السبت، يناير 18، 2020

مذكرات الشيخ رفاعي طه (22) بلغ التحرش في جامعة أسيوط حدًّا فظيعا، وكان العميد يؤيد ذلك


من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية


بلغ التحرش في جامعة أسيوط حدًّا فظيعا، وكان العميد يؤيد ذلك

·        استطعنا ولأول مرة أن نلزم الجامعة بالفصل بين الطلاب والطالبات
·        لم يكن انفصالنا نحن والإخوان انفصالا فكريا أو علميا، إنما هي خلافات إدارية
·        الفكرة الجامعة بين مؤسسي الجماعة الإسلامية معارضة النظام المصري الفاسد الخائن

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لقراءة الحلقات السابقة:

إذا تبين لنا هذا الحال –الذي ذكرناه في الحلقات السابقة- في خريطة التيار الإسلامي داخل جامعة أسيوط، فسيكون علينا أن نتابع التمايز والتكون التدريجي لأفكار الجماعة الإسلامية التي استقلت بهذا الاسم عن الإخوان المسلمين في جامعة أسيوط، وصارت تعبيرا عن تيار بدأ الدعوة ولم تستطع الجماعة احتواءه حتى وقع الانشقاق الذي ذكرنا قصته.

لقد ذكرت أننا لم نكن أصحاب رؤية كلية جامعة، إنما هي أفكار التدين البسيطة الأولى التي تجمع الشباب المسلم الغيور على دينه، ومن هنا كان تكوُّن أفكارنا في الجماعة الإسلامية وليد المناقشات الجانبية بيننا، لم نعقد –مثلا- مؤتمرا أو مخيما أو ندوة جامعة لنسأل أنفسنا من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف سنصل إليه؟.. تلك الأسئلة الكبيرة العميقة التي يبدأ الآن بها بعض الشباب جلساتهم البسيطة، فيختلفون عليها فينفضون قبل أن يعملوا شيئا!!.. كان الأمر لدينا بسيطا، نحن قوم عاملون عمليون، تحركنا تلك الأفكار البسيطة الأولى، ثم تأتي الحركة بالتكون التدريجي للأفكار. وهكذا، وفي أروقة الحوارات الجانبية بيني وبين عاصم أو بين كرم وبين حمدي أو بين آخرين وُلِدت أفكار الجماعة الإسلامية.

ولأن الأفكار لا تولد في الفراغ، ولا في الذهن المحض، فلقد كان واقع الخلاف مع الإخوان في الجامعة صاحب نصيب كبير في هذا التكون الفكري، لقد بدأ التمايز من إخفاق الإخوان في احتوائنا ومن نجاحنا في الاستقلال عنهم، كان الشيخ صلاح هاشم ثم أسامة حافظ وأنا ثم ناجح إبراهيم رموز هذه الحركة الطلابية التي تمايزت عن الإخوان، وظل لها الشعبية الأكبر داخل الجامعة فيما كانت شعبية الإخوان على الأخص في كلية العلوم وجزء من كلية الطب.. وقد بدأ التمايز الفكري بيننا وبينهم من باب العمل، لقد كنا حريصين تماما على صبغ الجامعة بالصبغة الإسلامية.

مثلا: الإخوان لا يرون إعفاء اللحية واجبا، هم يرونها سنة مؤكدة ويحبذون إعفاءها، ويجيزون حلقها في ظل ظروف التضييق الأمني أو طلبا لمصلحة التأليف الدعوي أو حرصا على عدم حصول التمايز بينهم وبين عموم الناس فذلك عندهم أقرب لدعوتهم وتألفهم واجتذابهم. بينما نحن في الجماعة الإسلامية نرى إعفاء اللحية واجبا، وأنه لا يجوز حلقها بحال، وأنها عنوان التدين والالتزام، وهي أول ما يُطلب في مهمة صبغ الجامعة بالصبغة الإسلامية.

ليس يعني هذا أن الإخوان جميعا يحلقونها، على العكس، لقد كان الأخ أحمد كمال أمير كلية العلوم، وهو من الإخوان، ذا لحية طويلة جدا، وكان ملتزما بالهدي النبوي الظاهر، وكان رجلا ممتازا نحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا. بل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وكان حينها رمزا ضخما، كان ساعتها ذا لحية كثة جدا، وكان يرتدي البنطال القصير، ولقد كنت منبهرا به حين تعرفت عليه ورأيت منه هذا الالتزام بالهدي الظاهر.

إذن، لم تكن المشكلة بيننا وبين الإخوان هنا مشكلة علمية أو فكرية، بل كانت مشكلة حركية لو صحّ التعبير، كانت المشكلة في حرصنا على التمايز والظهور الإسلامي العام، وفي حرصهم هم على الذوبان في الناس وتجنب التمايز عنهم حتى لو كان ثمن ذلك التخلي عن سيادة المظهر الإسلامي العام.

ومثل اللحية في هذا مثل الثوب القصير، لقد كان أكثر طلاب الجامعة الإسلامية يذهبون إلى الجامعة وهم يرتدون الجلباب القصير، ولربما ذهب بعضنا بالبذلة الإفرنجية أو البنطلون، لكن عمومنا وأكثرنا يحرصون على هذا الجلباب القصير كجزء من هدف صبغ الجامعة بالصبغة الإسلامية. ولقد كان بعض الإخوان يفعل هذا أيضا لكن ليس كما كنا نفعل كثرةً وحرصا.

هذه الأمور وإن كانت تبدو بسيطة للغاية وظاهرية جدا إلا أن مردودها الحركي ومغزاها البعيد يؤدي إلى تدعيم آراء فكرية في مسائل أشد عمقا وخطورة، نحن في الجماعة الإسلامية لم نجلس يوما لنناقش مسألة: هل الإخوان يوالون النظام المصري؟ ولم يكن هذا السؤال موضع اتفاق يوما فيما بيننا، إنما تختلف فيه الآراء. لكن، ومع هذا، فإن الخلاف حول اللحية والجلباب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو هذه الأمور يلقي بأثره وظله على هذه المسألة: مسألة الموالاة. لقد كان يسود رأي عام في أوساطنا أن الإخوان يُزَيِّنون نظام السادات، وأنهم يبذلون جهدهم في تثبيط الشباب عن مقاومة هذا النظام.

لست أناقش الآن صحة هذا التصور أو خطئه، إنما أصف ما كان موجودا حينئذ، وإلا فإن الجماعة فيما بعد تحملت العبء الأكبر في مواجهة كامب ديفيد وما تلاها، ولقد كانت مجلة الدعوة –الناطقة بلسان الإخوان- تشن حملة عنيفة جدا على كامب ديفيد، وهو ما أثار غضب السادات حتى صادرها. يجب أن تقال هذه الحقائق الآن. لكن لماذا كنا غافلين وقتها عن هذا ونظن أنهم موالون للنظام؟ لعله كان للسنّ أثر في هذا!

إن الأمر الذي أحرص على تأكيده في تلك المرحلة أن "الجماعة الإسلامية" في تمايزها وانفصالها عن الإخوان المسلمين في ذلك الوقت لم تكن حركة ذات أصول فكرية أو اختيارات فقهية واضحة خالفت بها الإخوان، كان هذا التمايز والانفصال تمايزا حركيا عمليا نشأ من مشكلات إدارية أخفقوا فيها في استيعابنا، وحرصنا فيها على استقلالنا. لا لأنهم يقترفون ما نحن ضده، ولا العكس كذلك.

أتذكر الآن بالفخر والإنجاز أننا كنا أول جامعة في مصر يُصدر رئيسها قرارا يُلزم فيه بالفصل بين الطلاب والطالبات داخل قاعات التدريس، وتحديد أماكن الطلاب وأماكن الطالبات، هذا القرار كان نتيجة جهودنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي كان خلافا حركيا بيننا وبين الإخوان، إذ يرون الصبر عليه لتجنب ما قد يقع من الصدام مع الأمن أو إدارة الجامعة.

بدأت هذه القصة من كلية التجارة، والتي كان المدرج فيها يسع 750 طالبا، بينما كان العدد الحقيقي للدفعة ما بين ألفين إلى ألفين وخمسمائة طالب، فلك أن تتخيل كيف يتكدس المدرج بثلاثة أضعاف سعته الطبيعية من الطلاب، ولقد كانت نسبة الطالبات من بينهن تبلغ نصف هذا العدد تقريبا (بين 47% - 49%)، وأولئك جميعا في مرحلة الشباب، ويعلم الجميع ماذا يعني أن يتكدس الشباب والبنات في هذا السن في مكان واحد على هذا النحو، لقد كان التلاصق بين الشباب والبنات أمرًا لا مفرَّ منه لمن يكرهه، فكيف إذا كان هذا مرغوبا فيه مطلوبا بعوامل السن والرغبة.

والأشد من تكدسهم في المدرج هو ما يحصل هذا الجمع في لحظات الخروج والدخول إليه، فإذا كان التحرش الفج يحصل في المدرج فهو يحصل أضعافا عند التزاحم في الخروج والدخول، ولقد شاهدت بنفسي منه مشاهد سيئة منافية للأدب والأخلاق والعفة والدين، لقد وصل الحال إلى مقدمات الزنا على الحقيقة!!

عندئذ، جمعت الإخوة في الجماعة الإسلامية في كل التجارة، أخبرتهم أن هذا الأمر لا يمكن أن يستمر، ولا بد أن يتوقف بأي طريقة، وما من سبيل أمامنا إلا أن نقاومه مهما كلَّف الأمر، واستقر رأينا أول الأمر على أن نذهب لعميد الكلية، لا من باب أننا من الجماعة الإسلامية بل ولا من باب الدين، وإنما من باب أننا من الصعيد، وهذا أمر لا نقبله في بيئتنا ولا في عائلاتنا ولا في مجتمعنا، وهو ينافي ما عليه الصعيد من الأخلاق والحياء في نسائه والغيرة والنخوة في رجاله.

كان عميد الكلية هو د. مصطفى بهجت، وذهبت إليه مع أخ نسيت اسمه، وصادف ذلك اليوم أن كان أخونا الشيخ صلاح هاشم يزورنا في الكلية وكان ساعتها مجندا فكان حليق اللحية، فذهب ثلاثتنا إلى العميد، وكنتُ المتحدث منهم، فقلت له: يا سعادة العميد، نحن صعايدة كما تعرف، ولقد أرسلنا أهلونا إلى هنا كي نتعلم، ولكن الذي يحدث في الكلية هنا ينافي الأخلاق بل وينافي التعليم نفسه، فأنا شخصيا حين أرى مشاهد التحرش والاختلاط والتصاق الطلاب بالطالبات وما يقع بينهم يذهب تركيزي على الجملة فلا أحسن أن أتعلم، فلهذا نرجوك أن تتصرف فتجعل مقاعد خاصة للطلاب ومقاعد أخرى خاصة بالطالبات، وهذا نفسه سيوفر بعض الأماكن فإن الطلاب إذا تزاحم منهم 600 أو 700 طالب في مكان يتسع لثلاثمائة فقط لم يكن هناك شيء من الحرج والحساسية فيما بينهم، وكذلك الطالبات إذا تزاحمن معا لم يكن بينهن من الحساسية والحرج شيء، وهذا سيوفر مزيدا من الأماكن.

حاول العميد أخذ الأمر على سبيل المزاح والسخرية، وخلط كلامه ببعض التلميحات الماجنة، وجاءت ردوده على نحو: أنت يا بني ستخرج غدا إلى العمل في شركة أو في مصنع، ستختلط بزميلاتك هناك، فعوِّد نفسك منذ الآن على هذا الاختلاط، ثم ما أدراك أن الاختلاط شر؟ وماذا فيها لو حصل بينك وبين زميلتك تلامس ما، هكذا أو هكذا، وحتى لو أن الأمر تطور بينكما شيئا ما هكذا أو هكذا... إلى آخر هذا الكلام الذي ظاهره مزاح وباطنه خلاعة، ثم كانت خلاصة الكلام: هذا هو نظام الكلية، ونظام الكلية مستقر، ولا أريد فوضى أو بلبلة. وأخرجنا من عنده على هذا.

فكرنا مرة أخرى ثم ذهبنا إلى أستاذ لنا، كان اسمه د. محروس، كان متدينا وذا نزعة صوفية، وكان في الوقت نفسه مؤسسا أو مديرا لجميعة تهتم بالفتيات في أسيوط، يأتي لهن بمحاضرات دينية ونحو هذا. فذهبنا إليه شاكين وراجين: يا دكتور محروس، ذهبنا للدكتور مصطفى بهجت من أجل كذا فحصل كذا وكذا، فلو أنك ذهبت إليه فكلَّمْتَه لكان خيرا، فأنت أستاذ تخاطب أستاذا، ولعل صدره أن يفتح لك إذا أغلق لنا لكوننا من الطلاب. فوعدنا خيرا، وذهب إليه، وسمع منه ما يكره.

وهكذا فعلنا ما نستطيع من التغيير الناعم اللطيف، التغيير باللسان، فلم ينفع.. فلم يبق إلا التغيير باليد كما في الحديث الشريف!

في ذلك الوقت لم نكن فقهاء، ولم نكن قرأنا مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتوسع كما عرفناه فيما بعد، إنما البسيط الذي لدينا من العلم، حرَّك الكثير الذي فينا من الطاقة والغيرة والهمّ، وساعتها قررنا أن نغير هذا المنكر باليد.

قلت للإخوة: غدا إن شاء الله، نكتب لافتة: هذا المكان مخصص للطلاب، هذا المكان مخصص للطالبات. واستبقنا الطلاب في الصباح، وبدأنا بالدفعة الأولى التي هي حديثة عهد بالجامعة فهي أقرب للاستجابة للتغيير، فجعلنا أبواب المدرج الخلفية للدخول، وأبوابه الأمامية للخروج، وجعلنا بابا في الأمام وبابا في الخلف للطلاب ومثلهما للطالبات. فيمتنع بهذا أن يحدث تكدس في الدخول والخروج، كما يمتنع أن يحدث اختلاط وتزاحم بين الطلاب والطالبات. وداخل المدرج وضعنا لافتات على قسم فجعلناه خالصا للطلاب وقسم آخر جعلناه خالصا للطالبات، ووضعنا عددا من الكراسي الإضافية في أماكن الفراغ الممكنة لتستوعب ما قد يزيد عن القاعدين في هذه الأقسام.

ولقد التزم الطلاب من تلقاء أنفسهم في أغلب الأحيان، بل إن معظمهم لم يشغل نفسه بسؤال من الذي وضع هذه اللافتة أو رتب هذا النظام، ولقد اقتصر دورنا على أن نقف أمام الأبواب، فإذا جاءت فتاة عند باب الشباب وجهناها لباب الفتيات، وإذا جاء شاب عند باب الفتيات وجهناه لباب الشباب، فكانوا يستجيبون.

كان الموضوع بسيطا، وسريعا أيضا، إلا أنه بقي يُعَكِّر صفوه أولئك الذين يحرصون على الالتصاق والجلوس إلى جوار بعضهم من الشباب والفتيات، أولئك الذين كان الاختلاط على هواهم، أو لعلهم لم يكونوا كذلك وإنما صاروا ضحاياه، فاستناموا لهذا الانحراف بعد استقامة!!.. أما هؤلاء فقد بدأنا معهم جولة أخرى، كنا نذهب إليهم فنوَجِّه الفتاة إلى أن تغادر مكان الشباب إلى مكان الفتيات، ونوجه الشاب إلى مغادرة مكان الفتيات، توجيها رفيقا لطيفا، بعضهم كان يستجيب، وبعضهم كان يعاند ويُصِرّ على موقفه، وكنا نصبر عليهم، كما كنا نراهن على الوقت، وأن يصير الأمر نظاما وعادة، وأن ينكشف أولئك المعاندون، إذ سيجد عشرين طالبا أنفسهم بين خمسمائة من الطالبات، وهي صورة مثيرة للخجل على كل حال.

وكان من فضل الله علينا أن عميد الكلية في هذا الوقت سافر خارج البلد، وظل غائبا خمسة عشر يوما، فلم نجد معارضًا، وتمّ الأمر واستقر دون مشكلات، حتى الأساتذة لم يحفلوا بهذا التغير عموما، وبعضهم كان يثني عليه.

بعد هذه الأيام عاد عميد الكلية، وكانت لديه محاضرة في طلاب السنة الأولى، فتفاجأ من هذا النظام الجديد، ومن هذه الملصقات، فسأل بحنق: من وضع هذه اللافتات؟! من الذي جعلكم تنفصلون هكذا؟!.. لا.. لا، عودوا كما كنتم واختلطوا!

قال الطلاب: فعلها طلاب الجماعة الإسلامية، كما هو مكتوب على اللافتة، وهم يُشرفون على هذا النظام من أول اليوم إلى آخره!

قال: لا.. لا.. الجماعة الإسلامية لن تفرض إرادتها على جموع الطلاب، ارجعوا كما كنتم واختلطوا!

لكن الطلاب لم يرجعوا، كأنهم استهجنوا هذا التعبير، ولم أكن حاضرا في السنة الأولى هذا اليوم، إنما كنت مع أخ آخر ننفذ هذا النظام في طلاب السنة الثانية، وبينما هو في جداله مع الطلاب إذ أخبروه أننا نكرر نفس هذا النظام في السنة الثانية، فترك المحاضرة وحضر إلينا هائجا مائجا غاضبا! فتبعه طلاب السنة الأولى.

جاءت إلينا الجموع عند طلاب السنة الثانية، فبلغ العدد في مدرج السنة الثانية ما بين الثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف طالب، وأمر عامل المدرج فأحضر له الميكروفون، تكلم فيه غاضبا: من الذي فعل هذا؟ وظل هكذا خمس دقائق، وكنتُ مع أخي أبو بكر عثمان ومعنا صلاح هاشم أيضا –وكان يزورنا- ساكتين حتى رآني فتذكرني، فصاح بي: تعال هنا، تعالَ، فذهبت إلى صدر المدرج، وانتظرته لينهي كلامه، فإذا به يسأل ساخطا، وأجيبه هادئا:

-      ما هذا الذي تفعلون؟
-      وماذا نفعل؟
-      هل تسخر مني.. هذا الذي تفعلونه؟!
-      إنما ننظم أماكن الجلوس لا أكثر
-      هذا من عمل الإدارة، وليس من عملكم
-      هذا من عملنا نحن الطلبة، وهو يخصنا ولا يخص إدارة الكلية
-      وكيف هذا؟!!
-      نحن ننظم أماكن جلوسنا، ولم نتدخل في قضايا التدريس، نحن أدرى بأنفسنا، وماذا يريحنا، وكيف نجلس وكيف ندخل ونخرج.. وإذا جاءتك طالبة عندك في المكتب فأجلسها في المكان الذي تحب على الوجه الذي تريد، أما نحن فقد ارتضينا هذا النظام.. هل شكى لك أحد؟!
-      أنا عارف لسانك طويل، وأنا سأفصلك من الكلية

وضعت يدي على كتفه قائلا بثبات:
-      لو أني أخاف من الفصل ما كنتُ سأفعل!

زاده هذا هياجا وغضبا وصاح: أنزل يدك، أنزل يدك، سأؤدبك، بل سأفصلك، وسأفصلك اليوم.

هنا، ومع اشتداد اللهجة وتأزم الأجواء، هتف صلاح هاشم: الله أكبر!

وإذا بالجمع الهادر تسري فيه طبيعة الجماهير، فهتفوا: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.. إسلامية إسلامية.. وماجت الجموع المتكدسة داخل المدرج حتى فزع وأخذه الروع وتحير، وتدافع الطلاب من حوله حتى كادت تميد به الأرض، بل كادت تزهق روحه من هذه الاندفاعة المفاجئة، ولكن تدخل بسرعة وبذكاء أخونا أبو بكر عثمان فصرخ في الطلاب: لا يقترب أحد من العميد، سيموت، سيموت.. ومع صرخته الحازمة كأن الناس انتبهت فانفلقت عنه، فنادى أبو بكر بعض إخوانه بسرعة فكَوَّنوا ما يشبه السياج أو السوار حول العميد حتى أخرجوه من المدرج.

أمسكت بالميكروفون وخطبتُ في الطلاب: لقد حاولنا بقدر الإمكان أن ننظم أحوالنا بدون معاندة وبدون مشقة، والأمر سار فعلا على نحو سلس وبغير مشكلات، لكن يبدو أن العميد مُصِرٌّ على موقفه، ومُصَمِّمٌ على تفجير المشكلات، وبالتالي فقد قررنا أن ندخل في إضراب عن الدراسة إلى أن يتم إقرار هذا النظام الجديد بشكل رسمي!

وعزمتُ على إبلاغ بقية إخواني بهذا الأمر الذي طرأ علي منفردا، كي نغلق كلية التجارة وكلية الصيدلة وكلية الهندسة، وتلك هي الكليات الموجودة في الفرع القديم للجامعة، ثم سنطلب من إخواننا تعطيل الدراسة في الجزء الآخر من الجامعة الذي كان يُطلق عليه "الجامعة الجديدة"، وخرجنا من المدرج نذيع هذا الخبر بين الطلاب الذين خرجوا من المدرجات ومن السكاشن، وتجمعنا في فناء الكلية، وخطبتُ فيهم: نحن مستمرون في هذا الاعتصام حتى يتحقق مطلبنا، وتبادل الإخوة من الجماعة الإسلامية الخطب في الطلاب.

لم ينزعج إخوة الجماعة الإسلامية من انفرادي بهذا القرار، أو وصول الأمر إلى هذه النقطة الحرجة، بل كانوا متحمسين جدا، وبينما نحن كذلك إذ جاءنا رجل من قسم "رعاية الطلاب" اسمه المناديلي، يخبرني أن نائب رئيس الجامعة د. عبد الرازق حسن يطلبك إلى مكتبه، فوقفتُ بين الطلاب، وأعلنت فيهم أني ذاهب إلى نائب رئيس الجامعة، ولكننا على العهد: لن ينفض هذا الجمع حتى يُقَرَّ هذا النظام رسميا.

ذهبت ومعي أخي (الدكتور فيما بعد) السيد العربي إلى د. عبد الرازق حسن:

-      ما هذا الذي تفعلون؟
-      لا داعي للسؤال، فأنت تعرف.
-      أعرف؟!.. أعرف ماذا؟
-      ألم يخبرك د. مصطفى بهجت؟
-      لا، لم يخبرني بشيء!

فوجئنا أنه لا علم عنده بالأمر، فقصصنا عليه القصص، فتفاجأ، ثم قال مندهشا: هذا الاعتصام من أجل تنظيم مكان للبنات ومكان للأولاد؟

-      نعم، وهذا ما رضيه الطلاب أنفسهم، ولم يشتكِ أحدهم إلى د. مصطفى بهجت أو غيره، ولن نتراجع عن الاعتصام حتى يتم إقرار النظام رسميا!
-      خلاص، تم إقراره رسميا.
-      لا، الأمر ليس بالكلمات، ونحن لا نُخْدَع، والمسألة لا تقتصر على المدرجات بل على السكاشن أيضا.
-      ماذا؟ سكاشن؟!.. لا، لا نستطيع، هذه لا يمكن تغييرها الآن.
-      إذن، الطلاب لن تنصرف من مكانها ولن ينفض هذا الاعتصام حتى يتحقق هذا المطلب، إلا لو أردتم استعمال القوة وصرفهم بالعنف.
-      يا بني، أنا والله موافق.. لكن لا يمكن أن نغير السكاشن الآن، هذه لها نظام لا بد من تعديله، أما مسألة المدرجات فالأمر سهل وبسيط، وما فعلتموه سيبقى كما هو.
-      لا.. لا بد من السكاشن أيضا
-      اعتبر هذا وعدا شخصيا مني، إذا رجعتم من إجازة منتصف السنة ستجدون نظام السكاشن قد جرى تعديله، لكن الآن هذا غير ممكن، لقد بقي شهر واحد على الإجازة، وهذا الوقت لا يتسع للتعديل.
-      تمام، سأعتبر هذا وعدا شخصيا منك، ونحن موافقون.
-      إذن، انزل واصرف الطلاب.
-      لا، لا أستطيع أن أصرف الطلاب، ولكن سأكتب بيانا أقول فيه إن الدكتور عبد الرازق حسن نائب رئيس الجامعة قرر الموافقة على هذا الترتيب الجديد، وسَتُوَقِّع عليه قبل أن أعرضه على الطلاب.
-      حسنا، موافق، اكتب البيان وسأوقع لك عليه.

وعلى هذا انتهى الحوار بيننا، وكتبت البيان ووقعه، ونفَّذ كلٌّ منا ما تعهد به. ولقد امتدَّ أثر هذا القرار تلقائيا إلى كل شيء في الجامعة، حتى الكافتيريا، نَظَّم أصحاب الكافتيريات في الجامعة أنفسهم بحيث يكون بعضها للطلاب وبعضها للطالبات بأثر من هذا الموقف.

وهكذا كان موقف واحد سببا عظيما في اصطباغ الجامعة بالصبغة الإسلامية، وشيوع الهدي الظاهر فيها، وترافق هذا مع كوننا نحن الجماعة الإسلامية في جامعة أسيوط الأعلى صوتا ضد نظام السادات والأكثر هجوما على سياساته، ونحن بهذا الثوب الإسلامي واللهجة الإسلامية والصبغة الإسلامية. كان صوتنا أشد قوة وأكثر إسلامية من الإخوان المسلمين، ومن السلفيين بطبيعة الحال، فالسلفيون يتجنبون الاشتباك السياسي، لقد كنا نحن الثوريين، كنا نمثل القوة التغييرية القادرة على الفعل، وكنا بفضل الله عز وجل وعونه إذا أردنا شيئا فعلناه، وقد استطعنا أكثر من مرة أن نفرض ما نريد على كل قيادات المحافظة حتى المحافظ ومدير الأمن ورئيس الجامعة.

لقد كان السر في هذا أننا كنا تيارا متماسكا قويا، صحيحٌ أننا مع الوقت بدأنا نتحول رويدا رويدا إلى نوع من التنظيم والمسؤولية وتوزع الصلاحيات، إلا أن الغالب في هذه الفترة ولفترة بعدها كان هو الحب، كانت علاقة الحب هي السائدة وكانت القيادة تدير الجميع من منطلق الأخوة والتقدير والاحترام، إذا قال صلاح هاشم شيئا هرعنا لتنفيذه، أمير الكلية يرى شيئا فيسابق إخوانه لعمله، كان الأمر فطريا دون تأصيل فقهي أو عمق فكري، حتى إنك لو سألتَ أحدنا يومئذ: هل طاعة الأمير واجبة؟ لكانت الإجابة التلقائية: لا. ولكن الواقع العملي كان يشهد أن الإجابة: نعم. فلم تكن الطاعة التي يبذلها الإخوة لأميرهم ومسؤوليهم طاعة صادرة عن اختيار فقهي أو نظر علمي، بل هي صادرة عن شعور الحب الغالب، ومما يرونه في أميرهم من العمل والتضحية والبذل والسبق.

كان وجودي في الجماعة الإسلامية استمرارا لموقعي في المعسكر المعارض لنظام الحكم، لقد وجدتني منذ وعيت ضدّ هذا النظام، ذلك هو مشربي الذاتي وندائي الداخلي وفطرتي السليمة، ومنذ فكرتُ قديما في الالتحاق بكلية عسكرية لإدارة انقلاب عسكري، مرورا بجماعة الشيخ عبد الله السماوي، وصولا إلى الجماعة الإسلامية وأنا أعي أنني في مجموعة تعارض هذه السلطة. حتى حين كنت ذات يوم مع عبد الناصر وعضوا في الاتحاد الاشتراكي لم أكن أشعر أبدا أنني جزء من هذا النظام أو أنني أوالي هذه السلطة.

وعلى هذا النحو جاء كافة القيادات الذين أسسوا الجماعة الإسلامية مثل الشيخ صلاح هاشم والشيخ أسامة حافظ والشيخ حمدي عبد الرحمن والشيخ ناجح إبراهيم، كلهم كانوا على هذا المذهب ومن هذا المشرب، ولعل هذا هو الذي جمع بيننا في أعماقنا: شعورنا بالمعارضة لهذا النظام الفاسد الذي لا يخدم البلد، بل هو نظام يوالي اليهود والأمريكان، نظام لا يمكن قبوله، ولا يمكن أن يكون هذا هو النظام الإسلامي بحال، ومن ثَمَّ فقد استشعرنا الواجب المفروض علينا: أن نقوض هذا النظام لإحلال نظام أفضل. تلك هي أساس الفكرة التي تكونت حولها الجماعة الإسلامية رويدا رويدا.

نشر في مجلة كلمة حق 


الخميس، يناير 16، 2020

موجز تاريخ العثمانيين في ليبيا (1)

 

ما إن يخرج أردوغان ليطرح موضوعا تاريخيا حتى تنهمر الأسئلة، وقد خرج فقال كلمتين عن التاريخ العثماني في ليبيا، فكلَّفنا هذا أن نجيب في سطور، فهذه السطور تقدم مختصرا سريعا لهذا الموضوع:

لكن قبل البدء في الموضوع، ألفت النظر إلى تكرر ما حدث في سوريا في ليبيا، ما إن يبدأ التدخل التركي حتى تتكهرب عواصم السياسة الدولية، وتأتي أفكار الاتفاقيات ووقف إطلاق النار، فيتراجع الموقف التركي، ثم لا يتم الاتفاق أو لا يُطبَّق، ويخسر الأتراك الوقت والموقف السياسي، ويُحرمون من بقاء قواتهم على الأرض كفاعل ضامن بين كل القوات الأجنبية الفاعلة في الساحة.

ويتوه الموقف في تقييم شبه التدخل هذا، فالأتراك ومحبوهم يفسرون هذا باعتباره نصرا وما هو بنصر بل هو إلى الهزيمة والإخفاق أقرب، بينما خصومهم ومبغضوهم يكسبون مادة جديدة -سياسية وإعلامية- ضد الأتراك!

في حين أن التدخل التركي في أقوى حالاته هو أضعف ألف مرة من تدخل الآخرين، ففي سوريا لا يمكن المقارنة بين النفوذ الإيراني والروسي والأمريكي وبين النفوذ التركي. وكذلك في ليبيا لا يمكن المقارنة بين التدخل المصري والإماراتي وحتى السوداني وبين النفوذ التركي.

إن السياسة الدولية لم تسمح لتركيا حتى الآن باكتساب اي وضع مؤثر في المشهد، وغاية ما سُمِح به لهم تدخل يجمِّد الوضع أو يؤجل الانهيار والسقوط لا أكثر. ومع هذا هو تدخل تُساوَم به تركيا في ملفات أخرى، فهي على الحقيقة تدفع دون أن تجني!

والآن، بعد هذين الكلمتين اللتين لا تثيران إعجاب الأتراك وحزبهم، ولا الخصوم وحزبهم، ندخل في موضوع التاريخ، وسنركز فيه على لحظتين فحسب، لحظة بداية الحكم العثماني لليبيا، ولحظة انتهائه، وما بين هذين اللحظتين هو عادة حديث يهتم له المتخصصون ولا يدخل في اهتمامات المثقفين وعموم القراء.

1. لئن كان ممكنا أن يُطلق على الحكم العثماني للبلاد العربية احتلالا، فهذا الاحتمال غير ممكن في الحالة الليبية، ذلك أن العثمانيين كانوا في الحالة الليبية محررين ومنقذين من الاحتلال الصليبي، وكانت عملية التحرير والإنقاذ هذه بمشاركة أهل البلاد لسنوات وليست فقط عبر رسالة دعوة للجيش العثماني كما هو الحال في الشام أو الجزائر أو غيرها.

2. طرابلس الغرب، عاصمة ليبيا، كانت لمدة قرنين تقريبا تقع في منطقة تعادل القوة أو تعادل الضعف بين الدول الإسلامية والأوروبية، وهي حالة فريدة، خلاصتها كالآتي:

- من جهة الغرب: الدول التي تسيطر على المغرب الأقصى كالحفصيين والمرينيين يتنازعان السيطرة على مناطق المغرب، وتُستهلك قوتهما في هذا قبل أن تصل إلى طرابلس، ومن ثم فإن طرابلس يحكمها على الحقيقة بعض من قبائلها التي تعلن الولاء لهذا أو ذاك بحسب ميزان الصعود والقوة. وهذه القبائل تتبادل الحكم والانقلاب فيما بينها أيضا دون أن يكون لأحدهما كبير دعم أو مساندة من قوة دولية.

-  من جهة الشرق: المماليك في مصر مستنزفون في حروب المغول ثم الصليبيين ثم ما نشب في أواخر دولتهم من الصراع مع البرتغاليين في الجنوب ثم مع العثمانيين في الشمال، ولا يستشعرون خطرا من الأنحاء الغربية، فلا يصل نفوذهم إلى طرابلس الغرب.

- من جهة الشمال: القوى التجارية في إيطاليا -كجنوة والبندقية- داخلة في صراعات أكبر تجعلها غير مكترثة كثيرا لتغير الوضع في طرابلس، مع أن طرابلس مدينة تجارية قوية وتمثل مركزا لتجارة البحر المتوسط، ورحالة ذلك الزمان يتحدثون عن غناها وسعتها في نفس الوقت الذي يتحدثون فيه عن ضعفها العسكري وقلة حصونها، لكن القوة الإيطالية مستنزفة في معارك مع البابوية -وكان قد بدأ الصراع بين هيمنة الكنيسة وبين تشكل بذور القومية الحديثة مع النمو التجاري- ثم هي مستنزفة في الصراع مع العثمانيين في الشرق، ومع الإسبان الذين شهدوا نموا هائلا في قدراتهم باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح واكتشاف الأمريكتين حتى صاروا بهذا تهديدا خطيرا للمركز المالي والتجاري لهذه المدن الإيطالية التي احتكرت زمنا نشاط التجارة العالمية بين الشرق والغرب.

أسفر هذا الوضع عن غرائب وطرائف، من أبرزها أن مغامرا إيطاليا، قرصانا، قرر أن يحتل طرابلس (فيليب دوريا) بمجموعته من القراصنة البحريين، فاستطاع أن يفعل ذلك فعلا، رغم أنه غير مدعوم من أي قوة سياسية، ولما احتلها نأت إيطاليا بنفسها عنه، فلم يدر ماذا يفعل، فقرر أنه سينسحب مقابل خمسين ألف مثقال ذهبا، فجمعها له أمير قابس من أمواله ومن أموال المسلمين، واشترى المسلمون طرابلس من جديد، وعاد القرصان المغامر بما أخذه من الغنائم فوق الخمسين ألف مثقال ذهبا!!

2. في النهاية، استطاع الإسبان احتلال طرابلس، كان الإسبان قد طردوا المسلمين من الأندلس، وكانوا قد تمكنوا بأسطولهم العظيم الذي صار أقوى أساطيل البحر المتوسط أن يحتلوا عددا من مدن الشمال الإفريقي حتى وصلوا إلى طرابلس. لم يكن ممكنا صد هذا الاحتلال من قبل أهل طرابلس لأن عدد الجيش كان مساويا -وفي بعض التقديرات متفوقا- عن عدد أهل طرابلس جميعا!

ومع هذا فليس إلا عشرين سنة وفقط، وتخلى الإسبان عن طرابلس، لنفس السبب السابق، فهم ما زالوا في نزاعاتهم الكبرى في أوروبا، وفي إدارة مستعمراتهم في الأمريكتين وفي الساحل الإفريقي والآسيوي.. فضلا عن نزاعهم الخطير في غرب البحر المتوسط مع العثمانيين، ومع المجاهدين المسلمين الذين يشنون الغارات على السواحل الشمالية الإفريقية وعلى السواحل الأندلسية (وهي الغارات المشهورة التي أبطالها عروج وخير الدين بربروسا وبقية هذه الأسماء المشهورة).

وقد دخل العثمانيون على خط هذه النزاعات، حيث استطاع سليمان القانوني اجتذاب فرنسا إلى خط السياسة العثمانية مقابل امتيازات مالية وتجارية (وهذه هي بذرة الامتيازات الأجنبية التي ستتغول حتى تكون من أسباب انهيار الدولة العثمانية بعد ثلاثة قرون)، واستعمل سليمان هذه العلاقة مع فرنسا في إنقاذ مسلمي الأندلس (كانت فرنسا ملجأ مناسبا للفارين من الإسبان بهذه العلاقة)، وكان أهم ما كسبه سليمان القانوني بهذه العلاقة تفتيت الحلف الأوروبي الكبير الذي كاد يتجمع ضد العثمانيين، ولا تزال هذه الفترة تمثل سبة تاريخية وعارا تُعَيِّر به أوروبا الفرنسيين، وتتهمهم به أنهم كانوا السبب في تمدد وطول عمر الدولة العثمانية.

والخلاصة: في خضم هذا كله، كانت طرابلس أبعد ما قد يفكر الإسبان في الحفاظ عليه!

التقى هذا الوضع مع خط تاريخي آخر تطور في الشرق، وذلك كالآتي:

فرسان القديس يوحنا، الإسبتارية، الجماعة الصليبية المقاتلة التابعة للكنيسة وصاحبة السمعة الشهيرة في الحملت الصليبية، طردهم صلاح الدين من بيت المقدس، فانتهى بهم الأمر في عكا، ثم جاء المماليك فطهروا الساحل الشامي من الوجود الصليبي، فانتهى بهم الحال في جزيرة رودس بالبحر المتوسط، ثم طردهم سليم الأول من رودس فلم يجدوا مكانا يحتويهم ويناسب تجمعهم إلا أن يطلبوا من الملك الإسباني السماح لهم بجزيرة مالطة لينزلوا بها.. الملك الإسباني من جهته وافق على هذا بشرط واحد: أن يتولوا مع ذلك حماية طرابلس!!

فرسان يوحنا ترددوا في قبول العرض، لأن تكفلهم بحماية طرابس يعني تحملهم تكاليف أكبر من طاقتهم، ولكنهم في النهاية وافقوا.

ظلوا يسيطرون على طرابلس لعشرين سنة..

في هذه السنين العشرين، كانت حركة الجهاد الإسلامي في المتوسط والشمال الإفريقي قائمة على يد العثمانيين وبدعمهم، والإنجاز الذي مثله خير الدين بربروسا ورجاله في المتوسط كان قد ألقى بظلاله على الوضع في طرابلس، إذ جعل الطريق بين إسبانيا وطرابلس محفوفا بالخطر، وكان التحالف الفرنسي العثماني قد أوقع هزائم قاسية بالأسطول الإسباني، ومن هنا كان هذا الجهاد في غرب المتوسط بمثابة قطع الحبل السري عن النفوذ الإسباني في طرابلس.

هيأ هذا الفرصة لمجاهد عثماني آخر، مراد أغا، أن يهدد وجود فرسان مالطا من الشرق، حيث نزل إلى مدينة تاجوراء (الملاصقة لطرابلس)، وظل منها يشن الغارات البرية والبحرية مستعينا في هذا كله بالمسلمين والعرب في هذه المنطقة، حتى صار وجود فرسان يوحنا في طرابلس مهددا تماما، ومع بسالة فرسان مالطة وقدرتهم على إيقاع بعض الهزائم المؤثرة بمراد أغا، إلا أن الأخير كان أصبر، وكان له من مدد المسلمين ومن العثمانيين ما جعل الحصيلة النهائية في صالحه.

لم يكن أحد في أوروبا قادرا على دعم وإسناد فرسان مالطة، رغم رسائل الاستغاثة إلى البابوية وبيان مدى خسارة الصليب بفقد طرابلس، وكانت لحظة النهاية بقدوم الأسطول العثماني الذي كان متجها لتحرير تونس، فظل شهورا يحاصر طرابلس من البحر، ولكن النتيجة كانت محتومة..

وهكذا بدأ الحكم العثماني في ليبيا، بتحريرها من الاحتلال الصليبي..

كان في النية كتابة قسم ثانٍ عن أواخر العصر العثماني في ليبيا، لكن المنشور طال جدا.. فلعلي أنشط لكتابته في منشور آخر إن شاء الله!

لكن من المهم أن يكون معروفا أن ليبيا كانت آخر الولايات الإفريقية سقوطا من يد الدولة العثمانية، وأنها لم تسقط إلا بعد النهاية الفعلية للخلافة بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني، فساعتئذ وجد الإيطاليون الفرصة مناسبة لاحتلال ليبيا.