الجمعة، يناير 30، 2015

موجز تاريخ الدولة الأموية (1)

قال ابن خلدون: «كان ينبغي أن تُلْحَق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم؛ فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة»[1].

لقد كانت الدولة الأموية هي أفضل دول الإسلام بعد دولة الخلافة الراشدة، ولم تأتِ بعدها دولة أفضل منها؛ فلقد اتَّسعت فيها الفتوح ما لم تَتَّسع من قبل، وأعادت فتح ما كان قد خرج من دولة الإسلام في زمن الفتنة، ثم أضافت إليها أرضًا وبلادًا جديدة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وحفظت بقاء الدولة موحدة يجمعها خليفة واحد يحكم من أقصاها إلى أقصاها.

تبدأ الدولة الأموية منذ تنازل الحسن بن علي -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-؛ فانتهت بذلك سنوات الفتنة التي شغلت الأُمَّة الإسلامية، وسُمِّي هذا العام بـ «عام الجماعة».

ومعاوية -رضي الله عنه- صحابي جليل، أسلم قُبيْل الفتح، وحسن إسلامه، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهد في حنين والطائف، ثم ولاه عمر بن الخطاب ولاية دمشق بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان، ثم ولي كلَّ الشام في عهد عثمان -رضي الله عنه-، واستمرَّ يحكم الشام في عهد علي وقت الفتنة الكبرى؛ حتى تنازل له الحسن عن الخلافة، فكان حاكمًا أربعين سنة؛ منها عشرين في الإمارة، وعشرين أخرى في الخلافة، فمات سنة 60هـ، وعمره ثمانية وسبعون عامًا، وكان معاوية محبوبًا غاية الحب في الشام، وهو أساس حب أهل الشام لبني أمية وولائهم لهم، وكان في غاية الحلم والذكاء، ويُضرب به المثل فيهما، وحكم ملكًا عظيمًا وساسه بخير سياسة؛ حتى لُقِّبَ بـ «كسرى العرب»، وكان حكمه نهاية للفتنة التي أصابت المسلمين، وبداية جديدة لعودة الفتوحات[2]

قال ابن تيمية: «لم يتولَّ أحد من الملوك خيرًا من معاوية؛ فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده»[3].

وللإمام الذهبي -مؤرِّخ الإسلام- كلمة بليغة في أمر الفتنة التي توزع فيها الناس بين المحب والمُبْغِض، قال: «وخلف معاوية خلقٌ كثير يحبُّونه ويتغالون فيه، ويُفَضِّلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإمَّا قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشئوا على النصب - نعوذ بالله من الهوى- كما قد نشأ جيش علي - رضي الله عنه - ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه، والقيام معه، وبغض مَنْ بغى عليه، والتبرِّي منهم، وغلا خلق منهم في التشيع. فبالله كيف يكون حال مَنْ نشأ في إقليم، لا يكاد يُشاهد فيه إلَّا غاليًا في الحب، مفرطًا في البغض، ومَنْ أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا، فعذرنا، واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ -إن شاء الله- مغفور، وقلنا كما عَلَّمنا الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]. وترضينا -أيضًا- عمن اعتزل الفريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعيد بن زيد، وخلقٌ، وتبرَّأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليًّا، وكفروا الفريقين»[4].

استقرَّت الدولة عبر عشرين سنة، ولما أحسَّ معاوية - رضي الله عنه - بقرب أجله رتَّب الأمر ليتولَّى من بعده ولده يزيد بن معاوية، ورأى أن ذلك هو الأفضل لمصلحة الأُمَّة، والمانع لتفرقها ودخولها في فتن جديدة؛ لا سيما والدولة قد اتَّسعت، وكثرت الأمم الداخلة فيها، وما هي بحاجة لأن تحتمل نزاعات جديدة قد تودي بها.

والتحليل المتأنِّي لجميع الروايات ولأحوال هذه الفترة يُفضي إلى القول بأن هذا القرار كان هو القرار الأصوب في هذه الفترة[5]، وقد لخَّص هذا ابن خلدون حين قال: «الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذٍ من بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يُظَنُّ أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول؛ حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهمُّ عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحقِّ هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزَّة في قبول الحقِّ؛ فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه»[6].

كثير من الروايات وردت عن فسق يزيد بن معاوية وتهتُّكه وشربه للخمر، وثمة روايات أخرى تصمه بأكثر من هذا، ولا يصح شيء من هذه الروايات، بل إن يزيد كان من الشخصيات القوية والمؤهَّلة للخلافة -ولو لم يكن أفضل الموجودين بطبيعة الحال- وقد كان قائد الجيش الذي غزا القسطنطينية في عهد أبيه.

وبايعت الأمصار يزيد بن معاوية، ولم يرفض بيعته إلَّا أربع شخصيات: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، فلمَّا تُوُفِّيَ معاوية كان محمد بن أبي بكر قد مات، وكان عبد الله بن عمر معترضًا على مبدأ مبايعة الخليفة القادم في حياة القائم؛ فلمَّا تُوُفِّيَ معاوية وبويع ليزيد بايعه عبد الله بن عمر، وبقى عبد الله بن الزبير والحسين على معارضتهما ليزيد، فأمَّا عبد الله بن الزبير فلم يخرج، وأمَّا الحسين فقد غَرَّه أهل الكوفة وطلبوا قدومه إلى الكوفة؛ لكي يتزعمهم في الخروج على يزيد.

كثير من الصحابة والتابعين نصحوا الحسين بعدم الخروج، لا سيما وأن أهل الكوفة لم يَبْدُ منهم عزمٌ جادٌّ؛ فما زال الوالي الأموي يحكمهم ولم يخرجوا عليه، إلَّا أنَّ الحسين - رضي الله عنه - أصرَّ على الخروج، وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليأخذ له البيعة، فما كان مصير ابن عمه إلَّا الاعتقال، ولما وصل الحسين إلى الكوفة كان حال أهلها كما قال الفرزدق: «قلوبهم معه وسيوفهم عليه». وما صمدوا معه ولا ثبتوا أمام والي العراق ولا جيش الأمويين الذي كان أهله من العراق أيضًا، وسارت الأحداث كأسوأ ما تكون المسيرة؛ حتى أسفرت عن استشهاد الحسين في مأساة كربلاء الشهيرة.

كان استشهاد الحسين مصيبة من المصائب التي نزلت بالأُمَّة المسلمة، لكنها على كل حال ليست أفدح من استشهاد عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب، وتضخيم هذه الحادثة وحدها إنما هو في جوهره تضخيم لمصالح سياسية وقتية، ونقطة من نقاط الاشتعال بين السُّنَّة والشيعة، وما ثمة أحد في السُّنَّة يحبُّ يزيد أكثر مما يحبُّ الحسين، إلَّا أنها إعادة إنتاج الأحداث بما اشتملت عليه من روايات ضعيفة وباطلة رواها كذابون لا يعتدُّ بهم[7].

على كل حال؛ انتهت ثورة الحسين باستشهاده؛ لكنها أشعلت القلوب، لا سيما وأن يزيد -وإن لم يُرضه قتلُ الحسين وبكى عليه وأكرم أهل بيته- لم يأخذ إجراءً عمليًّا ضد عبيد الله بن زياد (والي الكوفة) أو عمر بن سعد (قائد الجيش)، وكلاهما لم يتركا للحسين فرصة للعودة أو لإنهاء القتال، وإنما أرادوه أسيرًا فأبى، وقاتل حتى قُتِل، فكان من آثار استشهاده ثورة في العراق قام بها مجموعة ممَّنْ شعروا بالندم لخذلانهم الحسين، وسموا أنفسهم «التوَّابين»، إلَّا أن الثورة الأخطر والأكبر كانت في المدينة المنورة.

وهذا ما نعرضه في المقال القادم بإذن الله..



[1] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/ 188.
[2] ابن سعد: الطبقات الكبرى 7/ 406، والبغوي: معجم الصحابة 5/ 363، وابن عساكر: تاريخ دمشق 59/ 57 وما بعدها (وفيه كثير من الأحاديث الضعيفة)، وابن الأثير: أسد الغابة 4/ 416، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3/ 119 وما بعدها، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 6/ 151.
[3] ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 7/ 328.
[4] الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/ 128.
[5] ناقشت هذا في دراسة منفصلة بعنوان: «هل كان معاوية محقًّا حين عهد بالخلافة إلى يزيد؟»، وانظر "معاوية والتوريث"
[6] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/ 210، 211.
[7] راجع في هذا: د. علي الصلابي: الدولة الأموية 1/ 482 وما بعدها، ويُعَدُّ هذا من أوفى ما كُتب في الموضوع، فقد جمع فيه خلاصة ما كُتب في المراجع الأخرى.

الثلاثاء، يناير 27، 2015

حزب النور.. من المسجد إلى البرلمان



بعد أقل من عام على صدور كتابه الأول "ما أخفاه العلمانيون من تاريخ مصر الحديث" يصدر له الكتاب الثاني "من المسجد إلى البرلمان.. دراسة حول الدعوة السلفية وحزب النور".

ذلك هو معتز زاهر، شاب سلفي كان حاضرا في المواطن الثورية، كما كان مقربا من جماعة الدعوة السلفية وشيوخها، ثم كان الحق أحب إليه مما سواه، ففارقهم وكان من الفاعلين في حملة الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، وكان من أعضاء المكتب التنفيذي لرابطة النهضة والإصلاح، وهي حركة شبابية إسلامية ثورية تكونت بعد إسقاط مبارك بيومين.

وعلى غير ما يتوقع المرء من مؤلف هذا حاله أن يكون كتابه قاسيا شديدا على جماعة الدعوة السلفية وذراعها حزب النور، جرى المؤلف على عادته التي ظهرت في كتابه الأول، إنه ينقل كثيرا ويتكلم قليلا، فعبر نحو 240 صفحة من هذا الكتاب لا يكاد ما كتبه المؤلف بنفسه تعبيرا عن رأيه يبلغ خمس عشرة صفحة.

هو –إذن- كتاب طالب للحق –أحسبه كذلك والله حسيبه- لا كتاب موتور على شاكلة الخرباوي ومختار نوح والهلباوي وأمثالهم، ولغة المؤلف هادئة، فهو لم يكن يحتاج لغة صاخبة كي يُظهر الحقائق المطلوبة، فانقلاب الدعوة السلفية على مبادئها وأدبياتها أوضح من أن يُحتاج معه إلى مؤثرات عاطفية أو أساليب لغوية أدبية.

يقع الكتاب في تمهيد وخمسة فصول:

يستعرض التمهيد بدايات الصحوة الإسلامية في التاريخ المعاصر فيعرض تاريخا موجزا للجماعات الإسلامية التي تكونت كردِّ فعل على الضعف الإسلامي منذ بداية القرن العشرين: الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة، أنصار السنة المحمدية، جمعية الشبان المسلمين، جماعة الإخوان المسلمين. فيعرض لمؤسسها وملامح منهجها وشيئا من أعمالها. ويريد التمهيد أن يُكَذِّب دعوى جماعة الدعوة السلفية التي لطالما قدَّمت نفسها وكأنها البعث الإسلامي الأول في مصر!

ثم يتحدث الفصل الأول عن نشأة جماعة الدعوة السلفية منذ السبعينات وحتى ثورة يناير 2011، ويُلاحظ حرص المؤلف على تسميتها "انتفاضة يناير"، وهو خمسة مباحث:

1. يبدأ المبحث الأول منذ انبعاث الصحوة الإسلامية بين طلاب الجامعات في السبعينات، ويجمع من شهادات مؤسسي الجماعة ومن مؤسسي الإخوان كيف بدأت الجماعة في التشكل منذ كانت جزءا من التيار الإسلامي العام حتى انفصلت بنفسها في مقابل الإخوان المسلمين من جهة والجماعة الإسلامية من جهة أخرى، لكن شهادات مؤسسي الجماعة عن تلك الفترة تؤكد أن نشأتها إنما كانت بالأساس في سياق التمايز –والتنافس- عن الإخوان المسلمين الذين هم –بنظر الجماعة- متميعون متساهلون مفرطون لا يهتمون بالقضايا الأساسية كالجهاد والولاء والبراء والهدي الظاهر. وقد وُفِّق المؤلف في أن يكشف عن "جذور العداء" بين جماعة الدعوة وبين الإخوان المسلمين منذ ذلك الوقت المبكر.

2. ويعرض المبحث الثاني لأهم رموز جماعة الدعوة السلفية ومؤسسيها كمحمد إسماعيل المقدم وسعيد عبد العظيم وأبي إدريس محمد عبد الفتاح وأحمد فريد وياسر برهامي، كما يعرض للهيكل الإداري للجماعة وأهم المنابر الإعلامية التي أنشأوها.

3. ويعرض المبحث الثالث لمنهج الجماعة، الذي هو "السلفية" من حيث معناها، وما يعتمده المنهج السلفي من قواعد الاستدلال، وأصوله العلمية، ثم تلك القضايا الفكرية التي أولتها الجماعة اهتماما خاصا باعتبارها قضايا الوقت الواجب الاعتناء بها. ثم يركز المؤلف من بين هذه القضايا على قضيتين لما لهما من أهمية خاصة في سياق البحث فيجعلهما في مبحثين منفصلين:

4. منهج التغيير لدى الجماعة وموقفها من الديمقراطية، وفيه يظهر بوضوح أن الجماعة لم تفكر في اعتماد وسائل تغيير يمكن أن تصادم السلطة، ورغم وضوح أدبياتها في بطلان هذه الأنظمة القائمة التي لا تتحاكم إلى شرع الله وتحارب الدين إلا أن الجماعة اتخذت موقف الحفاظ على الدين "صافيا نقيا" دون محاولة خوض معركة مع السلطة لإنفاذ هذا الدين وإقامته، وكانت أبرز مواطن هذا الحفاظ على الدين هو الرفض القاطع لفكرة الديمقراطية لما فيها من تلبس بالشرك من خلال دخول المجالس النيابية التي تشرع القوانين فتأخذ لنفسها حق التشريع (الذي هو لله وحده) ثم تجعل من حق الأغلبية أن تعطل أو تبدل ما هو شرع ثم إنها لا تراعي في ضوابط الوصول إليها المؤهلات الشرعية، هذا إلى أن المشاركة في هذه المجالس يجمل النظام الحاكم ولا يحقق الإصلاح المنشود، وهو الموضوع الذي لطالما أكدته الجماعة بوجه لا يجعل من سبيل إلى تغيير رأيها فيما بعد لأنها أصلت له أصولا شرعية تضرب فكرة الديمقراطية نفسها لا مجرد آلياتها، وهو الموضوع الذي ما يزال يثار عند كل انتخابات وبالأخص في مواجهة الإخوان المسلمين الذين يخوضون هذه الانتخابات.

5. كذلك فإن الجماعة لم تعتمد أي منهج ثوري في محاولة تغيير الواقع، فلم يكن في أدبياتها ما يدعو إلى الثورة، بل ولا كانت تعترض إذا واجهها الأمن بمنع بعض أنشطتها أو اعتقال بعض مشايخها أو غلق معهدها العلمي، وساق المؤلف المواقف التي سارعت فيها الجماعة لتهدئة الشارع وإلزام أتباعها بالسكون في لحظات غضب مثل حادثة مسرحية "كنت أعمى والآن أبصر" أو حادثة مقتل سيد بلال تحت التعذيب أو إرهاصات ثورة يناير وأيامها الثمانية عشرة.

ثم ينتقل الفصل الثاني ليستعرض ما طرأ على الجماعة بعيد ثورة يناير والذي كان أبرز علاماته تأسيس حزب النور، وقد عرضه المؤلف في ثلاثة مباحث؛ الأول: مولد حزب النور واستعرض فيه خطوات التأسيس منذ المفاجأة ومرحلة الترقب ثم مرحلة التردد ثم مرحلة المشاركة ثم مرحلة التغلب على الحزب وانصهاره في الجماعة وصيرورته ذراعها السياسي. والثاني: يستعرض فيه برنامج حزب النور وأبرز شخوصه ومنابره الإعلامية. والثالث: يستعرض فيه أهم ما جرى على حزب النور في الأعوام الثلاثة التالية للثورة والمحطات التاريخية للحزب والجماعة.

ثم جاء الفصل الثالث –وهو برأيي قد أعد بطريقة غاية في الذكاء- لأنه استعرض موقف الجماعة من "الحكم المدني والحكم العسكري"، وقد جعله المؤلف في مبحثين:

1. يتحدث المبحث الأول عن العلاقة مع الإخوان (باعتبارهم الحكم المدني) قبل ثورة يناير، ثم في الفترة من يناير 2011 حتى يناير 2013 (وهو التاريخ الذي انحاز فيه حزب النور إلى جانب الجبهة العلمانية "جبهة الإنقاذ" وظهرت عداوته وخصومته للإخوان)، ثم فيما بعد هذا التاريخ الذي بدأت به مرحلة سماها المؤلف "مرحلة سيطرة برهامي على الحزب".

2. ثم جاء المبحث الثاني ليتحدث عن علاقة الجماعة مع الحكم العسكري، والتي بدأت في عهد المجلس العسكري من فبراير 2011 حتى انتخاب مرسي، ثم مع الانقلاب العسكري من بعد يوليو 2013.. وقد أثبت المؤلف من خلال نقولات متعددة كيف انقلبت جماعة الدعوة على أصولها ومبادئها التي زخرت بها أدبياتها فيما قبل الثورة.

وانتقل الكاتب من هذه النقطة إلى الفصل الرابع الذي استعرض فيه موقف السلفيين من جماعة الدعوة السلفية، سواء كانوا مصريين أو غير مصريين، فجمع مواقف الشيوخ: عبد الرحمن عبد الخالق (مصري مقيم بالكويت ومن كبار منظري التيار السلفي كله) وسعيد عبد العظيم (من مؤسسي الجماعة والذي انشق عنها وهاجمها بقوة بعد الانقلاب العسكري) وأحمد السيسي (وقد كان منهم فانفصل عنهم وهاجمهم كذلك) ومحمد عبد المقصود (وهو أبرز شيوخ التيار السلفي في مصر) ومثله فوزي السعيد، وكذلك مواقف أحمد النقيب وحسن الكتاني (مغربي) وعلوي السقاف (سعودي) ثم ختم بالبيان الذي وقعه نحو ثلاثين من علماء السعودية والذي هاجم مواقف جماعة الدعوة السلفية. ثم ختم الفصل برد الجماعة على هذا البيان لأنه أشمل ردودها على من خالفوها.

وأفرد الكاتب آخر فصول الكتاب الفصل الخامس لبيان وتفصيل الانقلاب الكبير الذي جرى على جماعة الدعوة السلفية في مبادئها وأفكارها وسلوكها، فاستعرض الكاتب بشكل مقارن مواقف الجماعة في هذه الأمور قبل وبعد الثورة، فجعله في سبعة مباحث، كل منها يعرض لقضية:

1. النظرة للدولة وكيف تحولت من العداء وعدم الاعتراف بشرعيتها ولا شرعية مؤسساتها القضائية والشرطية والعسكرية إلى الوفاق مع هذه الدولة والحفاظ على مؤسساتها واعتبارها آخر ما بقي للوطن بل آخر ما بقي للأمة العربية. ثم دعم طاغوتها وطاغيتها والحشد له كما لم يحشد أحد.

2. التحول في منهج التغيير واختلاق كلام جديد ودعاوى جديدة تكذبها أدبياتهم القديمة في مسألة الديمقراطية والمشاركة السياسية.

3. تغير مفهوم "الإكراه" الذي أصلته الجماعة في أدبياتها ليدخل في مفهوم "التقية" الذي أصلته هي قديما ورفضت الخلط بينهما.

4. تغير مفهوم "قاعدة المصالح والمفاسد" الذي قالت به الجماعة قديما، وهنا ساق المؤلف رد جماعة الدعوة على الإخوان في حكم المشاركة البرلمانية وتأصيلهم لكون المصلحة إن لم تكن موهومة أو مرجوحة فهي متممة ولا يمكن أبدا أن ترجح على المفاسد المؤكدة. فكأنما كان هذا البيان أفضل رد على انقلاب الجماعة على نفسها وأقوالها الآن، وساق المؤلف ما يؤكد أن شيئا لم يتغير –بل تغير إلى الأسوأ- يجعل ما وضعوه من قاعدة الترجيح يختلف.

5. انقلاب الجماعة في موقفها من العلمانيين وكيف انتقلوا من "أعداء الدين" إلى "شركاء الوطن"، وكيف لم يكن مقبولا –من قبل- أن تأتي الانتخابات بمسيحي إلى الرئاسة أو موقع ولاية إلى أن صار يمكن المسيحي أن يكون رئيسا لحزب النور إن جاءت به الانتخابات.

6. انقلاب الجماعة في موقفها من الحزبية والأحزاب إلى أن صار لها حزب يمثل ذراعها السياسي، وهو الحزب الذي "انصهر فيها" بتعبير المؤلف ولم يُسمح له بأي استقلالية.

7. انقلاب الجماعة في موقفها من الدستور، منذ إشعالها لمعركة في غير وقتها بعيد أيام الثورة (المادة الثانية والحفاظ على الهوية) مرورا بالمزايدة على الإخوان والذي وصل إلى النجاح في وضع المادة 219 في دستور 2012، ثم التخلي عن كل هذه المواد في دستور الانقلاب بل ودعمه والموافقة عليه والحشد للموافقة عليه مع الادعاء بأنها لم تفرط في شيء بل حافظت على مكاسب الشريعة في الدستور، وهو ما يثبت المؤلف –عبر نقل رد قانوني من المستشار محمد وفيق زين العابدين- أنه هراء.

ثم وضع المؤلف خاتمة أجمل فيها سيرة ومسيرة هذا الانقلاب الكبير للجماعة السلفية.

إنه كتاب يستحق أن يقرأ، خصوصا وأن التجربة لم يكتب عنها بعد، فهو كتاب رائد..

ورغم أن البدايات دائما مهزوزة، والأعمال الرائدة قليل منها ما يكون قويا، إلا أن هذا الكتاب باعتماده على النقل والمقارنة وقلة تدخل الكاتب برأيه يجعله من هذه الأعمال الرائدة الرصينة إن شاء الله.

إن النظر في هذه المسيرة يرى كيف أنها مسيرة تصب في محصلتها ضد الحركة الإسلامية، وهنا لا يعنينا إن كان ذلك بقصد أم بغير قصد، وإن كان يغلب على ظني أنه بغير قصد في الأغلب الأعم، فقد استعملت دعاوى الصفاء والنقاء والحفاظ على الدين في ضرب الحراك ضد السلطة، فالجماعة لم تتحرك في مناوأة السلطة ثم لم تعذر من تحركوا واعتبرتهم مبتدعين منحرفين وجعلت ذلك دينا لا يجوز التفريط فيه. فما إن انفتح الباب بعد الثورة حتى انهالوا على العمل السياسي الذي كانوا قد حرموه ثم رفضوا دعاوى التوافق مع العلمانيين وكانوا الأكثر تشددا لكنهم ما لبثوا أن هاجموا حازم صلاح أبو إسماعيل –وهو الأحرى بدعمهم لأنه الأكثر والأوضح إسلامية- واقترحوا على الإخوان ترشيح أحدهم، فلما استبعد حازم تركوا مرشح الإخوان وانتخبوا أبو الفتوح وهو أكثر من يُتهم بالتميع والتفريط. ثم تحولوا في لحظات مفاجئة إلى التحالف مع العلمانيين (جبهة الإنقاذ) ضد الإسلاميين، ثم ختموا بوقفة العار والخيانة الكبرى إلى جوار العسكر والعلمانيين والكنيسة لإزاحة الرئيس المسلم محمد مرسي، ولم تثنهم المقاتل والمذابح التاريخية في التحول عن موقفهم بل ازداد دعمهم للطاغوت الطاغية فمكنوا له بكل ما استطاعوا.

إنه نموذج لتجربة إسلامية لا ريب في أن دوافعها وعموم من أسسوها وشاركوا فيها وعملوا لها صالحون طيبون ابتغوا رفعة الدين، لكن مكر الليل والنهار وعمل أجهزة الأمن والمخابرات استطاع تحويل هذه التجربة لتكون أحد أهم أذرعهم، ودون حتى أن يدفعوا ثمنا مقابلا، فبرغم كل ما فعلته جماعة الدعوة إلا أنها الخاسر الأكبر الذي لا يحظى ولا حتى باحترام شكلي من قبل السلطة الانقلابية.

أسأل الله أن يجعل هذا الكتاب في ميزان حسنات مؤلفه وأن يكتب له القبول.. كما أسأله تعالى أن يعلمنا من تجارب السابقين ما نهتدي به في قابل الأيام.

نشر في نون بوست

السبت، يناير 24، 2015

نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج2)

ذكرنا في المقال الماضي ما نعنيه بالرؤية الإسلامية لعلم الاستغراب، وخلصنا إلى أن ما نرضاه من تعريف المستغرب هو: "من له دراسات أصيلة في الغرب -أو موضوع متعلق به- على قاعدة من الاعتزاز الذاتي بنفسه وحضارته الإسلامية".

فأما وجود الدراسات فدليل على الثقة بالنفس والإقدام على التقييم وهو يناقض الهزيمة النفسية، وأما الأصالة فلئلا يدخل فيها الخواطر والمقالات ومذكرات السفر والسياحة، وأما تعلقها بالغرب فهذا هو موضوع العلم، وأما الاعتزاز بنفسه فآية ذلك ما يظهر في معالجته لنقاط الاشتباك والفوارق المؤثرة والموضوعات الشائكة مثل: الدين والدولة، وسؤال التقدم والتخلف، والإسلام والعلمانية، وحدود الحرية... ونحو هذا.

وهذا التعريف يثير بضع أسئلة:

الأول: هل يمكن لغير المسلم أن يدخل تحت هذا التعريف وهو لا يؤمن بالإسلام دينا؟ والجواب: إن الإسلام يمثل الذات الحضارية للمسلم وغير المسلم، وفي العالم الإسلامي كثير من غير المسلمين يعتزون بانتمائهم الحضاري للإسلام، وقد تشربوا عبر هذه القرون معظم الأعراف والعادات الإسلامية حتى صار تكوينهم النفسي والفكري إسلاميا، وإن لم يعتنقوا الإسلام دينا. فمن هنا لا إشكال في أن يحقق غير المسلم هذا التعريف للمستغرب.

الثاني: ما حال من تنقل بين المذاهب والأفكار، وله إنتاج مختلف الميول والتوجهات عن الغرب؟ والجواب: الاستفادة من إنتاجه كله أمر قائم في كل وقت، بل نحن نطرح أن يُستفاد في دراسة الغرب مما كتبه غربيون، ولكن يُنظَر في إنتاجه، ثم لا يُعتبر من "الاستغراب" إلا ما كتبه إذ كان على منهج دراسة الغرب برؤية ذاتية حضارية إسلامية، فأما غير هذا فلا يحقق الشرط.

الثالث: ما حال من يُنازَع في أن منهجه إسلامي، فهو يدعي هذا لنفسه ولا يُقِّره غيره؟ والجواب: أن حدَّ المنهج هو حد الإسلام نفسه، فما دام الباحث لا يعلن انتماء آخر له غير الإسلام كالعلمانية -بفروعها: الماركسية، الليبرالية، اليسارية.. إلخ- فالأصل أنه إسلامي المنهج، إلا أن يعلن ما ينقض أصلا من أصول الشريعة أو يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة بلا تأويل أو بتأويل غير سائغ. ولا ريب أن القرائن والأحوال ترجح ما قد يخفى ويقع فيه اللبس والتنازع.

وعليه فإن حدَّ الاستغراب كما نراه هو "دراسة الغرب -أو موضوع متعلق به- دراسة أصيلة، انطلاقا من المرجعية الإسلامية"[1].

ولا نرى بأسا في أن يكون تعريف الاستغراب هو مقلوب تعريف الاستشراق -وللاستشراق تعريفات كثيرة مشتهرة- من الشرق إلى الغرب، مع إضافة قيد "المرجعية الإسلامية"، لكن التعريفات تدور حول هذا المعنى.

وتعدُّ دعوة المستشرق الألماني رودي بارت أول ما وجدناه صريحا في الدعوة إلى علم الاستغراب[2]، وقد صدرت ترجمته العربية عام 1967م، ولم أفلح في الوصول لزمن صدور طبعته في الألمانية أو الإنجليزية، ومن المثير للتأمل أن المستشرق المتعاطف مع المسلمين رأى فيهم القدرة على هذا قبل أن يراه كثير من "نخبتهم"!!

وأشار د. أحمد سمايلوفيتش في كتابه القيم "فلسفة الاستشراق"[3] إلى هذا الموضوع، واستدرك على رودي بارت أنه لم ينتبه -هو ولا غيره- إلى المحاولات الرائدة للطهطاوي ومحمد عبده وشكيب أرسلان والعقاد ومالك بن نبي في هذا المجال، واختار تعريفا للمستغرب يقول: "هو الذي تبحر من أهل الشرق في إحدى لغات الغرب وآدابها وحضارتها"[4].

ثم، وبعد حوالي خمسة عشر عاما، جاء كتاب حسن حنفي "مقدمة في علم الاستغراب"، إلا أن الكتاب -لكونه يمسّ حاجة قائمة، ولكون صاحبه من النخبة المشهورة- قد حظي باهتمام كبير، ومن بعد هذا الكتاب صار الموضوع يُثار على نطاق واسع في الملتقيات والندوات والمقالات في المجلات العلمية والصحافة السيارة، حتى صار طبيعيا ومعتادا أن تقرأ هذه الدعوة في توصيات كل مؤتمر أو في كلمته الافتتاحية أو بحد أدنى في أحد الأوراق المقدمة إليه.

لكن هذه الرغبة لم تتحول إلى خطط عملية بعد، رغم أن بعض الأساتذة بذل مجهودا في وضع خطة لعلم الاستغراب منذ وقت مبكر، منهم د. السيد محمد الشاهد الذي قدم خطته لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (1989م)، ونشر موجزًا لها في صحيفة "مرآة الجامعة"، ثم في مجلة (المسلمون)[5].

وفي كل ما اطلعنا عليه من هذه المقالات والمؤتمرات لا يخرج الكلام عن ضرورة دراسة الغرب بالمعنى المتبادر إلى الذهن، إلا أن حسن حنفي حاول توسيع العلم فقال بأن علم الاستغراب ليس قاصرا على دراسة الغرب، بل هو "في حقيقة الأمر تحليل الثقافة الوطنية ووصف تفاعل الجبهات الثلاثة فيها: التراث القديم، التراث الغربي، الواقع المباشر"[6]، ولئن كنا لا ننكر أن هذه الأشياء من لوازم الخوض في دراسة الغرب، إلا أنها ليست منه، بل نراها توسيعا لهذا العلم يعسر معها انضباطه وتحديد إطاره، وما نراه قال هذا إلا ليمنع كل دراسة من قبله أو من بعده لا تتفق مع منهجه من أن تسمى استغرابا كما يبدو في سياق الكلام، بل نذهب إلى أن كل ما هو دراسة للغرب من قبلنا هو "استغراب" وإن لم يقصد إلى هدف آخر نظري أو عملي، على أنه لا يكاد يوجد دراسة بغير هدف أو بغير أثر عملي.. إلا أن استهداف هذا شيء، ووجوده عرضا شيء آخر.

ومن هنا نبدأ في إلقاء الضوء على المحاولات الأولى لدراسة الغرب، والتي يجوز أن نسميها بواكير الاستغراب أو طلائع الاستغراب أو الاستغراب المبكر.

نشر في نون بوست



[1] هذا التعريف هو أخصر ما استطعناه مما يعبر عن المعنى الذي أردناه، مع الاعتراف بأن وضع تعريف جامع مانع يكاد يكون من مستحيلات العلوم الإنسانية، فكيف إذا كان التعريف لعلم لم ينشأ بعد؟!
[2] رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص13. وقد أشار رودي بارت إلى دعوة محمد رحباء التي جاءت في مؤتمر العالم الإسلامي (لاهور: ديسمبر 1957، يناير 1958م) لدراسة الغرب دراسة موضوعية، ولكن مجرد وجود الدعوة مبذول من قبل ذلك بكثير كما سنرى في المبحث التالي "الرواد الأوائل"، بينما تعد أولية بارت في تسميته لهذه الدراسة بـ "علم الاستغراب".
[3] وأصل الكتاب رسالة دكتوراة نوقشت عام 1974م، بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر.
[4] د. أحمد سمايلوفيتش: فلسفة الاستشراق ص36، 37.
[5] د. السيد محمد الشاهد، مرآة الجامعة بتاريخ 20 جمادى الأولى 1410هـ (19/12/1989م). ود. السيد محمد الشاهد، جريدة المسلمون بتاريخ 11- 17 رمضان 1410هـ، 6- 12 أبريل 1990م. (نقلا عن: د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص14)
[6] حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص55.