الأربعاء، يونيو 26، 2019

لماذا يستطيع أمثال مدحت شلبي أن يحكموا مصر؟


يعيد الفيديو المشهور لمدحت شلبي الحديث مجددا عن مستوى ثقافة العسكر الذي يحكمون بلادنا بالظلم والقهر. فاللواء السابق الذي بلغ السبعين من عمره لا يعرف خريطة الوطن العربي، ويطلب بكل براءة من ضيفه الموريتاني أن يتحدث باللغة الموريتانية، ثم يندهش للغاية حين يعرف أن موريتانيا بلد عربي وأن أهلها يتكلمون العربية كلغة أم.

يشبه الأمر أن تسأل إنجليزيا وببراءة: أين تعلم الإنجليزية؟ ولماذا اسمه يبدو إنجليزيا للغاية هكذا؟! ثم يتصادف ولسوء الحظ أن يكون هذا الإنجليزي من بلد اشتهر بالشعر الإنجليزي.

لأن مدحت شلبي نفسه لا يستطيع التحدث بالعربية لخمس دقائق من تلقاء نفسه، فهو بالضرورة لا يعرف أن موريتانيا وعلماء بلاد شنقيط هم الذين يضرب بهم المثل في الحفظ وإنشاء الشعر، حتى كاد كل علم لديهم يتحول إلى منظومة شعرية، حتى القوانين الوضعية نظمها بعض علمائهم في قصائد شعرية بلغت آلاف الأبيات.

على أن هذا ليس أخطر ما في الأمر، الخطوة الحقيقية كامنة في أن مدحت شلبي وأمثاله هم النخبة السياسية والإعلامية الحاكمة الآن في مصر، لا يعرف الواحد منهم وقد بلغ السبعين خريطة الوطن العربي ولا أسماء البلاد العربية، فضلا عن أن يعرف ما وراء ذلك عن تاريخها وثقافتها وشعوبها.

ليس هذا الموقف الأول ولن يكون الأخير، إنما هو حلقة في سلسلة ممتدة لا تبدأ برئيس يرى نفسه طبيب الفلاسفة ولا تنتهي بعسكري صنع جهازا لعلاج الإيدز بالكفتة!

إنها لعنة الجهل المسلح.. وحين يُمسك الجاهل بالسلاح تخضع له رقاب الآخرين، ومنهم من يطمع فيما لديه من الدنيا فينشيء فيه الأشعار ويفلسف له جهالاته ويبتكر له النظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من تخريفاته حكمة وفصل الخطاب.

لكن: إذا كانوا جهلة فكيف تسنى لهم أن يحكموا ويقهروا العلماء والمثقفين؟ وإذا كان السيسي وفريقه على هذا القدر من الحماقة فكيف استطاعوا خداع أساتذة الجامعة حتى أنزلوهم من سدة الحكم وألقوهم في غيابات السجن وعلَّقوهم على أعواد المشانق؟!

يمكن أن يكون هذا السؤال مثيرا للاستغراب في حالة واحدة: أن يكون هؤلاء قد وصلوا إلى ما هم فيه بإمكانياتهم وقدراتهم الذاتية، أما وحيث كانوا مجرد أدوات تابعة ومُسَيَّرة ومُوَجَّهَة بواسطة الريموت الأمريكي، فإن العجب يزول.

يتعلم العسكر وعناصر الأمن في بلادنا فنون الحكم والسيطرة على الشعوب، والكليات الأمنية والعسكرية في البلاد العربية متطورة المناهج في هذا الجانب، وقد أتيح لي قبل سنوات الجلوس إلى أحد أولئك الذين درسوا في ظرف استثنائي في كلية أمنية فاطلعت على شيء من هذا الجانب. وهو ما يفسر كفاءة العنصر الأمني في مراوغة وتوظيف وخداع من كانوا أكبر منه سنا وأغزر علما وأوسع ثقافة، مثلما يستطيع الجاسوس أن يتقن مهمته في التنكر والتقنع بشخصية أخرى ويخدع بهذا من يفوقه في سائر العلوم والمعارف الأخرى.

وما قصة أمتنا في خلال القرن الماضي إلا قصة أمة باسلة بذلت الدماء والأرواح ثم سُرِقت منها الثورات وحروب التحرير والاستقلال على موائد التفاوض وبالاختراقات الأمنية وبتصعيد العملاء والجواسيس.

لم يكن عبد الناصر –مثلا- أذكى الناس في مصر، لكنه استطاع أن يصعد فوق أكتاف الجميع، بعض السر يتكشف حين تنظر في كتب مايلز كوبلاند وولبر كراين إيفيلاند وغيرها من الكتب التي روت كيف صُنِع حكم عبد الناصر، ولكن الذي يهمنا الآن أنه بينما يضطرب المفكرون والمثقفون ويختلفون اختلافا واسعا حول ما يجب فعله فيما بعد الثورة فإن الخبراء الأمنيين لا يختلفون كثيرا على إجابة هذا السؤال، في كتاب مايلز كوبلاند "لعبة الأمم" سنجد نصائح ثمينة لحكومة جاءت بعد ثورة، هذه النصائح تمثل خلاصة العلوم الاجتماعية والسياسية والخبرة التاريخية، قُدِّمت لعبد الناصر الذي لم يكن مؤهلا لأن يصل إليها بنفسه.

ولا ريب أن السيسي، وقد اعترف أنه كان على تواصل يومي بوزير الدفاع الأمريكي في فترة ما قبل الانقلاب وما بعدها، لديه من يأمر ويشير ويوجِّه من الخبراء الأمريكان، فإن قدراته الذهنية كما تتضح من خطاباته أضأل وأقل من أن تُمَكِّنه من ممارسة الحكم بكفاءة.

فالركن الأول من إجابة هذا السؤال تكمن في أن هؤلاء العسكر وأجهزتهم الأمنية لم ينتصروا على أساتذة الجامعات والمثقفين بمجرد مواهبهم الذاتية، وإنما لأن خلفهم دعم جبار من مراكز صناعة الحكام والحكومات وإسنادها، لا بمجرد الخبرة الأمنية والعسكرية فحسب، بل بالخبرة السياسية والتاريخية كذلك.

والركن الثاني أن دراسة العلوم الأمنية أهم في وظيفة الحكم من دراسة العلوم الأخرى، والمبتدئ في الدراسات الأمنية يستطيع أن يُوَظِّف الخبير في الهندسة والكيمياء وغيرها. والعلوم الأمنية ليست فرعا مستقلا من العلوم بل هي في واقع الحال خلاصة العلوم الإنسانية: السياسة والاجتماع والإدارة وعلم النفس ولكن في صورة عملية أكثر من كونها دراسة نظرية. فتدريبٌ واحد على فنون الإقناع أكثر أهمية ونفعا عمليا من دراسات مطولة في علم النفس والاجتماع ونحوه. ومنذ أن انفصلت العلوم الاجتماعية عن الفلسفة النظرية، أو لنقل: منذ أن تخلص حقل العلوم الاجتماعية من هيمنة الفلسفة وصار يعتمد على التجارب العملية لا على البناء النظري الفلسفي، منذ ذلك الوقت فإن العلوم الاجتماعية أمكن توظيفها عمليا على يد المؤسسات من بعد ما كان الحال مقتصرا على كونها مواهب إنسانية يتمتع بها الزعماء.

وبدون الخوض في هذا التفصيل النظري بين فروع العلوم، فالذي يهمنا في هذا السياق أن التدريب الذي يتعرض له عنصر أمني ليؤدي مهماته بكفاءة يجعله أقدر على هضم وتوظيف خلاصات العلوم الاجتماعية أكثر بكثير من أساتذة تدريسها نظريا في الجامعات! بل ويمكنه توظيف هؤلاء لصالحه أيضا!

مدحت شلبي الذي يعرف تفاصيل حياة لاعبي الكرة الأجانب لا يعرف أن موريتانا دولة عربية، لكن الوظيفة التي يتولاها مدحت شلبي في تسريب القناعات الدولتية السيساوية لجماهير الكرة تأتي بثمارها. وأحمد موسى الذي هو مثال في الجهل وانحطاط الأخلاق وقذارة اللسان يؤدي وظيفته في غراسة أفكار السيسي ونظامه في شرائح شعبية واسعة. لم يكن الجهل العام مانعا من أداء الوظيفة الصغيرة بكفاءة ضمن المنظومة الأكبر.

إذا وسَّعنا دائرة النظر أكثر، فسنرى عسكريا مثل القذافي يرى أن حل المشكلة في فلسطين بتسمية إسرائيل وإنشاء مسجد أقصى في أي مكان، هذا القذافي استطاع أن يحكم بلدا أربعين سنة!! المسألة ببساطة أن المعرفة التي تلقاها وأتقنها هي معرفة وسائل السيطرة على الحكم (مسنودا برغبة أجنبية طبعا) أكثر من معرفتها بقيمة وقداسة المسجد الأقصى.

لذلك يجلس أمثال القذافي في البحرين، يجتمعون لبيع مقدسات المسلمين، وربما يتمكنون من تنفيذ مخططهم هذا وإجبار الناس عليه، وليس يشعر أحدهم أنه يرتكب عار التاريخ وفضيحة الدهر وأنها السبة واللعنة التي ستطارد ذِكره ونَسْلَه من بعده. ذلك أن المعرفة التي تلقاها في المدارس الأجنبية أو الكليات الأجنبية أو البعثات الخارجية (وأغلب طبقة الحكام في بلادنا الآن نشؤوا في مدارس أو على الأقل كليات أجنبية أو بعثات خارجية) لم يكن في محتواها قداسة فلسطين والمسجد الأقصى. بل غاية ما يمكن أن تمثله فلسطين والأقصى في منظومتهم المعرفية أن تكون شعارا يُستعمل ويُوَظَّف كأداة في سياستهم الداخلية والخارجية.

كان لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني (1916 – 1922) يحفظ أسماء القرى في الأرض المقدسة (فلسطين) بينما كان يجهل جنرال عربي الأهمية العسكرية للقدس فلم يحفل بسقوطها كما روى أمين الحسيني في مذكراته، ومع هذا فلم يكن الجنرال العربي خائنا بل كان عربيا مخلصا كما ذكر الحسيني، لكن القدس وأهميتها العسكرية وموقعها الجغرافي لم يكن ضمن المعرفة العسكرية التي تلقاها.

لهذا ينتصرون علينا رغم أنهم جهلة بأبسط ما نعرفه، ولهذا ينهزم أمامهم أساتذة الجامعات رغم أنهم علماء ومثقفون.


الأربعاء، يونيو 19، 2019

رحل مرسي وبقيت قصته مثلا وعبرة


عند لحظة الانقلاب على مرسي لم يكن أحد يعرف أنه قد بقي في عمره أقل من ست سنوات، أي أنه في كل الأحوال لم يكن ليُكمل فترتيْن في الرئاسة، حتى لو فاز بفترة ثانية! فإن أجل المرء لا يتقدم ساعة ولا يتأخر منذ أن قدَّره الله ومهما كانت الأسباب.

وهنا يأتي السؤال: ماذا كان سيكون مصير مصر والمنطقة لو أن مرسي توفي رئيسا بعد استقرار تجربة الديمقراطية والحكم المدني في مصر؟ هل كانت مصر والمنطقة ستكون أحسن حالا أم أسوأ حالا؟!

يجب أن يقف أمام هذا السؤال أولئك الذين فرغ صبرهم بعد عام واحد من حكم الرجل، وها هم يسيرون في العام الخامس تحت حكم السيسي، الذي مهَّد لنفسه بتعديل دستوري لا يزال ساخنا ليستكمل به للحكم مدى الحياة!

لكن يأتي قبل هذا سؤال آخر أهم منه: هل كان يستطيع مرسي أن يستمر في الحكم؟ أم أن انتخابه من قبل الجماهير على الطريقة الديمقراطية ليس شيئا كافيا لهذا؟

لا أظننا نحتاج جدالا كثيرا في الإجابة على هذا السؤال: ستة أعوام كافية لتقديم الإجابة الشافية الوافية الكافية على هذا السؤال.. باستطاعتنا أن نقول باطمئنان: إن فكرة الديمقراطية كحلّ قد وُضِعت في قبرها مع مرسي، ومثلما ستنفض الحالة السياسية يدها من عودة مرسي فينبغي على الحالة الفكرية أن تنفض يدها من الحل الديمقراطي كذلك! فإن الدبابة التي دهست مرسي حتى قتلته ثم شيعته في الظلام إلى قبره دهست معه فكرة الديمقراطية نفسها!

لقد تصرف مرسي كما ينبغي أن يتصرف حاكم ديمقراطي يقرأ من كتاب الليبرالية الغربية، بل بما هو فوق الموجود في الكتاب، فكتاب الليبرالية الغربية يعطي الحق للحزب الفائز أن ينفرد بتشكيل الحكومة والسيطرة على المؤسسات وتنفيذ برنامجه، لكن النخبة العلمانية العربية اخترعت كتابا جديدا اسمه "كتاب التوافق"، وهذا الكتاب الجديد يناقض كتاب الديمقراطية في أصل مبدئه الذي يقضي بانفراد الأغلبية بالحكم ويطرح أصلا جديدا يقول بتنازل الأغلبية عن حقوقها رعاية لرغبات الأقلية (التي لم ترضَ أبدا، ولن ترضى).

كانت أياما لا تتصورها الأحلام، حرية رأي لم تحصل عليها الدول التي ازدهرت فيها الديمقراطية نفسها، حرية رأي وصلت إلى أن يُكتَب السبُّ له على جدران قصر الرئاسة، وأن وُضِع أمام بيته البرسيم لأنه "خروف"، وكان الصحافي الذي لا يجد شيئا ليكتبه يُدبِّج المقالات في سب مرسي وجماعته، وأحد أولئك بعدما حُكِم عليه بالسجن  تدخل مرسي بنفسه ليعدِّل قانون الصحافة كي لا يبيت شاتمه في السجن، فخرج ليواصل مهمته في السب والتحريض!!

وتوافقٌ لم يشهد رئيسٌ منتخب مثله، تحولت به حكومته إلى شركاء متشاكسين، وزير من اليمن ووزير من اليسار، وزير محافظ ووزير ليبرالي، ورئيسٌ يعرض منصب رئيس الحكومة على خصومه السياسيين وهم يتمنعون، وعلى شباب يجاهر بمهاجمته وهم يرفضون، وفريق استشاري يتخلى أفراده عن رئيسهم في لحظة هو فيها مُهَدَّدٌ بالاغتيال!

لا أحسب أننا بحاجة إلى التذكير بأنه حينما جاء السيسي على دبابته، مزق كتب الديمقراطية والتوافق بلا تردد، فإذا بفلاسفة الديمقراطية والتوافق بين منافق وسجين وطريد وعائد إلى مزرعته السعيدة في بلاد الأجانب أو قواعده في تويتر أو مشروعاته العظيمة في الغذاء الصحي!!

القوة هي الحكم.. والسيف يهزم الدم.. والرصاص أقوى من السلمة.. والدبابة أعتى من الصندوق.. والقنابل تسحق الحشود.. والعسكري فوق الديمقراطية!

حين تتعادل القوى يظهر القانون، وعلى نحو ما قال الفقيه القانوني المعروف عبد الرزاق السنهوري: القانون يحكم بين قويين أو ضعيفين، أما إذا اختلت موازين القوى فلا قانون، وحينئذ تصير القوة هي القانون.

نعم في بعض اللحظات تكتسب قوة الشعب وزنا استثنائيا في معادلة القوة، كما هو الحال في لحظة الثورة والاحتجاج، وعندئد يمكن للقيادة الحكيمة أن تُوَظِّف هذه القوة في تلك اللحظة لتحقيق مكسب سياسي لا يمكن أن يتحقق في وقت آخر، لكن هذا يحتاج من الذكاء والمبادرة والسرعة ما لا يتمتع به إلا الزعماء الأكفاء.

قال مرسي، وصدق، بأن ثورة يناير والشرعية ثمنها حياته.. وقد وفَّى بهذا رحمه الله، فمات في سجنه بعد عذاب السنوات الستة ميتة كان يمكنه أن يتجنبها ويعيش في شيء من اليسر، ماتَ وقد ترك المشهد المصري واضحا: حق وباطل، ثورة وانقلاب، اختيار الشعب وحكم السلاح.

لكن لماذا لا يكون الحفاظ على يناير والشرعية ثمنها حياة أعداء الشعب؟! هذا ما كان ينبغي أن يكون.. أن تبقى ثورة يناير وتبقى شرعية الشعب ويكون الثمن هو حياة أعداء الشعب والثورة والأمة والدين.. هكذا يجب أن تمضي الأمور، تماما مثلما مضت في كل الثورات الناجحة!

ولو أن ثمة من لا يفهم هذا فيرى في الإجراءات الثورية الرامية لحفظ الثورة وحمايتها اعتداء على الحريات فلا بأس ألا يفهم، لعله إن عاش يفهم من تلقاء نفسه أو حتى فليمت دون أن يفهم وتبقى شرعية الشعب وحقه في التحرر والاستقلال واختيار من يحكمه. وإلا كان البديل أن تضيع الثورة وحياة رموزها كما حدث مع مرسي وغيره، ثم يفهم صاحبنا المغفل هذا بعد أن تضيع الفرصة، ثم هو قد لا يفهم أيضا مثل الذين لا زالوا حتى الآن يُنَظِّرون لكون سهرة 30 يونيو ثورة شعبية.

إنها لمكانة عليا أن تجتمع على مرسي قلوب ملايين المسلمين ترثيه وتنعيه وتنشد له الأشعار وينتصب رمزا ويتحلى بلقب الشهادة، هي مكانة عليا حقا، ولكن الأعلى منها والأنفع للأمة أن يعيش منتصرا متمكنا قادرا على حماية شعبه وتحقيق أمانيهم قاهرا لأعدائهم وعملاء أعدائهم، ثم هو في كل ذلك متعرض للشهادة أيضا، شهادة الفاتحين في ساحات النصر والكفاح لا شهادة الأسير في ضيق الزنازين.

إن الواجب علينا أن نسعى في النصر المؤزر حتى ندركه أو ننال الشهادة دونه، ولئن كنا ظننا يوما أن الديمقراطية تأتي قبل التحرر، فإن الوفاء لدم مرسي ودماء الشهداء وعذابات الأسرى والمشردين أن نؤمن الآن أن التحرر يأتي قبل كل شيء، وأن مطلب التحرر يجب أن يكون أولا، أن نمتلك القدرة على الاختيار لا أن نختار حين يُسْمَح لنا ثم نذبح حين تتغير رغبة القوي المحتل!

الديمقراطية صنم مأكول (كما ذكرت ذلك في المقال الماضي، الذي كُتِب بتقدير الله قبل وفاة مرسي)، ولو كان لها معنى لظل النبي في مكة يستكثر من الأتباع ثم يطالب سادة قريش بانتخابات حرة نزيهة، لكن شيئا من هذا لم يخطر بباله ولا ببال أحد، إنما كان يستكثر من الأتباع المؤمنين ليخوض بهم معركة التحرر والاستقلال، فلم يضيع –صلى الله عليه وسلم- السنوات الطوال في الخضوع لنظام قريش ومحاولة إصلاحه ليسمح بانتخابات حرة، بل عرض نفسه على القبائل يطلب النصرة، يبحث عن الأرض التي يقيم عليها الدولة ويحميه أهلها، حتى فتح الله قلوب الأنصار فكانوا رجال دولة الإسلام.

هنا حصل التحرر، حصل الاستقلال، هنا تحولت الفكرة إلى كيان، وهنا بدأت مرحلة أخرى من الحرب الإقليمية والعالمية ضده لتدميره.. إلا أن الخلاصة المقصودة في سياقنا الآن: أن الاختيار ليس متاحا لمن لا يملك (القدرة) على الاختيار، الضعيف مفعول به مهضوم الحق مهيض الجناح مهدوم الركن! مهما كان صاحب حق ومهما كان فصيحا في بيانه والتدليل عليه.

سجل المتنبي وهو أشعر العرب تجربته بين الشعر والسيف فقال:
حتى رجعتُ وأقلامي قوائل لي .. المجد للسيف، ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به .. فإنما نحن للأسياف كالخدم
صدقتِني، ودوائي ما نطقتِ به .. فإن غفلت فدائي قلة الفهم
من اقتضى بسوى الهندي حاجته .. أجاب كل سؤال عن هلٍ بِلَمِ

وقبله مدح أبو تمام المعتصم بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:
السيف أصدق إنباءا من الكتب .. في حده الحد بين الجد واللعب

وبعدهما ردد شوقي ذات المعنى وهو يمدح مصطفى كمال أتاتورك يوم كان مخدوعا:
فقل لبانٍ بقولٍ ركنَ مملكة .. على الكتائب يُبْنَى المُلْك لا الكُتُب

ومن قبل ذلك كله، ومن بعد ذلك كله قول ربنا (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).

رحم الله الرئيس الشهيد محمد مرسي، وجعل قصته هدى وعبرة وعظة للمؤمنين.

الثلاثاء، يونيو 18، 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (15) هكذا تشكلت زعامة صلاح هاشم


مذكرات الشيخ رفاعي طه (15)

من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

هكذا تشكلت زعامة صلاح هاشم مؤسس الجماعة الإسلامية المصرية

·        انتقلت من الصوفية إلى عقيدة أهل السنة على يد الشيخ عبد الله السماوي!
·        بدأ العمل قبل التفكير والتخطيط، وأول ما فعلنا: منع إقامة حفل فاسد بالجامعة!
·        كان الشيخ صلاح هاشم دمث الخلق مثالا في الإيثار على نفسه!

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة:

ذكرتُ في الحلقة الماضية كيف كان تعرفي على الشيخ عبد الله السماوي وكيف بايعته بعد أول خطبة جمعة سمعتها له، كان الرجل يدعو لدولة الخلافة وكنا نحب أن نكون رجال هذه الدعوة وهذه الدولة، لكن سرعان ما اختلف الأمر.

كانت تمضي بنا الأيام ويزداد العمر وينظر المرء خلفه فيجد أنه لم يصنع شيئا!!

أول سؤال يخطر ببال القارئ: ما هي النشاطات التي كنتم تمارسونها في جماعة الشيخ السماوي؟ وأجيب: هذه هي المشكلة، أنه لم تكن ثمة نشاطات نقوم بها، ما هو إلا أن يأت الشيخ عبد الله السماوي فنجتمع حوله، فيخطب فينا ويعظنا ويحدثنا ويبث فينا ما يثير فورة حماستنا وعزمنا وإصرارنا، ثم تنتهي الجلسة فينتهي معها كل شيء!

كان أمير مجموعتنا في الجامعة هو صديقنا عبد التواب طه أحمد الذي عرفني بالشيخ أول مرة، ومع هذا لم نفعل شيئا في الجامعة، بل لم نتخذ لأنفسنا اسما، إنما نعرف بعضنا كمجموعة الشيخ عبد الله السماوي. وهكذا كان يفتر حماسي بمرور الوقت بسبب هذه "البطالة"!، لم يكن الشيخ رحمه الله يُوَظِّف أتباعه توظيفا حسنا، كان تحت يده عشرات الشباب في الجامعة، ولكن إجابته الوحيدة تقريبا على حماسة الشباب التي تسأل عن العمل أن يقول: أول الواجبات نتعلم العقيدة الصحيحة!

وهو، والحق يقال، ممتاز في باب العقيدة، وأنا أعتبر نفسي تلميذه في هذا الباب، وقد قرأنا في مجموعته "العقيدة الطحاوية" وشُرِحَتْ، وقرأنا مجموعة التوحيد وشُرِحت لنا، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشرح لنا، وهكذا.. وبهذه الكتب والشروح انتقلتُ نقلة حقيقية وقوية من الصوفية إلى الالتزام بأهل السنة والجماعة وعقيدتهم: العقيدة الطحاوية.

كان رحمه الله مثالا للسلفي الحق، كان سلفيا مجاهدا أو مقاوما، ليس مثل أولئك الذين شوهوا صورة السلفيين، أعني: حزب النور وفريق الإسكندرية هذه الأيام[1]، وبالمناسبة: فلم تكن بداية سلفية الإسكندرية على هذا النحو الذي وصلوا إليه الآن، بل كانت مجموعة محمد إسماعيل المقدم مجموعة ممتازة، ولم يكن ثمة اختلاف كبير بيننا (نحن الجماعة الإسلامية – فيما بعد) إلا ما يرونه أننا استعجلنا في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن لهذا حديث مؤجل إن شاء الله.

كانت مجموعة الشيخ عبد الله السماوي سابقة في الجامعة على أي مجموعة دينية، لا جماعة إسلامية ولا سلفيين ولا شيء، وكان أظهر وجود لها عندنا في جامعة أسيوط، ومع أن الشيخ السماوي مقيم في القاهرة إلا أنه كان يكثر من زيارة أسيوط.

وكان ثمة شيخ آخر شهير جدا لكن غاب عني اسمه الآن، وكان من جمعية أنصار السنة المعترف بها رسميا، لكنه كان رئيس جماعة أخرى "جماعة الحق"، وكان أيضا من هذا التيار السلفي المقاوم، وكان يحث على العمل، لكن أهم ما أخذناه من العمل منه هو إعفاء اللحية، ولا أتزال أتذكر مقولته في الحث على ذلك، فهو إن وجد شابا حليقا سأله نصف مازح "أيهما خير؟ الديك أم البِنِّيَّة؟!" (وهي الدجاجة)، فتصل الرسالة، فمن هذا الشيخ تعلمنا الالتزام بالسنة والهدي الظاهر.

في تلك الأثناء بدأ يتزايد ظهور المتدينين في الجامعة من غير المنضوين تحت "الجماعة الدينية" الرسمية في الجامعة والتابعة في حقيقتها لأمن الدولة، كان أولئك المتدينون من أمثالنا وأمثال غيرنا من المتأثرين ببعض الشيوخ. وأحببنا أن يكون لنا نشاط إسلامي حقيقي، ينفذه متدينون مخلصون أمثالنا غير تابعين لأمن الدولة! فمن هنا بدأ يكون لنا شيء من النشاط المستقل داخل الجامعة، فصرنا نفعل ما كنا ننفذه ضمن "الجماعة الدينية" التابعة للجامعة ولكن باستقلال عنهم، من نحن؟.. إلى هذه اللحظة لم نتخذ اسما ولا عنوانا!

نقيم معرضا للكتاب الإسلامي، نكتب مجلة الحائط، نبيع الزي الإسلامي للفتيات، أحيانا نجمع من بعضنا مبالغ زهيدة بسيطة ثم نشتري هذا الزي ونوزعه مجانا، إمكانيات محدودة، إلا أن فارقا واضحا بين هذا الزمن وبين هذا الواقع الآن؛ في ذلك الوقت كنت طالبا ملتحيا فما إن أذهب إلى صاحب بقالة أقول له: نحن نجمع تبرعات للزي الإسلامي للبنات أو لشراء مذكرات الجامعة للطلاب الفقراء أو لأي غرض آخر، إلا ويعطيني من المال دون تردد، كان مظهر المتدين في ذلك الوقت يساوي الثقة. قد يعطيني التاجر خمسين قرشا، وكان هذا في ذلك الوقت مبلغ له قيمته. كذلك فقد كان في الناس خير وبذل وعطاء يبدو أنه غاض الآن!

كانت اللحية والقميص (الجلابية باللهجة المصرية) تُسَرِّع من تعارف المتدينين الجدد إلى بعضهم، ولم يكن أعضاء "الجماعة الدينية" الرسمية التابعة للجامعة يهتمون باللحية ولا الهدي الظاهر، بينما تمسَّكنا نحن بهذا، وكنا ندخل إلى الجامعة على هذه الهيئة، بل كان هذا القميص (الجلابية) من أهم أسباب القبض علي فيما بعد، ومنعي من دخول الامتحانات أربع سنوات.

بينما نحن كذلك إذ تناهى إلى مسامعنا أن شابا اسمه صلاح هاشم (الذي سيكون فيما بعد أحد أهم أعمدة الجماعة الإسلامية المصرية) يعتزم منع حفلة تقيمها الجامعة، وسرى الخبر في الجامعة وفيه فحوى تقول: فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلينصر أخاه في منع هذا المنكر!

وبهذا نستطيع القول أن فاعلية النهي عن المنكر سبقت تكوَّن الجماعة، سبق العمل التخطيط!

كانت الحفلة بمباركة عميد الكلية ورعاية رئيس الجامعة، ستأتي مُغَنِّيتان: خضرة وفاطمة سرحان، لم تكونا مشهورتين مثل مغنيات التلفاز والإذاعة لكنهما كانتا مشهورتيْن شعبيا، من فئة المغنيات الشعبيات، وقد اتفق معهما اتحاد الطلاب لإقامة حفل في الجامعة، ووافق على هذا ودعمه العميد ورئيس الجامعة.

وكانت فكرة صلاح هاشم بسيطة، أن يستكثر من المتدينين في مكان الحفل، وأن يسبقوهم إليه، فيحضروا ويكاثروا حتى يكثروا ويغلب عددهم عدد الذين يريدون الحفلة فعلا، ثم يشرعون في قراءة القرآن جماعة، هذا يقرأ ثم هذا ثم هذا، وهو ما كان.. سبق الشباب المتدين إلى مكان الحفل، أخذوا في تلاوة القرآن، ولم ينتهوا!

جاء العميد، وجاء من بعده رئيس الجامعة، وجاء من قبلهم ومن بعدهم غيرهم يستحثوننا أن ننتهي ونخلي المكان، ونحن ماضون في التلاوة كأن شيئا لم يكن، ولم يكن بدٌّ من وقوع اشتباك فقد جاءوا يخرجوننا بالقوة، فاشتبكنا معهم، وحيث وقع اشتباك وعراك فقد فسد الحفل، المغنيتان خافتا، والناس الذين جاءوا للحفل انسحبوا بأنفسهم، وانتهى الأمر على هذا الحال. أفسدنا عليهم حفلتهم أو بالأحرى: أصلحنا الأمر وقوَّمنا اعوجاجه.

لم نكن ننوي الاشتباك إنما حسبنا أن بقاءنا سيحملهم على الملل والعودة عن قصدهم، إنما حيث هوجمنا فقد كنا مضطرين. وهم بهذا يتحملون مسؤولية إفساد أجواء حفلتهم!

أغلب الظن أن هذه الواقعة كانت في ربيع 1976م، في الفصل الدراسي الثاني من عام 1975/1976م. قبل سنة واحدة من أول فوز "للجماعة الإسلامية" بانتخابات اتحاد الطلاب.

لكن أهم ما أسفرت عنه هذه الحادثة هو الزعامة التي تشكلت حول صلاح هاشم في الجامعة، لقد صار بهذه المبادرة والشجاعة زعيما بحكم الأمر الواقع، زعيما على المتدينين، على هذه الحالة الشبابية الإسلامية التي تتشكل في الجامعة. فكنا من بعدها إذا أردنا أن نفعل شيئا ذهبنا إليه فعرضناه عليه، أو إذا أردنا مشاورة شاورناه، وهكذا..

كان الشيخ صلاح هاشم حينها في السنة الرابعة والأخيرة من كلية الهندسة، هو ابن محافظة سوهاج، كان طيبا للغاية، دمث الخلق جدا، كريما جدا، مثالا في الإيثار، ولقد شهدت منه في هذا قصة كلما تذكرتها وتخيلتها في ذهني سبق إليَّ البكاء:

في ذلك الوقت كنا بدأنا في إقامة المخيمات أو المعسكرات، في المساجد، وكنا نستعين على نفقاتها من تبرعات المحسنين كما ذكرت آنفا، ولهذا فقد كان معظم ما فيها من الطعام الأمور البسيطة: الجبن والحلاوة الطحينية والعسل، فإذا اتفق وحضر أحدٌ من أهل الخير مخيما من هذا فربما تبرع من عنده ببعض الأرز واللحم، ودائما ما كان هذا الطعام يكفي بالكاد عدد الطلاب الحاضرين في مخيماتنا، إذ كان العدد يصل إلى ثلاثمائة طالب ولا يقل عن مائة وخمسين.

كان صلاح هاشم مسؤول المخيم، وتحته مجموعة نسميهم "أمراء الحلقات" وأولئك الذين يديرون المخيم فبعضهم يقوم على شأن الطبخ وإعداد الطعام، وبعضهم يقوم على شأن التعليم: تلاوة القرآن والتفسير واللغة العربية والفقه.. إلخ! وأولئك الذين يديرون المخيم يأكلون آخر الناس، بعدما ينتهي الطلاب من الطعام، يجمعون من بقايا الطعام طعاما لهم، لم تكن لدينا وقتها ثقافة التنظيم أو إبقاء بعض الطعام لمن يديرون المخيم، إنما كانوا هم ونصيبهم، فلئن بقي لهم طعام أكلوا وإن لم يبقَ لم يأكلوا.

أين صلاح هاشم هنا، مسؤول المخيم؟.. إنه آخر من يأكل، بعد أن ينتهي أمراء المخيم من أكلهم، هذا إن بقي له شيء يأكله. ولقد رأيته لا يقبل أن يأكل إلا آخر الناس ولو لم يبق له شيء إطلاقا. كان مأكله في مكان تنظيف الأطباق إن وجد شيئا!

لقد أكبرته جدا، وبمرور الوقت ترسخت بيني وبينه علاقة أخوة عميقة، كانت بذرة لنشأة الجماعة الإسلامية المصرية.

نشر في مجلة كلمة حق، يونيو 2019 


[1] سجلت هذه المذكرات عام 2015.

الأربعاء، يونيو 12، 2019

تاريخ الأتراك العثمانيين



§        اسم الكتاب: تاريخ الأتراك العثمانيين
§        المؤلف: إدوارد شيفرد كريسي
§        المترجم: د. أحمد سالم سالم
§        الناشر: جامعة حمد بن خليفة
§        الطبعة: الأولى، 2019م
§        عدد الصفحات: 1219 صفحة

صدر قبل أيام قليلة عن جامعة حمد بن خليفة في الدوحة ترجمة جديدة لسفر من أهم الأسفار في التاريخ العثماني، وهو كتاب "تاريخ الأتراك العثمانيين" للمؤرخ والمستشرق الإنجليزي إدوارد شيفرد كريسي، ذلك السفر الذي تصدى لمهمة ترجمته الدكتور أحمد سالم سالم، الصديق والأخ العزيز، والاسم الصاعد في سماء ترجمة الأعمال الاستشراقية القيمة، وقد قضى في هذا العمل ثلاث سنوات حافلات بالعمل المضني، حتى خرجت هذه الثمرة إلى النور.

ولكي لا يتشعب الحديث فسنجمل الكلام عن كل عنصر من عناصر هذا الموضوع: الكتاب، والمؤلف، والمترجم، والترجمة.

[1] الكتاب

ونبدأ بالكتاب..

يعرف الباحثون في التاريخ العثماني أن المصدر الأوروبي الأهم في كتابة التاريخ العثماني هي موسوعة المؤرخ والدبلوماسي الألماني جوزيف فون هامر (1774 – 1856م)، الذي كان يتقن ثماني لغات من بينها اللغات الشرقية الثلاث الكبرى: العربية والفارسية والتركية، وكان عمله في وزارة الخارجية النمساوية وسفارتها في اسطنبول ثم في بلاط الإمبراطورية النمساوية قد وضع أمامه حشدا من المصادر والوثائق والمشاهدات والروايات التي جمعها في هذه الموسوعة التي حملت اسم "تاريخ الإمبراطورية العثمانية" التي بلغت عشر مجلدات. كان هذا الكتاب منعطفا في التاريخ الأوروبي للدولة العثمانية، وبه صار هامر رائد هذا الباب بين المستشرقين، لكن المشكلة التي تعنينا الآن أن هذه الموسوعة لم تترجم للعربية حتى لحظة كتابة هذه السطور فيما أعلم.

وقد اعتمد كتاب كريسي الذي بين أيدينا على موسوعة هامر، ويمكن اعتباره بكثير من التجوز اختصارا لما جاء فيه، مع إضافات وزيادات لاحقة، لكن مادة الكتاب الأساسية اعتمدت على موسوعة هامر، وهذه أول فائدة كبيرة ينتظرها الباحثون من هذه الترجمة الجديدة.

تمثلت إضافات وزيادات كريسي في اعتماده على مصادر أخرى غير موسوعة هامر، وأهم هذه المصادر أنه كان شاهدا على فترة العشرين سنة التي فصلت بينه وبين هامر، وما وقع فيها من أحداث مؤثرة في التاريخ العثماني عند أواخر القرن التاسع عشر. مع ملاحظة أن تاريخ هامر توقف قبل قرنٍ من تاريخ كريسي.

الفائدة الثانية بالطبع هي هذا الاختصار، لمن لا يُفضِّل المُطَوَّلات. لقد كانت موسوعة هامر تعاني من أنها لم تترجم من الألمانية إلى الإنجليزية بسبب ضخامتها وتخوف الناشرين الإنجليز ألا تجد لها قارئين!

[2] المؤلف

وأما المؤلف فهو قانوني مؤرخ، عاش سحابة حياته في بريطانيا القرن التاسع عشر (1812 – 1878م)، أي في العصر الذهبي للإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وهو العصر الذهبي للاستشراق الإنجليزي الذي استطاع عبر جيوشه وأساطيله ولحاجة جيوشه وأساطيله أيضا أن يجعل حركة الاستشراق في أوج ازدهارها، درس القانون ثم التاريخ في جامعة كمبريدج ثم صار أستاذا له في جامعة لندن ثم قضى آخر خمسة عشر عاما من حياته تقريبا (1860 – 1875م) في سيلان، وأنتج في حياته الحافلة عددا من المؤلفات في التاريخ والقانون الإنجليزي.

وقد ألقى هذا العصر بظلاله على الكتاب الذي اجتمع فيه ما اجتمع في حركة الاستشراق الاستعمارية، حركة تقدس المجهود البحثي الدؤوب، وتلبس معه روح الحملات الصليبية مع تحسينات معاصرة حديثة أو بتعبير مكسيم رودنسون "زخرفات عصرية"!

ومن هنا جاء الكتاب عملا علميا قيِّمًا، مسكونا بروح صليبية تتفلت من بين العبارات فتطل برأسها أحيانا سافرة وفي أغلب الأحايين متقنعة.

[3] المترجم

وأما المترجم: د. أحمد سالم سالم فهو من الأسماء الصاعدة بقوة في التاريخ العثماني، وقد عرفته من ترجمتين سابقتيْن له، فقد ترجم كتاب المستشرق الإنجليزي الشهير ستانلي لين بول "تاريخ مصر في العصور الوسطى" (2014م)، كما ترجم كتاب المستشرق الإنجليزي الشهير أيضا إدوارد وليم لين "القاهرة في منتصف القرن التاسع عشر" (2017م)، وقد فازت ترجمته لكتاب ستانلي لين بول بجائزة الشيخ حمد للترجمة (2015م) وطبعت خمس طبعات حتى (2017م). ومن قبل هاتين الترجمتين كان قد أصدر كتابه "السيطرة العثمانية على الحوض الغربي للبحر المتوسط في القرن السادس عشر" (2011م) وكتابه "استراتيجية الفتح العثماني" (2012م).

وترجمة أعمال المستشرقين المتقدمين أمر يتهيبه المترجمون عادةً، ذلك أن اتساع قائمة مصادرهم يجعل المترجم الأمين أمام عبء البحث عن النصوص الأصلية في مظانها، وكثير من هؤلاء المستشرقين يستسهلون الإشارة إلى المصادر دون توثيق دقيق في ذلك الزمن. ثم تتمثل الصعوبة الثانية في تطور اللغة الإنجليزية المتسارع بحيث تعد لغة ما قبل مائة عام أو مائتين أشبه بلغة أخرى غير الإنجليزية المعاصرة، وهو عمل يستغرق جهدا مضاعفا في فهم التراكيب والتعبيرات التي صارت مهجورة. وإلى هنا يمكن للمترجم أن يعفي نفسه من أعباء جديدة لكن د. أحمد من مدرسة ترى أن عليها عبء تحقيق النص ومناقشته والتعليق عليه، وهذا يضيف عبئا جديدا على المترجم لكنه يجعل الثمرة النهائية وجبة شهية للقارئين!

لذلك حفلت ترجمات د. أحمد بالحواشي المعينة على فهم النص أو الاستدراك عليه، في غير تطويل وإملال واستكثار بلا معنى كما يفعله بعض من يحبون التباهي والتفاخر بما لا قيمة فيه ولا تعويل عليه.

[4] الترجمة

أضيف إلى صعوبات الترجمة لهذا الكتاب الذي بين أيدينا صعوبة جديدة، إذ أن مسرح الكتاب في أغلبه هو مناطق شرق أوروبا، فلم تعد الترجمة هنا ترجمة لتاريخ مصر أو لشوارع القاهرة وأحيائها، وهو الأمر الذي يسهل على المترجم المصري، لا.. لقد صار الأمر متعلقا بالجغرافيا المعقدة الثرية الحافلة التي شملتها الدولة العثمانية لا سيما مناطق أوروبا الشرقية، وذلك أن المدن في هذه الأنحاء تسمى بأسماء عديدة: عثمانية وبيزنطية ويونانية وأوروبية، بحسب تاريخ المدينة وتقلبات الذين هيمنوا عليها، وأحيانا ما كان المؤلف يمضي وراء هامر في استعماله تسميات وألفاظا دارجة في الألمانية. هنا تبدو عملية الترجمة الدقيقة كعملية فدائية لا يقدم عليها إلا مغامر!

لقد كثر في تعليقات الترجمة التعريف بالأعلام وتحديد مواقع المدن وأحيانا بيان معانيها والمقارنة بين لفظها بالعثمانية وباللغة الأوروبية التي وردت في المتن، وربما كان هذا أثمن وأنفس ما في الترجمة لأنها تضبط خيال القارئ وتمنع الخلط والتشتت أن يصيبه بين كومة الأسماء الكثيرة المنهمرة عليه!

ومن جهة أخرى فقد كان د. أحمد يشعر –كما توحي مقدمته للترجمة- أنه مسؤول عن تقييم تاريخ هامر ومعلوماته باعتباره المرجع الأساسي الذي نهل عنه المؤلف إدوارد شيفرد كريسي كما نقل عنه كثيرون من المؤرخين والباحثين العرب، ومن هاهنا كان يعمل عملا فوق الترجمة وهو اختبار صحة ودقة تاريخ هامر المتغلغل في كتاب كريسي والتعليق عليه. مؤملا أن يتوقف الاعتماد المستسلم على تاريخ هامر.

وثمة استطراد هنا جدير بالإشارة إليه، ففي حركة البحث التركية التاريخية الجديدة صدرت العديد من الدراسات وترجم بعضها إلى العربية، وفي كثير من هذه الدراسات إشارات متعددة لجناية هامر على التاريخ العثماني برغم أهمية كتابه وكونه عمدة في بابه، ولهذا فسيزال كتاب هامر يمثل تحديا للمؤرخين المسلمين حتى يغامر أحدهم بالتفرغ لفحصه والتعليق عليه تفصيلا. لكن الذي يهمنا الإشارة إليه هنا أن العديد من هذه الدعاوي الهامرية وجدت من يلتقطها ويرد عليها ردا سريعا ومختصرا في هذه الترجمة.

نسأل الله تعالى أن يكون هذا الكتاب من العلم النافع الخالص لوجهه الكريم.