يرى الكثيرون
أن المسلمين في أمس الحاجة للتواصل والتعاون مع الصين اليوم للتواصل والتعاون
لمصلحة الأمتين كليهما، إذ تجمع بينهما مصالح مشتركة وتواجههما تحديات مشتركة
كذلك، ومع أن الصين استطاعت الحفاظ على وحدتها ووجودها كإمبراطورية فإن العالم
الإسلامي لم يعد كذلك، وهو الوضع الذي تحافظ عليه المنظومة الدولية والتي تعد
الصين واحدة من أبرز أعمدتها.
بينما يرى
آخرون أن هذا أمل بعيد، ذلك أن سياسة الصين تجاه المسلمين في تركستان الشرقية (وهي
المنطقة التركية التي يسكنها شعب مسلم يتجاوز خمسا وعشرين مليونا، ويعانون اضطهادا
دينيا شنيعا وواسعا) وسلوكها تجاه القضايا العربية (وبالذات: الثورة السورية)
ودعمها للاستبداد الوحشي لأنظمة عربية وأنظمة شيوعية في آسيا الوسطى.. كل هذا
يجعلها في عداد التحديات التي تواجه الأمة المسلمة وجزءا من المنظومة الدولية التي
تحارب محاولات النهضة الإسلامية.
في كل الأحوال
فإن الحاجة دائمة قائمة لمعرفة جذور العلاقة بين المسلمين والصين، ولعل كثيرين لا
يعرفون أن العلاقة قد ابتدأت منذ وقت مبكر في التاريخ الإسلامي، وظلت متصلة حتى
عصر الاحتلال الغربي للعالم (المعروف بعصر الكشوف الجغرافية)، فذلك هو أول قطع
وانقطاع في مسار العلاقات الإسلامية الصينية، وهو ما ساهمت فيه إرادة العزلة
والتقوقع لدى بعض الأسر الحاكمة في الصين.
سنحاول في هذا
المقال والمقالات التي تليه –إن شاء الله تعالى- أن نقدم استعراضا موجزا ومكثفا
لصورة الصين في التراث العربي الإسلامي، ومتى بدأ الاتصال الإسلامي بالصين، وكيف
تكونت صورتها في المخيال الإسلامي، ومنافذ الاتصال التي ساهمت في بناء تلك الصورة.
الفتوحات الإسلامية
مع الانطلاقة القوية للفتوحات الإسلامية وصل المسلمون في
عصر مبكر إلى حدود الصين، فقبل نهاية القرن الهجري الأول كان قتيبة بن مسلم
الباهلي قد فتح بلاد الترك في وسط آسيا جميعها، ودخل مدينة كاشغر، عاصمة إقليم
تركستان الشرقية الذي تحكمه الصين الآن. لم يكن إقليم تركستان من بلاد الصين وإنما
هو –كما يعبر اسمه "أرض الترك"- من بلاد الجنس التركي المنتشر حتى تلك
الأنحاء!
لم تكن الصين بعيدة عن مجرى الفتوحات الإسلامية، بل إن
معركة في فتوح بخارى كانت بقيادة كور مغانون التركي الذي كان في الوقت نفسه ابن
أخت ملك الصين[1]،
إلا أنه لم تقع مواجهات بين الجيوش الإسلامية والصينية، وذلك أن ملك الصين كان من
الحكمة بحيث تجنب مواجهة الموجة الهائلة للجيوش الإسلامية، فأرسل إلى قتيبة يطلب
وفدا من المسلمين للتحاور، فخرج إليه الوفد وانتهى الأمر بينهم على مهادنة
الإمبراطورية الإسلامية وتقديم الجزية[2]،
وبهذا رُسِمت الحدود بين الإمبراطورية الصينية والأمة الإسلامية، فلم يدخل
المسلمون إلى الصين فاتحين، وكانت كاشغر هي آخر فتح إسلامي في جهة المشرق. وهكذا
تجاورت الأمتان الإسلامية والصينية أربعة عشر قرنا!
الحروب الإسلامية الصينية
خلال تلك
القرون المتطاولة نشبت بين الأمتين القليل من الحروب، وغلب على العلاقات بينهما التعاون
الحضاري والعلاقات السلمية والتجارية. ولا تمدنا المصادر المتوفر بكثير من
المعلومات حول تلك الحروب بتفاصيل ترسم لها صورة واضحة، ما يدل على أنها كانت
عابرة مع كونها حاسمة، وظلت حدود الفتح الأول هي الحدود الدائمة بين المسلمين
والصين.
بعد فتح كاشغر
وقع اضطراب بين قتيبة بن مسلم والخلافة أسفر عن بقاء المشرق على ما انتهى إليه
قتيبة، ثم اضطربت أمور الخلافة كلها بثورة العباسيين على الأمويين، فنتج عن هذا
حلف تركي صيني ضد المسلمين في بلاد ما وراء النهر، فهاجم الحلف الصيني الفرغاني
ملك الشاش حيث لم يكن يواليهم فاستغاث ابنه بالمسلمين فأغاثوه، ووقعت معركة كبرى "موقعة
طلخ" انتصر فيها المسلمون، وبها عاد الوضع لما كان عليه، وانتهى الدعم الصيني
لقبائل الترك، وغلبت الثقافة الإسلامية على بلاد ما وراء النهر[3].
ثم يغيب ذكر الصين حتى تظهر مرة أخرى بعد نحو أربعة قرون
حين احتل ملكها "كو خان" كاشغر عاصمة تركستان وهزم صاحبها الخان أحمد بن
الحسين (522هـ) بمساعدة "الخطا"، وهم الترك الذين ظلوا على الوثنية في
الأنحاء ما بين الصين والتركستان، ولما رجع ملك الصين إلى عاصمته كانت بلاد
التركستان قد صارت بيد الخطا، وقد واصل الخطا زحفهم إلى بلاد ما وراء النهر فهزموا
خان القرخانيين المسلمين حتى انسحب نحو بخارى وسمرقند، فاستغاث بملوك المسلمين في
تلك الأنحاء وأكبرهم سنجر السلجوقي، وانتهى الحال إلى معركة ضخمة بين جيش ملك
الصين وقبائل الخطا وغيرهم ضد تحالف الجيوش الإسلامية، وأسفرت المعركة (1 صفر 535هـ
= 16 سبتمبر 1140م) عن نصر حاسم لملك الصين وحلفائه، امتد بها نفوذهم ليشمل
التركستان وبلاد ما وراء النهر لنحو ربع القرن حتى أجلاهم جقري خان عن بخارى
وسمرقند ثم انتهى نفوذهم تماما على يد الخوارزميين بعد نحو سبعين سنة[4].
ثم
تغيب الصين مرة أخرى حتى تأتي العاصفة المغولية التي قادها جنكيز خان والتي اجتاحت
كل المشرق بما فيه الصين والعالم الإسلامي، وقد أدت هذه العاصفة إلى هجرات واسعة
كان من بينها مسلمون فارون من وجهها إلى الصين، وفيما بعد تقسمت مملكة جنكيز خان
بين أبنائه، وأسلمت سائر الأقسام: القبيلة الذهبية ومغول الهند وفارس، وبقي القسم
الصيني لم يُسلم ملوكه، على أنه أشيع إسلام ملك الصين –كما نقل القلقشندي[5]-
متشككا، وتنوقل هذا بفرح لدى المسلمين، إذ به يكون الإسلام قد بلغ ما بين الخافقين
شرقا وغربا، وهو كل العالم المعروف وقتها.
السفارات
الإسلامية الصينية
على ضفاف تلك
الحروب تكونت العلاقات السياسية بين الأمتين الكبيرتين، وتورد رواية شاذة أن
العلاقات السياسية بدأت منذ عصر الخلافة الراشدة بسفارة على رأسها سعد بن أبي وقاص
في زمن عثمان[6]،
ثم تبدأ معلومات غائمة عن العلاقات السياسية والسفارات في زمن الأمويين لكنها
شذرات غامضة ونادرة، بينما يأتي الوضوح والتفصيل في زمن الخلافة العباسية، حيث
نقلت العديد من الروايات أنباء سفارات بين البلاطين أوصلها بعض الباحثين إلى خمسة
عشر سفارة، منها سفارة لأبي جعفر المنصور حملت هدايا نفيسة من بينها ثلاثون من
الجياد العربية[7]،
وسجلت التواريخ الصينية عدة سفارات عربية إلى البلاط الصيني، مرسلة من أمير
المؤمنين (خان المؤمنين = Han- Mi Mo- Mini) أبي العباس
(A- bu- lo- ba) وأبي جعفر المنصور (A- Pu Ch'a- fo) وهارون
الرشيد (A- Lun)"[8].
ومع ضعف سلطة
الخلافة ظهرت الدول المستقلة على الأطراف، فكان منها: الدولة السامانية فيما وراء
النهر، فكان من أبرز السفارات الإسلامية الصينية سفارة أبو دلف مسعر بن المهلهل
الينبوعي إلى الصين والهند بتكليف من نصر بن أحمد الساماني مع بعثة كان أرسلها
أمير الصين لخطبة ابنة أمير بخارى، وسجل أبو دلف أخبار سفارته، فكانت من مصادر الرحالة
والجغرافيين من بعده[9].
وبالرغم من أن
الدولة العباسية في افتتاح أمرها واجهت الصين في معركة طالس إلا أن ملك الصين
استغاث –بعدها بزمن قصير- بالدولة العباسية ضد تمرد عليه سيطر على بعض العاصمة،
فأرسل إليه المسلمون أربعة آلاف جندي استطاع بهم القضاء على التمرد، وبقي أولئك
الجنود في الصين[10].
وبالعموم، فقد
تكونت صورة مهيبة للمسلمين لدى ملوك الصين، فقد كانوا يرون أن الدنيا لأربعة ملوك
أعظمهم ملك العرب الذي يُجمعون أنه "أكثرهم مالا وأبهاهم جمالا وأنه ملك
الدين الكبير الذي ليس فوقه شيء"، ثم ملك الصين، ثم ملك الروم، ثم ملك الهند،
وبقية ملوك الأرض تبع لهم[11].
ونستطيع القول
بأن ضعف مركز الخلافة الإسلامية في بغداد جعل الاتصال الصيني الإسلامي منحصرا في
الدول الحدودية في بلاد ما وراء النهر، ثم جاء الغزو المغولي فقرر وضعا جديدا
تماما في الاتصال السياسي بين مركز العالم الإسلامي وأطرافه، حتى ليقرر القلقشندي،
الأديب الذي عمل كاتبا في بلاط السلطان الظاهر برقوق، أنه لا مراسلات بين سلطان
مصر –عاصمة الخلافة حينئذ- وصاحب الصين[12].
في المقال
القادم إن شاء الله تعالى نرى كيف تواصل المسلمون مع الصين، وما المعلومات التي
جاءت عبر الرحلات الأولى التي قام بها مسلمون إلى الصين.
نشر في مدونات الجزيرة
[3] الفسوي، المعرفة
والتاريخ، تحقيق: د. أكرم العمري، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981م)، 3/351؛
الطبري، 4/366، 369؛ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد
عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1992م)،
7/324؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق: عبد الله القاضي، ط2 (بيروت:
دار الكتب العلمية، 1995)، 5/90؛ وانظر: د. حسن أحمد محمود، العالم الإسلامي في
العصر العباسي، ط5 (القاهرة: دار الفكر العربي، بدون تاريخ)، ص176، 178؛ د. عبد
العزيز الدوري، العصر العباسي الأول، ط3 (بيروت: دار الطليعة، 1997م)، ص52.
[4] ابن
الأثير، 9/321 وما بعدها؛ ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، (بيروت:
دار الفكر، 1988م)، 4/521، 522.
[6] وذلك أن
تاريخ الخلافة الراشدة مشهور وموثق وليس في كتبه ما يشير لهذا، وأغلب الظن أن
الخطأ ورد في فهم المؤرخين المعاصرين لما ورد لدى بعض الجغرافيين من أن أول وصول
للمسلمين إلى بلاد الصين (على الأدق: فيتنام، وكانت تابعة للصين لدى الجغرافيين
المسلمين) كان في زمن عثمان، وحتى تلك الرواية عن هذا الوصول الأول تبدو شاذة
ومفردة. انظر: شيخ الربوة، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، الطبعة
القديمة (بطربرغ: الأكاديمية الإمبراطورية، 1865م)، ص168، 169.
[7] فيصل
السامر، السفارات العربية إلى الصين في العصور الإسلامية الوسطى، مجلة آداب
المستنصرية، العدد الثاني، ص355. نقلا عن: سليمان التاجر، عجائب الدنيا وقياس
البلدان، تحقيق: د. سيف شاهين المريخي، ط1 (العين، مركز زايد للتراث والتاريخ،
2005م)، ص12 (مقدمة التحقيق).
[8] د. عبد العزيز
الدوري، العصر العباسي الأول، ص116؛ وانظر: د. حسن أحمد محمود، العالم الإسلامي
في العصر العباسي، ص71، 72. ويرى الدوري أنها لم تكن سفارات حقيقية، وإنما
أراد بعض التجار رفع مكانتهم فقدموا تلك الهدايا الطريفة باعتبارهم سفراء من قبل
الخلافة.
[9] زكي محمد
حسن، الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، ط1 (القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2013م)،
ص28، 29؛ أحمد رمضان أحمد، الرحلة والرحالة المسلمون، (جدة: دار البيان
العربي، بدون تاريخ)، ص47؛ سليمان التاجر، ص12 (مقدمة التحقيق).
[10] توماس
أرنولد، الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة: حسن
إبراهيم حسن وآخرين، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1980م)، ص333.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق