الاثنين، أغسطس 27، 2018

لماذا يحتفل الأتراك بمعركة ملاذ كرد؟

تمر اليوم ذكرى معركة ملاذ كرد (26 أغسطس 1071م)، وقد أقام لها أردوغان احتفالا مشهودا، وسارعت وسائل الإعلام تغطي ذكرى هذه المعركة.. فما أهمية هذه المعركة؟ ولماذا هي من بين آلاف المعارك التي خاضها السلاجقة والعثمانيون التي يجعلها أردوغان علامة تستحق الاحتفاء؟

سأحاول تقديم صورة عن هذا الموضوع بأوجز عبارة ممكنة إن شاء الله

[1]

كانت الإمبراطورية البيزنطية هي أشد القوى السياسية عداء للإسلام وصلابة في مواجهته طوال ثمانية قرون، وكانت عاصمتها القسطنطينية تحتوي على الكنيسة العظمى (أيا صوفيا) التي هي عاصمة المسيحية الأرثوذكسية في كل العالم. وكانت هذه الإمبراطورية هي القوة المسيحية العظمى.

للمسيحية تاريخيا عاصمتان كبريان: القسطنطينية وروما.. في الأولى أيا صوفيا، وفي الثانية: الفاتيكان.. وقد كانت بشرى النبي بفتح المسلمين لهما تساوى البشرى بانتصار الإسلام وسيادته على العالم.

تحققت البشرى الأولى بعد ثمانية قرون على يد السلطان محمد الفاتح، ولا زال المسلمون ينتظرون نصف الوعد بفتح روما.

لكن الذي يهمنا الآن أن روما في وقت النبي كانت ضعيفة ومفككة، وكانت القوة المسيحية التي تصدت للإسلام وعرقلت انتشاره في أوروبا هي الدولة البيزنطية التي أخفق المسلمون فتح عاصمتها القسطنطينية رغم محاولاتهم الكثيرة المضنية منذ زمن الدولة الأموية وحتى الدولة العثمانية.

يمكن اختصار التاريخ الطويل المرير بين دولة الإسلام والدولة البيزنطية في ثلاث معارك فارقة: اليرموك، ملاذ كرد، فتح القسطنطينية.

1. معركة اليرموك أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي نهائيا من الشام ثم من مصر.
2. معركة ملاذ كرد أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي من الأناضول، وصار بإمكان المسلمين أن يشاهدوا كنيسة أيا صوفيا من الطرف الآسيوي.. لذلك تسمى ملاذ كرد بـ "اليرموك الثانية".
3. فتح القسطنطينية هي المعركة الأخيرة التي أزالت الإمبراطورية البيزنطية نفسها وفتحت الطريق أمام انتشار الإسلام في شرق أوروبا والذي وصل إلى فيينا.

بين كل معركة وأخرى أربعة قرون: اليرموك (15 هـ) وملاذ كرد (463 هـ) وفتح القسطنطينية (857 هـ)

أي أن ملاذ كرد هي المحطة الثانية من ثلاث محطات في انتشار الإسلام وسقوط القوة المسيحية العظمى. ولهذا فهي واحدة من أعظم المعارك في تاريخ الإسلام.

[2]

وقعت المعركة في منتصف القرن الخامس الهجري، وكان هذا القرن من قرون الصحوة الإسلامية في المشرق والمغرب.
لقد عاشت الأمة الإسلامية القرنَ الرابع الهجري في حال ضعف قوية، وسيطرة شيعية شاملة، فالبويهيون يسيطرون على فارس والعراق، والقرامطة على الجزيرة العربية والشام، والدولة العبيدية الفاطمية الإسماعيلية على مصر والشمال الإفريقي.. ولم ينجُ من هذا الوضع البائس إلا الأندلس والمغرب الأقصى التي كانت تعيش واحدة من أعظم ازدهارها تحت حكم عبد الرحمن الناصر ثم ابنه المستنصر ثم الحاجب المنصور بن أبي عامر.

في القرن الخامس تغير الحال، دخلت الأندلس في عصر ملوك الطوائف وتضعضعت قوتها، بينما نبغ في الشرق الدولة الغزنوية التي فتحت الهند، ثم السلجوقية التي اكتسحت الدولة الشيعية، وفي المغرب نبغت دولة المرابطين التي منعت الأندلس من السقوط وتضعضعت الدولة العبيدية الفاطمية في مصر وزالت عن الشمال الإفريقي.

ما يهمنا الآن هم السلاجقة:

السلاجقة من الجنس التركي، وقد تكونت دولتهم في المشرق ثم قويت حتى استحالت عاصفة كبيرة حكمت خراسان ثم فارس ثم العراق وصارت على حدود الشام.. وأنقذت الخلافة العباسية من الدولة البويهية الشيعية التي سيطرت عليها مدة 113 عاما، وصار طغرل بك (زعيم الدولة) هو الرجل الأقوى في العالم الإسلامي.

في فترات الضعف السابقة كانت الدولة البيزنطية قد استطاعت احتلال الكثير من الأراضي التي فتحها المسلمون في آسيا الصغرى وإرمينية، وصارت تهاجم الشام، ومدنها الكبرى كحلب وأنطاكية وتنفذ مذابح كثيرة في منبج وفي شرق آسيا الصغرى.

لما توفي طغرل بك آل السلطان من بعده إلى ابن أخيه ألب أرسلان (تعني بالتركية: الأسد الثائر)، فإذا نظرنا إلى الخريطة السياسية التي سيواجهها ألب أرسلان سيكون الوضع كالآتي:

1. البيزنطيون صاروا يهاجمون الشام ويستبيحون مدنه.. بينما الدولة العبيدية الفاطمية في مصر قد تضعضت ولا تستطيع الدفاع عن الشام الذي كان تابعا لها، بل على العكس من ذلك يرى الطرفان (العبيديون والبيزنطيون) أن عدوهما القادم هو السلاجقة الذين يحكمون دولة شاسعة تمتد من خراسان حتى الشام ومن حدود أرمينية حتى المحيط الهندي.. وبالفعل كان بين الطرفين تحالف ضد هذا العدو السني القوي القادم.

2. مناطق التنازع والاحتكاك بين هاتين القوتين: في مناطق إرمينية والجزيرة الفراتية.. وكليهما كانتا قبل الآن مناطق إسلامية لكن الضعف الإسلامي في القرون الماضية أدخلهما تحت سلطان أو تهديد البيزنطيين والعبيديين.

ولذلك شهدت هذه المناطق حركتان متوازيتان: ألب أرسلان يفتح مناطق في إرمينية وآسيا الصغرى، وإمبراطور الروم البيزنطيين يهاجم المناطق الجنوبية من آسيا الصغرى ويصل إلى الشام.

كان اللقاء حتميا..

[3]

جمع إمبراطور الروم حشدا رهيبا يقدر بمائتي ألف مقاتل وخرج به إلى نواحي أرمينية وفي خطته أن يكمل المسير إلى العراق ثم إلى فارس حتى يدمر عاصمة السلاجقة (الري) ومن شديد ثقته بقوته أعطى كل أمير أرضه التي سيتولى عليها في طول هذه البلاد.

وكان ألب أرسلان في الطريق بين ديار بكر وحلب فبلغه هذا الحشد الرهيب لإمبراطور الروم.. ولأسباب تختلف المصادر فيها كثيرا لم يكن معه من الجيش في ذلك الوقت إلا خمسة عشر ألفا من الجنود، لكنهم كانوا من نخبته المتميزة.

كان الجيش الرومي يتكون من سائر العناصر العرقية التي تحكمها الإمبراطورية البيزنطية: الروس والكرج واليونان والأرمن فضلا عن الروم فضلا عن أتراك من مجموعات لم تعتنق الإسلام.

لم يكن أمام ألب أرسلان في هذا الظرف العصيب الذي لم يستطع فيه حشد الجنود إلا أن يطلب الهدنة.. لكنه لو طلبها من موقع ضعف فلن يُستجاب له بحال، تلك هي قاعدة السياسة والقوة التي يفهمها الجميع.. فلذلك دبَّر أمره لكي يوقع بمقدمة الجيش البيزنطي التي تسبقه بمسافة -وكانت من الروس- ثم يرسل في طلب الهدنة.

وبالفعل، استطاع خوض معركة قوية سحق فيها المقدمة الروسية التي تتكون من عشرين ألف جندي، فحسَّن وضعه التفاوضي، وأرسل سفيره يطلب الهدنة.. لكن الإمبراطور ذي المائتي ألف لم يبال أن هلك له عشرون ألفا، فقال ساخرا: سأرد على هذا العرض حين أصل الري!

هنا لم يعد أمام ألب أرسلان إلا الانسحاب ومحاولة الإعداد.. أو الاندفاع في هذه المغامرة المجنونة والتي فيها احتمال هلاك نخبته المكونة من خمسة عشر ألف جندي مرة واحدة!

كان الانسحاب يعني خسارة نتائج الأعوام الماضية من الفتوح في أرمينية وشمال الشام، ويعني انهيار الروح المعنوية لدى الجنود المسلمين، كما يعني مئات آلاف القتلى والجرحى والسبايا في المدن المسلمة.. ويعني تعاظم الروح المعنوية لدى البيزنطيين وازدياد القوى العسكرية بمن سينضم إليهم من بلاد إرمينية والكرج وأذربيجان ونصارى شمال الشام.

قرر ألب أرسلان أن يخوض المعركة..

وشجعه على ذلك الفقيه الذي كان في الجيش نصر بن عبد الملك البخاري، قائلا: إنك تقاتل عن دين قد وعد الله بنصره.

[4]

كان ألب أرسلان في حاجة إلى أمرين معا: أن يجعل جيشه في أقصى طاقته المعنوية والقتالية، وأن يضع خطة عسكرية تكسر التفوق العددي والعُدَدي الهائل بينه وبين الروم (15 ألفا مقابل 200 ألف).

فعلى مستوى الطاقة المعنوية أعلن أنه قد تخلى عن منصبه كسلطان، وقال: ليس هاهنا اليوم سلطان يأمر ولا جُنْد يُؤمر، فمن أراد البقاء للقتال بقي ومن أراد أن يرجع رجع.. وخلع ثوب السلطنة ولبس الثياب البيض (أي: الكفن) وقال: إن قتلت فمن حواصل النسور الغبر إلى حواصل الطير الخضر رمسي، وإن انتصرت فإني أُمْسِي ويومي خير من أمسي.

وعقد يده بذنب خيله (علامة على الثبات وعدم الفرار)، ونزل ومرغ وجهه في التراب وتضرع إلى الله.. وكانت وصية فقيهه أن يؤجل المعركة إلى ساعة الزوال من يوم الجمعة حتى تدركه دعوات المسلمين على المنابر.

وكان هو قبل ذلك قد أرسل إلى الخليفة في بغداد يخبره، فأمر الخليفة بعض الفقهاء بوضع دعاء موحد، وزعه على المساجد، وفيه الدعاء لألب أرسلان وجيشه.

وكان من البشريات العاجلة أنهم اكتشفوا الجيش البيزنطي وقد حفر خندقا حول معسكره، فعلموا أن هذا دليل على خوفهم وخشيتهم وأنهم لا يتمتعون بما أظهره الإمبراطور من ثقة كاملة في نصره.

وعلى مستوى الخطة العسكرية فإن مجموع ما وصلنا من الروايات التاريخية يؤدي بنا إلى القول بأنها كانت كالآتي:

- كان الهمّ الأول والأكبر لجيش ألب أرسلان منع التطويق، ومن ثم فقد وضع قطعة من جيشه في كمين خلف طريق الجيش البيزنطي ليثخن فيه من الخلف ويشاغله ويعرقله.

- عند لحظة انتشاب القتال سيتحول الجيش كله إلى ما يشبه السهم، ليتحرك حركة سريعة وخاطفة إلى قلب الجيش مباشرة حيث خيمة الإمبراطور نفسه، وبهذا تنقسم مهمة الجيش إلى من يصدون ويشاغلون ويفتحون الطريق، وإلى نخبة أخرى تخترق هذه الصفوف بأقصى ما تملك من سرعة لتصل إلى خيمة الإمبراطور فتقتله وتشيع خبره فينهار الجيش الكبير.

وهو ما كان فعلا.. لم تلبث المعركة كثيرا حتى كان بعض نخبة السلطان ألب أرسلان قد اخترق خيمة الإمبراطور فنزع عن رأسه التاج، ووضعه فوق رمح ونادى بأن الإمبراطور قتل، فيما كان جندي آخر قد جرده من ملابسه الإمبراطورية وسحبه أسيرا.. وما إن انتبه الجيش إلى التاج المرفوع فوق رمح حتى انهار وتفتت وانسحب لا يلوي على شيء.

يضطرب كثير من المؤرخين في محاولة وصف أسباب الهزيمة مع وجود هذا الفارق العددي الكبير، ولذلك تتنوع اجتهاداتهم في تحليل ما حدث.

البعض يرفع من عدد جيش المسلمين حتى يوصله إلى خمسين ألفا أو مائة ألف، ويخفض من جيش الروم حتى يوصله إلى مائة ألف.. والبعض يعزو الهزيمة إلى اختلاف أجناس الجيش البيزنطي وعدم اتساقه وانسجامه.. والبعض يذكر خيانة وقعت من بعض القادة غير الروم للإمبراطور الرومي مما أدى لهذه الهزيمة.. والبعض يذكر أن المجموعات التركية التي كانت في جيش الروم تخلت عنه وانحازت لبني قومها الترك وإن لم تكن على دينهم.. والبعض يقول انقلب اتجاه الريح ليصير في وجه الجيش البيزنطي مما ساعد حركة الجيش الإسلامي.

لكن القدر المشترك المتفق عليه بين الروايات، ولا سيما الروايات الإسلامية، هو هذا الفارق الهائل في العدد والعدة، وفي أن المعركة لم تطل وكانت سريعة، وفي أمور تضرع السلطان وحماسة جنده وترتيبه أن تبدأ المعركة لحظة ارتقاء الخطباء المنابر.

[5]

كانت هذه أعظم نتيجة يحققها جيش إسلامي على جيش بيزنطي، فلم يسبق من قبل أن استطاع الجيش المسلم أسر الإمبراطور، وغاية ما حصل قبل ذلك أن الإمبراطور أصيب كما في معركة ذات الصواري -زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه- أو كان جيشه ينتصر في أوقات الضعف الإسلامية في منطقة شرق آسيا الصغرى وشمال الشام.

لهذا لم تكن الصدمة التي نزلت بالروم صدمة عسكرية فقط أدت إلى انهيار الجيش، بل كانت صدمة سياسية أيضا، إذ ترتب عليها صراع في بلاط الحكم حول الإمبراطور القادم.

كانت حالة أرمانوس -الإمبراطور الأسير- مريعة، وقد ظهر منه هذا إلى حد أن السلطان ألب أرسلان قرر أن يُطلقه.. فالذي تلقى صدمة الهزيمة أنفع للمسلمين وهو في الحكم من إمبراطور جديد قد يطلب الثأر.. فالقاعدة أن القيادات المنهزمة المنهارة أفضل لعدوها من القيادات الجديدة الناشئة.

رأى ألب أرسلان بفراسته أن أرمانوس هذا لن يفكر مرة أخرى في حرب المسلمين، فقرر إطلاقه، مقابل جزية سنوية (مليون ونصف المليون دينار) وإطلاق كل أسرى المسلمين لدى الروم، وهدنة خمسين سنة.. وقد وافق على هذا كله، ثم نظر ناحية بغداد -حيث الخليفة- وانحنى كعلامة على الخضوع والتعظيم.

ولما عاد إلى عاصمته كان منبوذا من قومه، ولم يستطع أن يعود إلى ملكه، بل قُبِض عليه وسَمَلوا عينيه لكي لا يصلح للحكم ولكي ينتهي أمله.

فكانت ميتته بيد قومه بعد هزيمة ساحقة لم تلق الإمبراطورية البيزنطية مثلها من المسلمين من قبل.

لكن النتيجة الأهم التي جعلت لمعركة ملاذ كرد تأثيرها العظيم في التاريخ هو أن قوة الإمبراطورية البيزنطية انتهت تماما من كل أملاكها في الأناضول وبلاد أرمينية.. لقد صارت هذه الأنحاء ضمن نفوذ المسلمين، وتكاثر فيها المسلمون، ودخل كثير من أهاليها في الإسلام.. ولم يخرج الإسلام من تلك المناطق أبدا فيما بعد إلا قبل مائة سنة مع الحرب العالمية الأولى التي انتزعت أرمينية وجورجيا وأذربيجان.

فكانت هذه المعركة هي بداية سكنى الأتراك منطقة الأناضول.. وهي المنطقة التي سيظلون بها أربعة قرون أخرى، حتى إذا انتهت الدولة السلجوقية من هناك كانت الدولة العثمانية قد ولدت، وهي التي ستستكمل مهمة الفتح حتى تفتح القسطنطينية ثم شرق أوروبا حتى فيينا.

لهذا يحتفل الأتراك بهذه المعركة باعتبارها المعركة الفاصلة التي أسكنتهم هذه الأرض وجعلتها قلعة الإسلام قرونا ثم قلعة الخلافة قرونا.

[6]

استغربت حين سمعت كلمة دولت بهجلي -رئيس الحزب القومي التركي- كأنها كانت كلمة رئيس حزب إسلامي (إلا قليلا).. وأشد ما لفت نظري في كلمته أنه قال: إن الروم الذين هزمناهم لم ينتهوا بعد، بل إنهم لا زالوا أحياء ولا زالوا يقاتلوننا ولا يزالون يبثون الفتن بين المسلمين.

نعم.. إن الغرب لا يزال يتخوف من الأتراك باعتبار أنهم كثيرا ما قلبوا ميزان القوة لصالح المسلمين، ومعركة ملاذ كرد هي واحدة من أهم هذه اللحظات الكبرى الحاسمة!

لقد اتضح بعد هذه الهزيمة أن الدولة البيزنطية بدأت عصر الغروب، ورغم أنها استمرت أربعة قرون بعد هذه اللحظة إلا أن ملاذ كرد قد اضطربت لها الكنائس الغربية التي بدأت تشعر بالارتياع من الزحف الإسلامي إلى أوروبا. لا سيما وأنه لم تمض خمس عشرة سنة على هذه الهزيمة إلا وكان المرابطون يحققون نصرا حاسما آخر في الزلاقة يطيلون به عمر الأندلس أربعة قرون أخرى.

إثر هاتين الهزيمتين استيقظت المسيحية الأوروبية وقررت أن تدافع عن المسيحية بنفسها بعد انهيار ثقتها بالحصن البيزنطي الذي يحمي المسيحية من الشرق، وهي الصحوة التي ولدت فيما بعد أشهر حدث في التاريخ: الحروب الصليبية.

من المؤسف أن دولة السلاجقة (وإن بقيت في الأناضول أربعة قرون) إلا أنها دخلت في طور ضعف بعد وفاة السلطان ألب أرسلان ثم ابنه ملكشاه.. واستطاعت الجيوش الصليبية أن تخترق الأناضول وتهزم السلاجقة في منطقة الروم لتستقر في الشام قرنين من الزمان حتى يكون انكسارهم على يد صلاح الدين بعد نحو القرن ثم نهايتهم تماما على يد المماليك بعد نحو قرن آخر.. وتلك الحروب الصليبية كانت لها آثار واسعة ليس هذا مجال بيانها.

لكن المهم في سياقنا هذا الآن، أن الكتابات الغربية تنظر للأتراك المعاصرين وترى فيهم السلاجقة كما ترى فيهم العثمانيين، وتتخوف من نهضة معاصرة تجدد ملاذ كرد وفتح القسطنطينية مرة أخرى. والتراث الغربي تجاه العثمانيين حافل بما يجعل ذكراهم مرعبة ومثيرة للفزع.

هذا شعور الغرب نحو المسلمين جميعا، لكن الخطر الذي يرونه الآن أقرب إليهم هو خطر الأتراك.. وهو الأمر الذي يعرفه أردوغان ويستدعيه ويجدد ذكراه ويثير حماسة الأتراك به، وهكذا تفعل الأمم الناهضة: تحيي تاريخها ولحظات مجدها.

لكن أسوأ ما يحدث هنا أن هذه الظروف تجعل من نصر ملاذ كرد يبدو وكأنه نصر تركي، بينما الحقيقة أنه نصر إسلامي لا شك في ذلك.. فما كان في الزمن القديم معنى القومية العرقية العنصرية التي زرعها فينا الاحتلال وعملاؤه من بعده..

ولذلك، فبقدر ما يحتفل المسلمون في كل مكان بهذا النصر بقدر ما يتحرر النصر من هذه الصبغة القومية الضيقة ليكون نصرا من انتصارات المسلمين ويوما من أيام الله.

الاثنين، أغسطس 20، 2018

سطر من موسوعة المظالم في مصر


ليس شيئا غريبا أن تسير في شوارع اسطنبول فتسمع أو تلقى صاحب حكاية عربية مأساوية، قد اجتمع في اسطنبول أبناء العرب على نحو ما قيل "ألقت إليكم العرب أفلاذ أكبادها"، ولقد ثقلت الحكايات على القلوب حتى لقد آمنتُ حقا أنه لا عدل إلا في الدار الآخرة، التي هي في ذاتها نعمة عظمى لا يشعر بها كالمظلومين.

في المستشفى..

ميَّزتُ لهجة مصرية تحاول أن تنتهي معاملة مولود صغير قد جاء للدنيا حديثا، سرعان ما دفعتنا الظروف إلى تبادل الحوار الذي طال وحمل قصة جديدة من موسوعة المظالم المصرية..

"هذا الولد هو أول فرحة تدخل بيتنا منذ ثلاثين سنة"!

تلك هي العبارة التي أثارت انتباه حواسي جميعا حتى تحول حديثي مع صاحبها من المجاملة العابرة إلى محاولة الفهم والاستزادة.. فكانت هذه القصة، التي سأرويها على لسان صاحبها:

حين كنتُ في السجن وكنت أرى بعض إخواننا يضجر أو يسخط كنت أقول له: مهما بلغت حكايتك لن تكون أبدا أصعب من حكاية أمي، ومع ذلك فأنت تراها إذا زارتنا راضية صابرة لا يظهر منها جزع ولا سخط. فما إن أحكيها لها حتى يسكت ويذهب بعض ما عنده ولسان حاله يقول: الحمد لله!

فلعلك تريد الآن أن تعرف قصة أمي؟!
(أجابت كل حواسي بلهفة: نعم.. بالطبع)!

هي الآن في الخامسة والسبعين من عمرها، من عائلة أصولها من مكة المكرمة، حرص أبوها على تعليمها في ذلك الزمن الذي كان يندر فيه اهتمام الآباء بتعليم بناتهم، وهي تحفظ ثلث القرآن، ولا يفتر لسانها عن الذكر والدعاء، وتستطيع القراءة والكتابة، وتُعْرَف بين جيرانها بحسن الخلق وطهارة اللسان، فإذا كانت في مجلس فقد حلَّت فيه أجواء الإيمان وغابت منه الغيبة والنميمة وما يكون عادة في مجالس النساء.

لكنها منذ ثلاثين سنة لم تر فرحا.. فقد مات عنها زوجها وقد أنجبت منه ولدين وبنتا، فتكفلت برعاية أولادها حتى شبَّ الولدان، فكان أكبرهما يعمل ويدرس بالجامعة في نفس الوقت، فحمل عنها إصر استجلاب المال وبقي عليها إصر رعاية البيت وإدارته!

وما كادت تتكئ على أبنائها حتى اقتحمت عليها قوات الأمن البيت بحثا عن الابن الأصغر، كان هذا في عصر مبارك أواسط التسعينيات، ولما لم يكن هذا الابن موجودا فقد اعتقلوا أخاه ليجبروه على تسليم نفسه، فلما سلَّم الأصغر نفسه لم يفرجوا عن الأكبر، بل سُجِنا معا.. حُكِم على الأصغر بخمس عشرة سنة سجنا، وحُكِم للأكبر (الذي أُخِذ أول أمره لمجرد الضغط على أخيه) بالبراءة، إلا أن جهاز الأمن كان يُفرج عنه ورقيا ثم يعيد اعتقاله ورقيا وهو لا يزال في سجنه!

وهكذا فقدت الأم فجأة ولديْها كليهما.. ولم يبق لها إلا البنت الوحيدة التي كانت قد تزوجت وأنجبت! ففرغ عليها البيت ونزل عليها البلاء فجأة وبكل ثقله..

وهنا انتقل هم رعاية الأم التي فرغت من السند والولد إلى أبناء بنتها، وكانت ابنتها في ذلك الوقت قد أنجبت ثلاثة ذكور وبنتيْن، فقام الابن الأكبر لبنتها على رعاية أمه ورعاية جدته بعد سجن أخواله، لكن لم تمض سنتان حتى جاءت عاصفة اعتقالات أخرى فاعتقلت ولديْن من الذكور الثلاثة في نفس القضية التي سُجِن فيها خاليْهما، ولم يبق في البيت من رجل إلا هذا الفتى الثالث الذي يخطو نحو سن المراهقة.. وأي مراهقة؟!

وجد الفتى نفسه مسؤولا عن رعاية بيته وأمه وإخوته الذكور وجدته المسنة بعد سُجن أخواه وخالاه، فكان يسعى على ذلك، فيجمع بين العمل والدراسة، ويجور العمل على الدراسة فيتركها تحت ضغط الواقع، وما هي إلا سنوات حتى كان قادرا على الزواج.. تزوج! وبعد شهور من زواجه توفي في حادثة وقد ترك ابنا له في رحم زوجته.. ففرغ بيته وبيت أمه وبيت جدته من الرجال جميعا!!

مرت السنون على الأم المسنة وعلى ابنتها كأثقل ما تمر السنون على الناس، التفاصيل التي يتحملها الرجال صارت على أكتاف النساء والبنات، ولا رحمة عند أحد في تلك السلطة.. فلقد قضى الابنان ست عشرة سنة في السجن، وقضى الحفيدان أحد عشر سنة.. ولولا أن ثورة يناير قد وقعت فما كان أحد يدري كم في السجن يلبثون؟!

كانت ثورة يناير فرجا على مصر، وفرجا مخصوصا على هذه الأسرة الصغيرة التي استردت أبناءها ورجالها الأربعة من السلطة وسجنها.

قال لها ابنها يوما وهما يتذاكران الأيام: لقد كان ثباتك يستفزهم، هل يعقل أن تقتحم القوة الأمنية عليك البيت فلا تنهضين من مكانك، بل تجابهينهم بالدعاء عليهم؟! فكانت تقول: لم يكن ثباتا، إنما كان رعبا.. لقد نزل بي من الهم ما أقعدني، إلا أنه كذلك أنطقني!

فقال: لا، لا تقولي هذا.. قد كنتِ حين تأتين لزيارتنا في السجن كأنك ثائرة من الزمان القديم، لا يرهبك شرطي ولا ضابط ولا مأمور السجن، وكم دخلتِ معهم في شجارات عنيفة وأسمعتِهم ما يكرهون.. فقالت: لم يكن خوفي على نفسي، بل كنت أخاف عليكم أنتم، فأما حيث قد سُجِنْتُم وانتهى الأمر فلم يعد يرهبني منهم شيء!

كانت ثورة كنسمة الصيف العابرة، تنفيس داعبت فيه روائح الحرية أنوف المشتاقين.. وما هو إلا أن اكفهر الجو مرة أخرى، وجاء الانقلاب العسكري، وجاءت معه الأعاصير..

أعيد اعتقال ابنها الكبير لكن الصغير تمكن من الهرب، وأعيد اعتقال ابني بنتها مرة أخرى، ثم اعتقل زوج ابنتها كذلك.. وحكم على ابنها الكبير بالإعدام ثم خُفِّف إلى المؤبد في مرحلة النقض، وحُكِم على الصغير الهارب بالإعدام، ولا يزال البقية ينتظرون..

لكن السلطة وصلت إلى الجيل الثالث من هذه الأسرة.. فقد انضم إلى قائمة المسجونين زوج ابنة بنتها!.. وهكذا اجتمع لهذا البيت في سجون السلطة المصرية خمسة رجال، ومُطارَدٌ!

هذا المطارَد كان هو صاحبي في المستشفى! وهو الذي قصَّ علي حكايته..

نظر إلى ولده الذي وُلِد قبل ساعات، أعطى له اسم أخيه الذي سُجِن بسببه خمس عشرة سنة، ولا يزال ينظر إليه فيردد: أول فرحة منذ ثلاثين سنة!

ترى كم كان في تلك المستشفى من قصص مدفونة في صدور أصحابها لم يسعني أن أستمع لها.. أنظر في الوجوه أحاول أن أقرأ فيها قصة مدفونة كأن الملامح تخبر عن المكنون.. وبعد أن تركته صرت أسير في اسطنبول أحسب كل عربي –كما تخبرني ملامحه- يجرُّ قصته وراءه.. آه لو كنت أستطيع النفاذ إلى العقول فأجمع تلك القصص، إذن لكتبتُ منها موسوعة ضخمة.. ولعلي كنت سأسميها: موسوعة المظالم الكبرى!

ولكن.. حسبي أن الله يعلم، وكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا..

وحسبي، وحسب هؤلاء، أن يأتي يوم تُردُّ فيه المظالم لأهلها حتى لينظر المجرم في موسوعته فزعا وهو يقول "مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها"؟!!


الخميس، أغسطس 16، 2018

مذكرات الشيخ رفاعي طه (5) هتفت في ذكرى عبد الناصر: لقد مجدنا صنما!!


مذكرات الشيخ رفاعي طه (5)
هتفت في الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر: لقد مجدنا صنما!
لما أُعدِم سيد قطب أحرق أستاذي كتاب "معالم في الطريق" وهو في الصومال
كان عصر عبد الناصر بوليسيا تتجسس فيه الزوجة على زوجها والابن على أبيه  

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي



عند نهاية الصف الأول الثانوي كان مدرس اللغة العربية في مدرستنا، واسمه "جمعة"، قد كلفنا بكتابة موضوع تعبير عن "دولة العلم والإيمان"، لقد جاء السادات بهذا الشعار في أول عهده، وكتبتُ موضوعا أهاجم فيه السادات، قلت فيه: إن السادات ينافق الشعب، وشعار "دولة العلم والإيمان" مجرد كلام خال من المضمون، فليس في البلد لا علم ولا إيمان.

تفاجأ الأستاذ جمعة حين قرأ موضوع التعبير هذا حتى أنه قرأه على بقية الطلاب، ثم هرع إلى الأستاذ عيد الرافعي فعرض عليه ما كتبت، ونصحه أن يتكلم معي لينصحني ألا اتهور كي لا أتعرض للسجن أو شيء من هذا، وجاء إلي الأستاذ عيد فحمل لي مع نصيحته قصة أخرى كان يخفيها في طيات ذاكرته.

حدثني أنه حين أُعْدِم سيد قطب (1966م) كان هو في مقديشيو (عاصمة الصومال)، وما إن سمع في الإذاعة خبر إعدامه حتى هرع إلى النسخة التي كانت معه من كتاب "معالم في الطريق" فأحرقها فورا.. أحرقها في الصومال من شدة الخوف والبطش. وختم قصته بالنصيحة: "يا بني، الجدار له آذان! ولا يغرنك أن عبد الناصر مات فنحن لا نزال في دولة الخوف".

تداعى إلى ذهني كلام الأستاذ محمد الشاهد، ها هو نفس الكلام يتكرر، كأنما وجدتها فرصة لأستبين وأستوثق من الصدمة، سألته:
-      هل تعني أن عهد جمال عبد الناصر كان فيه بطش وظلم؟
-      بالطبع يا بني، لقد كنا نخشى الحديث حتى مع زوجاتنا في البيوت، كان الواحد يتجسس على أبيه وزوجته وأخيه وأخته.. كل الناس كانوا يتجسسون، أنا لم أكن أضمن ولا أجرؤ أن أقول شيئا في بيتنا!

وطفق يحدثني عن العهد البوليسي الذي لم يأمن فيه أحد على نفسه، وأن الله قد رفع عن الشعب عبئا ثقيلا بموت عبد الناصر، وأنه يمكن حقا أن يكون السادات صادقا في شعاره "دولة العلم والإيمان" فما يظهر منه يدل على هذا، على الأقل صار المرء يستطيع أن يتكلم ويتنفس، وأخبرني في لهجة المتأثر: لو كنتَ كتبتَ موضوع تعبيرك هذا في عهد عبد الناصر لما كان أحد ليراك ثانية.. وعند تلك العبارة أخذ في البكاء.

عند تلك اللحظة اجتمعت عندي الروايات، رواية الرجل البسيط: الشيخ محمود عسران، مع الأستاذ محمد الشاهد، مع الأستاذ عيد الرافعي.

نعم.. نسيت أن أحكي ما قاله لي قديما محمود عسران!

لقد حدثني الشيخ عسران مرة فقال: يا بني، لقد كان الملك فاروق رجلا صالحا حتى إن الناس لقبوه بـ "الملك الصالح"، وإنما العسكر شوهوا صورته حتى يُقال للناس كان فاسدا ونحن أفضل منه.

كان حديث الشيخ عسران حديث المتوجس الخائف، يحوم حول المعنى لا يريد أن يصرح به، لكن الصريح الواضح هي لهجته ومشاعره المُنْكِرة المستنكرة للعسكر وأفعالهم. أما أصرح الجميع فقد كان محمد الشاهد.

وليس من شك في أن حقبة عبد الناصر كانت سوداء قاتمة خصوصا على أهل العلم والفكر والمبدعين، إلا أن كثيرا من الشعب المصري لم يشعر بهذا لقوة الضغط الإعلامي وبريق الشعارات المرفوعة التي تعلن الانحياز للفقراء. ولقد استفاد كثير من الفلاحين والعمال في فترة جمال عبد الناصر، لا سيما من قانون الإصلاح الزراعي، فبعد أن كان هؤلاء من المعدمين أصبح لديهم فدادين من الأرض الزراعية فكانت نقلة لهم، صحيحٌ أنه لم ينقلهم إلى مرحلة الرفاهية كما حدث في عهد السادات لكنهم استفادوا على الأقل: صاروا ملاكا من بعد ما كانوا أُجَراء!

وهكذا.. بدأت الحكاية بموضوع تعبير وانتهت إلى رسوخ فكرة سطوة وبطش وظلم عبد الناصر في عقلي وقلبي.

جاءت الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر (28 سبتمبر 1971م)، كنت في بداية الصف الثاني الثانوي، وكانت المدارس تبدأ في أول سبتمبر أو في منتصفه، وأقيم في المدرسة حفل تأبين لعبد الناصر استمرت لأسبوع! فظل الطلاب والأساتذة يتبارون في مديح عبد الناصر وتمجيده في كلماتهم وخطبهم. لم يكن السادات قد كشر عن أنيابه بعد لجمال عبد الناصر، كانت السياسة لا تزال تخطب وده وود إرثه.

أزعم أني من أوائل من هاجموا جمال عبد الناصر، لقد بدأ حفل التأبين والتمجيد يوم الاثنين فيما أذكر، وكان الترتيب يضع كلمتي يوم السبت، فجاءني الأستاذ عيد الرافعي وقال: اكتب الكلمة التي ستلقيها واعرضها علي أولا. قلت له: يا أستاذ عيد، إني سأرتجل الخطبة كعادتي، أشعر بالخجل إن قرأت كلمتي من ورقة، وأنت أستاذي وقد عودتني الثقة بالنفس، ولن تسمع مني إلا ما يسرك.

لم تطمئنه كلماتي تلك، فلما جاء يوم السبت، وقف –دون أن أدري- من خلفي، وكان -كما أخبرني فيما بعد زميلي سيد محمود عبد الرحمن- قلقا ومضطربا، يحرك رجلا ويضع أخرى.

تقدمت خطيبا فقلت:
"الحمد لله وكفى، وأصلي وأسلم على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فقد تقدم كثيرون وامتدحوا جمال عبد الناصر، لكن لي رأي آخر. نحن كشباب وكأبناء هذه البلاد بل وكأبناء لهذه الثورة، فكلنا وُلِد بعد 1952، وأنا قد وُلِدت 1954 وترعرت في ظل حكم جمال عبد الناصر، وأنا مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو لمنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي التابعة للاتحاد الاشتراكي، ومع ذلك يؤسفني أن أقول: كل هذا كذب.. كذب وافتراء! لقد مجَّدنا رجلا صنما..."

عندها انتفض الأستاذ عيد الرافعي واختطف مني الميكروفون، وصاح: "ابننا رفاعي لا يقصد هذا، لكن خانه التعبير.. هو قصد أن جمال عبد الناصر معبود الجماهير فكل الناس تحبه، ولا يعني أنه صنم بمعنى الصنم...".

انتهى الطابور، واستدعاني الناظر إلى مكتبه، "يا ابني انت مش عايز تجيبها البَرّ (لا تريد أن ينتهي الأمر على خير)، ويبدو أنك لن ترتاح إلا حين تُفصل من المدرسة.. لم تنتهِ كلمتك إلا واتصل بي جهاز الأمن يريدونك أن تذهب إليهم.. من أين تأتي بهذا الكلام؟.. نحن لا نقوله هنا.. وإذا سألوك فقل لهم إنك لم تسمعه من أحد هنا.. انت ولد طيب و"غلبان".. وأبوك رجل "غلبان".. انت كده بتودي نفسك في داهية (تلقي بنفسك إلى الداهية).. وهتودينا معاك كلنا في داهية.. والمفترض بي الآن أن أصدر قرار فصلك من المدرسة"!

ظل الأستاذ عيد الرافعي يترجاه ويتوسل إليه ألا يتخذ قرار الفصل من المدرسه، طفق يقول: اعذرة يا حضرة الناظر، إنه ابننا، مثل ابني علي، ومثل ابنك.. ورفاعي متفوق، ولا نريد أن يضيع مستقبله.. إلخ!. كان موقف الأستاذ رفاعي أبويا وصادقا، وكان من رجاءاته أن يؤجل أمر الفصل إلى حين نرى ما سيصنع في أمن الدولة، فلربما الأمر لن يستدعي.

ولم تنته الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة.

نشر في مجلة كلمة حق