ذكرنا في المقال السابق كيف بدأت العلاقات السياسية بين الدولة الإسلامية
وإمبراطورية الصين، وفي هذا المقال سنرى ما هي المنافذ التي فتحت بين المسلمين
والصين، وكيف تعرفوا عليها، وكيف تكونت صورتها في أذهانهم.
عمل التجاور
بين الأمتين كواحد من أوسع منافذ الاتصال بين المسلمين والصينيين، وكان العنصر
التركي واسطة كبرى بين الصينيين والمسلمين، فمن أسلم من الأتراك كان على اتصال
مباشر بالصين جغرافيا، كما أن كثيرا من الأتراك انتقلوا إلى مركز الخلافة
الإسلامية؛ فمنذ العصر الأموي تدفقت حركة الجواري والعبيد من بلاد الترك بأثر حركة
الفتح الإسلامي، ثم ازداد الأمر قوة واتساعا عند نهاية عصر المأمون (الخليفة
العباسي السابع) وأخيه المعتصم (الخليفة العباسي الثامن) حيث اعتمدت الدولة
الإسلامية على العنصر التركي في قيادة الجيوش فاستكثرت من استجلاب الأتراك، وكان
كثير من أمهات الخلفاء وزوجاتهن تركيات. فكان هذا من عوامل سعة التواصل الإسلامي
الصيني، إذ أن كثيرا من هؤلاء كان يجاور الصين ويعرف لغتها وعاداتها.
لكننا نستطيع
أن نعد ثلاثة من المنافذ الرئيسية الكبرى التي نقلت صورة الصين إلى المسلمين، تلك
هي: التجارة، البحث العلمي، الرحلة.
اعتبر عتبة
بن غزوان، الذي قاد مسارا ثانيا في فتوح فارس يبدأ من رأس الخليج العربي وينحدر
جنوبا إلى منطقة الأهواز، أن فتحه مدينة الأبلة عند رأس الخليج يمثل إنجازا مضافا
للدولة الإسلامية، لأن المدينة "مرقى سفن البحر من عمان، والبحرين، وفارس، والهند،
والصين"[1]. ومنذ تلك
اللحظة وعلى امتداد التاريخ كان الطريق البحري هو الأغزر تجارة لكونه الأكثر أمنا
والأقل كلفة، فبين الصين وبلاد العرب من جهة البر مسالك وممالك؛ فأما المسالك
فتضاريس جغرافية متنوعة من جبال وسهول وصحار، وأما الممالك فولايات عديدة تتقلب
فيها الحوادث وينعكس أثرها على الأمن طوال تلك المسافة الواسعة. بينما اللافت
للنظر أن الخطوط البحرية "لم تشهد طوال تاريخها فكرة السيادة البحرية من أي
طرف؛ فقد حافظت على طابعها السلمي طوال الوقت"[2]. وتبدو تلك
الفكرة واضحة بقوة لدى أبي جعفر المنصور، الذي كان من عوامل اختياره موقع بغداد أنه "موضع معسكر صالح؛
هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء يأتينا فيها كل ما في البحر"[3]. وتشير بعض
الدلائل أن الحركة التجارية شهدت قفزة مفاجئة مع ظهور الإسلام، إذ يعبر مؤرخ صيني
عن دخولهم بأنهم "جماعات كالطوفان"[4]، وهو أمر
متوقع مع تحول العرب من قبائل متناثرة إلى دولة واحدة قوية وكبيرة.
كان الخط البحري الرئيسي يمتد من سيراف، أهم
المدن الساحلية الإسلامية، وينتهي إلى مدينة خانفو (كانتون، جوانج زو Guangzhou) الساحلية
في الصين، وبقية المدن التجارية على الساحل هي في حكم المحطات الفرعية الخادمة
لهذا الخط الرئيسي. وحفلت تلك المدن بالحركة التجارية حتى قيل في شأن ميناء عدن "لا يخلو
أسبوع من عدّة سفن وتجّار واردين عليها (عدن)"[5].
وفي مدينة خانفو تكونت جالية إسلامية كبيرة من
التجار وأصحاب الأموال وَجَدَتْ رعاية ومعاملة ممتازة من ملوك الصين، فالبضائع تُحمل
إلى ملك الصين فما أعجبه منها أخذه بضعف الثمن في أقصر وقت ولم يظلم فيه، ويدفع
التاجر ضريبة مقابل تكفل الدولة بحفظ ماله، وفوق ما لهم من الحقوق المكفولة للتجار
كان لهم رئيس مسلم مُفوض من قبل ملك الصين فيحكم بين المسلمين بشريعتهم، ويخطب
فيهم الجمعة، ويصلي بهم العيد، ويدعو للخليفة العباسي[6]، وسجلت تواريخ صينية
أنه قد توفرت لهم ثروة عظيمة وبنوا في كانتون مساكن خاصة لهم على غير طراز مساكن
الصين[7].
أسهم جميع هذا في ازدهار التجارة الإسلامية
الصينية عبر الطريق البحري الذي ظل مستمرا حتى ظهور فاسكو دوجاما ودخول البرتغاليين
على خط الاحتلال مع عصر الكشوف الجغرافية في القرن العاشر الهجري (السادس عشر
الميلادي)، ولا تزال كثير من آثار السفن الغارقة أمام السواحل الممتدة بين اليمن
والصين تشهد للثراء التجاري لهذا الخط البحري، وهي تمثل منجما للأثريين والباحثين
في هذا الباب[8].
أسفرت معركة
طلخ (طالس) عن 1500 أسير صيني حُمِلوا إلى الكوفة، وظلوا بها أحد عشر عاما، علموا
فيها المسلمين كثيرا من الصناعات، وقد ذكر الأسير الصيني (دو هوان) أنهم علموا المسلمين
المنسوجات الحريرية وصناعة الورق والنقش على الذهب وعلى الخزف الصيني. وكان
المعتصم معجبا بالمصنوعات الصينية فوَجَّهَ الصُنَّاع إلى تقليدها، فتعلموا طلاء
الأواني بعجينة بيضاء مزخرفة تشبه الخزف الصيني، وهو ما مَكَّنهم من صناعة مواد
عازلة استفادوا منها في صناعة الأدوية، وفي تصديرها إلى مناطق بعيدة وصلت حتى
هولندا ولندن، حيث اكتشف في لندن ثمان جرار آتية من دمشق[9].
لم يكن أولئك الأسرى أول اتصال علمي بالصين،
فالنهضة العلمية التي بزغت منذ العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي بلغت شمسها
الصين بطرق متعددة، إذ حضرت الصين في التراث العلمي الإسلامي على تنوع مجالاته:
فنجد للصين حضورا في كتب الأدب والشعر والجغرافيا والتاريخ والأديان والملل والنحل
والفلسفة والرحلات والسياسة (أدب الملوك) وطبقات الأمم، بل وفي كتب النبات التي
تستكشف عالم النبات وأدويته ومنابته وكتب الحيوان التب تبحث أنواعه وتوزعها وطرائق
معيشته وطباعه.
ويبدو طبيعيا لأمة تجاور الصين أن تفيد من
تراثها، فلقد " كان العلم يثب على قدميه
وثبا في كل موضع وطئته قدم الفاتح العربي"[10] كما يقول جورج هربرت
ويلز، وعمل البحث العلمي الإسلامي في انطلاقته على تتبع أبواب العلوم وفتح أسرار
المجهول، فكثيرا ما وجد نفسه في الصين، فقدم عنها معلومات لم تكن معروفة.
وقد نقل المسلمون عن الصين إلى سائر العالم
صناعة الورق، وأصلها من أسرى صينيين بسمرقند[11]، وكانت قفزة كبرى في
الحركة العلمية، فبه تخلى المسلمون ثم غيرهم عن ورق البردي للكتابة[12]، حيث أمر أبو جعفر
المنصور باستبدال الورق به[13].
أقدم رحلة في
المصادر المتاحة هي وصول المسلمين إلى بلاد الصنف (فيتنام)، وهي داخلة في بلاد
الصين عند الجغرافيين والرحالة المسلمين، في عهد عثمان رضي الله عنه، وإليها التجأ
العلويون الفارون من سطوة الحجاج الثقفي في زمن الدولة الأموية[14].
وكان الخليفة
العباسي الواثق بالله من محبي الاستكشاف، فأرسل سلام الترجمان في رحلة ليستطلع له
موضع السد الذي بناه ذو القرنين حاجزا على يأجوج ومأجوج، وكان المسلمون يظنون أنه
بعد بلاد الصين، وكان سلام يجيد فيما يزعمون ثلاثين لغة، وزعم أنه وصل إلى موضع
السد ووصفه، والأغلب أنه وصف شيئا رآه من حصون الممالك والحضارات القديمة على أنه
السد المطلوب[15]، إلا أن
سلام في رحلته تلك لم يذكر شيئا عن بلاد الصين، وإنما انتهى أمره في الذهاب إلى
بلاد الخزر، وابتدأ أمره في الإياب من خراسان، وهو ما يدل على أنه لم يصل إلى بلاد
الصين كما توهم من نقلوا عنه من المتقدمين وبعض المعاصرين.
ثم تبدأ صورة
واضحة عن الصين برحلة ابن وهب القرشي، وكانت في النصف الثاني من القرن الثالث
الهجري (التاسع الميلادي)، وهو رجل ركب مع التجار إلى الصين، وهناك أصر على لقاء
ملكها متذرعا إلى ذلك بأنه ابن عم نبي العرب، فتحقق ملك الصين من صدق ادعائه بسؤال
التجار العرب في خانفو (كانتون)، ثم سمح له بلقائه، وجرت بينهما محاورة طويلة جرى
فيها ذكر الأنبياء وأخبارهم، ونقل ابن وهب براعة الصينيين في الرسم والتصوير حيث
عرضوا عليه رسوما للأنبياء تصور أحوالهم: موسى (عليه السلام) وعصاه مع بني إسرائيل
في البحر، وعيسى (عليه السلام) مع حوارييه على البغلة، ومحمد (صلى الله عليه وسلم)
في لباس العرب وعلى الإبل. وكثير من تفاصيل رواية القرشي عضدتها الرحلات التالية[16].
وقد وصل
الرحالة الأشهر ابن بطوطة إلى الصين كسفير من سلطان الهند، ووصف كثيرا من أحوالها
ومشاهدها، وبرغم قيمتها المهمة إلا أنه شوهها ما وقع فيها من مبالغات وأساطير، وقد
اختلف الباحثون حول كونها أساطير نسبها ابن بطوطة لمشاهداته أو هو من خلط واختصار
ابن جزي كاتب رحلته[17].
وثمة العديد
من الرحلات لم يكتب لنا معرفة شيء عنها كرحلة الرحالة العماني أبو أبايضة الصغير
في القرن الثالث الهجري[18]، ورحلة
الشريف السمرقندي التي أكثر ابن فضل الله العمري من النقل عنه فيها.
وأسهمت تلك الرحلات في تطور العلم والمعرفة فما من شك في
أن المسلمين ساهموا في تعريف بالشرق الأقصى وأفريقية، فضلا عن آفاق دولتهم المتراخية؛
فالرومان كانوا يتخيلون وجود الصين، ولكن الرحالة المسلمين عرفوها وكتبوا عنها منذ
بداءة العصور الوسطى أخبارا أيدتها رحلة ماركوبولو البندقي في القرن الثالث عشر
الميلادي"[19].
نشر في مدونات الجزيرة
[1] الدينوري،
الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، ط1 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربي،
1960م)، ص117.
[2] محسن
فرجاني، العلاقات العربية الصينية: مسار الحوار الحضاري بين العرب والصين في
العصر الوسيط، ورقة في ندوة
"العلاقات العربية الصينية" التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية
بالتعاون مع معهد دراسات الشرق الأوسط، جامعة شنغهاي الدولية – الصين، في بيروت
بتاريخ 21، 22 شباط/ فبراير 2017م.
ولا نقره على قول "طوال الوقت"،
فقد تغيرت الأحوال وعدم العدل أحيانا فكانت التجارة تتوقف عند مرحلة في منتصف
الطريق البحري ليتبادل فيها التجار بضائعهم دون الوصول إلى منتهى الطريق. انظر،
المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط1 (بيروت: المكتبة العصرية، 2005م)،
1/109.
[3] الطبري، 4/457
وما بعدها؛ اليعقوبي، البلدان، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002م)، ص12 وما
بعدها.
[10] هـ. ج. ويلز،
موجز تاريخ العالم، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية،
1967م)، ص206.
[13] زيجريد هونكه،
شمس العرب تسطع على الغرب، ط10 ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، (بيروت: دار
صادر، 2002م)، ص46.
[15] ابن
خرداذبة، المسالك والممالك، (بيروت: دار صادر، 1989م)، ص162 وما بعدها.
ويرجح البعض أن حديثه عن السد إنما هو عن سور الصين الشمالي، فيما يرجح آخرون أنها
حصون جبال القوقاز عند مدينة دربند. (انظر: زكي محمد حسن، الرحالة المسلمون في
العصور الوسطى، ص15؛ أحمد رمضان أحمد، الرحلة والرحالة المسلمون، ص40)،
والأول أقوى وأولى فالمسلمون وصلوا إلى القوقاز مبكرا ويعرفونه جيدا ويتعذر أن
يختلط عليهم أمر دربند فيظنونها آخر المعمور، كما أن وصف السد أحرى أن يكون وصفا
لسور الصين، منه بحصون القوقاز، والله أعلم
[16] السيرافي،
رحلة السيرافي، (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1999م)، ص60 وما بعدها؛
المسعودي، 1/111 وما بعدها. ومن الجديد الذي يعضد تلك العناية الصينية بكتب
الأديان ما نقله توماس أرنولد عن مؤرخ صيني بأن كتب المسلمين التي حملوها معهم في
تجارتهم إلى الصين وُضِعت في بهو بالقصر الإمبراطوري مخصص لكتب الأديان (الدعوة
إلى الإسلام ص334)، وتحدث الأثري د. معين صادق في كلمته بمؤتمر العرب والصين
(الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 21 مايو 2016) عن مصحف اكتشف
حديثا أمر بكتابته ملك الصين ليهديه إلى الخليفة المسلم، إلا أنه امتنع عن ذكر
التفاصيل بحسب الاتفاق المعقود بينه وبين جهة الكشف.
[17] انظر في
كلام الباحثين فيه: زكي محمد حسن، الرحالة المسلمون في العصور الوسطى،
ص103؛ حسين مؤنس، ابن بطوطة ورحلاته: تحقيق ودراسة وتحليل، (القاهرة: دار
المعارف، بدون تاريخ)، ص196 وما بعدها.
[18] د. حسين
محمد فهيم، أدب الرحلات، سلسلة عالم المعرفة 138(الكويت، المجلس الأعلى
للثقافة والفنون والآداب، يونيو 1989م)، ص207.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق