الجمعة، يوليو 31، 2015

مراحل بناء المسلم (5) اليأس.. حرام

اقرأ أولا:


وآخر ما نلحظ في "التكليفات الفردية" هو حرمة اليأس؛ إذ يحرم على المسلم الانسحاب من مهمة إصلاح الحياة، والانهزام أمام ضغوط الواقع وقهر الظروف؛ بل إنه مأمور باستعمال سنن الله I في مغالبتها، والصبر عليها.

إن الإسلام يسلح المسلم بأخلاق التوكل على الله والصبر على الأذى فيه: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 9، 10]، وفي وصية لقمان لابنه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، والمسلم -في هذا- يقتدي بتاريخ الأنبياء وصحابتهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].

والمسلم يقرأ في سيرة النبي r كيف كان أول من أوذي في سبيل الله؛ فعن أنس أن النبي r قال: "لقد أُخِفْتُ في الله وما يُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يُؤْذى أحد، ولقد أتَتْ عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيءٌ يواريه إبط بلال"([1]). والأخبار في هذا كثيرة ومتواترة، وهو r لم يكن بِدْعا من الرسل؛ فكلهم أوذي وعودي وصبر على قومه، ولو لم يؤمن معه إلا قليل؛ بل إن نوحًا u بعد نحو ألف سنة من الدعوة {مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] وأكثر ما ورد في عدد من آمنوا أنه ثمانين فقط، فيما وردت روايات بأنهم ثمانية فحسب([2])، بل ذكر النبي r أن النبي يأتي يوم القيامة "معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد"([3]). فلو أن لليأس مكان في رسالات الأنبياء ما كان يحدث مثل هذا!

كما ويعلم المسلم كيف كان صحابته الكرام أثبت الناس تحت عذاب المشركين، حتى رسخت قواعد الإسلام، ونشأت دولته في المدينة بعد ثلاثة عشر عامًا من العذاب والعنت والتضييق، ويحفظ أسماء بلال بن رباح وخباب بن الأرت وعمار بن ياسر وأمه سمية.. وغيرهم، ويعلم ما تحملوه من العذاب الرهيب، فلو كان لليأس مكان في الرسالة لما صبر أهلها ثلاثة عشر عامًا؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إننا لم نر النبي r غاضبًا إلا حين بدا ضجر من سيدنا خباب بن الأرت t مما نزل بهم من العذاب فذهب إلى النبي وقال: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ قال r: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجْعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشَقُّ باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"([4]).

ولقد استعمل القرآن الكريم والنبي r بشائر انتصار الإسلام في تثبيت المؤمنين على ما ينزل بهم من ابتلاء سواء في بداية الدعوة أو في بناء الدولة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21]، وقَصَّ الله على المؤمنين كيف نجى أنبياءه من أعدائهم وكيف نصرهم عليهم: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] وبمثل ذلك وعد الله المؤمنين {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
والمسلم استنادًا إلى عقيدته في الله القوي العزيز، وبعلمه بسيرة الأنبياء والمصلحين وببشارات الله والنبي لما سيبلغه الإسلام في المشرق والمغرب، يعلم أن اليأس من صفات الكافرين: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وكفى بهذا الوصف حاجزًا بين المسلم وبين اليأس!

لقد أمر الإسلام بالعمل حتى اللحظة الأخيرة في الدنيا، فقال r: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"([5]). "فلا يأس مع الحياة! والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة، فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل.. وحتى في هذه الحال لا يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها! إنها دفعة عجيبة للعمل والاستمرار فيه والإصرار عليه! لا شيء على الإطلاق يمكن أن يمنع من العمل! كل المعوقات.. كل الميئسات.. كل المستحيلات.. كلها لا وزن لها ولا حساب.. ولا تمنع عن العمل"([6]).

وقد وصف القرآن شخصية من يصيبه اليأس بالطيش والتقلب قائلاً: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49]، {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83]، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 9 - 11].

كما حرص الإسلام على محاربة التثبيط ونشر اليأس، وأنكر القرآن على من قالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، وأثنى على من قالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وأنعم على المجاهدين بأنه أقعد المنافقين فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، وقال رسول الله r: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أَهْلَكَهم" -أو قال: "أهْلَكُهُم"([7]). ووجه أمته إلى قول ما يثير الهمم لا ما يثبطها فقال r: "يسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبشِّروا، ولا تُنَفِّروا"([8]).

وكان الانتحار -وهو آخر مراتب اليأس- من أكبر الكبائر في الإسلام، "وقد قرر الفقهاء أن المنتحر أعظم وزرًا من قاتل غيره، وهو فاسق وباغ على نفسه، حتى قال بعضهم: لا يُغَسَّل ولا يُصَلَّى عليه كالبغاة، وقيل: لا تقبل توبته تغليظًا عليه، كما أن ظاهر بعض الأحاديث يدل على خلوده في النار"([9]). ومن ذلك قوله r: "مَنْ تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنّم يتردَّى فيه خالدا مُخَلَّدًا فيها أبدا، ومن تَحَسَّى سُمًّا فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهتم خالدا مُخَلَّدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يَجَأ بها بطنه في نار جهتم خالدا مخلدا فيها أبدا"([10]). وقوله r: "كان بِرَجُلٍ جِراحٌ فقتل نفسه، فقال الله: بَدَرَني عبدي بنفسه حرَّمْتُ عليه الجنة"([11]).

لكل ما سبق، كان اليأس أبعد ما يكون من أخلاق المسلمين؛ ومن ثم كان استشعارهم المسئولية دافعًا لهم إلى العمل، ثم العمل، ثم التغلب على معوقات العمل حتى تزول.

***

مما سبق –في هذه المقالات الخمس- نرى أن "التكليفات الفردية" التي جاء بها الإسلام قد حققت الأمور الخمسة:

1.    فليس في الإسلام عاطل أو مهمل، بل الكل مكلف مسئول وله دور في مهمة الإصلاح.

2.    والمسلم شخص مستقل متحرر من تقاليد الماضي وأعرافه الموروثة، ومن ضغوط الحاضر وقيوده وعوائقه.

3.    ويتخلق بالأخلاق الحسنة في نفسه ومع الناس.

4.    وإن بدر منه خطأ أو زلل وجد من يستدرك عليه أو استدرك هو على غيره بما سميناه "التكليفات المتكاملة".

5.    ومتسلح بالصبر والتوكل على الله فمنعه ذلك من اليأس والقنوط والانهزام أمام الواقع.

نشر في ساسة بوست



([1]) أحمد (12233)، الترمذي (2472)، وابن ماجه (151)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
([2]) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/321، وتبدو رواية الثمانية غير مقبولة؛ إذ يتنافى هذا العدد عقلاً مع القدرة على صناعة سفينة كبيرة تضم زوجين من كل المخلوقات.
([3]) البخاري (5420)، ومسلم (220).
([4]) البخاري (3416).
([5]) أحمد (13004) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. والبخاري في الأدب المفرد (479)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد.
([6]) محمد قطب: قبسات من الرسول ص27.
([7]) مسلم (2623).
([8]) البخاري (69)، ومسلم (1732).
([9]) الموسوعة الفقهية الكويتية 6/283، 284.
([10]) البخاري (5442)، ومسلم (109).
([11]) البخاري (1298).

الثلاثاء، يوليو 28، 2015

على هامش قصة زعيم (1) الطاقات المسفوكة

أشهر كتاب تحدث عن تجربة أردوغان فيما أعلم هو كتاب "رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم" لمؤلفيْه: حسن بسلي وعمر أوزباي، وربما نفرد مقالا مستقلا عن الكتاب ومنهجه فيما بعد، إلا أن الأوْلى في تلك اللحظة أن نبصر في القصة أمورا نحتاج للتوقف عندها مليَّا.. هذه السطور القادمة تسجل شيئا من أزمة: الطاقات المسفوكة.

وإنه بقدر ما تزخر الشعوب الإسلامية بالطاقات الهائلة، بل بقدر ما تزخر الحركة الإسلامية بالكثير منها، إلا أن عوائق كثيرة –أهمها: فكرية ونفسية- تحول دون استثمار هذه الطاقات، فيما لا يضنّ العدو بالتخلي عن أي طاقة مهما صغرت، ويمكن أن نضرب مثلا بالمشهد السوري الذي يقتتل فيه فصائل من تيار فكري واحد "السلفية الجهادية" وأمامهم عدو إيراني اثنا عشري يدعم عدوهم النصيْري بكل ما يملك، رغم ما هو معروف من أن الاثنا عشرية يكفرون النصيْرية من فرط غلوهم!

(1)

استطاعت القوى الغربية أن تهزمنا وتسيطر على بلادنا وتفرض علينا أنظمتها التي لا شك في تناقضها مع ديننا وأصولنا وثوابتنا، وفيما أدرك الجميع مدى ما هو قائم من هذا التناقض إلا أن بعض المصلحين وأهل الدين وقف مكانه يكتفي بالإشارة إلى التناقض، فيرفض مزاحمة هذه الأنظمة في ما يُتاح من مساحات كالإعلام والانتخابات وأعمال النقابات والجمعيات، رفضا للدخول تحت مظلة "الدستور والقوانين الوضعية"، ثم هم لم يقدموا حلا لرفع هذه الهيمنة وهذا الاحتلال، في مشهد غريب تقول خلاصته: الإسلام ليس صالحا لكل زمان ومكان، وها هو العدو قد استطاع هزيمته ولا يجد أنصاره شيئا يفعلونه لإعادة شأنه.

بل لقد كان هؤلاء في غالب الأحيان طعنة في ظهر من حاول نزول الساحة ومقاومة هذه الأنظمة بما يُتاح.. يرمونهم بالتهم التي تبدأ بالكفر وتمر بالبدعة ولا تقف عند المعصية!

وهنا تُسفك الطاقات ثلاث مرات: مرة بحذف طاقات هائلة من معركة التغيير ومقاومة الأنظمة المتغربة، ومرة بصرفها نحو إثبات الثابت وتوضيح الواضح وهو بذل المجهود في بيان التناقض بين الإسلام والأنظمة القائمة، ومرة بتوجيه هذه الطاقة للطعن فيمن يزاحم ويجاهد.

في تركيا تكرر هذا المشهد على هذا النحو:

"ظهرت حركة (الفكر الوطني) على الساحة السياسية مع ظهور (حزب النظام الوطني) ثم تابعت الحركة مسيرتها مع تأسيس (حزب السلامة الوطني).

وكانت الغالبية العظمى من شباب الإسلاميين، سواء أكانوا على علاقة بالحزب أو لا، تربطهم به علاقة قريبة في أفكارها من التفسير الراديكالي للإسلام، حيث لم يروا في حركة (الفكر الوطني) بزعامة "نجم الدين أربكان" الحركة التي تمثل الإسلام بالقدر الكافي.

وكان الاعتراض الأساسي الذي تستند إليه هذه الرؤية يتعلق بالشكوك والمخاوف من امتزاج الحركة الإسلامية بأي حزب سياسي، فضلا عن الاعتراض على مفهوم الزعامة المطلقة التي يمثلها "أربكان". ولهذا، كانت حركة (الفكر الوطني) محل انتقاد دائم من شباب الحركة الإسلامية، فقد كانت بالنسبة للبعض منهم حركة تتجاهل الصدام الموجود بين النظام السياسي القائم وبين التصور الإسلامي للكون، كما أنها كانت بالنسبة للبعض الآخر حركة تستهدف الاستيلاء على الحكم من دون أن تكون في نيتها تشكيل حكومة إسلامية، كما أنها أيضا حركة ابتعدت عن المرجعية الإسلامية بتوافقها مع مفهوم الديمقراطية الذي يخوِّل السلطة للأمة من دون قيد أو شرط"[1].

وبعض هؤلاء لا يتحرج من إلقاء تهمة الانسجام مع الغرب والتنازل عن الإسلام تفسيرا لصعودهم في الانتخابات وتحقيقهم لبعض الإنجازات، فإذا جرى انقلاب غربي عليهم وعُلِّقوا على المشانق وطُرحوا في الزنازين لم يراجع رأيه ولم يُخطِّئ نفسه بل انصرف عن المعركة، ولربما دعم قاتليهم!!

(2)

يعتبر تولي أردوغان رئاسة بلدية (باي أوغلو) في انتخابات 1989م من أهم محطاته السياسية، وبحسب ما وثق مؤلفا كتاب "رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم" فإن ترشحه في هذه الانتخابات كان قرارا فرديا أصرَّ عليه رغم معارضة حزبه (الرفاة)، وذلك أنه كان يرى أن الحزب يمكنه بتغيير بعض الأساليب والوسائل في التواصل مع الناس أن يحقق المركز الأول. وقد صححت النتائج وجهة نظره واستطاع الفوز بمقعد البلدية في هذه المنطقة التي كانت حكرا على حزب الشعب الجمهوري والتي لم تكن تعطي حزب الرفاه إلا 3% من أصواتها.

ما يهمنا في سياق هذه القصة هو ذلك الرجل الذي فتح لهم الطريق إلى حي حاجي خسرو، وقد كان ذلك الحي قلعة حزب الشعب الجمهوري ولم يكن يعطي حزب الرفاه ولا صوتا واحدا، كان ذلك الرجل يدير مكانا للعب القمار! لكنه بدافع من المروءة اختار أن يكون صاحب معركة فتح الحي اليساري أمام الشاب ذي الخمسة والثلاثين عاما المرشح عن الحزب الإسلامي "المتشدد المتطرف"!!

يقول أردوغان عن دور هذا الرجل: "لم يدخر "قدرت" جهدا، ولم يبخل بمساعدة طوال الحملة الانتخابية، ونظَّم ليلة جميلة دعا إليها من يعرف من الفنانين، ورافقنا في لقاءاتنا مع سكان الحي، وفي اجتماعاتنا معهم على المقاهي، وفتح لنا الطرق، وسهل لنا الأمور، حتى بدا كأنه أكثر اهتماما بأمرنا منا".

ويقول أيضا: "كان قدرت يرهق نفسه ويجهدها كثيرا في مساعدتنا، حتى إنه في صباح يوم الانتخابات استيقظ قبل أن تشرق الشمس، وجاء إلى مركز تنسيق الانتخابات بملابس نومه من دون أن يغيرها، وتضايق كثيرا عندما لم يجد أحدا. وكنت أتفقد صناديق الاقتراع، فنظرت، فإذا بالسيد قدرت قد وضع واحدا من رجاله على رأس كل صندوق، واتخذ تدابير أمنية حازمة. وعندما رآني تقدم نحوي، وكان الغضب لا يزال يتملكه وباديا على وجهه وقال لي: يا سيدي الرئيس! إن أصحابك لا يُصلُّون، لتكن على علم بذلك. فقلت له: خير؟ ماذا حدث؟! فقال: ذهبت في الصباح إلى مكتبكم الانتخابي فلم أجد أحدا فقلت في نفسي لعلهم الآن في صلاة الفجر ثم سيعودون إلى هنا، ولكنني انتظرت فلم يأت أحد ولم يذهب أحد... سيدي الرئيس لا يمكنك الفوز في انتخابات أو في غيرها بهؤلاء الأصدقاء".

ويسجل أردوغان "وأذكر أنه وأصدقاءه طيلة فترة الانتخابات لم تلمس شفاههم الخمر"[2].

فهذا وأمثاله من الطاقات المسفوكة التي نادرا ما يفكر الإسلاميون في استثمارها، رغم أن الأمر لم يحتج إلا إلى طرق الباب!

إن الإسلام عميق كامن في نفوس شعوبنا، أو هو كما يقول الشهيد سيد قطب:

"إن الشر ليس عميقا في النفس الإنسانية إلى الحد الذي نتصوره أحيانا. إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء، فإذا آمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية، هذه الثمرة الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن يُشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم، وعلى حماقاتهم كذلك، وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون".

وأضيف على قول الشهيد بأن ذلك لا يحدث في سياق الضعف بل القوة، فالناس لا يلتفتون للضعيف حين يُبدي الحنان والمودة بل يرونها من ضرورات تسول وتوسل مشاعرهم، وإنما يأسرهم ذلك من القوي، وقد أخطأ قوم ظنوا أن التودد مع الضعف يرقق قلوب الناس حتى دفعوا ثمن ذلك من دمائهم، ولو أنهم توددوا في إهاب من القوة والمهابة لكان الناس لهم جنودا أوفياء!!

نشر في تركيا بوست



[1] حسين بسلي وعمر أوزباي: رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم ص41.
[2] السابق ص61 وما بعدها.

الأحد، يوليو 26، 2015

هل مشاركة تركيا في ضرب داعش مفاجأة؟

صديق وأخ كريم كتب منشورا، أغلب الظن أنه يعنيني به، في موضوع سكوتي عن الموقف التركي بضرب داعش.. وحقيقة الأمر أني لم أفكر في كتابة شيء عن هذا الأمر لأسباب كثيرة ليس أولها أني لا أرى نفسي محللا سياسيا ينبغي أن يقول كلمة في كل موقف، ولا آخرها أني لست متابعا عن كثب للأمر.

والحمد لله ليس يستفزني طلب أحد للكتابة عن شيء أو قول شيء، إلا أن هذا المنشور وغيره دفعوني لكتابة نقاط أحسبها غائبة عن النقاش الدائر.

1. تدين الأتراك صوفي، وبين الصوفية والسلفية ما صنع الحداد، وهو إرث طويل من الخلاف لا يُتوقع حله في وقت قريب، وأشد ما على قلب التركي المتدين (حقا) أن يقال له: هذا وهابي!

2. لا يقتصر الأمر على "التدين" وحده، فالتاريخ بين الوهابيين والدولة العثمانية ملتهب كما هو معروف، والسلفيون يرون الدولة العثمانية قبورية منحرفة واقعة في الشرك بينما يراها الأتراك (حتى غير المتدين منهم) مصدر عزهم وفخرهم، فيما يرون الوهابيين من مؤامرات الإنجليز لتدمير الخلافة العثمانية.

3. والحاضر الآن ليس أقل وردية.. فالسلفية -لا سيما من هم في معسكر #داعش- لا خلاف بينهما على أن أردوغان كافر مرتد، وهم لا يكتمون ولا أحدا من أنصارهم أنهم إن أتيحت لهم الفرصة فسيدخلون تركيا ويضمونها لخلافتهم تحت ظل أمير المؤمنين "البغدادي".

4. وعلى الناحية الأخرى تركيا لا تخشى كثيرا من داعش، لأن الوضع التركي أبعد ما يكون عن تأثير داعش فيه، وبينهما حواجز اللغة (العربية التركية) والمذهب (السلفية الصوفية) والتدين (ما يزال بعد الأتراك عن الدين هو الغالب بأثر سنوات العلمانية الطويلة).. إلا أن تركيا تستفيد بطبيعة الحال من كل الأوضاع السياسية وتتعامل مع كل الأطراف، وهي ربما أبرز من استفاد من وجود داعش في أكثر من ملف، أبرزها الملف الاقتصادي (داعش تصدر البترول بثلث السعر العالمي ولا تجد منفذا سوى تركيا، وتتيح مجالا واسعا لعمليات خلفية للمهربين والمقاولين وتجار مواد البناء ونحوه).

5. أي أن العلاقة بين الطرفين أصلا علاقة نفع متبادل، فهو بالنسبة لداعش تعامل مع كفار بدافع المصلحة، وبالنسبة للأتراك تعامل مع عبثيين عدميين لا مستقبل لهم (لأنهم يعادون الجميع ولأنهم بلا حلفاء ولن يصدموا أمام أي حرب حقيقية، وبقاؤهم مرهون بترتيبات دولية لا أكثر).

6. وغني عن البيان أن أردوغان يمكن أن تفسر مواقفه على احتماليْن:

أ- الأول: أنه إسلامي على الحقيقة ولكنه في دائرة صعبة وضيقة وكان لا بد له أن يتدثر بالعلمانية ليصل إلى الحكم، غير أن سياسته تدل على إسلاميته التي سببت له متاعب كثيرة، لكنه في النهاية مقهور ومحكوم بنظام دولي أقوى منه بكثير، ثم إنه لم يستكمل التمكين داخل دولته بعد.. فهو سائر في سبيله الإسلامي ما استطاع، لكنه يخضع ويُقهر حين يصير الوضع أكبر منه ولا يملك له ردا، وكل امرئ أدرى بنفسه.

ب- الثاني: أنه علماني على الحقيقة، ولكنه سياسي ذكي، يتاجر بأحلام وآمال الشعب التركي المسلم، ويدغدغ مشاعر المسلمين بكلمات وعبارات جوفاء لا شيء وراءها، إلا أنه عند الجد وفي موقع الاختبار يكشف عن علمانيته ويقدم على الكفر بلا تردد، إلهه المصلحة وسبيله البرجماتية النفعية المحرمة. ولا مانع أن تكون أمريكا تسوقه نحو إظهار هذه "الإسلامية" تحقيقا لأهدافها.

(ولكي أريحك، مع أي الاحتمالين أنا، فأقول لك: مع الأول.. والشرح يطول وليس هذا موضع بيانه بطبيعة الحال)

7. المهم الذي يجب أن يكون واضحا: أن الطرفين يعرفان ويعترفان بعداوة كل منهما للآخر، وأنه في لحظة القدرة -أو المصلحة- لن يتردد صاحب القدرة على الفتك بالآخر..

وجاءت هذه اللحظة في الوقت الذي كان فيه الأتراك هم الأقدر والأعلى يدا وأصحاب المصلحة في الهجوم.

وأكاد أرى الذين اندفعوا لمهاجمة الموقف التركي (ولا أدينهم وأتفهم موقفهم) إذا كان البادئ بالهجوم هو داعش، فسيتقبلون هذا على أقل تقدير وربما فسروه وبرروه ودعموه وباركوه.

8. تركيا، مهما بلغت من قوة اقتصادية، لا تجرؤ بطبيعة الحال على مناقضة موقف دولي حقيقي، فهذا حقا فوق طاقتها.. ثم إنه لو أخذنا زاوية السياسي التركي فسنرى الأمور على هذا النحو:

- أردوغان العلماني: سيندفع لتحقيق مصلحته ومصلحة بلاده بالوقوف مع الأقوى والأقدر طالما تحققت له مكاسب هو يطلبها أو أوقفت أخطار ينزعج منها (أحلام الأكراد مثالا).. ثم إن داعش في كل الأحوال منهزمة أمام أي حرب حقيقية فهي لا تملك لا عمقا جغرافيا ولا دعما بشريا ولا حليفا سياسيا ومواردها لا تعزب عن يد أعدائها. بل إن الإسلاميين -بما فيهم الجهاديون- أنفسهم منقسمون حولها.

- أردوغان الإسلامي: يرى أن داعش وهابيين وتكفيريين، وعدو متأخر في قائمة الأعداء، ولا يمثلون الإسلام الصحيح، فهم والأمريكان بالنسبة إليه سواء، والاضطرار الآن أن تكون في جانب الأمريكان فهم الأقوى والأقدر والأوسع تأثيرا على تركيا ونظامها.. فهو أيضا مضطر لتحقيق مصلحة ودفع مضرة.

9. أكاد أسمع قول القائل: حسنا، وفي النهاية، ما موقفك أو ما رأيك؟

ولإراحة صاحب هذا السؤال أقول:

موقفي: لا موقف، ولا أعرف..

وهو ذات موقفي من لحظات تاريخية كثيرة، وقد قلت أكثر من مرة وكررت في مقالات سابقة (انظر هذا على سبيل المثال) أنه في لحظات الضعف تصير الخيارات كلها مريرة، ولا يستطيع أحد أن يتخذ الموقف الأمثل بل يكون مضطرا لاتخاذ الموقف الأقل سوءا وخسائر.

ومثال هذه المواقف التاريخية المحيرة: الصراع الوهابي العثماني.. فأنت إذا نظرت من زاوية الوهابيين وجدت لهم منطقا بليغا في الدفاع عن الدين وتصحيح العقيدة.. وإذا نظرت من زاوية الدولة العثمانية التي تصارع على 4 جبهات (الروس الأرثوذكس، والغرب الكاثوليكي، والشيعة في الشرق، والتمردات الصليبية في أوروبا وغيرها) كنتَ أكثر انزعاجا من بزوغ تمرد آخر في أرض السنة والحرمين.. فهذا موقف محير حقا عند الدخول في تفاصيله إذ يتخيل المرء أنه يعيش في هذا الزمن.. هل يقف المرء مع أصحاب نقاء المنهج بكل عبثيتهم وعدميتهم وضعفهم (وقد أنهاهم جيش محمد علي ودمر الدرعية كأن لم يكونوا دولة تهدد بغداد ودمشق والحرمين) أم مع الدولة التي تحمل عبء الإسلام وتجاهد في البر والبحر شرقا وغربا؟!!

تخيل نفسك واسأل: أيهما أولى بالإصلاح، الدولة الفتية ذات المنهج النقي هي من تستحق الدعم لترث الخلافة التي صارت تضعف وتجدد أمر الإسلام.. ثم نحاول ترشيد تشددهم وغلوهم وتوجيه سيوفهم -بعدئذ- لدول الكفر المتربصة؟!

أم الأولى بالدعم والإسناد هو تلك الخلافة التي تقوم بأمر أمة الإسلام وتجاهد دول الكفر، مع بذل المجهود في تصحيح العقائد علميا وعمليا؟!

هذا مثال على مواقفة تاريخية محيرة (على الأقل لي).