع (مشرف مشروع التعاون الزراعي) إن من الفلاحين من "لم يعرف حتى ما هي إسرائيل وأين تقع. يهتم المزارع المصري بشيئين: إعالة أسرته وإقامة منزل له".

 

الخلاصة:

إذا نحن لم نتخلص من الحكام الخونة فستكون النتيجة كالآتي:

1.    انكسار غزة وابتداء مسار آخره تدمير الأقصى

2.    توغل الإسرائيليين في بلادنا فوق ما توغلوا، وهيمنتهم عليها فوق ما هيمنوا

3.    انتشار الفقر والقهر سيجعل أبناءنا وبناتنا وزوجاتنا وأخواتنا خادمات عندهن! لا يعرفن عدوا من صديقا، ولا يعرفن لم وفيم حاربنا وحوربنا، وقاتلنا وقوتلنا!

وتلك هي المأساة العظمى..

نشر في مجلة "أنصار النبي ﷺ"، ديسمبر 2023

السبت، نوفمبر 25، 2023

إطلالة على تاريخ أفغانستان

  

في أكتوبر 1963 قال رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان لخلفه في المنصب أليك دوغلاس هيوم: "بني العزيز، ما دمت لا تغزو أفغانستان، فأنت في خير حال".

لم يتعلم الروس ولا الأمريكان هذا الدرس  من المسؤول البريطاني المخضرم، فتعرضت كلا الإمبراطوريتين الكبيرتين لهزيمتيْن مُذِلَّتَيْن، رغم الفارق الضخم غير المسبوق في ميزان القوى بين الطرفيْن، ولهذا فقد صدر عن كلٍّ منهما أقوال شبيهة بمقالة المسؤول البريطاني، بعضها كان صريحا، وبعضها غُلِّف بزخرفات سياسية معتادة.

يعني اسم "أفغانستان": أرض الأفعان، وهي مثل كثير من الدول الإسلامية لا تعبر حدودها الحديثة عن تاريخها العريق، إذ لا تزال الدول الحديثة تعاني من ملامح التشوه والاقتطاع التي نتجت عن الاستعمار الأوروبي في قرنيْ تفوقه: التاسع عشر والعشرين، ثم عن الصراعات الغربية التي تسابقت فيها المشاريع الكبرى للسيطرة على موارد الشعوب وعلى الطرق التجارية والمضايق المائية ونحو ذلك.

ولهذا يضطر كُتَّاب التاريخ في أغلب الأحيان أن يتعاملوا مع التاريخ الإسلامي العريق لهذه المناطق بشكل أغلبي، يتناول تاريخ المجتمعات التي عاشت والقوى التي سيطرت على الأجزاء الأكبر من المساحة الحالية المعروفة باسم هذه الدولة، وذلك ما سنفعله الآن.

تمثل المساحة الحالية التي تشغلها أفغانستان موقعا حيويا تلتقي عندها، تبدأ وتنتهي المشاريع الكبرى، فحين ننظر إلى الخريطة المعاصرة نرى أن أفغانستان تقع في القلب تماما من المشاريع: الصينية والهندية والروسية (السوفيتية سابقا) وهي من ثم البوابة الشرقية للعالم الإسلامي، في ظل الاحتلال الصيني المستمر لتركستان الشرقية، والذي قَلَّص عمليا حدود العالم الإسلامي ليقف عند أفغانستان.

لقد كانت الفتوحات الإسلامية –كما يقول ول ديورانت- "أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله"، وذلك لسرعتها الصاعقة التي جعلت منطقة مثل أفغانستان ترى الجيوش الإسلامية المنطلقة من الجزيرة العربية بعد سبع سنوات فقط من وفاة النبي محمد ﷺ، استطاع فيها المسلمون إزالة الدولة الساسانية الفارسية العريقة، وأخذوا في التمدد إلى ما ورائها، لهذا بدأ دخول الإسلام إلى مناطق أفغانستان الجنوبية والغربية منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، كانت تلك المناطق جزءا من البلاد التي عرفت قديما باسم "خراسان". وعندما قُتِل الخليفة الثاني في المدينة المنورة، وقعت بعض الاضطرابات في أطراف الدولة الإسلامية الشاسعة التي تمددت حينها من أفغانستان إلى تونس، ولكن سرعان ما استعادت الدولة الإسلامية قوتها، وأعيد فتح المناطق المضطربة والإضافة إليها في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فدخلت في عهده مدن بلخ وغزنة وسجستان والجوزجان.

ثم جاءت الموجة الثانية من الفتوحات الإسلامية في الدولة الأموية، والتي وصلت إلى مدينة كاشغر (عاصمة تركستان المحتلة الآن من قبل الصين)، وفيها دخلت مناطق وسط آسيا كلها في نفوذ الدولة الإسلامية.

ولما سقطت الخلافة الأموية التي اتخذت دمشق عاصمة لها، ورثتها الخلافة العباسية التي اتخذت من بغداد عاصمة لها، كان هذا التحرك إلى الشرق مما رسَّخ الوجود الإسلامي في المناطق الشرقية، من العراق وحتى الصين، فمهما ضعفت الخلافة العباسية المركزية، فإن الأسر المحلية التي تقاسمت السيطرة في تلك الأنحاء الواسعة كانت تحتفظ بثقافتها الإسلامية، بل هي قد أمدَّت الثقافة الإسلامية بعدد وافر هائل من العلماء والأدباء والشعراء والأمراء والمجاهدين. وفي هذه الأثناء أتمّ المسلمون فتح المناطق الشرقية والشمالية من أفغانستان، على يد أمراء محليين مثل يعقوب الصفار الذي أتم الفتح النهائي لكابل.

ومن بين هذا الحشد الطويل من الأسر الحاكمة، ستبرز بعض المدن الأفغانية التي كان لها نصيب خاص من إمداد التاريخ الإسلامي بأبطال كبار، وكانت منطلقا لدول عظيمة. في طليعة هذه المدن: مدينة غزنة التي سُمِّيت "الدولة الغزنوية" نسبة إليها، وهي الدولة التي إذا نظرنا إليها بالمنظار المعاصر اعتمادا على الحدود المعاصرة، فيمكن أن نطلق عليها: أول دولة أفغانية إسلامية.

استطاع أمير تركي منحدر من نَسْلِ والي مدينة غزنة التابعة للدولة السامانية الكبيرة، أن يقوي مركزه في مدينة غزنة، ذلك هو سبكتيكن الذي صار أحد أقوى أمراء الدولة السامانية بينما هي آخذة في الغروب، فكان سيفها الذي حاربت به الدول المناوئة في محيطها، كما أنجز عمليات توسع قوية في الأراضي الهندية، فوق إحكام سيطرته على بلاد الأفغان، ثم ورثه بعد ذلك ابنه محمود الذي كان ذروة الدولة الغزنوية، وهي التي ورثت القسم الجنوبي من الدولة السامانية الآفلة، ومحمود هذا هو فاتح الهند، الذي يلقبه بعض المؤرخين المسلمين بعمر بن الخطاب الثاني لقوته واتساع فتوحاته في الهند، ويحظى في التاريخ الإسلامي بمكانة عظيمة لفتحه الهند وقضائه على الدولة البويهية (وهي دولة شيعية سيطرت على الخلافة العباسية السنة لأكثر من قرن) في أقاليم المشرق، وعندما مات محمود (421هـ)، كانت دولته من أوسع دول عصره، ومن أهم الدول التي شهدها تاريخ الإسلام. وكان موته بداية تضعضع دولته وانحدارها حتى انهارت تماما (582ه = 1186م).

آلت أملاك الدولة الغزنوية في أفغانستان والهند إلى الدولة الغورية، وهي الدولة الثانية الكبرى التي تُنسب إلى مركز في أفغانستان، وذلك أن الغوريين كانوا يحكمون المنطقة الممتدة بين مدينتي هراة وغزنة، وكان مركزها في قلعة "فيروز كوه"، فكانوا أول الوارثين لأملاكها الأفغانية، ثم كان لهم جهادهم في تثبيت النفوذ الإسلامي في الهند والقضاء المبرم على دولة الأمراء الراجبوتيين (579ه = 1200م)، واستعادة الأجزاء التي تمردت في أقاليم السند (معظم باكستان الحالية)، وفتحوا بلاد البنغال، وقد اتخذوا من دلهي عاصمة لهم، فكانوا بذلك أول دول الإسلام في الهند، وبهم استقر الإسلام في الهند حتى انتهى على يد الاحتلال البريطاني مطلع القرن التاسع عشر.

بعد هاتين الدولتيْن –الغزنوية والغورية- عادت أفغانستان لتكون جزءا من ممالك إسلامية أكبر وأوسع، فقد كانت جزءا من الدولة الخوارزمية الكبيرة التي امتدت من تركستان الشرقية وحتى حدود العراق، وهي الدولة التي انهارت أمام العاصفة المغولية التي أطلقها جنكيز خان، والتي اجتاحت أفغانستان، ودفعت في مقاومتها ثمنا هائلا من تدمير المدن الكبرى والحواضر الثقافية والعلمية مثل هراة وبلخ وقندهار وغزنة، ولما مات جنكيز خان وانقسمت الدولة المغولية الكبيرة كانت أفغانستان جزءا من "الدولة الإيلخانية الفارسية"، وآل حكم الجزء الأكبر من أفغانستان المعاصرة إلى أسرة محلية من الطاجيك تعرف بالأسرة الكرتية.

وما إن بدا أن هذه الأسرة ستحقق نوعا من الاستقلال الفعلي في أفغانستان، حتى جاءت العاصفة المغولية الثانية على يد الأمير الأشهر تيمور لنك، وهي العاصفة التي عصفت بحكم الأسرة الكرتية، ودفعت أفغانستان ثمنا عظيما أمام تيمور لنك الذي طواها تحت ظل إمبراطوريته التيمورية، ووضع حفيده حاكما على المنطقة التي تشمل كابل وغزنة وقندهار.

في هذه الأثناء كان المغول قد دخلوا في الإسلام، وأنشؤوا نسخة جديدة من الحضارة الإسلامية المغولية في تلك الأنحاء، فالدولة الإيلخانية الفارسية كانت تعلن بالإسلام، لا سيما في عهد ملكها القوي محمود قازان ومن خلفه، وكذلك تيمور لنك كان يرى نفسه سلطانا مسلما، وإن كان أكثر العلماء يطعن في ذلك ولا يقبله منهما، وتلك تفاصيل لا يتسع لها المقام هنا، لكن المقصود أن النظرة العامة تفيد بأن كل هذه التقلبات التي جرت على أفغانستان والمنطقة إنما كانت تجري تحت الإقرار العام بسلطان الإسلام وبالثقافة الإسلامية التي تجذرت حتى سادت وغطت على ما سواها، وهذه الهيمنة للثقافة الإسلامية لا تمنع من بقاء الثقافات الأخرى لما عُرِف عن الإسلام من سماحة فريدة واعتراف بالديانات والمذاهب الأخرى، والتي لا تزال باقية حتى الآن في كافة أنحاء العالم الإسلامي.

تناوبت على أفغانستان الدول اللاحقة التي تنازعت المنطقة والسيطرة عليها مثل الصفويين وخصومهم، لكن اللافت للنظر هو أن أفغانستان سجَّلت واحدة من أطول فترات الاستقلال والحكم الذاتي ضمن الإمبراطوريات الكبيرة التي كانت لها السيادة عليها، ويظهر هذا بالاطلاع على أي مخطط تاريخي للأسر الحاكمة في المنطقة. ففيما عدا الفترات القصيرة نسبيا تحت حكم الخوارزميين والمغول والتيموريين، كانت أغلب الأجزاء تتمتع بحكم أسرة محلية وإن كانت تؤدي الاعتراف الرسمي والشكلي للمملكة الكبيرة. وبداية من 1740م عاشت أفغانستان تحت حكم مستقل حتى ظهرت، ولأول مرة، الجيوش الأوروبية.

كانت الإمبراطورية الإنجليزية قد تسللت إلى الهند، في القصة المعروفة التي كان بطلها شركة الهند الشرقية، ومن هناك تطلعت إلى مدّ نفوذها في الهند وفيما يليها من أقاليم السند (باكستان) والبنغال وأفغانستان، فدخلت على خط الصراع بين الأمراء المحليين المتنافسين على الحكم، ووقعت الحروب الأفغانية الإنجليزية الثلاث المشهورة، في مراحل متعاقبة (1839 – 1842م)، (1878 – 1880م)، (1919م). وبينما كانت إنجلترا تحاول أن تتمدد من الجنوب كانت الإمبراطورية الروسية القيصرية تحاول بدورها أن تتمدد من الشمال، مما جعل الحاكم الأفغاني بين ناريْن، ومضطرا أن يستعين بأحدهما على الآخر.

كان الإنجليز أسبق إلى أفغانستان من الروس، ولذلك فقد كانوا الأكثر تعرضا وتضررا من المقاومة الأفغانية الباسلة والمستمرة، إن المنطقة التي عاشت في الإسلام اثنا عشر قرنا لم تفكر قط في الاستسلام للغزاة المحتلين، لقد ترسخت فيهم العقيدة الإسلامية إلى الحد الذي صار يستحيل اقتلاعها أو حتى تخديرها.

دخل الإنجليز إلى كابل لأول مرة (1255ه = 1839ه) لإعادة الأمير شجاع الملك إلى الحكم ضد غريمه دوست محمد، وبينما ينسحب الجيش الإنجليزي خارجا إذ يفاجأ بانقضاض أفغاني عنيف قُتِل فيه حليفهم شجاع الملك، وكاد أن يباد الجيش، وأعيد دوست محمد إلى الحكم، وقضى فيه نحو أربعين سنة حاول فيها تجنب احتلال إنجليزي آخر، حتى مات وتولى الحكم بعده ابنه شير علي الذي اضطر أن يستعين بالروس لمواجهة الضغط الإنجليزي المتصاعد، فكان ذلك ذريعة إنجليزية لشن حرب جديدة على أفغانستان، عرفت بالحرب الأفغانية الإنجليزية الثانية (1878 – 1880م)، واضطرت للانسحاب مرة ثانية تحت ضغط المقاومة الأفغانية الباسلة التي راح ضحيتها الوزير الإنجليزي (المندوب السامي)، وبدأت مرحلة جديدة من النزاع الروسي الإنجليزي على أفغانستان، وهو النزاع الذي يتقوى ويتداخل ويشتعل من خلال الحلفاء والخصوم الداخليين للأمراء الأفغان، وهو الأمر الذي انتهى إلى اتفاقية روسية إنجليزية (1907م) تقضي باستقلال أفغانستان، وترسم حدود السيطرة الروسية في آسيا الوسطى وبين أفغانستان.

ظلت الهيمنة الإنجليزية مختبئة وراء ستار محلي، كما هي العادة الإنجليزية في إدراتها لمستعمراتها، مع السعي الحثيث لتحديث الدولة وترسيخ النظام المركزي ونشر عملائها وصنائعها في المواقع النافذة، وهو الأمر الذي قابله الأفغان دائما بالمقاومة، حيث طالت أيديهم هؤلاء الأمراء والملوك المنحازين للإنجليز، سواء باغتيالهم أو بالانقلاب عليهم ودعم خصومهم.

عندما بلغت الإمبراطورية البريطانية شيخوختها مع انقضاء الحرب العالمية الثانية، كان الروس يجددون قوتهم من خلال المارد السوفيتي الصاعد، وكانت كلا الإمبراطوريتين تفرضان نمطا ثقافيا يناقض الإسلام، ولكن الخفوت الإنجليزي ترك فراغا ملأه الصعود السوفيتي، فانتقلت النخبة الأفغانية المتغربة عبر فصول طويلة ومتشابكة ومعقدة إلى الجناح السوفيتي، وبقي الشعب يخط فصول مقاومته الصبورة العنيدة التي لا تعرف اليأس، والتي تثمر في كل محطة من محطاتها تهديدا خطيرا تشعر به الإمبراطورية العظمى، وذات ليلة قررت الإمبراطورية السوفيتية أن تنزل بجيوشها الهائلة إلى أفغانستان.

لم يتوقع أحدٌ أن يصمد المقاتلون الأفغان البسطاء للقوة العظمى التي تقتسم العالم مع الأمريكان، ولكن المفاجأة وقعت من جديد، وبعد بضعة أعوام بدا وكأن الوحش السوفيتي قد سُحب من عليائه ليتورط في مستنقع صغير في المشرق اسمه أفغانستان، وعندئذ، سعت الإمبراطورية المنافسة (الأمريكان) إلى تسهيل الدعم الواصل إلى أفغانستان، من بعد فصول طويلة ودامية تشبث فيها الأفغان بأرضهم وحقوقهم، حتى كتبت نهاية الإمبراطورية السوفيتية بيد أفغانية في أفغانستان، وبأيادٍ كثيرة –كان الأفغان في طليعتها- في بقية العالم.

انفردت أمريكا بالسيطرة على العالم منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، فيما كان الأفغان يلعقون جراحهم ويحاولون استعادة بلادهم، وفي تطور غير متوقع لفصول الصراع العالمي استطاعت أفغانستان أن تكون بؤرة الأحداث العالمية من جديد!

استطاع الأفغان عبر فصائلهم العديدة إخراج السوفييت من أرضهم، لكن انقسامهم الداخلي الذي لعبت عليه أطراف دولية وإقليمية كثيرة منعهم من الوصول إلى اتفاق لإدارة البلد بعد رحيل الاحتلال، فاندلعت حرب أهلية بأموال خارجية وأرواح أفغانية، وبينما بدا الأفق مسدودا لا يبشر بنهاية صالحة، انبثقت حركة صغيرة جديدة من طلبة العلوم الشرعية قادها طالب علم صغير السن اسمه الملا محمد عمر، وفي تفوق مفاجئ ومدهش استطاعت الحركة أن تسيطر على معظم أفغانستان وأن تعيد إليها الهدوء والأمان، وأن تجد عمقا سياسيا في باكستان التي كانت لها أسباب متعددة أخرى تجعلها تراهن على طالبان.

وفي تلك اللحظة كان العديد من المقاتلين العرب الذين قاتلوا في أفغانستان تلبية لواجبهم الديني، واستفادة من التسهيلات التي قدمتها لهم بلادهم للسفر إلى أفغانستان، ضمن المحاولة الأمريكية لإسقاط السوفييت، كان العديد من هؤلاء قد وُضِعوا في السجون لأنهم جاهدوا بإذن هذه الحكومات نفسها!! مما اضطر كثيرا منهم إلى التفرق في البلاد، ثم لما استقرت أوضاع أفغانستان تحت حكم الملا عمر وجد فيها هؤلاء ملاذا آمنا! وشعر الملا عمر بضرورة الوفاء لهؤلاء الذين جاهدوا مع شعبه وطاردتهم حكوماتهم، فاحتضن اللاجئين منهم.

من بين هؤلاء اللاجئين أسامة بن لادن، وعدد من قيادات الحركات الإسلامية من مختلف بلدان العالم، وجد هؤلاء أنفسهم قريبا من بعضهم، شكلوا جماعة جديدة عرفت باسم "القاعدة"، تشكل فكر هذه الجماعة من التجربة الأفغانية نفسها، لقد كانت الشيوعية خطرا داهما على سائر العالم الإسلامي، ثم إنها انقشعت فجأة حتى كأنها تبخرت من كل البلاد الإسلامية حين هُزِم الاتحاد السوفيتي. كان الدرس البسيط يقول: اضرب رأس الحية. والحية التي يراها العالم الإسلامي في ذلك الوقت هم الأمريكان، الذين يدعمون إسرائيل التي تحتل ثالث المقدسات الإسلامية، ويحاصرون العراق وأفغانستان، ويقيمون قواعدهم العسكرية في أقدس الأماكن الإسلامية، وينشرون القيم الأمريكية المناقضة للإسلام في كل مكان. وإذن، فطبقا للتجربة الأفغانية: ضرب الأمريكان في بلدهم يساوي انقشاع الأمركة والليبرالية من كل العالم الإسلامي.

لم يوافق الملا عمر على أن يمارس أسامة بن لادن أي عمل من داخل أفغانستان، ولكن أسامة رأى أن الحلم قريب وأنه لا بد من المحاولة، وأمريكا من جهتها لم تقصر في المجاهرة بالعداوة لأفغانستان ومحاصرتها والتهديد الدائم باجتياحها. وهكذا كانت النتيجة هي أحداث سبتمبر.

لم تكن الطعنة الغائرة في الهيبة الأمريكية أمرًا سهلا، ولكن الأفغان الذين ترسخت فيهم قيم الإسلام والوفاء للضيف واللاجئ لم يكونوا أقل صلابة وإصرارًا، كانت المطالب الأمريكية المعلنة: تسليم بن لادن وتفكيك المعسكرات وطرد الإرهابيين وإلا فهي الحرب، وقال الملا عمر: قدموا الأدلة على أن بن لادن هو الذي فعلها، ونقيم محكمة إسلامية محايدة له، وسأل أيضا: هل يضمن أحد ألا تغزو أمريكا أفغانستان إذا نُفِّذ لها ما طلبت؟! وهو السؤال الذي لا يملك أحد إجابته.

ما كان الصلف الأمريكي بأقل من الصلابة الأفغانية، وحدث ما هو معروف من الحشد العالمي لإنهاء حكم طالبان، وفي الأيام الأولى وجدت طالبان أن القوة النارية تفوق كل قدراتها، فقررت أن تنسحب وتشن حرب عصابات، سيكون النصر فيها للأصبر والأصلب. وبعد عشرين عاما من هذا التاريخ (2001 – 2021م) أثبتت طالبان أنها الأصبر والأصلب، وخرج القوات الأمريكية من أفغانستان لتكرر سيرة الإمبراطوريات المهزومة في هذه الأرض العنيدة.

نشر في مجلة zurzeit الناطقة بالألمانية، نوفمبر 2023

الاثنين، نوفمبر 20، 2023

طبقات المُطَبِّعين

 

علم الطبقات هو علم انفرد به المسلمون، ولم تعرفه الأمم الأخرى، وبه تميزت المدرسة التاريخية الإسلامية عن غيرها من المدارس التاريخية، وعن الحضارة الإسلامية نقلته الحضارات الأخرى.

وما هذا بعجيب، والسبب فيه أن المسلمين أصحاب أدق وأضبط مدرسة علمية تاريخية، وذلك أن علم التاريخ عند المسلمين هو فرع من علم الحديث النبوي الشريف وقد نبت في تربته، فإن المسلمين بعض دينهم تاريخ وبعض تاريخهم دين! فمن هنا نمت حركة علمية شديدة الصرامة لتدقيق هذا التاريخ بدافع ديني، فأثمر ذلك علوما لم تكن الأمم الأخرى تعرف مثيلا لها، منها علوم الحديث، ومنها علم التراجم والرجال والطبقات.

فأما علم الطبقات فهو علم يتتبع أجيال العلماء، ويشبهه بعض المعاصرين بعلم اجتماع المعرفة، إذ هو تتبع للانتقال العلمي بين الأساتذة والتلاميذ، ثم التلاميذ الذين يصيرون في الجيل التالي أساتذة لغيرهم، وهكذا.. وفي حياة أولئك، وفي هذه النوعية من الكتب نبصر أمورًا من تاريخ العلم والعلماء لا تكاد توجد في غيره، هذه الأمور هي أقرب إلى ما يسمى الآن "علم اجتماع المعرفة"!

وقد كتب علماؤنا في كل علم كتبا في الطبقات، فالمكتبة الإسلامية زاخرة بالكتب في طبقات القراء والمفسرين والحفاظ والمحدثين والفقهاء والنحاة والقضاة والشعراء والأطباء والفلكيين والحاسبين والمنجمين، بل نقل المقريزي في خططه عن كتاب في طبقات المزخرفين، كان عنوانه: "ضوء النبراس وأنس الجُلَّاس في أخبار المُزَوِّقين من الناس".

فحُقَّ لك عزيزي القارئ المسلم أن تشعر بالفخر لأنك ابن الحضارة الإسلامية.. وهذه مقدمة مُسَكَّرة أعطيها لك قبل أن أدخل بك إلى دهاليز المرّ وحدائق الحنظل، فلقد بدا لي أن نكتب في فرع جديد من الطبقات، وهو "طبقات المُطَبِّعين"!

والمُطَبِّع، كما لا يخفى على أبناء هذا الجيل، هو ذلك الخائن الذي يؤيد نشوء علاقة طبيعية مع المحتل الذي سلب بلاد المسلمين ولا يزال يقتلهم، ولكنه لفظ لطيف مهذب، ولك أن تتأمل ماذا يمكن أن يوصف به مسلم طالب بالاعتراف بحق الإمارات الصليبية في الوجود، ودعا إلى قبول وجودها وإنشاء علاقات طبيعية معها؟!.. لا وصف له إلا الخيانة! ولكن حيث أننا نعيش في عصر الخيانة نفسها فلا بد أن تبتكر الخيانة ألفاظا جميلة لتسويق نفسها، فخرج لنا هذا اللفظ المائع الغائم!

من الكتب الجيدة التي يمكن أن نستفيد منها في إنتاج كتاب "طبقات المُطَبِّعين": كتاب السفير الإسرائيلي الثاني في مصر، موشيه ساسون، حيث قد سجل الرجل ذكرياته في مصر، وأخرجها بعنوان "7 سنوات في بلاد المصريين"، وهو مترجم ومنشور.

وهو من كتب المذكرات المهمة التي قد نستعرضها في مقال يومًا ما، لكن الذي يهمنا منه الآن أن هذا الرجل، وعبر هذا الكتاب، يعطينا صورة عن نشأة التطبيع وعن المطبعين الرواد الأوائل الذين كانوا طليعة القافلة السائرة إلى مزبلة التاريخ!

وفي الحديث عن المطبعين الرواد الأوائل، لا بد أن نذكر شيئيْن:

الأول: أنهم –وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم- "من سنَّ في الإسلام سنّة سيئة فعليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا"، وذلك أنهم أول من اجترأ على الخيانة وفتح لها الباب ومهد الطريق لمن بعده.

والثاني: أنهم كانوا أكثر حياء وترددا وارتباكا ممن جاء بعدهم، فلقد كانوا يزاوجون ويراوحون بين ارتكابهم للخيانة وبين تسويقها للشعوب العربية المسلمة التي ترفضها باعتبارها مصلحة للعباد والبلاد وباعتبارها فكرة جديدة جديرة بالأخذ بها. وهو الأمر الذي اختفى تماما لدى المطبعين في الجيل الثاني، إذ لم يعد هؤلاء يترددون ولم يعودوا يبحثون عن الذريعة لتبرير خيانتهم، بل يرتكبونها جهارًا نهارًا، في فجاجة لا تعرف الخجل ووقاحة لا تعرف الحياء!

يذكر السفير موسيه ساسون أنه منذ تولى مهمته في مصر وهو يحمل ثلاثة تخوفات، أهمها: ماذا قد يكون مصير هذا السلام إذا تحاربت إسرائيل مع دولة عربية أخرى؟!

كان السادات ونظامه يُسَوِّقون قرارهم بالسلام المنفرد مع إسرائيل باعتباره قرارا جريئا وشجاعا وحكيما، وأن إسرائيل تفي بالتزاماتها وأنها أيضا تريد العيش بسلام، وأن حرب أكتوبر من الممكن أن تكون آخر الحروب، بل هي قطعا آخر الحروب بالنسبة إلى مصر. وكلما بدرت بادرة من إسرائيل توافق هذا المسعى زاد افتخار النظام المصري بحكمة القرار!

لكن الأيام لن تبخل بالإجابة، فلقد عملت إسرائيل على "خطف" السلام من مصر، ثم الانطلاق للتصرف في المنطقة كأن مصر لم تعد موجودة أصلا، ولذا ظل السادات يفاجأ بالقرارات التي تحرجه مثل ضم القدس وضم الجولان، ثم ضرب المفاعل النووي العراقي في صيف 1981م، وقد حصل ضرب المفاعل بعد ثلاثة أيام فحسب من اجتماع مناحم بيجين مع السادات في شرم الشيخ!! ومن الطريف هنا أن السفير سجَّل لقاءه الخاص بالسادات في الإسكندرية، حيث مارس السادات مشاهده الدرامية والمسرحية، وأخذ يحدث الهواء وهو ينفث غليونه ويقول: "الله يسامحك يا مناحم"، "ليه تعمل كده يا بيجين"، "شكلي إيه دلوقتي قدام السوفيت والروس؟!".. إلخ!

ولما جاء مبارك بعد السادات وجد نفس الموقف أيضا، إسرائيل تدخل إلى لبنان (1982م)، وتدفع بجيشها إلى أعماقه ثم تجتاح بيروت، ثم تقع مذبحة صابرا وشاتيلا حيث يموت فيها آلاف الفلسطينيين! ثم تغتال أبو إياد في تونس.. وهكذا!

والسلطة المصرية تشعر بأن كل تصرف من هذا النوع هو بمثابة الصفعة التي تُوَجَّه إلى سياستها، وإلى سلامها المنفرد مع إسرائيل. ومع ذلك فهي تصر إصرارا بالغا على أن كل هذا لن يؤثر على عملية السلام، وأن السلام خيار استراتيجي لا تراجع عنه، وهو الأمر الذي كان يزيد من اندفاعة إسرائيل، ويزيد من نجاح السفير في احتواء المشكلات!

لم يجد المطبعون الرواد الأوائل إلا أن يمطروا السفير برسائل الاحتجاج الرسمية، أو يمارسوا استدعاء السفير المصري من تل أبيب للتشاور، أو يمتنع رجالهم الرسميون عن حضور الحفلات التي يقيمها السفير الإسرائيلي، أو التباطؤ في تلبية طلباته للقاء مع الرئيس.. وهكذا! وذلك مع ترك المجال مفتوحا للصحافة والإعلام ليكتبوا ما شاءوا، وقد استغرب السفير أحيانا من هذا الوضع، وسفَّه من تفكير النظام المصري لو كان يظن أن مجرد هذه الأمور سيمثل ضغطا على إسرائيل!

لم يجد السفير الإسرائيلي مكانا في الصحافة المصرية لينشر فيها بياناته، وكان غاية ما يستطيع أن يفعله هو أن يتصل بإذاعة إسرائيل الناطقة بالعربية ليعرب عن مواقف إسرائيل ويبررها باللغة العربية! ولما حضر حفلا مسرحيا وفوجئ بردة فعل الصحافة امتنع عن حضر مثله، وكانت وقفة النقابات بالإضافة إلى هذا النوع الخجول من "الغضب" الذي يبديه النظام المصري، قد جعل السفير منبوذا رغم شدة اجتهاده في فتح العلاقات بين المصريين والإسرائيليين.

والآن، إذا حاولنا المقارنة بين طبقات المطبعين بين هؤلاء الرواد الأوائل، وبين هؤلاء المعاصرين فإن المشهد يبدو مدهشا، فالمطبعون المعاصرون قد صاروا نسخة صهيونية، إعلامهم وقنواتهم وصحافتهم تنطق بلسان صهيوني عربي فصيح! والناس ممنوعون من نقد إسرائيل على مواقع التواصل! فضلا عن التظاهر! وسائر المذابح التي تحدث لا تحرك في العلاقات مع الصهاينة شعرة! بل إن المطبعين المعاصرين شركاء أصلاء في هذه المذابح!

ترى هل تصور الرواد المطبعون أن يكتب أحد السائرين في قافلتهم عبارة تقول: "لك العتبى يا نتنياهو حتى ترضى"؟!

 نشر في مدونات الجزيرة

الاثنين، نوفمبر 06، 2023

هل أتاك نبأ الكتيبة المسلمة التي كادت تقتحم الأقصى؟

 


في سطرٍ منزوٍ لا يكاد يُلْتَفَت إليه من مذكرات الحاج أمين الحسيني، يروي أنه اعتصم بالمسجد الأقصى حين كان مُطاردًا مطلوبا للسلطات الإنجليزية التي كانت تحتل فلسطين، ولأن المسجد الأقصى ذا قدسية دينية فقد بقيت القوات الإنجليزية تحاصر أسوار القدس تحاصر المسجد الأقصى دون أن تقتحمه، وظل هذا الوضع لثلاثة أشهر.. ثم تفتقت العقلية الإنجليزية عن حل آخر؛ جاءوا بقوة عسكرية من مسلمي الهند (التابعين للجيش الإنجليزي) لاقتحام الأقصى والقبض على الحسيني ومن معه من المجاهدين. ولأن هذه القوة "المسلمة" لن تتورع عن انتهاك حرمة الأقصى، فقد اضطر الحسيني إلى المجازفة والمغامرة، ونفذ خطة هروب من الحصار ثم من فلسطين لكي لا تنتهك حرمة الأقصى!

إنها واقعة مصغرة وإرهاص قديم لما صار عليه الحال في عموم عالمنا العربي والإسلامي، فمع أن المحتل الأجنبي لا تنقصه العداوة ولا الإجرام إلا أنه يتورع عن انتهاك المقدسات خشية أن يكون انتهاكه هذا مثيرا لمشاعر الشعوب. وحينها: يأتي المحتل بالعملاء التابعين له ليؤدوا المهمة الأخطر والأقذر التي لم يتمكن المحتل من أدائها بنفسه!

إن ما يجري في الضفة الغربية بيد أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية لا يمكن أن يثير من الاستفزاز والإدانة والمشاعر مثلُ الذي يثيره ما تفعله القوات الإسرائيلية في نفس هذه الضفة الغربية!

كذلك ما ارتكبه جيش النظام السوري من جرائم ومذابح لم يُثِرْ شيئا يمكن أن يُقارن به ما أثارته الجرائم الشنيعة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة.

وعلى جهة أخرى، فثمة حاجة ملحة إلى التفكر والتأمل في الطريقة التي أمكن بها للاحتلال تجنيد عدد من المسلمين، إلى الحد الذي يجعلهم يرتكبون ما لا يمكن للاحتلال نفسه أن يرتكبه! فكيف قد اشتد وصعب على الكافر الذي لا يرى للمسجد الأقصى حرمة أن يقتحمه، ثم هذا الصعب نفسه قد هان وسهل على الجندي المسلم الذي يفترض أنه يُعَظِّم المسجد الأقصى تعظيما دينيا مبعثه القرآن والسنة والتاريخ الطويل الحافل الممتد لأسلافه المسلمين؟!

إن الجنود عادة هم أبعد الناس عن التفكير، وإنما يُغرس فيهم تقديس القيادة والولاء لها دون تردد، ولذلك فإنهم أكثر الناس ارتكابا لأشنع الجرائم دون أن يأبهوا ولا أن يفكروا لماذا اقترفوها، ومن ها هنا نفهم كيف يذكر الله هؤلاء الجنود إلى جوار فراعينهم، كما في قوله تعالى {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6]، وفي قوله تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8]، وفي قوله تعالى {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39].

ثم هو يركز على ذكرهم في العذاب والهلاك معهم أيضا: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، وتأمل معي في هذه الآية جيدا، وهي قوله تعالى عن فرعون وجنوده: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِين} [القصص: 40 - 42]

وجاء ذكرهم أيضا على وجه التفصيل في حديث النبي ﷺ: "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا"، فهنا ذكر النبي ﷺ أنواع الأجناد فإذا هم أربعة: الجيش والشرطة وجابي المال وخازنه!

وذلك أن الذي يتمتع بمزايا القوة والنفوذ، ومزايا المال والثروة، يكون ألصق بالحُكْم والحاكم مهما كان ظالما وفاسقا، وهو يسارع لتشرب قناعات الحاكم وأفكاره، بل قد يزيدها من عند نفسه ليرسخها في نفسه وعند غيره، بل قد يكون هو المحرض للحاكم على المزيد من ظلمه، كما في قوله تعالى عن حاشية فرعون: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].

ولهذا كانت نهاية لفرعون هي ذاتها الدليل على انطماس العقول والقلوب لدى جُنْدِه، فتأمل كيف أن المعجزة الواحدة التي رآها السحرة فآمنوا قد رآها معهم الجنود فلم يفكروا في الإيمان، بل انقلبوا لتعذيب السحرة وتقطيع أيديهم وأرجلهم. ثم تأمل كيف أن البحر قد انشق لموسى أمامهم وصار طريقا صلدا يسيرون عليه، فلم يؤثر هذا فيهم ولم يُخِفْهم ولم يحملهم على التردد في تنفيذ أمر فرعون، بل ساروا وراء زعيمهم فغرقوا معه!!

ولك أن تتخيل وتتأمل وتطيل التفكير في محاولة فهم نفسية الجندي الذي لم تؤثر فيه معجزة بحجم انشقاق البحر أمامه!!! فنفسٌ مثل هذه، أي شيء بعد هذا يمكن أن يؤثر فيه؟!

ولذلك نهى النبي عن الالتحاق بأجناد الظالمين وأجهزة أمنهم، فإنه نهي عن السقوط في بئر لا قرار له، وإلقاء للنفس في مهلكة لا نجاة منها!

لعل هذا قد يفسر كيف أن كتيبة مسلمي الهند المجندين لحساب الجيش البريطاني لم تكن لتتردد في اقتحام الأقصى للقبض على "الإرهابي" أمين الحسيني، وهو يفسر كثيرا من المشاهد المعاصرة ليس أولها مذبحة المسجد الأحمر في باكتسان، ولا آخرها إحراق مسجد رابعة في قلب القاهرة!

لسنا هنا للكلام عن الماضي وحكاياته.. لكن هذا المسلسل يجب أن ينبهنا إلى سؤال المستقبل: ترى متى ستقتحم الجيوش العربية فلسطين لتحارب إلى جوار إسرائيل ضد حركات المقاومة؟!

هل بدا لك السؤال غريبا أو موغلا في التشاؤم؟! لا بأس.. فبم تفسر إذن أن الجيش المصري الذي كان تابعا للاحتلال الإنجليزي قد ساهم في احتلال القدس عام 1917 تحت قيادة الجنرال الإنجليزي ألنبي؟ وكيف ساهم الجيش الأردني في تنفيذ قرار التقسيم تحت قيادة الجنرال الإنجليزي جلوب باشا؟!

دعك من التاريخ، بم تفسر كيف ساهم الجيش المصري الآن في تهجير قرية رفح المصرية وتدمير الأنفاق التي يعيش عليها أهل غزة ويسربون عبرها غذاءهم ودواءهم وسلاحهم؟!

إذا عدنا بالزمن قرونا وقلنا للناس وقتها: ما رأيكم أن يُقتل المسلمون في بلد، فتعمل الجيوش الإسلامية في البلاد المحيطة على حصارهم وإغلاق المنافذ عليهم.. هل تراهم يصدقون أو يستوعبون؟!

فإذا لم يكونوا ليصدقوا في ذلك الزمن، فماذا يمنع أن يأتي زمان قادمٌ يكتب فيه كاتبٌ من المستقبل: أن الجيوش العربية اقتحمت غزة والضفة الغربية لمساندة إسرائيل في القضاء على حماس والجهاد الإسلامي وبقية حركات المقاومة؟!

هل كنتَ تعرف أنتَ قبل أن أتلو عليك قصة أمين الحسيني أن كتيبة هندية مسلمة كانت ستقتحم المسجد الأقصى للقبض على الحسيني؟!

يجب أن نتوقع هذا الأسوأ، على الأقل لكي نتجنب أن يحدث..

إن الجيوش العربية تقوم بدور عظيم فعلا في حماية إسرائيل، وتكبيل الشعوب وإنهاكها وسلب مواردها وأبنائها.. ما بقي لها إلا أن تقوم بدورها الأخير في القتال معها! السؤال فقط: متى؟

السبت، نوفمبر 04، 2023

طوفان الواجبات.. وواجبات الطوفان

 تتبارى الأقلام في وصف المأساة، وتجفل أكثرها عن الذهاب نحو الحلول العملية والواجبات المفروضة، ولأننا هنا في ساحة "أنصار النبي ﷺ"، فلا يسعنا أن نبقى في الكلام المكرر المعاد، ولا أن نتبارى مع القائلين والكاتبين، بل لا بد لنا أن نذهب نحو الكلام المفيد، الكلام الذي ينبني عليه عمل.

 

(1) العلماء والفقهاء

أشد الناس محنة في هذا العصر هم العلماء، إنهم ورثة الأنبياء الذين أوكلت لهم مهمة بيان الرسالة بعد انقطاع عصر النبوة، شعارهم شعار الأنبياء من قبلهم {يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله}، وما تزال الأمة في كل حين تنادي عليهم أن قوموا بواجبكم في البيان والإنكار، بل في قيادة الأمة نحو التحرير، بل يشتط البعض ويفرط فيأخذ في إدانتهم وتقريعهم.

وبديهيٌّ أننا نتكلم هنا عن علماء الحق والصدق لا عن علماء السوء وطلاب الدنيا بالدين فهؤلاء إنما هم جزء من العدو، وهؤلاء يستحقون كل تقريع وتأنيب وإنكار.

العلماء في عصرنا هذا مكبّلون مقيَّدون بقيود كثيرة، وهم الآن يدفعون ثمن عصور الاستعمار الأجنبي وعصور الطغيان المحلي، حيث انتزعت من العلماء سائر مصادر قوتهم واستقلالهم، وحيث أزيحوا عن مراكز التأثير والنفوذ السياسي والقضائي والاجتماعي أيضا. وهذه قصة طويلة لا يتسع المقام لها، ولكن القصد أن نظام الدولة المعاصر قد سلب العلماء نفوذهم وجعلهم موظفين لدى الساسة وكبَّلهم في كل شيء لا بقيود الأمن والخوف والسجن فحسب، بل بقيود كثيرة من الراتب وتصريح الخطابة وإلقاء الدروس والخروج في وسائل الإعلام ونحوه!

فمن يطالب العلماء الآن بأن يجددوا عصر ابن تيمية والعز بن عبد السلام، كمن يطالب كتائب القسام ومجاهدي الشام أن يجددوا فتوحات ابن الوليد والمثنى والقعقاع! وكم من عالِمٍ نطق بكلمة حق فسيق إلى السجن أو إلى الموت، ولم يجد من الشعوب نصيرًا! فمصيرُ هذا العالِم يُثَبِّط غيره عن أن يفعل مثله! فكلا الطرفين مكبل: العالِم والأمة!

ومع ذلك فلا نهضة للأمة بغير العلماء، والعلماء هم أول الناس مسؤولية عن تغيير هذه الأوضاع، وهم أولى الناس بالتفكير في الحلول.. وإني لأحسب أن العلماء اليوم يحتاجون إلى عقد مجمع فقهي (ولو كان سرًّا، ولو كان من خلال الانترنت.. إذا لم يتسر لهم اجتماع آمن في عاصمة ما)، ليتباحثون في نوازل كهذه:

1.    لماذا تعجز الأمة عن مدّ يد العون إلى أهل غزة؟

2.    فإن كان هذا بسبب ضعف الأمة وخورها وانصرافها.. فلماذا؟ ومن أين نبدأ؟

3.    وإن كان هذا بسبب الحكام الذين يكبلون حركتها ويمنعون الأمة من نصرة إخوانهم.. فما سبب ذلك؟ هل هو عجز وضعف منهم؟ أم هو تواطأ وخيانة؟!

4.    فإن كان عجزا وضعفا فما السبيل إلى تقويتهم ودعمهم وتحويل عجزهم وضعفهم إلى قوة وقدرة؟ وماذا ينبغي على الشعوب أن تفعل؟ وعلى كل واحد في مكانه أن يفعل؟!

5.    وإن كان خيانة وتواطأ فما هو توصيفهم الشرعي؟ وكيف يمكن العمل على إزالتهم وإزاحتهم واستبدال غيرهم بهم؟ وماذا ينبغي عندئذ أن يقال وأن يُكتب وأن يفتى به لمن يعمل في جيوشهم وشرطتهم ومخابراتهم وإعلامهم؟ وكيف يمكن للشعوب التي يرى بعضها أن لهؤلاء طاعة عليهم أن تسعى في خلعهم؟

6.    وما حقيقة الموازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على بقائهم أو على السعي في خلعهم؟ هذا والسادة العلماء هو أول من يعرف أن حساب المصالح والمفاسد لا يتوقف عند الحال بل يمتد إلى المآل. ولا يتعلق فقط بهذه المعركة أو بهذا الجيل بل يمتد إلى غيرها من المعارك والأجيال؟

7.    وسواءٌ أكان الحكام في حال عجز أو حال خيانة، فما هو موقف الشعوب من الاتفاقيات التي أبرمها هؤلاء مع الصهاينة وحلفائهم؟ هل لهم أن ينتهكوها؟ هل لهم أن يخفروا أمانهم ويستهدفوا أفراد الصهاينة ومصالحهم في كل مكان؟ وإذا فعلوا فسُجِنوا أو قُتِلوا فما حكم الفاعل وما حكم الذي يأمر ويقضي وينفذ السجن والقتل على من استهدف صهيونيا؟!

8.    ما الرأي في توسيع المعركة خارج ديار فلسطين، واستهداف المصالح الصهيونية، والمصالح الداعمة لها في كل العالم؟

9.    ما الرأي في عمل العاملين في الشركات الأمريكية أو التي تغلب فيها النسبة للملاك الأمريكان، أو في شراء العلامات التجارية لهذه الشركات: سواء في الملابس أو المطاعم أو المقاهي؟

10.          ما حكم المتخلف عن نصرة إخوانه المسلمين بمثل هذه الأمور؟ وهل يلزمه التوقف في الحال أم مراعاة التخلص التدريجي مما هو فيه من اتفاقيات وعقود؟ وماذا يكون الموقف إن كان كل هذا لا يكاد يؤثر في المعركة القائمة أو كان لا يؤثر في أية معركة لضعف حجم تأثير المقاطعة في هذا المنتج أو هذه السوق أو تلك الشركة والعلامة التجارية؟

11.          هل يجوز لأهل غزة اقتحام الحدود المصرية طلبا للغذاء والدواء وحصولا على المساعدات المحجوزة عنهم؟ فإذا مُنِعوا من ذلك فهل لهم أن يقاتلوا أفراد الجيش المصري؟ وما حكم من سيقاتلهم من هذا الجيش؟

12.          هل يجوز لأهل الأردن اقتحام الحدود مع إسرائيل مع ما في ذلك من الخطورة عليهم، لا من قِبَل إسرائيل وحدها، بل من قبل الجيش الأردني أيضا؟ وذات السؤال يقال: في هذه الحال ما حكم القاتل والمقتول؟!

13.          وقبل كل ذلك وبعده، كيف يمكن التخلص من هذا النوع من النظام الذي سلب من الأمة ومن علمائها القدرة على الفعل، وجعل كل شيء محتكرا بيد السلطة وحدها، حتى صارت الأمة كالدجاج المحبوس في الحظيرة، مهما اخترقتها الحسرة واستهلكها البكاء لا تستطيع أن تفعل شيئا.. إن التفكير في الصيغة المعاصرة من النظام الإسلامي الذي تستعيد فيه الأمة قوتها والعلماء نفوذهم هو من أخطر ما يجب أن يشغل عقول أهل العلم.

هذه الأسئلة كلها يترتب عليها أمور كثيرة، وتفتح نقاشات أخرى في موضوعات أخرى، ولكن الخروج منها ولو بأقل قدر من الاتفاق هو مفيد للغاية في توجيه النظر الفقهي، وترشيد الخطاب الدعوي، وإلهاب الخطاب الوعظي.. وهو ضروري في توضيح وفهم الواقع المعاصر، وفي التماس الطرق وفتحها، والإشارة إلى الممكن والواجب من الأعمال! وما من شك في أن أمة الملياريْن فيها من يستطيع أن يفعل شيئا إذا جاءته الفتوى المناسبة، وكان هو في المكان المناسب!

إن تحت أهل العلم حشودا من الدعاة والوعاظ والكُتَّاب والإعلاميين، ممن يرقبون قولهم، ويستطيعون أن يعيدوه ويجددوه بوسائل وأساليب مختلفة. إن العالم الصادق لا يعرف كيف هو حجم تأثيره في نفوس المسلمين الصادقين، فإن المسلم ما إن يبصر عالِمًا يثق بعلمه وفهمه، ويثق بدينه، إلا ويكاد أن يكون له كالمريد المطيع، يشير فيجيب، ويأمر فيأتمر.

 

(2) العلماء التطبيقيون

إن أول ما يُستفاد من معارك أمتنا، بما فيها معركة طوفان الأقصى، أننا أمة لا تفتقر إلى الباسلين والفدائيين والاستشهاديين، فالعدو المتفوق المدجج بالسلاح وبعد ثلاثة أسابيع يتخوف من الدخول إلى غزة، لكنه يسكب عليها من نيران طيرانه ما لا قبل لهم به وما لا يتسنى لأحد دفعه!

لو تخيلنا أننا استطعنا أن نشل طيران العدو، أو أن نكافئ طيرانه بطيران لنا، لكانت نتائج المعارك كلها مختلفة. فمنذ أن ظهر الطيران في أوائل القرن الماضي حتى بدأت خسائرنا تتكاثر وتزداد بسرعة وقسوة، ومع أن أمتنا استطاعت بعد التضحيات الهائلة أن تتحرر في كثير من المعارك، وأن تنتصر بالصبر وطول الأناة، فإن كثيرا من المعارك انتهى بانتصار العدو لتفوقه في الطيران!

إن أمتنا أمام تحدٍ فظيع في مسألة الطيران، وهذه لا يقوم لها إلا علماء الهندسة والاتصالات والميكانيكا والمقذوفات ومن حولهم ممن يعملون في هذا المجال!

ونعم، مثلما نحن مكبلون في أمور كثيرة، فنحن مكبلون في ساحة البحث العلمي، سواء من جهة الإمكانيات المتاحة والخبرات الفنية، أو من جهة الخوف والرعب من السجون والمعتقلات.. ومع ذلك فلا سبيل إلا المحاولة والمقاومة والتفكير في الحلول.. لست أشك أدنى شك في أن الذي سيخترع حلا لمشكلة الطيران هذه سيخلد اسمه في الأمة بل في العالم كله لألف سنة على الأقل، وسيفتخر به حفيده بعد أربعين حفيد.. إنه سيعيد التوازن مرة أخرى بين الضعفاء والأقوياء، بين الشجعان المتشبثين بأرضهم وبين الجبناء الذين يقذفون بالنار من السماء!

والأمر هنا لا يتعلق بالطيران وحده، ربما يستطيع أن يفعلها مبرمج يخترق الشبكات أو الرادارات أو أجهزة التحكم المختلفة في التوجيه، وليس بعيدا أن يفعلها مهندس مبتدئ يهتدي إلى ثغرة ما أو إلى سلاح ما أو إلى تشويش ما، فيتمكن بذلك من شلِّ هذا التفوق الجوي الملعون!

وقد يفعلها آخرون من الكيميائيين أو من غيرهم، ممن قد يستطيعون اكتشاف مادة أو تركيبة أو سلاح بيولوجي أو كيميائي، يمكن أن يُحمل على رؤوس صاروخية مقذوفة، فيتيح للمقاومة أن تقذف عدوها بهذا النوع من السلاح، وتملك بهذا ورقة تفاوض بها وتساوم وتقايض، بأن أي قصف جوي للمدنيين سيقابل بقصف صاروخي بهذا السلاح البيولوجي أو الكيميائي!

إنني أكتب، ولا شك يبدو في كتابتي جهلي بالموضوع، وربما تثير بعض عباراتي سخرية المتخصصين.. ولن أدافع عن نفسي، فإنما القصد أن أثير بعض الأفكار، وأن أوجه النظر إلى أن مشكلة الطيران لن تتعلق بفنيات الطيران وحدها.

إن معارك الأمة يجب أن يحتشد فيها الجميع، وكل امرئ في مكانه أعرف وأعلم بما يستطيع أن يفعل، وهو إذا كان صادقا وحاملاً للهمّ حقا، فستنبثق في ذهنه الأفكار الغزيرة والوسائل العديدة التي يمكنه أن يفعلها. إن سائر العلوم المدنية التي تستخدم في التطبيقات المدنية كتصنيع الثلاجات والغسالات والتكييف والكمبيوتر وغيرها من الأجهزة تقوم على قوانين علمية، وهذه القوانين يمكن بقليل من التفكير أو بكثير منه أن يستفاد بها في التطبيقات الحربية لتكون سلاحا بين يدي المجاهدين.

 

(3) علماء العلوم الإنسانية

إن مجالات العلوم الإنسانية مثل: علم النفس والاجتماع والاقتصاد والإعلام والتربية والتاريخ والفنون بأنواعها هي من أهم وأخطر أنواع العلوم، على رغم ما يكتنفها من مشكلات داخلية ومن قيود مكبلة كالتي تفرض على الجميع.

ومع ذلك فإن المجدّ المجتهد المخلص في شيء من هذه العلوم يستطيع أن يفعل الكثير والخطير والمهم أيضا، فإن الله تبارك وتعالى قد أودع في النفس البشرية قوانين وسننا، وأودع مثلها في المجتمعات، وظهرت ثمار هذا كله في حركة التاريخ.. إن اللوحة التي يرسمها حاذق مهموم، أو بيت الشعر الذي يخرج من عقل ذكي وقلب ملتهب، أو الخطبة التي يهدر بها صادق مخلص، أو المقال الذي يكتبه بصير خبير بطبائع النفوس... إلخ! كل هذا يساهم في تحويل الآراء، وتجنيد الفدائيين، وتبصير الغافلين! وهل الفدائي البطل إلا ثمرة كلام كثير صنع نفسه وشكّل عقله واختلط بروحه؟!

لكن معضلة مجالات العلوم الإنسانية هي في كثرة الكذب والوهم والخيال، وفي صعوبة التفريق بين الحق والباطل، إن الآلة التي يصنعها المهندس لا مجال فيها للوهم، فهي تعمل أو لا تعمل، وإنما مشكلة المهندس: هل يستعملها في الخير أم في الشر؟ في المهم والضروري أم في الترفيه والتمتع؟.. أما الكلام الذي يقوله عالم نفس أو اجتماع أو اقتصادي أو تربوي أو مؤرخ أو إعلامي فمعضلته الحقيقية أنه لا يمكن اكتشاف الكذب والوهم فيه إذا أُحْسِنَتْ زخرفته وصياغته.. ولهذا كم راجت من أوهام وخرافات وأكاذيب تلبست بلباس العلوم ونطق بها من يقال عنهم خبراء وأساتذة!

وهنا تأتي معضلة الأمانة: فالواجب ألا يتكلم في الشأن إلا من كان على علم بما يقول، وكان في قوله هذا صادقا متورعا. ثم الواجب على المستمع أن يتأمل في القائل، فلا يتبع إلا من يثق في دينه وفي علمه معا.

 

(4) وآخرون من ورائهم

قد وزَّع الله الأرزاق والمواهب والقدرات.. سيظل العلماء في كل مجال محتاجين إلى آخرين من ورائهم، سيحتاجون إلى آخرين لم يرزقوا موهبة العلم في أي مجال لكن رزقوا مواهب أخرى، وهذا موضع اختبار الله لهم:

1.    فمن أولئك من رزق المال والقدرة على الكسب وأنعم الله عليه بالثراء، فمثل هذا عليه واجب الإنفاق والدعم والرعاية لكل هؤلاء السابقين.. فكم في بلادنا من أقعدته الحاجة والانشغال بها عن السعي في قضايا الأمة والتفكير في شأنها!

2.    ومنهم من رزق الشهرة والانتشار الواسع، فمثل هذا عليه واجب التعريف بهم والدلالة عليهم وتوجيه الأنظار إليهم.. فكم في بلادنا من أذكياء أفذاذ لا يُعرفون، فلو كانوا قد أتيحت لهم النوافذ المناسبة لجنت الأمة من ورائهم الخير الكثير، ومن يدري: لربما استطاع بعضهم تغيير التاريخ!

3.    ومنهم من رزق علاقات كثيرة ممتدة ومتنوعة، فمثل هذا عليه واجب تيسير الطريق لهم، ليوضع كل امرئ في موضعه ويتوسد الأمر إلى أهله.. فكم في بلادنا من كفاءات مطمورة مدفونة لم تستفد منها الأمة لأنها لم تعرف أو لم تستطع أن تكون في المكان الصحيح.

4.    ومنهم من رزق القدرة على الإدارة والتنفيذ، فهو قادر على أن يسمع ويفهم، ثم هو يستطيع تجسيد الأفكار في مؤسسات وشركات يعجز عن إنشاء مثلها الخبراء أصحاب الأفكار، فمثل هذا عليه واجب جمع الطاقات المتناثرة وتنظيمها.. فكم في بلادنا من متناثرين لا يعطلهم عن العمل الجاد ولا يعطل الأمة عن الاستفادة بهم إلا افتقادهم لهذا المدير!

وآخرون لا أستطيع أن أحصيهم ولا يستطيع خيال كاتب أن يجمعهم! ولكن في ما مضى إشارة كافية.

إن طوفان الأقصى، وما نراه من العظمة التي يسطرها إخواننا في فصائل المقاومة! ثم ما نراه من حمام الدم الذي يسيل، يفرض علينا طوفانا آخر.. ذلك هو: طوفان الواجبات.

نشر في مجلة أنصار النبي ، نوفمبر 2023