الأحد، يوليو 05، 2015

في طبائع الشعوب

أوحت لي حلقة جو تيوب بموضوع متكرر يبدو أنه لا يزال غير مفهوم حتى الآن.. والمأساة أنه لم يزل مفهوما لأننا لم ندرسه حق الدراسة، بل لم يزل مفهوما رغم أننا دفعنا ثمنه آلاف الأرواح ومئات آلاف الضحايا وملايين الأموال.
الموضوع المأساة هو عدم فهمنا لطبيعة الشعوب..

ينتظر المرء أن الشعب يتحول إلى تقدير واحترام حاكمه الصالح الذي يفني نفسه في صالحه ولو كان ضعيفا، كما ينتظر من الشعب أن يتمرد على الطاغية الذي يذله ويقهره ولو كان قويا!

هذا "المنطق الرياضي الهندسي العقلي" يصلح لدراسة المواد والأشياء ولا يصلح لدراسة البشر والمجتمعات.. ولذلك فإن أحد أهم التفسيرات في فشل التيارات الإسلامية هي أن قادتها كانوا أطباء ومهندسين وخريجي كليات علوم وكيمياء ونحوه.. وهو تفسير قوي وإن كان الأمر أعمق من ذلك برأيي!

الشعوب ليست هكذا..

على العكس.. وجد عمر بن الخطاب من يقف له ويراجعه ويهدده بالتقويم بالسيف، فيم لم يستطع إلا النادر البسيط أن يقف قائلا عشر هذا المعنى لرجل كالحجاج بن يوسف الثقفي!

منذ أكثر من مائة عام كتب جوستاف لوبون (عالم اجتماع ومستشرق فرنسي) نظريته الاجتماعية عن الزحام.. وملخصها ببساطة أن سلوك الشعوب كمجموع لا علاقة له بسلوك الأفراد.. بمعنى: إذا وضعت جمعا من الأطباء أو المهندسين أو الأذكياء معا، فإن تصرفهم جماعيا لا علاقة له ولا شبه بتصرف كل منهم على حدة!

في المجموع تصبح الشعوب أكثر طفولية وسذاجة، وعواطفها تغلب على عقلها، كما تصير أكثر حدة في تعاطيها.. فتصبح أكثر كرما أو أكثر حدة، أكثر رحمة أو أكثر قسوة (بحسب الموقف والشعور العام واتجاه التحريض).

ومن هنا كان دوركايم -أشهر علماء الاجتماع الفرنسي- ميالا للطبيعة الجماعية، ومصرحا أن الفرد يذوب في المجموع حتى تختفي شخصيته الذاتية.

هذه النظرية ما تزال هي الأقوى والأقدر على تفسير حركات الشعوب، وصدى هذه النظرية ما زال صالحا، وصدر في كتاب قبل سنين بعنوان "الذرة الاجتماعية"للأمريكي مارك بوكانان.. وخلاصته: أن الإنسان مثل الذرة، وحين تدخل الذرة في المركب تفقد خصائصها الأصلية لتكون مع غيرها من الذرات ذات طبيعة وتصرف وسلوك مختلف.. وهكذا الإنسان حين يكون بين المجموع!

وجذور هذه النظرية موجودة في أقوال بعض علمائنا الذين فسروا قول الله تعالى (قل إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة).. فقالوا: أمر الله بالتفكر والتدبر في حال الاختلاء بالنفس أو الاستعانة بالواحد المقرب ليكون ذلك أدعى في الوصول إلى الحق، بينما التفكير في المجموع لا يتم لما يحدث له من التشويش والتشغيب واتباع الأعلى صوتا.

المهم:

ليس معنى أن الشعوب تستذل للطغاة أنهم عبيد.. ولا معنى استئسادهم على الصالح الضعيف أنهم عبيد.. المعنى ببساطة أن هذه هي طبيعة الشعوب!

ولأجل هذه الطبيعة كان لا بد للحاكم الصالح أن يكون قويا ولا يكفيه صلاحه.. كما كان لا بد للنبي أن يؤسس دولة ويحمل السيف ويجاهد لأن الناسلا يهتدون بمجرد (معرفة) الحق.. بل هو ذات النبي الذي أوذي في مكة بأنواع الأذى لما دخل مكة فاتحا بعد سنوات أسلم له من كان يؤذيه!

ولهذا قال الله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا).. فالناس يدخلون في الدين بعد أن ينتصر، لا قبل ذلك.. وفي أجواء الفشل والهزيمة تنبت كل أفكار الكفر والإلحاد والتشكك في الدين وفهمه وطريقه وصلاحيته.

الشعوب تعبر عنها ببساطة هذا الموقف الحقيقي:

سائق تاكسي يشتم الإخوان، قال له الراكب: لماذا؟

قال: لأن ابني خرج من المستشفى ولم يزل محتاجا إلى العلاج لأن الحكومة أغلقتها لهم.

قال الراكب مندهشا: ولماذا تشتم الإخوان إذن؟ اشتم الحكومة

قال: ما هم لو ما كانوش إرهابيين ما كانتش الحكومة قفلتها لهم!!

ومثل هذا الموقف ما ورد في حلقة جو تيوب آنفة الذكر.. أحدهم كفر بالله وينتظر السيسي.. وأحدهم يشتكي من الظلم ولا يقبل شتم السيسي.. وأحدهم مدح السيسي ثم اكتشفنا أنه لم يسمع خطاب السيسي لأن الكهرباء كانت مقطوعة!

ببساطة: ما تكرر تقرر!

وكان الشيوعي يعذب في سجون عبد الناصر وهو يهتف: يا عبد الناصر! ولا يصدق أن عبد الناصر هو من أمر بالتعذيب!

ليس هناك داع أن تشتم الشعب وتسبه.. المشكلة الحقيقية عند من لم يفهم طبيعة الشعوب (وهي طبيعة كل الشعوب لا الشعب المصري فقط كما يحلو لهواة جلد الذات.. فكل أوروبا عاشت في الإقطاع والاستبداد ونزل بشعوبها من المجاعات والمذابح ورغم ذلك ظلت شعوبهم تعتقد أن نبلاءهم من ذوي الدم الأزرق وأن البابا متصل بالسماء وأن الإمبراطور حاكم بحق الإله).

الشعوب كالطفل الصغير.. تصنع لها أذواقها وقضاياها واتجاهاتها وأهدافها.. ولذلك كان اختراع وسائل الإعلام (من أول المطبعة وحتى التليفزيون) من أهم التحولات الكبرى في علم الاجتماع من خلال ما وفرته من السيطرة على الشعوب. ومنذ ظهرت الطباعة ظهر معها ما سماه بندكت أندرسون "الجماعة المتخيلة".. أي قدرة وسائل الإعلام على "صناعة" هوية جديدة "متخيلة" لمجموعة من البشر!

ومن هنا نفهم كثيرا من الأمور:

نفهم أن السابق إلى الحق ليس كالمتأخر فيه (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا)

ونفهم عظمة الرجل الذي قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله، وكيف صار بذلك سيدا للشهداء

ونفهم مقام الغرباء في الدين الذين يصلحون إذا فسد الناس، وكيف أن عبادة الواحد منهم كخمسين من الصحابة، وكيف أن العبادة في الهرج كهجرة إلى النبي!

ونحن حين نفهم هذا نفهم أنه لا يستطيع أن يفعل هذا إلا أفذاذ الناس وكبارهم.. ولن تستطيعه الشعوب ولا العامة ولا أكثر الناس.. ومن هنا فالمراهنة على وعي الشعب وقوة الشعب وتمسك الشعب بثورته هو خرافة بلهاء

خرافة كم حذرنا منها من قبل (والأرشيف مفتوح لكل الناس للعودة إلى المقالات والمنشورات منذ أيام الثورة الأولى.. وليس في هذا عبقرية ولا ادعاء) حتى دفعنا ثمنها من الدماء والدموع والأموال!

فلا يحسن بعد كل هذا أن تتعلق خططنا وآمانينا وأحلامنا بالشعب والعامة، ثم لا يحسن أن نظل نقف ونشتم ونقارن بين حال الشعب أيام مرسي وأيام السيسي على وجه التأنيب والتقريع.. ربما يجوز هذا على وجه الفهم والتصحيح والتعلم لا غير.


نسأل الله أن يعلمنا ويرشدنا..

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف1:59 ص

    هذا المقال مهم جدا لمن يتبنون التغيير في طموحاتهم وأمنياتهم لتحويلها الي واقع يتغير به فكر الناس الجمعي وكيفية توجيه الناس

    ردحذف
  2. غير معرف12:32 ص

    اعتقد المقال باختصار : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .... أصلح نفسك

    ردحذف