الاثنين، يونيو 30، 2014

كيف صنع الإسلام "المجتمع المتين"



حين كتب مايكل هارت كتابه عن العظماء المائة في تاريخ الإنسانية وضع محمدا –صلى الله عليه وسلم- على رأسهم، وقال: "لا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي"، وهو بذلك يوضح لماذا لم يضع المسيح في هذه المكانة لأن نجاح المسيح كان دينيا فحسب كما يقول.

هذه الدهشة منتشرة في كتابات الغربيين الذين لا يكادون يصدقون أن رجلا استطاع تحويل أمة العرب من حالها القديم إلى هذا الحال الذي جعلها تقيم أعظم وأرسخ إمبراطورية في التاريخ بهذه السرعة.

ويكمن السرُّ في أن رسالة النبي لم تكن مجرد نصوص ترشد إلى مكارم الأخلاق، بل كانت نصوصا تنشئ أنظمة وتصنع مجتمعا وتؤسس طريقة حياة، وهذا هو مدخلنا إلى الموضوع.

إن في نصوص الوحيين ثروة فياضة في موضوعات الرحمة والبر والإحسان والبذل والإنفاق وحسن الخلق، وهي ثروة أكثر عمقا واتساعا مما تحفل به الأديان والمناهج الفلسفية والوضعية، لكن التفوق الإسلامي كامن في تأسيس نظام حياة يمهد الأرض ويصنع البيئة لعمل هذه النصوص، فلا تبق حينئذ مجرد حِكم ووصايا محلقة في خيال المثال وفضاء الأحلام كما هو الحال في الفلسفات والمناهج الأخرى.

إن مجرد المبادئ الإنسانية لا تؤثر إلا في النفوس الفاضلة، وتلك النفوس قلة في هذه الدنيا، بينما يختلف الحال حين تقام النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحيث تجعل عمل الخير طبيعة يومية، فحينئذ لا يتخلف عن فعل الخير إلا النفوس الخبيثة، وهي أيضا قلة قليلة.

فكيف أسس الإسلام نظامه الاجتماعي فحقق ثورة في العمل الخيري؟!

لقد أقام الإسلام المجتمع الإسلامي على قاعدة يمكن أن نسميها "المجتمع المتين"، وذلك بإنشاء روابط وعبادات ومؤسسات تزيد من قوة هذه العلائق وتماسكها.

فأما الروابط فهي ثلاثة: رابطة الدين، رابطة الرحم، رابطة الجوار.

فرابطة الدين تؤسس لعلاقة بين المؤمنين ليكونوا "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، و"كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا"، ولكل مسلم حقا على كل مسلم وإن لم يشترك معه في رحم أو جوار أو لغة أو لون أو جنس.

ورابطة الرحم تجمع الإنسان بذوي نسبه، وتبلغ صلة الرحم من المكانة أن الله اشتقها من اسمه فوصل من وصلها وقطع من قطعها، والمسلم يصل أرحامه وإن لم يكونوا مسلمين. وهذه الرابطة فطرة إنسانية يقويها الإسلام وينميها، ويخطئ البعض حين يتصور أن الإسلام أتى بما يحل علاقة القبيلة ليجعل محلها علاقة الدين، فالصحيح أن الإسلام رفع علاقة الدين فوق كل علاقة ليكون الحق هو أساس كل شيء وهو المهيمن على كل حركة، لكنه أبقى كل علاقات الوصل الطبيعية في المجتمعات كما هي بل وساعد في تقويتها وإنمائها، ولقد كان النبي يقول قوموا لسيدكم، ويأخذ البيعة من نقباء أقوامهم، وظلت الجيوش الإسلامية تقاتل في كتائب قبلية وعلى نحو ترتيبها في الموقع الجغرافي من الجزيرة العربية، بل ولا بأس أن تستعمل رابطة القبيلة في التحفيز كما فعل خالد وهو يخوض معركة المرتدين من أتباع مسيلمة.

ورابطة الجوار تجمع بين الإنسان وجيرانه، وحق الجار –وإن لم يكن مسلما- من الحقوق المقدرة في الإسلام، حتى ظن النبي يوما أن الجار سيرث في جاره، ووصل الأمر إلى حد نفي الإيمان عمن بات شبعانا وجاره جائع، بل عمن لا يأمن جاره أن يصيبه شيء من شره!! وهي درجة غير مسبوقة في العلاقات الإنسانية.

فبمجموع هذه الروابط الثلاث يتحول المجتمع المسلم إلى بناء متماسك متحد متين.

ثم تأتي العبادات فتدعم وتقوي هذه العلاقات، ففي الصلاة يجتمع أهل الحي خمس مرات في اليوم، وإنفاق الزكاة على الأقارب أولى من إنفاقها على غيرهم وعلى الجيران قبل غيرهم، وتفطير الصائم وتقسيم الأضاحي والتصدق والإهداء وكل ذلك ينفقه المرء على الأقرب فالأقرب.. وكل هذا يمهد النفوس لعلاقة قوية تسمح بوجود عبادة أخرى تنتشر في المجتمع كالشرايين في الجسد: عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو أمر يبذله المسلم بدافع الحب والحرص والشفقة على من يجهل ومن يغفل ومن يزل، فيأخذ المجتمع بعضه بيد بعض.

وكثير من هذه العبادات يستلزم إنشاء مؤسسات، فالصلاة –وهي أعظم عبادة- تقام في المسجد –أعظم مؤسسة إسلامية- والذي هو كالقلب لكل حي، يجتمع فيه الناس على العبادة وعلى ما شاءوا من أنواع الطاعة، خمس مرات في اليوم بحد أدنى، ثم هو ملتقاهم فيما يعن لهم من أمور، وهو منبر التوجيه والتذكير والتحريض على فعل الخير. والزكاة تستلزم إنشاء مؤسسة الزكاة التي تجمع أموال الأغنياء فتوزعها على الفقراء. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استلزم إنشاء مؤسسة الحسبة التي كانت أول مؤسسة دينية رقابية، وقد استلزم الإنفاق إنشاء مؤسسة الأوقاف التي هي ابتكار إسلامي فريد جعل الأمة قادرة على تمويل مشاريع الخير وإنشاء نهضتها بنفسها وإن ضعفت السلطة السياسية.

كل هذه الشبكة المبنية من روابط مدعومة بعبادات تستلزم –في كثير من الأحيان- مؤسسات جامعة، كل هذا جعل المجتمع الإسلامي بنيانا متينا متماسكا، ولهذا كان المسلم يستطيع التطواف في أرض الإسلام ولا يشعر بوحشة الغربة، ويستطيع طالب العلم أو الرحالة أو المهاجر أو ذو الحاجة في الشرق والغرب أن يطوف في الطلب وهو يجد في رحلته من ينفق عليه ويستضيفه ويوفر له ما يعينه على رحلته.

في مجتمع كهذا تكون النصوص والمبادئ التي تحض على فعل الخير واقعا ملموسا لا مجرد نصائح تنتظر نفسا نبيلة تطبقها، ومن هنا تبدأ النهضات الحقيقية للأمم، حين يتحول بناؤها الفكري إلى نظام حياة، وساعتها لا يكون فعل الخير فعلَ أفراد معدودين، بل فعل مجتمع كامل لا يتخلف عنه إلا أفراد معدودون! وشتان بينهما!

فهل معنى هذا أن العمل الخيري في الإسلام مقتصر على المسلمين داخل المجتمع الإسلامي؟

والجواب: لا، فرسالة الإسلام للناس كافة، ورسول الإسلام رحمة للعالمين لا المسلمين وحدهم، وفي نصوص الوحي من الرحمة بالناس والشفقة بهم والحرص عليهم ما لا يوجد في غير هذا الدين، بل في الإسلام من الرحمة بالكائنات والنباتات والجماد والموارد والبيئة ما يطول فيه الحديث جدا ولا يوجد في غير هذا الدين أيضا.

إنما كان مقصد هذه السطور بيان أن الإسلام جعل عمل الخير نظاما لا مجرد نصائح، ينبعث له مجتمع حاشد لا قلة فاضلة.. ولذلك لم يمدح الله المسلم لأنه امرؤ يفعل الخير للناس، بل امتدح الأمة بأنها "خير أمة أخرجت للناس".

نشر في مجلة الوعي الإسلامي، رمضان 1435هـ، يوليو 2014م.

السبت، يونيو 21، 2014

الأوثان الوطنية!



منذ دخل الاحتلال بلادنا سعى في تأسيس هويات أخرى لشعوبنا ليقضي من خلالها على هويتنا الإسلامية الجامعة، فبعث من تحت الرقاد هويات الفراعنة والآشوريين والفينيقيين والبابليين.. إلى آخره، وصار كل شعب مغرما بأجداده المصطنعين الذين لا يستطيع أحدهم أن يحقق نسبه إليهم ولا حتى احتمالا لتطاول الزمان وتغير الأحوال وموجات لا تعد ولا يمكن ضبطها من الهجرات والتغيرات البشرية.

لم تكن المشكلة فقط في كون هذه الهويات تمثل حدودا تمزيقية لوحدة أمتنا وتُطرح كبديل لهويتنا الجامعة، بل المشكلة الأكبر أنها تؤسس للعنصرية والعرقية، وهي –بهذا- تمثل نقيضا للهوية الإسلامية وتفتح بابا واسعا لهدر الإنسانية.

فالإسلام يحملنا على حب موسى وهارون عليهما السلام ومن اتبعهما (وهم غير مصريين) وعلى كره فرعون ومن أتبعه (المصريين)، ويحملنا على حب بلال (الحبشي) وسلمان (الفارسي) وصهيب (الرومي) وعلى كره الوليد بن مغيرة وعتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام (وهم العرب الأقحاح صرحاء الأنساب)، ويحملنا على حب صلاح الدين (الكردي) ومحمد الفاتح (التركي) ضد كل من فرطوا في مصالح الأمة وإن انتسبوا إلى بني هاشم!

فخلاصة الأمر أن المرء يفخر بما فعله لا بما لم يفعله ولم يختره، ومجرد الفخر بالعرق أو النسب أو اللون أو الوطن شيء لا يد لأحد فيه، ولا يملك أحد أن يغيره، فهو فخر عنصري بغيض!

على كل حال: نجحت خطة الاحتلال بنسبة كبيرة، واعتنقت كثير من الشعوب هذه العقيدة الوطنية، وجعلت من حدود سايكس بيكو التي رسمها العدو معايير مقدسة، حتى اختلف الحال، فمن بعد ما خرج الفتى الحلبي من الشام بتحريض من شيخ في غزة ليقتل قائد الحملة الفرنسية في مصر، استطاع كل مستبد في بلد أن يعتبر شعبه ملكا له يقتل كما يشاء ولا يحق لأحد أن يتدخل فيما يصنع ما دام داخل حدوده "المقدسة"، وقد بذل إخوانه المستبدين جهدهم في إقناع الشعوب أن ما يجري من مذابح إنما يجري في بلد آخر لا علاقة لنا به، ويكون استقبال اللاجئين المطحونين ليس واجبا يأثم من لا يفعله بل هو عمل عظيم ومنة كبرى، وإذا شئنا رفعنا في وجههم شعار "الأمن القومي" الذي يمكنه منع لاجئ من السفر للتداوي حتى يموت على المعابر من أجل عيون "الأمن القومي"!

بعد قليل رسخت هذه القناعة لدى الشعوب بينما ركلها الحكام، وصاروا يتعاونون على مكافحة الإرهاب دون أي اعتبار للحدود "المقدسة"، ويحاكمون الإرهابيين العائدين من الجهاد رغم أنهم –بمعيار الحدود المقدسة- لا يجوز محاسبتهم لأنهم لم يرتكبوا شيئا داخل البلاد، ويتبادلون المعلومات والمحققين ووسائل التعذيب لمن لم يحترم الحدود المقدسة التي لم يحترمونها هم أنفسهم.

وإذا أخذنا المصريين كمثال، فنجد أن الوثن الوطني لم يعد مقتصرا على الفخر بأن حضارة الفراعنة هي أعظم حضارة في التاريخ، بل امتد حتى وصل إلى طرائف مضحكة من نوع: الطفل المصري أذكى طفل في العالم!! حتى منتخب الكرة أيام كان يحقق الإنجازات كان يُرى أن ذلك من بركة الفراعين التي بقيت في أحفادهم عبر السنين!

لم يتوقف أحد ليسأل نفسه: ما هي حدود الدولة الفرعونية؟ وهل هي ذات الحدود بين العريش والسلوم وأسوان؟!
إن هذا السؤال مؤرق لقداسة الحدود التي صنعها الاحتلال، ولذلك لا يطرحه أحد، وعليه فعليك الإيمان بشيئين متناقضين معا: نحن أحفاد الفراعنة العظماء نعم لكننا ملتزمون بالحدود التي رسمها لنا الاحتلال، والهدف واحد: إيجاد هويات بديلة عن الهوية الإسلامية الجامعة.

إلا أن "الوثن الوطني" كانت له تجليات أخرى داخلية، فما زال الذين عبدوا هذا الوثن يؤمنون أننا نمتلك أحسن شيء في العالم: خير أجناد الأرض، وأعرق قضاء "شامخ" في العالم، والأزهر عندنا ما يزال كعبة طلاب العلم، والإعلام عندنا حر ونزيه وجرئ.. وهذا ما نتناوله في المقال القادم إن شاء الله، فالله المستعان.
نشر في الجزيرة مباشر مصر

السبت، يونيو 14، 2014

النبأ الباهر في سيرة الرئيس الساحر!



استطاع كل الساخطين على مرسي الذين عجزوا عن الصبر ثلاثة أشهر يتخلصون منه فيها بالبرلمان أو بالانتخابات المبكرة بعده، استطاعوا أن يصبروا على عدلي منصور عاما إلا أياما، حتى كتبوا دستورا وخاضوا انتخابات رئاسية حتى تم "تسليم" السلطة في "مشهد تاريخي غير مسبوق"!!

لم يقض مضاجع صبرهم طوفان الدماء الأغزر في تاريخ مصر الحديثة، ولا انقطاع الكهرباء ولا ارتفاع الأسعار ولا نقص الوقود، ولا سائر ما قضَّ مضاجعهم أيام مرسي.. لم يفزعهم أنه جمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية لعام وهم الذين ركبتهم الشياطين إذ اضطر مرسي لأخذ السلطة التشريعية من العسكر ولم يجد برلمانا يعطيها إياه فقد كان محلولا من السلطة القضائية، فهتفوا ضد الجمع بين سلطتين رغم أنهم الهاتفين بسقوط حكم العسكر واحترام أحكام القضاء!

ولم يعد أحد يصيح "طول ما الدم المصري رخيص.. يسقط يسقط أي رئيس"، تلك التي صاحوا بها في وجه مرسي وقد كان المقتولين من ضحاياه يعدون على الأصابع وفي ظروف ملتبسة، بينما مرَّت مذابح عصر عدلي كالنسيم العليل على صفحة الخد الجميل!

وفيما كان كل قانون يصدر من مرسي أو مجلس الشورى يتعرض للتشريح، هطلت قرارات عدلي وقوانينه كالغيث على قلوبهم، فمن لم يمتدحها ويتغزل فيها سكت عنها كأن لم تكن!

إنه لساحر!!

هل رأيتم رئيسا يفعل ما فعله عدلي؟!

كيف استطاع أن يفعل كل هذا ويبقى في سدة الحكم عاما إلا أياما، وهو الذي جاء محمولا على أعناق قوم ثائرين أسقطوا ثلاثة أنظمة لم يفعل واحد منها شيئا مما فعله عدلي؟! قومٌ ثائرون لا يصبرون ولا يغفرون، لا يفرطون في الثورة ولا يسامحون في الدماء ولا يبررون لرئيس ولا يرضون بالقليل؟!

فكيف إذا عرفتَ أن عدلي فعل كل هذا وهو صامت نائم غائب في سردابه في الاتحادية، لا يظهر للناس إلا لماما في لقاء وحيد وبضعة خطابات قصيرة؟! حتى لقد احتاج هيكل –فيلسوف السياسة وكاهنها الأعظم وقطبها الأوحد- أن يزوره فيخرج بعد ساعات منبهرا يشهد أن عدلي منصور اكتسب في بضعة شهور خبرة كبرى تؤهله لأن يملأ مكانه ويؤدي دوره على أكمل وجه؟!

ألا زلت تشك في أنه ساحر؟!

فهل كنت تظن أن هذا المجهول المغمور في المحكمة العليا قادر على أن يطفئ نجم الوجوه اللامعة في السياسة والإعلام: فيهرب البرادعي ويصمت المسلماني ويختفي مصطفى حجازي ويبقى نجمه هو؟!!

وقد أطال الناس في البحث عن سرِّ سحره، فقال بعضهم: شامخ نزيه! وخالفهم آخرون فقالوا: ليس كل شامخ نزيه عدلي!

فيا حسرة على السيسي وقد أتى من بعد عدلي!!

وقد بحثت في التاريخ عن قاضٍ ساحرٍ كعدلي فوجدته عند أبي حيان التوحيدي في البصائر والذخائر، فقد روى أن رجلان تخاصما: كل منهما يقول عن زوجته أنها أحلى من الأخرى فاشتبكا حتى قاما إلى القاضي، فقال القاضي: أنا أحق الناس بالحكم في هذه القضية فقد زنيتُ بهما من قبل، فاستبشر الرجلان وتشوقا لمعرفة حكم القاضي، فلما حكم لأحدهما قام فرحا مسرورا منتصرا!!!

الجمعة، يونيو 13، 2014

التاريخ في فكر الشيخ محمد قطب



فاضت روحه إلى بارئها بعد حياة حافلة مديدة اقتربت أن تكمل القرن من عمر الزمان، عاش لنحو نصف قرن من استشهاد أخيه، وهو الحدث الذي اهتز له كل العالم الإسلامي حينئذ، رأى فيها مصارع الظالمين وتبدل الدول وتقلب الأفكار وانهيار الإمبراطوريات وصعود أخرى، فرأى قرنا من التاريخ الإنساني بعيني رأسه بخلاف ما احتواه في صدره من قرون السابقين. ثم كان لا بد من الرحيل، فمات صباح يوم الجمعة الرابع من جمادى الآخرة 1435هـ، الرابع من إبريل 2014م، وصُلِّي عليه في الحرم المكي الشريف.

والشيخ محمد من العلامات العلمية والفكرية في عصره، وكان إنتاجه من أهم ما اطلعت عليه وتأثرت به الصحوة الإسلامية المعاصرة فهو في الطبقة الأولى من الأعلام المؤثرين فيها، ولا زلت أتذكر أن كتابه "واقعنا المعاصر" كان أول كتاب ضخم أتمه من أوله إلى آخره، وكان ذلك قبل نحو سبعة عشر عاما حين كنت في الثالثة عشرة من عمري، من فرط إعجابي به لسلاسة أسلوبه ووضوح أفكاره وقدرتها على مخاطبة من هم في هذا السنِّ بهذه القوة والعمق.

فكان أضعف الإيمان أن نتوقف في هذه السطور مع منهج الشيخ في قراءة وكتابة التاريخ الإنساني، وفي القلب منه التاريخ الإسلامي بطبيعة الحال.

أولا: خلاصة المنهج

لقد أبان الشيخ عن منهجه غير مرة، فكتب بناءه النظري في كتابه "كيف نكتب التاريخ الإسلامي"، الذي صدر حين كان الشيخ في الثالثة والسبعين من عمره، أي في مرحلة استواء الأفكار، وإن كان قد كتبه أول مرة وهو في الثامنة والخمسين، وقد صرح فيه بأنه "يحوى الصورة الأخيرة لتفكيري في موضوع كتابة التاريخ الإسلامي"[1]. ثم أعاد طرح منهجه بإيجاز في فصل ضمن كتابه "التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" والصادر بعد الكتاب الأول بست سنوات.

ثم طبق هذا المنهج عمليا في بعض كتبه والتي على رأسها "واقعنا المعاصر" وكتابه "رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر".

وخلاصة هذا المنهج: أنه يجب علينا أن نكتب تاريخنا الإسلامي بنظرة يتحقق فيها عدة أمور:

1.    الانطلاق من حقيقة أن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، وهي الأمة الوسط، وهي التي تحمل الرسالة الأزلية –فهي خاتمة الرسالات وليست انبعاثا جديدا متأخرا- وأن هذه الخيرية ليست عرقية ولا قومية ولا ذاتية، وإنما مستمدة من الرسالة، وينتج عن هذا الانطلاق أربعة نتائج مهمة هي:

§       أن التأريخ للجاهلية ينبغي أن ينطلق من كونها انحرافا كونيا عن دين الله، وأنه انحراف تتعدد مظاهره وأشكاله، فالجاهلية كل ما سوى الإسلام وليست مرحلة تاريخية سابقة.

§       أن التوحيد هو أكبر حركة تحررية في التاريخ وذلك أنه حركة تحرير شاملة لا تقتصر على تغيير اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو فكري أو فني، بل هو إخراج للإنسان كله من الظلمات إلى النور.

§       أن العالم كله يخسر بانحطاط المسلمين وليس المسلمون وحدهم، وهذا هو الحادث في الواقع المعاصر، الذي ينبغي أن يُركز في عرضه على هذه الجزئية التي يكاد يغفلها الجميع.

§       أن النهضة الغربية الحالية مهما قيل في وصف تقدمها المادي فإنما هي نهضة "عرجاء" لما تحتويه من كفر وظلم وفساد وانحلال، وجنوح إلى الدمار، وإفساد للفطرة، وأنها –لهذا- حضارة آيلة للسقوط.

2.    تنقية وتصفية التراث الأرشيفي الكبير الذي تركه لنا علماؤنا وتمييز الصحيح والضعيف من الروايات الكثيرة التي تصل حد التناقض والتضارب، لا سيما فيما يخص عصر الصحابة.

3.    التخلص من الآثار الاستشراقية في الدراسات الحديثة والمعاصرة، سواء كتبها مستشرقون أو غيرهم، وسواء انطلقت من كراهية للإسلام أو علق بها الرؤية المادية أو التفسيرات القومية والعرقية للتاريخ.

4.    قراءة تاريخنا الإسلامي بعين وروح إسلامية، في ضوء الهداية التي جاء بها القرآن والسنة وبغير فصل نكد بين ما هو "دين" وما هو "تاريخ"، بل التاريخ هو أثر الدين على واقع الحياة، فبه يُفهم طالما أنه منه انطلق، ويتمثل هذا كأبرز ما يكون في أربعة جوانب:

§       الفتوح الإسلامية وكيف أنها تفارق تماما التوسعات الامبراطورية في الغاية والمسلك.

§       الحركة العلمية الإسلامية التي انطلقت لتحقيق طلب العلم وعمارة الأرض، وسلكت سبيلا خلقيا يمنعها من استخدامه في الفساد والإفساد، كما ويستحيل عليها أن تصل إلى نزاع بين العلم والدين.

§       الحضارة الإسلامية التي هي حضارة قيم ونظم بالأساس لا حضارة زخارف ورسوم وبنايات، فمن القيم تستمد هذه المظاهر المادية روحها ووظيفتها.

§       تقييم فترات الضعف والانهيار بعين ترصد أسبابه في الابتعاد عن الوحي وهدايته، لا في مجرد التخلي عن الأسباب المادية، في الظروف الداخلية قبل الظروف الخارجية، فيما كان فينا من عيوب أنجحت المؤامرات لا في مجرد المؤامرات.

5.    قراءة التاريخ بلا إفراط ولا تفريط، بلا تزوير ولا تبرير، فتاريخنا مجيد زاهر إلى الحد الذي يبعث بالفخر، وهو أحوج ما نكون إليه في واقعنا ولأداء رسالتنا، كما نحن أحوج إلى معرفة العيوب والمشكلات التي أدت إلى انحدارنا وانهيارنا في نهاية المطاف، وهو أمر جلل لا ينفع فيه التخدير بالاقتصار على الأمجاد أو بذل المجهود في تبرير العيوب، فكيف ونحن مأمورون بالعدل مع أنفسنا والأقربين!

6.    رفض قصر التاريخ الإسلامي على جانب التاريخ السياسي، بل ينبغي أن نولي العناية لتاريخ الأمة الحضاري والعلمي والاجتماعي

ثانيا: المحطات التاريخية الكبرى

وبناء على هذا المنهج وضع الشيخ رؤية لمحطات التاريخ الكبرى كيف يكون عرضها وتفسير ما وقع فيها، فأبان في هذه المحطات والأحقاب عن أبحاث لم تدرس بعد، وأبحاث لم تدرس بشكل وافٍ، وأبحاث بحاجة إلى إعادة عرضها والتأمل فيها.

فالحقبة الجاهلية ينبغي أن تدرس لا كفترة زمنية بل كحالة انحراف، وهي حالة يعاني منها البشر في القديم والحديث، ليس فقط من جهة عبادة الأوثان، وإن تكن عبادة الأوثان ما تزال منتشر في مناطق واسعة من الأرض كالهند، والأوثان ذاتها ليست دائما حجارة، بل كل ما قُدِّس وأطيع من دون الله فهو بمنزلة الأوثان وأولئك المتبعون إنما هم في جاهلية، ولذلك فكل ما تعيشه الإنسانية من شيوع القتل وجحيم الظلم والعبودية والتعصب للأعراق والألوان والأرض وانحلال الأخلاق وأكل الربا والاحتكار إنما هو من جراء تقديس ما سوى الله واتباع غير أوامره واعتناق الخرافة. وينبغي أن تعرف هذه الفترة بعمق كي يدرك الناس مدى نعمة الله عليهم بالتوحيد، إذ لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وبهذا المعنى فالجاهلية متعددة متكررة قائمة وليست حقبة قد انتهت، كما أن وجود حضارة وتفوق علمي تقني مادي لا يعني انفكاك هذه الحضارة من وصف الجاهلية.

والإسلام ليس دعوة نبي بعث قبل ألف سنة، بل إن هذا النبي هو خاتمة الرسالات التي هي الاستقامة، فهو ليس رد فعل للجاهلية ولا هو حركة أرضية إصلاحية ضيقة، بل هو أوسع وأشمل حركة تحرر ومواجهة لهذه المظالم والمفاسد كلها، وهو كذلك أفضل وأعمق إصلاح للنفس الإنسانية، وبهذا المعنى فلا بد من وقوع الحرب بين الحق والباطل، بين المتألهين والمستبدين والمفسدين وبين المتحررين والمجاهدين والمصلحين، ويرى الشيخ أن فترة البعثة وصدر الإسلام يجب أن تركز على أربع موضوعات: شخصية النبي، استقبال الجاهلية لدعوته، موقف المؤمنين مما وقع عليهم من العذاب، التربية في دار الأرقم. فبهذه الموضوعات يظهر أثر الإسلام في النفوس والمجتمعات، وأما الفترة المدنية فأهم ما ينبغي التركيز عليه هو ثمرة الإسلام إذ أنشأ الدولة ووضع قواعد النصر والتمكين وقواعد الحكم والسياسة، ثم دراسة المواجهة بين دولة الإسلام والجاهلية من حولها، ويرى أن هذه الفترة يكتفى فيها بالقرآن والسنة وشروحهما فحسب.

وأما فترة صدر الإسلام (الخلافة الراشدة) فينبغي أن تعرض على أنها التطبيق المباشر للإسلام، فينظر فيها فيما يعرض للسلطة والسياسة من قضايا، وما يعرض للمجتمع من تغيرات حين يحكم نفسه بغير وحي من السماء، وكيف ينبغي أن يتعلم الناس أن المجتمع المثالي ليس خياليا بل واقعيا، ومثاليته لا ترفعه عن بشريته، بل تظل ثمة أخطاء تقع وتُعالج، وتعدّ فترة الشيخين على وجه الخصوص أغزر الفترات التي ينبغي التوقف عندها لأخذ الدرس في الحسم والحزم والتعامل في الأزمات، وفي حقوق الرعية على الراعي وحقوقه عليها، ويعزو الشيخ وقوع الفتن إلى هذا التوسع السريع للإسلام وهو ماترتب عليه دخول قوم فيه لم يحظوا بالقدر المناسب من التربية فمن هنا كانت الفتنة التي عمل على بذرها وإشعالها أعداء الأمة من اليهود كعبد الله بن سبأ.

وأما فترة انتشار الإسلام في عهود الدولة الأموية والعباسية والعثمانية فمختصر منهج الشيخ هو العناية بدراستها دراسة فاحصة تفصل لتمييز الحقائق من المبالغات والتشويهات، وتحدد بدقة جوانب الانحراف واستمرارها، وترصد نمو هذه العوامل وانتقالها من السلطة إلى المجتمع ثم تأثير هذا على وقوع الأمة فيما بعد تحت براثن الصليبيين والمغول.

وأما فترة الضعف العام التي سقطت فيها الخلافة ووقع فيها المسلمون تحت الاحتلال الأجنبي، فمختصر منهج الشيخ هو ذاته ما سبق ثم هو يضيف إليه ضرورة التركيز على عرض "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، حيث لم يكن انحطاط المسلمين مجرد خسارة لهم وحدهم، بل انحطاطهم هذا هو ما جعل المفاسد تغزو العالم بلا حماية، فلو قدر أن المسلمين كانوا أقوياء لما كان الربا هو أساس التعامل المالي العالمي، ولا كان الانحلال الأخلاقي هو أساس الواقع الاجتماعي، ولا كان المستضعفون في هذا العالم أضيع من الأيتام على موائد اللئام، فكل هذا إنما انتشر وصار سلوكا عالميا بفعل وجود الداعي الغربي واليهودي وانتفاء النموذج المقاوم القوي المتمثل في الإسلام، وهو ما خسرت به البشرية كلها أرواحا وأموالا ومظالم لا تعد ولا تحصى.

ويرى الشيخ ضرورة التأريخ النزيه لحركات الصحوة الإسلامية، فيم نجحت وفيم أخفقت، وهو يثبت لها جهادها وفضلها وإخلاصها، ويعزو إخفاقها إلى أمرين: استعجال الثمرة قبل أوانها، واعتمادها في تربية أبنائها على السمع والطاعة أكثر من الشورى.

ونخلص من هذا العرض إلى أن منهج الشيخ يعتمد أساسا كبيرا هو مركزية العقيدة وأهميتها، فهي السبيل للتخلص من أسر المناهج المادية التي سيطرت على مناهج النظر والبحث بأثر من التفوق الغربي والغزو الفكري، فمن العقيدة يُعاد تعريف "الإنسان" من حيث الطبيعة والغاية والرسالة، ويُعاد تعريف "الحضارة" من حيث الجوهر والمظهر، ويُعاد تعريف "الحال" من حيث التقدم والتخلف.

وفي منهج الشيخ نجد موضوع التربية: الهدف والوسائل، شائعا مهيمنا، فلئن خلا الكلام من ذكر صريح فهي مخبوءة في باطن الكلمات، وليس هذا محصورا في شأن التاريخ وحده بل هو منهج للشيخ في كافة العلوم حتى في كتابه "منهج الفن الإسلامي"، فضلا عن آثاره التي خصصها لموضوع التربية. 

ثالثا: ما ينتقد على منهج الشيخ

وهو يتلخص في ثلاثة أمور:

1. أولها أنك لا تجد عند الشيخ نقاشا موسعا ولو لقضية واحدة كمثال تاريخي يرصد ويحلل أسبابها وظروفها بعمق، فيعدُّ تطبيقا لمنهجه في التحليل والتفسير، فكم كان مهما وهو يستنكر تحول الحكم من الخلافة إلى الملك أن يبين عن موضع المشكلة، ذلك أن البيعة ليزيد لم تكن مجرد قرار من معاوية (رضي الله عنه) بل هي تعد موضع رضا عام من بعد ما قبل بها الصحابة والتابعون ولم يتخلف عن هذا الرضا إلا أربعة ثم لم يخرج عليها إلا واحد وهو (الحسين رضي الله عنه)، لا سيما والشيخ يذكر من تغير الزمان والنفوس ما هو دليل لمن أيَّد معاوية في فعله، باعتبار أن هذا هو الحل "العملي، الواقعي" الذي يحفظ الأمة[2].

وبرغم أن أكبر توسع للشيخ في نقاش وتحليل قضايا تاريخية كانت من نصيب التاريخ المعاصر والحديث[3]، إلا أن قضية مهمة كقضية اشتراك الإخوان في حرب فلسطين لم تأخذ حقها من النقاش، وهي ربما القضية الأهم والفيصل التي كنا سنعرف بها منهج الشيخ في إشكالية "المثالي والواقعي" ذلك أن الجهاد في فلسطين يمثل كل معاني المثالية المطلوبة: الأخوة والجهاد والنصرة والمقدسات فيما تؤكد صياغته أن هذا الاشتراك هو ما أثار القوى العالمية على جماعة الإخوان فاجتمعوا على حلها والقضاء عليها وهو ما كان. وتوحي صياغة الشيخ –والله أعلم- بأنه لم يكن يؤيد هذا الاشتراك، ولمثل هذا نقول بأنه لو فصَّل في هذه اللحظة التاريخية لاستبان منهجه أكثر، فالتطبيق يضبط النظرية.

وقد يُجاب على هذا بأن الشيخ نفسه صرح بأنه ليس مؤرخا ولا له دأب المؤرخ وصبره، وقد يجاب بأن واضع المنهج الكلي ليس بالضرورة أن يكون ذا باع فيه، وهو ما لا نوافق عليه، إذ من الضرورة أن يكون الأصولي على قدر من الإلمام بالفقه، وكان لابد لمثل ابن خلدون أن يكتب تاريخا نرى فيه أثر منهجه في التفسير، وإلا وقعنا في مشكلة المثالية التي تفارق الواقع، وهو ما نأخذه على بعض طروحات الشيخ رحمه الله.

2. ثانيها أن أثر اهتمام الشيخ بموضوع التربية، وهو أمر يكاد يصبغ كل إنتاجه، نجد تعظيما لأمر "التربية والتكوين" وتقليلا لحجم "السياسة والسلطة" في قراءته التاريخية، فكتابات الشيخ توحي وكأن التربية هي الغرض من قراءة التاريخ ومن تدريسه، فيما نظن أن التربية نفسها هي وسيلة لتأسيس حكم الله في الأرض الذي هو سياسة وسلطة، وهذا إلى جانب أن السياسة والسلطة تتحكم وتؤثر في التربية، كما في قول عثمان (رضي الله عنه) "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ثم إن العالم منذ نحو مائتي عام وهو يرزح تحت ظل الدولة المركزية التي تجمع كل شيء بيد السلطة حتى مناهج التعليم ووسائل الإعلام والتثقيف حتى التحكم فيمن يصعد على المنبر ومن يلقي الدروس ومن يخرج من البلد ومن يدخل إليها[4]، فهذا كله مما يعظم شأن السياسة وأثرها على أحوال الناس وأعمالهم، وذلك هو تاريخهم.

3. ثالثها هو تضخيم حجم المؤامرة وأثرها في واقعنا، وخصوصا في بحث المستشرقين الذين يرتاب الشيخ في كل ما يفعلون حتى ما كان منه طبيعيا فيفترض فيه غرضا خبيثا، فمن ذلك أنه ينظر بعين الريبة إلى تقسيمهم التاريخ إلى عصور: خلافة راشدة، أموية، عباسية، مملوكية، عثمانية.. ويرى أنهم بهذا أرادوا تمزيق تاريخ الأمة وقطع تواصل الأجيال[5]، ولما كانت الحقيقة أن هذا التقسيم فعله المؤرخون المسلمون الأوائل لم يجد إلا أن يعبر عن إحساسه بأن حديث الأوائل في هذا التقسيم طبيعي بينما إحساسه لدى قراءته عند المستشرقين يوحي بغرضهم الدفين هذا[6]. ومعروف أن مجرد الإحساس ليس معيارا منضبطا يصلح للاستناد عليه.

ومن توابع هذا أن الشيخ سريع إلى الشك فيمن يرى منهم "اقترابا" من الغرب، حتى وإن عُرِفوا بنقده أو الثورة عليه أو حتى الخطأ في التعامل معه مع تراث صريح في الدفع عن الإسلام وتعظيمه، فممن طالتهم سهام الشيخ لهذا رجال أمثال: الشيخ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، ونحوهم.. في حين أن البحث التاريخي المعمق في أحوالهم ونتاجهم ينتهي إلى نتيجة أخرى[7]، وهو أمر لا ينفرد به الشيخ بل سبقه إلى مثل هذا بعض الكبار كأبي فهر محمود شاكر والدكتور محمد محمد حسين، وهو ما نحسب أنه من جراء طبيعة المعركة المشتعلة التي يكون فيها المقاتل سريعا إلى تصنيف من حوله إلى صديق وعدو، ويقلّ فيها تقدير المواقف الوسيطة أو غفران الزلات وإن كانت هينة.

ومع قلة المصادر التي كُتبت في التاريخ الحديث والمعاصر بروح إسلامية فيُطمأن إليها، ومع هذه الأجواء السالفة الذكر، فإن هذا الجزء من التاريخ في كتابات الشيخ تهيمن عليه حس المؤامرة التي لا ننكرها ولا نقلل من أثرها، وإن كنا نرى أنها في حجم أكبر من حجمها، والله أعلم.

***

إن تأسيسات الشيخ لأفكار: الانطلاق من هداية الدين في البحث والنظر التاريخي، وما يترتب عليه من تحويل زاوية النظر نحو اكتشاف وتقييم الفترات والأحقاب القديمة والمعاصرة، لجدير بأن يضعه الباحثون الشباب نصب أعينهم، ذلك أن المحترفين من الإسلاميين في مجال التاريخ ما زالوا ندرة، والباحثون مضطرون إلى الأخذ عمن أتيح لهم قديما التدريس في الجامعات واعتلاء مناصب البحث في المراكز العلمية والمؤسسات الثقافية، وكثرة الأخذ عن هؤلاء يجعل الباحث منطبعا بالمنهج مع ما استفاده من علم، فمثل هذه الهدايات المنطلقة من فكر إسلامي خالص هي العاصمة له من الانسياق في تيار المناهج الأخرى الملتبسة بباطل أو التي يغلب عليها الباطل.
رحم الله الشيخ الجليل وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وألحقنا به في الصالحين.



[1] كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص7.
[2] كابن خلدون الذي ناقش الموضوع في مقدمته، وانظر أيضا نقاش جلال كشك في كتابه "جهالات عصر التنوير".
[3] بالذات في "واقعنا المعاصر" و "رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر".
[4] راجع مقال "جناية الأنظمة العلمانية على الأوقاف الإسلامية" الذي نشر في مجلة البيان العدد 312 شعبان 1434هـ، يونيو - يوليو 2013م.
[5] وأغلب الظن أن هذه الفكرة مأخوذة من د. عبد العظيم الديب في كتابه "المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي".
[6] كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص19.
[7] صدر حديثا في القاهرة كتاب "ما أخفاه العلمانيون من تاريخ مصر الحديث" للكاتب: معتز زاهر، يتناول توضيح جوانب من الشخصيات التي حاول العلمانيون "اختطافها" لصالحهم، والكتاب يكتفي بالنقل من كتبهم ما هو صريح في تبيين مناهجهم.