الجمعة، نوفمبر 16، 2018

مذكرات الشيخ رفاعي طه (8) كنت عضوا في طلائع الاتحاد الاشتراكي


مذكرات الشيخ رفاعي طه (8)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
كنت عضوا في طلائع الاتحاد الاشتراكي

·      كان الاتحاد الاشتراكي ينبي تنظيما أخطبوطيا يمنع الدولة من الانهيار لمئات السنين
·      كان خطاب السادات ضعيفا ومستكينا لكنه صار بالتدريج يجد له أنصارا بين الشعب!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي


لقراءة الحلقات السابقة:
الحلقة السادسة: قصتي مع التصوف
الحلقة السابعة: قصة ثورة في المدرسة

عندما كنا صغارا في المدرسة الإعدادية كانوا يختارون الطلاب الخمسة الأوائل على كل فصل، ويُحفِّظونهم خطب جمال عبد الناصر، ويحدثونهم عن الاشتراكية، ويشرحون لهم الميثاق، ثم كانوا يعقدون لهم لقاءات دورية –لا أتذكر الآن إن كانت شهرية أم نصف سنوية- بالإضافة إلى معسكرات صيفية في الإسكندرية ورأس البر، وأما بالنسبة لنا في مركز إدفو فقد كان معسكرنا في أسوان، ننزل هناك في نزل الشباب، التي كانت ضمن ما كان يسمى "بيوت الشباب" وهي تتبع وزارة الشباب والرياضة، وكان لها في ذلك الوقت أنشطة ضخمة. وهذه المعسكرات مختلطة بين الأولاد والبنات، لكن الأنشطة نفسها منفصلة حيث ينزل الذكور في مكان والإناث في مكان آخر. لم يبلغ الأمر كما كان في تركيا –مثلا- حيث يبيت الشباب والفتيات في مكان واحد. واستقر الوضع على هذا الشكل في المرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية.

وبموازاة هذا، كانت ثمة مسابقات في ذلك الزمن تسمى مسابقات أوائل الطلاب، وكان يتسابق فيها الطلاب الخمس الأوائل الذين هم بطبيعة الحال أعضاء البراعم والطلائع في الاتحاد الاشتراكي، وفيها يتعارف ويتنافس أولئك الطلاب الذين يجري إعدادهم ليكونوا نخبة الدولة. وللحق، فلقد كان الاتحاد الاشتراكي يعمل جيدا على هذا الملف، فحين يستخلص من كل فصل –لا من كل مدرسة- أفضل خمسة طلاب فيه، ثم يتعهدهم بالتكوين والإعداد والدعم، ثم يفتح لهم بعد التخرج أبواب الوظائف المهمة في مناصب الدولة.. فعندئذ فإن النخبة الجديدة الحاكمة ستكون قد جرى إعدادها وتربيتها منذ أول النشأة، وسيكونون قد تعارفوا عبر هذه السنين من خلال اللقاءات الدورية والمعسكرات والمسابقات، هنا سيكون الناتج نخبة حاكمة ذات نظام أخطبوطي يضمن للدولة أن تستمر على هذا لمئات السنين دون أن تنهار.

كانت هذه صورة ونظام الاتحاد الاشتراكي كما رأيتها، وكانت تلك الفترة حافلة بالمشاعر الوطنية الملتهبة المرتبطة بجمال عبد الناصر الذي هو في روحنا "الزعيم"! ولم تتفكك هذه البنية العقدية القوية إلا حين طرح السادات فيما بعد فكرة تطوير الاتحاد الاشتراكي، فطُرِحت ورقة بهذا العنوان "تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي"، وقد حضرتُ مناقشات هذه الورقة.

وبهذا أستطيع أن أُجْمِلَ صورة أيامي في المرحلة الثانوية في هذه المسارات: الصوفية، وزعامة المدرسة ونشاطها الطلابي، وعضويتي في طلائع الاتحاد الاشتراكي، والاستدعاءات المتتالية لقسم الشرطة وحديثي المتكرر مع ضابط المباحث الذي كان يحرص على أن يكون حديثه وديا وأخويا وفي مكان غير المدرسة أو قسم الشرطة.

وأما المشهد العام في تلك المرحلة فأول ما فيها أني لم أعِ جيدا حرب الاستنزاف، ربما لكوني وقتها في السنة الثالثة الإعدادية أو لأننا لم نكن نشعر بها، كذلك لم يشغلنا كثيرا مبادرة روجرز سنة 1969 في أواخر حكم عبد الناصر والتي كانت قبل وفاته بشهور، إلا أن الحدث الذي لا يُنسى من تلك الفترة هو استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان، وكان ذلك في مارس 1969، فقد كان لهذه الحادثة تأثير ضخم، وكان له جنازة حافلة مهيبة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة وحضرها جمال عبد الناصر وبكى فيها، وقد أخرجونا نحن –طلابَ المدارس- في مظاهرات وجنازات رمزية.

كذلك فقد نفذت القوات الإسرائيلية عدة ضربات في العمق المصري، ومن أشهر هذا قصف مدرسة بحر البقر التي استشهد فيها عدد من الأطفال في مدرستهم، وعندنا في جنوب مصر وقع قصف أيضا لكوبري (جسر) إدفو في أسوان، وكان هذا الجسر يبعد عن مدرستنا كيلو مترا واحدا فقط، وقد ذهبنا إلى هنا ورأينا آثار القصف والقنبلة وما أحدثته من دمار.

وهنا بدأ ينتشر في مصر نظام المدارس العسكرية، وكان يجري تدريبنا عسكريا في المدرسة، كما انتشرت التعليمات ببناء جدران أمام المداخل والأبواب، وخصوصا أبواب المدارس بعرض 3 أمتار وارتفاع 3 أمتار أيضا، وكانت لا شك مهمة باهظة التكاليف، ولم أكن أدري حينها لماذا يبنون هذه الجدران؟ كذلك فقد تم تحديد عدد من الأماكن بمثابة المخابئ والملاجئ التي ينبغي على الناس الذهاب إليها وقت حدوث الغارات.

لم يكن الشعب يخشى الحرب مع إسرائيل، بل كان يفور حماسة حقيقية، وكان مشحونا بأثر القوة الإعلامية المتواصلة، وفي الواقع لقد صنعت هذه القوة الإعلامية من جمال عبد الناصر زعيما حقيقيا، وإذ كان يحتكرها وليس ثمة صوت غيره فقد مَكَّنَتْه بحق من أن يكون محبوب الجماهير، ولقد رأيتُ أبي يبكي بكاء حقيقيا يوم إعلان عبد الناصر تنحيه، ورأيته يبكي مثل ذلك يوم وفاته، ولم يكن أبي إلا رجلا بسيطا فلم يكن مؤدلجا ولا صاحب فكر وتوجه، إنما هو كعموم الناس، ومع هذا فقد كان في غاية الانفعال والتأثر.

بينما كان الأمر على العكس من هذا حين جاء السادات، لقد بدا السادات ضعيفا مهزوزا لا يستطيع أن يكرر زعامة عبد الناصر القوية ولا أن يملأ ثوبه المهيب، خصوصا في السنوات الثلاث الأولى (1970 – 1973م) حتى قامت الحرب. ولم يكن الناس يرونه صالحا ليكون رئيسا للجمهورية، وعلى ما يبدو فإن طاقم الرجال الذين أداروا هذا الملف تعمدوا توصيل هذه الصورة عنه، وإن كنا عرفنا فيما بعد أنها لم تكن صورة صحيحة، وأنه تعمد أن يكون بهذا المظهر الضعيف ليعالج بها معاركه الداخلية في أروقة الدولة التي يتنفذ فيها رجال عبد الناصر الأقوياء. كان عبد الناصر يخطب بقوة وعنده ذلك الحس الجماهيري الذي يجذب به الأسماع والأنظار فيؤثر فيها، بينما كان خطاب السادات هادئا مستكينا، تكثر فيه اللهجة العاطفية ولغة القرية، يتحدث كثيرا بالعامية.

لكن الذي يلفت النظر هنا أن هذه اللهجة في الخطاب بدأت بالتدريج تجذب بعض الناس وتجد لها أنصارا، كان السادات ضمن هذه الصورة الهادئة المستكينة يتحدث عن مبادرات سياسية تتجنب دخول الحرب (على العكس من موقف وسياسة عبد الناصر التي تتوعد إسرائيل)، فقد حاول البناء على مبادرة روجز ووافق على مدِّ الهدنة ووقف إطلال النار، ثم طرح مبادرة عام 1971م، وكان يبرر هذا بأنه إنما يفعله ليحافظ على أبنائه لأقصى درجة وليحافظ على البلاد ويجنبها متاهات الحرب. وقد وجد هذا النوع من الخطاب أنصارا وبدأ يتشقق الموقف في المجتمع المصري من خوض حرب التحرير مع إسرائيل، فخصوصا كبار السن كانوا يقدرون هذا الشعور الأبوي ويتعاطفون مع السادات، ويتحدثون عن الحرب التي لا تأتي بالخير. فيما بعد عرفنا أن هذه اللهجة نفسها كانت من وسائل السادات التي استعملها لإيهام إسرائيل بأننا لن ندخل الحرب أبدا.

فيما قبل الحرب لم تكن الجماهير مع السادات أو ضده، حتى ما سماه ثورة التصحيح (مايو 1971م) والتي أقصى فيها رجال عبد الناصر لم يتعامل معها الشعب بالحفاوة أو بالإنكار، كأن هؤلاء المغلوبين لقوا جزاء طبيعيا، فحيث لم يكونوا من اختيار الشعب فليس للشعب منهم موقف، ولعل قائلهم يقول أيضا: وحيث كانوا من رجال عبد الناصر وقد رحل كبيرهم فلا تثريب أن يرحلوا مثله، ثم لم يكن منهم أحد معروفا بزعامة ولا له في قلوب الناس مكانة. ولو شئنا أن نقول إلى أي الجانبين كان الشعب يميل فسنقول بوضوح: إلى جانب السادات، ولعلها كانت عند بعض الناس من حسناته ومن بشائر عهده.

إلى هنا تنتهي المرحلة الثانوية، ليبدأ الحديث عن المرحلة الأكبر والأخطر: مرحلة الجامعة..

نشر في مجلة كلمة حق 

الأربعاء، نوفمبر 07، 2018

هل كان العهد العثماني احتلالا تركيا لمصر؟


دفعت كثير من العوامل السياسية والتاريخية والعلمية لتشويه فترة الحكم العثماني للبلاد العربية، من أهمها بزوغ فكرة القومية ثم فكرة الوطنية وهيمنتها السياسية على العالم الإسلامي والتي امتدت حتى وقتنا هذا، وفي إطار هذه الهيمنة كان لا بد من إنتاج التاريخ القومي والوطني الذي يُعَرِّف القومية والوطنية بحدود جغرافية ومفاهيم عرقية تمارس تعريفا وتصنيفا جديدا للواقع وللتاريخ كذلك. وكانت الفترة العثمانية هي ضحية هذه الهيمنة إذ نُظِر إليها على أنها احتلال أجنبي، ونُظِر إلى الخروج من نفوذها على أنه لحظة استقلال قومي ووطني تستحق الاحتفاء، ومن ثم كان لا بد من دعم وصناعة الرواية التاريخية التي تشوه فترة الحكم العثماني في إطار تدعيم وترسيخ الحكم القومي والوطني. ولقد كانت لمصر خصوصية أخرى تمثلت في أن دخول الحداثة لم يكن على يد الاحتلال الأجنبي المباشر بل بدأت على يد محمد علي باشا وأسرته، وحيث أن الإنجليز قد احتلوا مصر وروجوا لدعاوى أنهم الذين أدخلوها إلى عصر الحداثة، فإن الرواية الوطنية كانت تستلهم تحديث محمد علي، والذي مثَّل انقلابا على الدولة العثمانية وحاربها، فكل تعزيز لنهضة محمد علي كانت بالضرورة خصما من حقبة الدولة العثمانية[1].

والواقع أن هذه النظرة مغرقة في الخطأ، ذلك أننا عندما نطالع المدونات التاريخية لفترة الحكم العثماني لمصر لا نجد أثرا للنظر إليهم بمعنى الاحتلال الأجنبي من قبل المصريين، واستخدامنا لفظ "المصريين" هنا إنما هو وصف بمعنى المقيمين في مصر لا بالمعنى القومي الوطني الذي يجعل المصريين عرقا مستقلا أو قومية محددة، فقد عرف العالم الإسلامي –وبالذات في قلبه وحواضره الكبرى ومنها: مصر- التقاءا هائلا للأعراق والأجناس يستحيل معه إنزال المعنى القومي على الشعوب المقيمة في أراضيه. فالمعنى القومي نفسه لم يكن موجودا كمفهوم فضلا عن وجوده كمعيار تصنيفي. وإنما نُظِر إلى الدولة العثمانية كسلطة إسلامية حاكمة لا يُشترط لها "المصرية"، وقد كان حكام مصر قبلهم أتراك وشراكسة وأكراد وعرب.

وقد وُجِد من المؤرخين المصريين من مدحوا الدولة العثمانية ورفعوها فوق سائر الدول السالفة الحاكمة، كالجبرتي الذي قال فيهم: "وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشدّ من ذب عن الدين، وأعظم من جاهد في المشركين. فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الممالك في الطول والعرض، هذا مع عدم إغفالهم الأمور، وحفظ النواحي والثغور، وإقامة الشعائر الإسلامية، والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع، فتحصنت دولتهم، وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك، وانقاد لهم الممالك والمملوك"[2].

لقد دخل العثمانيون إلى مصر إثر صراع سياسي مع المماليك، وهو الأمر الذي ينظر إليه كثير من المؤرخين والباحثين باعتباره كان فرصة وضرورة لأن دولة المماليك كانت قد وصلت إلى حالة مزرية من الضعف وتهددت سواحلها في البحرين الأحمر والمتوسط بغارات الأوروبيين، بينما نعمت مصر بالأمن من التهديد الخارجي لثلاثة قرون منذ دخلت في الحكم العثماني[3].

كما أن العثمانيين لم ينشؤوا في مصر تغييرات جوهرية حادة في نمط السياسة والإدارة على نحو ما يفعل الاحتلال الأجنبي، وإنما تعامل مع البلد وأهلها كما تتعامل السلطة الإسلامية مع البلاد الإسلامية ورعاياها، ولقد كانت عادة الدولة العثمانية عامة ألا تغير نظام البلاد المفتوحة إلا بقدر ما يبقيها تحت سيادتها[4]، وتلك عادة العثمانيين في البلاد التي حكموها حتى في بلاد شرق أوروبا التي ظلت مؤسساتها قائمة حتى بعد خروجها من السيادة العثمانية بشهادة برنارد لويس المستشرق اليهودي الصهيوني المعروف بعدائه للدولة العثمانية[5].

بينما يمكن أن نرى سيرة المحتل واضحة منذ سقوط الأندلس وما حل بالمسلمين فيها من الشنائع والفظائع، وما بعده حتى لحظة كتابة هذه السطور. والواقع أن الحديث عن احتلال تركي في هذه الأيام هو حديث مدفوع بأغراض السياسة أكثر بكثير مما هو مدفوع بحقائق التاريخ.

إذ لا يمكن بحال تصنيف الحكم العثماني تحت عنوان الاحتلال الأجنبي التوسعي الذي غزا البلاد العربية وتعامل معها كمستعمرات يستفيد من مواردها البشرية والاقتصادية لخدمة مشروعاته وأهدافه التسلطية، وهو الاحتلال الذي عرفته الدول العربية في فترات الاستعمار الغربي، ولم تكن العلاقة بين السلطنة العثمانية والولايات العربية علاقة المركز بالأطراف أو الدول المستعمِرة بمستعمراتها، وإنما كانت علاقة سلطة برعيتها، لا سيما وأن المفهوم القومي لم يتولد في التاريخ الإسلامي كما هو بالمعنى المعاصر، ولم يكن اختلاف الأعراق بين الفئة الحاكمة والشعوب التي تحكمها في التاريخ الإسلامي يعني وجود علاقة احتلالية استغلالية.



[1] انظر هذه العوامل بتفصيل أكبر عند: د. نيللي حنا، تجار القاهرة في العصر العثماني: سيرة أبو طاقية شهبندر التجار، ترجمة: د. رؤوف عباس، ط1 (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، يوليو 1997م)، ص11، 12؛ د. خالد فهمي، كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 2001م)، ص21 وما بعدها.
[2] انظر: الإسحاقي، أخبار الأُوَل فيمن تصر في مصر من أرباب الدول، (طبعة مصر، 1310هـ)، ص141؛ الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق: شموئيل موريه، ط1 (القدس: الجامعة العبرية، 2013م)، 1/22.
[3] محمد حرب، العثمانيون في التاريخ والحضارة، ط1 (القاهرة: المركز المصري للدراسات العثمانية، 1994م)، ص139 وما بعدها؛ محمد جلال كشك، القومية والغزو الفكري، ط1 (القاهرة: د. ن، 1967م)، ص112، 154، 164، 165.
[4] علي مبارك، الخطط التوفيقية لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، ط1 (القاهرة: مطبعة بولاق، 1306هـ)، 1/56؛ هاملتون جب وهارولد بوين، المجتمع الإسلامي والغرب: دراسة حول تأثير الحضارة الغربية في الثقافة الإسلامية بالشرق الأدنى، ترجمة ودراسة: أحمد آيبش، (أبو ظبي: دار الكتب الوطنية، 2012م)، 1/287؛ عبد العزيز الشناوي، دور الأزهر في الحفاظ على الطابع العربي لمصر إبان الحكم العثماني، ضمن: أبحاث الندوة الدولية لتاريخ القاهرة: مارس –إبريل 1969م، (القاهرة: دار الكتب، 1971م)، 2/675.
[5] برنارد لويس، السياسة والحرب، ضمن: جوزيف شاخت وكليفورد بوزوروث، تراث الإسلام: الجزء الأول، ترجمة: حسين مؤنس وآخران، سلسلة عالم المعرفة 8 (الكويت: المجس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1985م). ص228.

الأحد، نوفمبر 04، 2018

سِحْر الفراعين


لما عاد موسى عليه السلام إلى مصر ونزلت عليه الرسالة تَوَجَّه إلى فرعون، وما إن بدأ الحديث معه في الشأن العظيم: شأن الإله والرسالة حتى ترك فرعون ذلك كله، وتذكر شيئا واحدا: تذكر قتل موسى لرجل بالخطأ في شجارٍ قبل عشر سنوات!! ووصف هذا القتل الخطأ بالجريمة العظمى التي يستعظم أن يذكرها صراحة، قال (وفعَلْتَ فَعْلَتَك التي فعَلْتَ وأنت من الكافرين؟). تأمل في أنه لم يقل "وقتلت نفسا" بل عبَّر عنها تعبير المتهول لذكرها كأنها جريمة خارقة كبرى غير مسبوقة، وتأمل في أنه قال "وأنت من الكافرين" ولم يقل: من الغاوين، من الضالين، من الظالمين.

وهذا الذي يتحدث هو فرعون نفسه، الرجل الذي قتل آلاف النفوس بغير رحمة ولا تردد ولا شعور بالأزمة، الرجل الذي أصدر قرارا بقتل الذكور الرُّضَّع لمجرد إذلال الفئة التي يضطهدها أو لمجرد التخوف الذي رآه يوما في منامه "أن ملكه يزول على يد واحد منهم".. فرعون الذي يمارس القتل يوميا بلا حساب استنكر على موسى قتل رجل واحد بالخطأ وجعلها جريمة عظمى!

ردَّ عليه موسى ببساطة واضحة، قال (فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم)، أي: إنما فعلت ذلك عن غير عمد، ولو كان عندكم عدل لبقيت، ولكنني فررت خائفا من ظلمكم. فأثبت على نفسه الخطأ غير المقصود وأثبت على فرعون الظلم الذي يخاف منه البريء فكيف بالمخطيء غير العامد؟

لكن الذي يهمنا هنا الآن هو ذلك السلوك الفرعوني الذي يستبشع قتل رجل واحد بالخطأ بينما هو يمارس القتل بلا حساب ودون شعور بالأزمة!

***

حين جاء موسى بمعجزته جمع له فرعون آلاف السحرة، لم يجمع له ساحرا واحدا أو حتى عشرة.. ولم يتركهم هكذا حتى نظَّم حملة إعلامية طاغية تأييدا لهم، ونطقت أجهزة الإعلام الفرعونية تحشد الناس تحت هذا الشعار (هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين)!

جهاز الإعلام الفرعوني لم يقل للناس: لنجتمع ونرى وننظر من الغالب! لا، بل وجَّه الناس في اتجاه وحيد: تأييد السحرة ضد موسى! وانتظار أن يغلبوه!

ولما جاء الموقف المشهود الموعود، آمن السحرة أنفسهم لكن الناس الذين احتشدوا للمشاهدة لم يؤمنوا، لماذا؟ لأن فرعون اخترع في نفس اللحظة رواية جديدة تبناها الجهاز الإعلامي من فوره، هذه الرواية تقول: هذه مؤامرة على مصر، وعلى فرعون، مؤامرة دبَّر لها موسى الرئيس السري لتنظيم السحرة، ولكن الجهاز الأمني والعسكري للدولة المصرية العريقة سيتصدى لهم بالمرصاد (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى).

وفي التو واللحظة، انقلب السحرة من رموز الوطن المنتظرين في المعركة المنتظرة، إلى رموز المؤامرة على الوطن، ثم إلى مسالخ التعذيب والتقطيع والصلب أمام الناس.

وهكذا وقعت المعجزة نفسها أمام ثلاثة أصناف: السحرة فآمنوا، الناس المحتشدون فخافوا وسكتوا، عناصر الشرطة والجيش فتولَّوْا هم تعذيب السحرة وتقطيعهم!!

لا ينبغي لأحد أن يستهين بأثر الطغيان القاهر على النفوس، هؤلاء الناس لم يجرؤوا على اتباع السحرة الذين احتشدوا لاتباعهم من البداية، وهؤلاء العناصر من الجيش والشرطة قد توحدوا مع الطاغية حتى أنهم عذبوا المؤمنين ولم يحاولوا التفكير في أن يؤمنوا بموسى بعدما رأوا هذه المعجزة الساطعة!

في كل قصة فرعون الطويلة لم يذكر القرآن أحدا قد آمن من آل فرعون إلا رجلا واحدا، مؤمن آل فرعون، ومعه امرأة واحدة هي زوجة فرعون وبها ضرب الله مثلا للذين آمنوا، ليعلم الناس أن صاحب الإيمان الحق يستطيع أن يحقق الإيمان في أحلك أحلك الظروف، في بيت أكفر الناس وأطغاهم وأظلمهم.

***
ما مناسبة كل هذا؟!

مناسبته أننا نعيش الآن قصة فرعون ذاتها لكننا لا نفهم ولا نتعظ!!

قبل نحو أسبوعين أعلن جيش حفتر أنه اعتقل هشام عشماوي، ضابط الصاعقة المصري المنشق عن الجيش المصري، والمتهم بتنفيذ عمليات ضد أفراد هذا الجيش!

حتى القنوات والصفحات المحسوبة على الثورة تعاملت مع هشام عشماوي على أنه إرهابي، فكان أحسنهم حالا من طالب بمحاكمة عادلة، وكان أكثرهم تفاؤلا –أو قل: بلاهة- من تساءل: هل ينهي القبض على عشماوي الإرهاب في مصر أم أن السيسي سيبحث عن ذريعة أخرى ليستمر في قبضته على مصر؟!

لقد تعامل الفراعنة المعاصرون مع هشام نفس تعامل سيدهم القديم مع موسى، خرجوا يستبشعون ويستنكرون الدماء البريئة التي تسبب فيها مع أنهم يقتلون يوميا منذ ظهروا بلا حساب ولا شعور بالذنب، سواء في مصر أو في ليبيا، بل لقد سجلوا هم بأنفسهم أرقاما قياسية في المذابح التاريخ في مصر وفي شرق ليبيا! هذا مع أننا لو حسبنا وصدقنا كل ما اتهموه به لن نجد فيها قتلا لأحد من المدنيين بل كانت عملياته ضد المقاتلين المجرمين عناصر الأجهزة التي مارست المذابح في الناس وقتلت منهم الآلاف!

هشام عشماوي نفسه ضابط صاعقة سابق بالجيش المصري، كان يملك أن يستمر في صفوف العسكر، يتمتع بامتيازاتهم وأموالهم ونفوذهم، ويكون له حق قتل أي مصري كما يشاء وهو آمن من العزل والمحاسبة.. كان يملك أن يكون أحد القتلة الأغنياء الأثرياء أصحاب النفوذ والجاه! لكنه لم يفعل..

كذلك فإنه لم يقعد في بيته ويعتزل الصراع، بل تحمل مسؤولية أن يقاوم إلى جوار المظلومين المقهورين المقتولين الذين كان يملك ببساطة أن يكون واحدا من قاتليهم والقاهرين عليهم..

ماذا ينبغي أن يكون تعامل أي كاره للظلم وللفراعنة مع شخصية كهشام عشماوي؟!

المأساة الحقيقية، وهي مأساة مريرة بقدر ما هي مثيرة للضحك والسخرية، وغريبة بقدر ما هي مثيرة للاشمئزاز.. هي أولئك الذين كم هتفوا ونادوا وصاحوا على (شرفاء الجيش) الذين لا يرضون عما فعله السيسي.. أولئك هم الذين يتوافق خطابهم الآن مع خطاب السيسي على أن هشام عشماوي إرهابي!

إذا لم يكن عشماوي واحدا من شرفاء الجيش الذي ناديتم عليهم.. فأين هم أولئك الشرفاء؟ وماذا تريدون منهم أن يفعلوا؟! هل تريدون شرفاء ساكتين خاملين يسمعون ويطيعون للسيسي؟! أم تريدونهم شرفاء يمتنعون عن القتل ثم يستسلمون للاعتقال والمحاكمات العسكرية بتهمة عصيان الأوامر العسكرية؟! أم تريدونهم شرفاء يعتزلون ويجلسون في بيوتهم ويتحولون إلى متفرجين على مشاهد القتل والذبح والاضطهاد يتمتعون بمعاش ومزايا العسكريين السابقين؟! ماذا يفعل (شرفاء الجيش) هؤلاء لكي يرضوا هذه الخطابات المخنثة التي تزعم أنها ثورية فيما هي في الحقيقة ضد كل فعل ثوري طبيعي فطري.. بل وتسميه إرهابا؟!

****

ألا ترى الآن أنه نفس الجمهور الذي كان يرى في السحرة رموز الوطن حين كانوا تابعين للفرعون، فلما انشقوا عليه وآمنوا بالله صاروا أعداء الوطن الخونة المتآمرين عليه؟!..

لقد قالها السيسي بنفسه، قارن بين أحمد المنسي وهشام عشماوي، وهما ضابطان تزاملا في سلاح الصاعقة، أحدهما وهو المنسي مات وهو في جيش السيسي ينفذ أوامره ويمارس القتل والذبح، والآخر وهو عشماوي انشق عن السيسي وجيشه فطورد وقوتل حتى وقع أسيرا!.. لماذا صار هذا رمزا للوطن وصار هذا عدوا له؟!

ذلك هو خطاب فرعون.. وإعلام فرعون.. والمصيبة كل المصيبة أن نكون نحن أيضا: جمهور فرعون!!

هشام عشماوي.. رجلٌ طاردته سلطة العسكر في مصر، ثم اعتقلته سلطة حفتر في ليبيا.. هذا رجلٌ تشهد ظواهر الأمور على أنه في معركة الحق ضد الباطل، الباطل والشر اللذان يتجسدان في سلطة السيسي وحفتر!

وهذا الخطاب الانهزامي المخنث الذي لا يتعامل مع عشماوي كبطل حقيقي ضحى بكل شيء بانتقاله من معسكر الغالبين الظالمين إلى معسكر المقهورين المقتولين، هذا الخطاب هو أحد أسوأ ما وقع للثورات العربية كلها، فبه اقتربت النخب الثورية من خطاب السلطة وبه ابتعدت وأبعدت الجماهير عن الطريق الوحيد الصحيح الفعال لأي تغيير.. وهذه الهزيمة على مستوى الخطاب والأفكار هي أسوأ الهزائم بحق لأنها تنزع الشرعية عن الثائرين المقاومين.. ثم لا تبقى مقاومة إلا أن نصرخ في الفضائيات صراخا مؤدبا مهذبا محسوبا أو نجري في أروقة المؤسسات الدولية مع إنفاق ملايين الدولارات ثم لا تسمن ولا تغني من جوع!

ما هكذا كانت الثورات يوما..

ولم يسقط نظام بمجرد المجهود الإعلامي المعارض..

ولم تنجح قضية في أروقة محكمة دولية في إسقاط نظام أبدا..

فما هذا الذي نفعله بأنفسنا حين يتحول الخطاب الذي يفترض أنه ثوري ليكون هو نفسه ضد الثورة وضد الثوار؟!!
كيف يكون المقتولون المقهورون المسحوقون المهاجرون الهاربون من القتل هم أنفسهم حائط صد ضد من حاول أن يعدل هذا الميزان فيضحي في سبيل ذلك بنفسه وماله وأهله.. وكيف بمن يضحي بكل امتيازات المال والنفوذ والجاه لينتقل من صف الغالبين القاهرين إلى الدفاع عن المغلوبين؟! ماذا صنع الأبطال الثوريون، رموز الكفاح والنضال عبر التاريخ، غير هذا؟!.. ماذا صنع جيفارا -مثلا- غير هذا؟!

****

أكاد أتصور وأتخيل: لو أن هذا الانقلاب لم يقاومه أحد على الإطلاق.. ماذا كان سيُقال عن شعب اغتصبت إرادته ونصبت له المذابح في الشوارع؟! كم كان سيُسَبُّ ويُطعن فيه وفي شرفه ونخوته وكرامته؟! بم كان سيوصف من الجبن والنذالة والذلة والضعف؟!

ثم حين يتخذ الناس رد الفعل الطبيعي الفطري الذي يتخذه أي بشر ذو كرامة، يخرج من يطعن في هؤلاء ويؤكد على وصفهم الذي أطلقته عليهم نفس السلطة المجرمة القاتلة (إرهابيون)!!

هل نحتاج كل هذا الكلام والتطويل للإقناع بما هو بديهي فطري طبيعي.. شعب ذُبِح فخرج منه من يقاوم ويحاول تعديل الميزان.. ولم يتوجه في عمله هذا إلا ضد أدوات السلطة المجرمة التي تنفذ القتل والتعذيب والإجرام؟!

أين أولئك من القرآن الكريم ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل أين أولئك من شعور البشر وفطرتهم واستجابتهم الطبيعية إذا أريد بهم الذل؟! بل أين أولئك من شعور الحيوانات التي تقاتل عن نفسها وعن صغارها وتدفع عن نفسها وعنهم الأذى بما استطاعت؟!

هل حقا لو كنا في عهد نبي الله موسى كنا سنؤمن به رغم أنف فرعون؟ هل كانت ستقنعنا معجزاته أم سيرهبنا سيف الفرعون وإعلامه وعسكره وشرطته لكي نؤمن بفرعون ونكفر بالله، ونصدق رواية فرعون ذي العذاب الحاضر وننصرف عن نبي الله؟!

هذا سؤال مرعب حقا لمن كان يؤمن بالله ويخشى على نفسه!

ولئن كان الله قد أهلك فرعون وجنوده غرقا، فلقد كان هذا آخر إهلاك الله لأعدائه، فمن بعدها كلَّف الله عباده الصالحين بالجهاد والمجاهدة للطغاة والمجرمين الظالمين، وكلَّفهم بالعمل لإقامة الدين، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نصرا ينزل من السماء على قوم لم يجاهدوا..

فكَّ الله أسر هشام عشماوي وأمثاله، وثبَّتهم وأيدهم، وصرف عنهم الشر والسوء.. وإنه والله لأولى بالتعاطف من خاشقجي، ولكن عزاؤنا أن موازين السماء غير موازين الأرض، وما هي إلا فترة من الزمن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ثم يُنصب ميزان العدل الحق المبين، وحينها تُكشف الحجب ويظهر المستور، وترى مقامات الناس عند الله غير مقاماتهم في هذه الدنيا.. والله أحكم الحاكمين.