الجمعة، مايو 18، 2018

مذكرات رفاعي طه (2) أول الطريق إلى المسجد وأول الطريق إلى السياسة


سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لما أقمنا في إدفو، بالتحديد في قرية كوم الأمير التي بها المصنع، ذهبت إلى كُتَّاب الشيخ حسين، وهو الكُتَّاب الثاني في حياتي، كان شيخه حسين أشهب، ثم حدثت واقعة طريفة كانت طريق دخولي للمدرسة الابتدائية:

قدَّر الله أن جارنا في منزلنا بإدفو الأستاذ صادق كان مدرسا ابتدائيا، وكان يعطي الدروس الخصوصية لتلميذين: متولي وعبد الرازق، فكنت أذهب لأحضر معه هذه الدروس بحكم الجيرة، ولم يكن يصرفني ولم يطالبني بأموال أيضا، وأحيانا حين كان يسأل متولي أو عبد الرازق أسئلة كنت أجيبه عنها، وتكرر هذا مني حتى سألني بعد نحو شهر: أين تتعلم فإني لا أراك في المدرسة؟! ولم يكن بالمركز سوى هذه المدرسة التي يدرس فيها، فذكرت له أني أذهب إلى كُتَّاب الشيخ حسين!

فقال: هل تريد الذهاب إلى المدرسة؟
فقلت: لا أدري اسأل والدي.

وحين عاد أبي من عمله بادره الأستاذ صادق فسأله: يا عم أحمد، أي مدرسة يذهب إليها ابنك؟
فقال أبي: المدرسة بعيدة عنا، ولكنه يذهب إلى الكُتَّاب.
فقال: يمكن أن آخذه معي إلى المدرسة.
فقال أبي: يكون لك جزيل الشكر!
وهكذا دخلت إلى المدرسة الابتدائية!

كان الأستاذ صادق يدرس في الصف الثالث الابتدائي، فاصطحبني معه فأجلسني في الصف الثالث مباشرة، ثم أجلسني في مقدمة الفصل، وحين جاءت حصة القراءة قال لي: اقرأ. فلم أعرف، فأخذ يشجعني ويقول: اقرأ.. اقرأ، فلم يكن مني إلا أن بكيت، فأخذ يربت عليه ويهدئني، ثم حين جاءت الراحة التي تكون في منتصف اليوم الدراسي، أخذ بيدي ووضعني في الصف الثاني الابتدائي، وكان يدرس به الأستاذ محمد عبد الجواد، ولم يكن ثمة مكان فارغ إلا آخر مكان، فأجلسني فيه، ولم يطلب مني القراءة في البداية، ثم بدأ الأطفال بالقراءة واحدا تلو الآخر، فلما جاء دوري كنت قد حفظت النصّ الذي يقرؤونه، فلاحظ الأستاذ أني لا أقرأ ولا أقلب الصحفة، لقد وضعت كل تركيزي في حفظ النص، وهو ما كان، فاقترب مني الأستاذ محمد كأنه معجب بي، وقال: اقرأ صفحة أخرى، فعجزت عن ذلك، فأدرك أنني لا أعرف القراءة ولكنني أحفظ بسرعة، فقال:

-      ما اسمك؟
-      اسمي رفاعي أحمد طه
-      من أين أنت؟
-      من أرمنت
-      أنت جيد يا رفاعي

وأعطاني صباع طباشير أحمر كمكافأة، وصار يعاملني بلطف، ويعلمني القراءة كل يوم، ويعلمني في وقت الراحة وحدي بعيدا عن بقية التلاميذ، وهكذا بقيت في الصف الثاني ولم أدخل الصف الأول، واستمررت في هذه المدرسة، وكنت دائما صاحب المركز الأول.

ومع هذا فقد استمر انتظامي في الكُتَّاب، إذ كنت أذهب إلى المدرسة صباحا وإلى الكُتَّاب عصرًا، وقد طلبت من الشيخ حسين أن أغير موعدي إلى العصر، وكان في الكُتَّاب شاب في الخامسة عشرة من عمره يحفظ القرآن ويُحفِّظ آخرين كذلك، وفي ذلك الوقت عرفنا الألواح الخشبية وعرفنا "الطفلة" التي نمسح بها المكتوب. لقد كان الفارق بين القريتين كبيرا، ويرجع ذلك بالأساس بسبب المصنع، إذ أنه يستجلب الكفاءات للعمل، مما يعود على ارتفاع مستوى القرية، وكانت المدرسة جميلة نسبيا، وكنت أول مرة أعرف هذا الذي نجلس عليه يسمى "الدُّرْج".

في تلك الفترة كان أكثر الناس تأثيرا فيّ الأستاذان: صادق ومحمد عبد الجواد، كان الأستاذ محمد يحبني كثيرا، ويوليني عناية خاصة، وكنت مستمرا بالحضور في درس الأستاذ صادق مع متولي وعبد الرازق دون أن يطالبني بنقود لفترة طويلة، وكان يعلمني الصلاة، وعلى الرغم من أن الشيخ حسن كان يعلمني القرآن لكنه لم يكن مهتما بهذا الأمر ولم نكن نصلي في الكُتَّاب.

بدأت مرحلة التدين حين انتظمت في الذهاب إلى المسجد، كان هذا في السنة الرابعة الابتدائية، كان والدي يصلي الجمعة في المسجد ويأخذني معه، ولا أتذكر أنه اصطحبني في أي صلاة أخرى، وعندما ذهبت أول مرة للمسجد غمرتني السعادة، إذ وجدت كثيرا من الناس يصلون، فتعلقت بالمسجد، فكنت أقول لأبي: سأذهب للصلاة، وأذهب بمفردي، ثم لاحظ الشيخ محمود عسران إمام المسجد أني أصلي وليس معي والدي، فقال لي:

-      أنت يا عزّ (واشتهرت في تلك الفترة باسم عزّ) تأتي دائما للصلاة، فلماذا لا تصلي معنا الفجر؟
-      وما الفجر؟
-      صلاة الصبح، هناك صلاة نصليها عند الصبح اسمها صلاة الفجر.. ألا تصلي الفجر في البيت؟
-      لا، أنا أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة.
-      ألا تصليها في وقت الظلمة؟
-      لا، أصليها عند ذهابي للمدرسة والشمس مشرقة
-      إن صلاة الصبح تكون في الظلام وليس عند الشروق.

فكنت بعدها أريد أن أسهر الليل حتى يؤذن الفجر فأصلي، ولكني نمت وقلت لأمي: أيقظيني في صلاة الفجر، لكنها لم تفعل. ثم استيقظت في الظلام فظننت أن الفجر قد حان وقته، فتوضأت وصليت ركعتين، ثم رويت هذا للشيخ محمود عسران فضحك كثيرا، ووعدني أنه سيمرّ عليّ عند صلاة الفجر ليصطحبني معه، وأوفى بوعده.

لكن أزمة الربو كانت تشتد علي، ففي طريقي إلى المسجد أتوقف فأجلس خمس أو ست مرات لشدة الألم، وحاولت أمي أن تقنعني بالصلاة في البيت لسبب المرض، وذات مرة شتمت الشيخ محمود وصاحت به: ألا ترى أنه مريض؟! ولا يستطيع الذهاب. فقال لها: إن هواء الفجر جميل، ولعله يُشفى به، دعيه يصلي لعل الله يشفيه!

وكان الشيخ محمود على معرفة بممرض نصراني اسمه ميلاد، فسأله عن حالتي، فكشف عليَّ ثم سألني: من والدك؟ ولما عرف أنه يعمل قريبا من المصنع سألني: لماذا لا يأخذك إلى العيادة الطبية بالمصنع؟ أنا أشتغل هناك، ولعل الطبيب يعالجك، ثم أعطاني حقنة كالسيوم لتخفيف المرض، ولما سألت والدي تعجَّب وقال: فعلا أنا أعرف ميلاد، كيف لم أفكر فيه من قبل؟ ثم أخذني إلى الطبيب وأعطاني نفس تلك الحقن، وكانت تخفف من حالتي وبهذا انتظمت في الصلوات الخمسة جميعا.

كان الشيخ محمود عسران حاصلا على الثانوية الأزهرية، ويعمل كاتبا بالمصنع، وكلفته إدارة المصنع إلى جوار هذا العمل بمسؤولية المسجد، فكان يعمل كاتبا وإماما للمسجد، كان متدينا بسيطا، لم يكن على كثير علم وكانت أكثر خطبته باللغة العامة لا الفصحى، وكان يقول لي: يا بني هذا الملك (فاروق) كان ملكا صالحا، بل لقد كان لقبه "الملك الصالح"، ولكن أولئك العسكر أشاعوا عنه ما يسيئ إليه ليدينوه به.

لقد كنت صغيرا لا أدرك معنى ما يقول، ولست أدري الآن ما هي المناسبة التي قال لي فيها هذا الكلام.

أول ما أتذكره من الأمور العامة هي إعدام سيد قطب، كنت في الصف الخامس الابتدائي، وأتذكر أن أمي كانت تدعو على الإخوان وتقول "ربنا ينتقم منكم يا إخوان، انتو عايزين تهدوا السدّ العالي ليه؟"، فعلقت في ذهني كلماتها فسألتها: من هم الإخوان؟ فقالت لي: شخص يُدعى سيد أعدموه لأنهم يريدون هدم السد العالي، ولكن الرئيس أمسك بهم ونصره الله عليهم. كذلك كانت تقول عنهم "ناس عِفْشين"!

أما ما أتذكره جيدا فهو نكبة 1967، فقبل وقوع الحرب حدثنا مدرس المواد الاجتماعية، وكان اسمه عبد العظيم، بأننا سوف ننتصر في هذه الحرب حتما، يقول: هذا العالم منقسم تحت دولتين: الاتحاد السوفيتي وأمريكا، فنحن سوف نهزم إسرائيل، فإذا ساعدتها أمريكا فسيتدخل الاتحاد السوفيتي ويساعدنا، والاتحاد السوفيتي أقوى من أمريكا، وحين سننتصر سيكون اسم دولتنا "مصر وفلسطين"، فغزة هي جزء من فلسطين ولكن مصر هي التي تحكمها.

قامت الخرب وهُزِمنا، ولم أكن حينئذ أدرك معنى الهزيمة، وأتذكر أن أبي عاد يومذاك حوالي الساعة 12 ظهرا، وكان يبكي بكاء شديدا، وفزعت أمي وصارت تسأله: "مالك فيه ايه؟ مالك؟"، فيقول لها: "اسكتي اسكتي جمال استقال".

ثم أعطونا عطلة وجاءوا بسيارات كبيرة وجمعونا من البيوت لنذهب من قرية كوم الأمير إلى ادفو للتظاهر رفضا لاستقالة جمال عبد الناصر، وهي مظاهرات 9 و 10 يونيو. وأذكر أن تلميذا كان إلى جواري وقع على الأرض فمرت عليه السيارة، فسحقت رأسه تماما! لقد رأيت بنفسي رأسه مسحوقة ملتصقة بالأرض، وكان مشهدا لا أنساه أبدا، ولكن الناس صاحوا: فداء لجمال عبد الناصر! فداء لجمال عبد الناصر. ولم تتوقف السيارة!

كان الناس كثيرون في ادفو، كانوا يهتفون "أنور أنور يا سادات.. احنا اخترنا جمال بالذات"، وكان السادات وقتها رئيسا لمجلس الأمة (البرلمان)، وكانت الاستقالة قد قدمها عبد الناصر أمام مجلس الأمة واستخلف فيها زكريا محي الدين، ولم يزل هذا الهتاف محفورا في ذهني، ثم عدنا إلى القرية وأخبرونا في اليوم التالي بأن جمال عبد الناصر قد تراجع عن الاستقالة.

كان الناس في سعادة غامرة لما يأتيهم من أخبار الانتصار وما أسقطناه من الطائرات، ثم فجأهم خبر الهزيمة والتنحي كالصاعقة، وفي ذلك الوقت لم أكن أدرك كيف انتصرنا أو انهزمنا، ولم أكن أدرك لماذا استقال جمال عبد الناصر ولماذا تطالب الناس بعودته؟ لم أكن أدري كل هذا في هذه المرحلة ولكني أسمعه فقط.

الأربعاء، مايو 09، 2018

كيف تعرف المسلمون على الصين؟


ذكرنا في المقال السابق كيف بدأت العلاقات السياسية بين الدولة الإسلامية وإمبراطورية الصين، وفي هذا المقال سنرى ما هي المنافذ التي فتحت بين المسلمين والصين، وكيف تعرفوا عليها، وكيف تكونت صورتها في أذهانهم.

عمل التجاور بين الأمتين كواحد من أوسع منافذ الاتصال بين المسلمين والصينيين، وكان العنصر التركي واسطة كبرى بين الصينيين والمسلمين، فمن أسلم من الأتراك كان على اتصال مباشر بالصين جغرافيا، كما أن كثيرا من الأتراك انتقلوا إلى مركز الخلافة الإسلامية؛ فمنذ العصر الأموي تدفقت حركة الجواري والعبيد من بلاد الترك بأثر حركة الفتح الإسلامي، ثم ازداد الأمر قوة واتساعا عند نهاية عصر المأمون (الخليفة العباسي السابع) وأخيه المعتصم (الخليفة العباسي الثامن) حيث اعتمدت الدولة الإسلامية على العنصر التركي في قيادة الجيوش فاستكثرت من استجلاب الأتراك، وكان كثير من أمهات الخلفاء وزوجاتهن تركيات. فكان هذا من عوامل سعة التواصل الإسلامي الصيني، إذ أن كثيرا من هؤلاء كان يجاور الصين ويعرف لغتها وعاداتها.

لكننا نستطيع أن نعد ثلاثة من المنافذ الرئيسية الكبرى التي نقلت صورة الصين إلى المسلمين، تلك هي: التجارة، البحث العلمي، الرحلة.
اعتبر عتبة بن غزوان، الذي قاد مسارا ثانيا في فتوح فارس يبدأ من رأس الخليج العربي وينحدر جنوبا إلى منطقة الأهواز، أن فتحه مدينة الأبلة عند رأس الخليج يمثل إنجازا مضافا للدولة الإسلامية، لأن المدينة "مرقى سفن البحر من عمان، والبحرين، وفارس، والهند، والصين"[1]. ومنذ تلك اللحظة وعلى امتداد التاريخ كان الطريق البحري هو الأغزر تجارة لكونه الأكثر أمنا والأقل كلفة، فبين الصين وبلاد العرب من جهة البر مسالك وممالك؛ فأما المسالك فتضاريس جغرافية متنوعة من جبال وسهول وصحار، وأما الممالك فولايات عديدة تتقلب فيها الحوادث وينعكس أثرها على الأمن طوال تلك المسافة الواسعة. بينما اللافت للنظر أن الخطوط البحرية "لم تشهد طوال تاريخها فكرة السيادة البحرية من أي طرف؛ فقد حافظت على طابعها السلمي طوال الوقت"[2]. وتبدو تلك الفكرة واضحة بقوة لدى أبي جعفر المنصور، الذي كان من عوامل اختياره موقع بغداد أنه "موضع معسكر صالح؛ هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء يأتينا فيها كل ما في البحر"[3]. وتشير بعض الدلائل أن الحركة التجارية شهدت قفزة مفاجئة مع ظهور الإسلام، إذ يعبر مؤرخ صيني عن دخولهم بأنهم "جماعات كالطوفان"[4]، وهو أمر متوقع مع تحول العرب من قبائل متناثرة إلى دولة واحدة قوية وكبيرة.

كان الخط البحري الرئيسي يمتد من سيراف، أهم المدن الساحلية الإسلامية، وينتهي إلى مدينة خانفو (كانتون، جوانج زو Guangzhou) الساحلية في الصين، وبقية المدن التجارية على الساحل هي في حكم المحطات الفرعية الخادمة لهذا الخط الرئيسي. وحفلت تلك المدن بالحركة التجارية حتى قيل في شأن ميناء عدن "لا يخلو أسبوع من عدّة سفن وتجّار واردين عليها (عدن)"[5].

وفي مدينة خانفو تكونت جالية إسلامية كبيرة من التجار وأصحاب الأموال وَجَدَتْ رعاية ومعاملة ممتازة من ملوك الصين، فالبضائع تُحمل إلى ملك الصين فما أعجبه منها أخذه بضعف الثمن في أقصر وقت ولم يظلم فيه، ويدفع التاجر ضريبة مقابل تكفل الدولة بحفظ ماله، وفوق ما لهم من الحقوق المكفولة للتجار كان لهم رئيس مسلم مُفوض من قبل ملك الصين فيحكم بين المسلمين بشريعتهم، ويخطب فيهم الجمعة، ويصلي بهم العيد، ويدعو للخليفة العباسي[6]، وسجلت تواريخ صينية أنه قد توفرت لهم ثروة عظيمة وبنوا في كانتون مساكن خاصة لهم على غير طراز مساكن الصين[7].

أسهم جميع هذا في ازدهار التجارة الإسلامية الصينية عبر الطريق البحري الذي ظل مستمرا حتى ظهور فاسكو دوجاما ودخول البرتغاليين على خط الاحتلال مع عصر الكشوف الجغرافية في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ولا تزال كثير من آثار السفن الغارقة أمام السواحل الممتدة بين اليمن والصين تشهد للثراء التجاري لهذا الخط البحري، وهي تمثل منجما للأثريين والباحثين في هذا الباب[8].

أسفرت معركة طلخ (طالس) عن 1500 أسير صيني حُمِلوا إلى الكوفة، وظلوا بها أحد عشر عاما، علموا فيها المسلمين كثيرا من الصناعات، وقد ذكر الأسير الصيني (دو هوان) أنهم علموا المسلمين المنسوجات الحريرية وصناعة الورق والنقش على الذهب وعلى الخزف الصيني. وكان المعتصم معجبا بالمصنوعات الصينية فوَجَّهَ الصُنَّاع إلى تقليدها، فتعلموا طلاء الأواني بعجينة بيضاء مزخرفة تشبه الخزف الصيني، وهو ما مَكَّنهم من صناعة مواد عازلة استفادوا منها في صناعة الأدوية، وفي تصديرها إلى مناطق بعيدة وصلت حتى هولندا ولندن، حيث اكتشف في لندن ثمان جرار آتية من دمشق[9].

لم يكن أولئك الأسرى أول اتصال علمي بالصين، فالنهضة العلمية التي بزغت منذ العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي بلغت شمسها الصين بطرق متعددة، إذ حضرت الصين في التراث العلمي الإسلامي على تنوع مجالاته: فنجد للصين حضورا في كتب الأدب والشعر والجغرافيا والتاريخ والأديان والملل والنحل والفلسفة والرحلات والسياسة (أدب الملوك) وطبقات الأمم، بل وفي كتب النبات التي تستكشف عالم النبات وأدويته ومنابته وكتب الحيوان التب تبحث أنواعه وتوزعها وطرائق معيشته وطباعه.

ويبدو طبيعيا لأمة تجاور الصين أن تفيد من تراثها، فلقد " كان العلم يثب على قدميه وثبا في كل موضع وطئته قدم الفاتح العربي"[10] كما يقول جورج هربرت ويلز، وعمل البحث العلمي الإسلامي في انطلاقته على تتبع أبواب العلوم وفتح أسرار المجهول، فكثيرا ما وجد نفسه في الصين، فقدم عنها معلومات لم تكن معروفة.

وقد نقل المسلمون عن الصين إلى سائر العالم صناعة الورق، وأصلها من أسرى صينيين بسمرقند[11]، وكانت قفزة كبرى في الحركة العلمية، فبه تخلى المسلمون ثم غيرهم عن ورق البردي للكتابة[12]، حيث أمر أبو جعفر المنصور باستبدال الورق به[13].

أقدم رحلة في المصادر المتاحة هي وصول المسلمين إلى بلاد الصنف (فيتنام)، وهي داخلة في بلاد الصين عند الجغرافيين والرحالة المسلمين، في عهد عثمان رضي الله عنه، وإليها التجأ العلويون الفارون من سطوة الحجاج الثقفي في زمن الدولة الأموية[14].

وكان الخليفة العباسي الواثق بالله من محبي الاستكشاف، فأرسل سلام الترجمان في رحلة ليستطلع له موضع السد الذي بناه ذو القرنين حاجزا على يأجوج ومأجوج، وكان المسلمون يظنون أنه بعد بلاد الصين، وكان سلام يجيد فيما يزعمون ثلاثين لغة، وزعم أنه وصل إلى موضع السد ووصفه، والأغلب أنه وصف شيئا رآه من حصون الممالك والحضارات القديمة على أنه السد المطلوب[15]، إلا أن سلام في رحلته تلك لم يذكر شيئا عن بلاد الصين، وإنما انتهى أمره في الذهاب إلى بلاد الخزر، وابتدأ أمره في الإياب من خراسان، وهو ما يدل على أنه لم يصل إلى بلاد الصين كما توهم من نقلوا عنه من المتقدمين وبعض المعاصرين.

ثم تبدأ صورة واضحة عن الصين برحلة ابن وهب القرشي، وكانت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وهو رجل ركب مع التجار إلى الصين، وهناك أصر على لقاء ملكها متذرعا إلى ذلك بأنه ابن عم نبي العرب، فتحقق ملك الصين من صدق ادعائه بسؤال التجار العرب في خانفو (كانتون)، ثم سمح له بلقائه، وجرت بينهما محاورة طويلة جرى فيها ذكر الأنبياء وأخبارهم، ونقل ابن وهب براعة الصينيين في الرسم والتصوير حيث عرضوا عليه رسوما للأنبياء تصور أحوالهم: موسى (عليه السلام) وعصاه مع بني إسرائيل في البحر، وعيسى (عليه السلام) مع حوارييه على البغلة، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) في لباس العرب وعلى الإبل. وكثير من تفاصيل رواية القرشي عضدتها الرحلات التالية[16].

وقد وصل الرحالة الأشهر ابن بطوطة إلى الصين كسفير من سلطان الهند، ووصف كثيرا من أحوالها ومشاهدها، وبرغم قيمتها المهمة إلا أنه شوهها ما وقع فيها من مبالغات وأساطير، وقد اختلف الباحثون حول كونها أساطير نسبها ابن بطوطة لمشاهداته أو هو من خلط واختصار ابن جزي كاتب رحلته[17].

وثمة العديد من الرحلات لم يكتب لنا معرفة شيء عنها كرحلة الرحالة العماني أبو أبايضة الصغير في القرن الثالث الهجري[18]، ورحلة الشريف السمرقندي التي أكثر ابن فضل الله العمري من النقل عنه فيها.

وأسهمت تلك الرحلات في تطور العلم والمعرفة فما من شك في أن المسلمين ساهموا في تعريف بالشرق الأقصى وأفريقية، فضلا عن آفاق دولتهم المتراخية؛ فالرومان كانوا يتخيلون وجود الصين، ولكن الرحالة المسلمين عرفوها وكتبوا عنها منذ بداءة العصور الوسطى أخبارا أيدتها رحلة ماركوبولو البندقي في القرن الثالث عشر الميلادي"[19].



[1] الدينوري، الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، ط1 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربي، 1960م)، ص117.
[2] محسن فرجاني، العلاقات العربية الصينية: مسار الحوار الحضاري بين العرب والصين في العصر الوسيط، ورقة في  ندوة "العلاقات العربية الصينية" التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع معهد دراسات الشرق الأوسط، جامعة شنغهاي الدولية – الصين، في بيروت بتاريخ 21، 22 شباط/ فبراير 2017م.
ولا نقره على قول "طوال الوقت"، فقد تغيرت الأحوال وعدم العدل أحيانا فكانت التجارة تتوقف عند مرحلة في منتصف الطريق البحري ليتبادل فيها التجار بضائعهم دون الوصول إلى منتهى الطريق. انظر، المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط1 (بيروت: المكتبة العصرية، 2005م)، 1/109.
[3] الطبري، 4/457 وما بعدها؛ اليعقوبي، البلدان، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002م)، ص12 وما بعدها.
[4] توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص334.
[5] القلقشندي، 5/9.
[6] سليمان التاجر ص36، 50، 51.
[7] توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص331، 332.
[8] د. معين صادق، العلاقات الصينية العربية والتجارة الداخلية من القرن السابع إلى القرن العاشر، مؤتمر "العرب والصين" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 21 مايو 2016م). [الرابط]
[9] د. معين صادق، السابق.
[10] هـ. ج. ويلز، موجز تاريخ العالم، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1967م)، ص206.
[11] القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد، (بيروت: دار صادر، بدون تاريخ)، ص536.
[12] القلقشندي، 2/515.
[13] زيجريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، ط10 ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، (بيروت: دار صادر، 2002م)، ص46.
[14] شيخ الربوة، نخبة الدهر، ص168، 169.
[15] ابن خرداذبة، المسالك والممالك، (بيروت: دار صادر، 1989م)، ص162 وما بعدها. ويرجح البعض أن حديثه عن السد إنما هو عن سور الصين الشمالي، فيما يرجح آخرون أنها حصون جبال القوقاز عند مدينة دربند. (انظر: زكي محمد حسن، الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، ص15؛ أحمد رمضان أحمد، الرحلة والرحالة المسلمون، ص40)، والأول أقوى وأولى فالمسلمون وصلوا إلى القوقاز مبكرا ويعرفونه جيدا ويتعذر أن يختلط عليهم أمر دربند فيظنونها آخر المعمور، كما أن وصف السد أحرى أن يكون وصفا لسور الصين، منه بحصون القوقاز، والله أعلم
[16] السيرافي، رحلة السيرافي، (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1999م)، ص60 وما بعدها؛ المسعودي، 1/111 وما بعدها. ومن الجديد الذي يعضد تلك العناية الصينية بكتب الأديان ما نقله توماس أرنولد عن مؤرخ صيني بأن كتب المسلمين التي حملوها معهم في تجارتهم إلى الصين وُضِعت في بهو بالقصر الإمبراطوري مخصص لكتب الأديان (الدعوة إلى الإسلام ص334)، وتحدث الأثري د. معين صادق في كلمته بمؤتمر العرب والصين (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 21 مايو 2016) عن مصحف اكتشف حديثا أمر بكتابته ملك الصين ليهديه إلى الخليفة المسلم، إلا أنه امتنع عن ذكر التفاصيل بحسب الاتفاق المعقود بينه وبين جهة الكشف.
[17] انظر في كلام الباحثين فيه: زكي محمد حسن، الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، ص103؛ حسين مؤنس، ابن بطوطة ورحلاته: تحقيق ودراسة وتحليل، (القاهرة: دار المعارف، بدون تاريخ)، ص196 وما بعدها.
[18] د. حسين محمد فهيم، أدب الرحلات، سلسلة عالم المعرفة 138(الكويت، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، يونيو 1989م)، ص207.
[19] زكي محمد حسن، الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، ص127.