السبت، مايو 30، 2015

الذات الإسلامية أساس النهضة

في إطار تأسيس أصول علم الاستغراب، ذكرنا أن أول هذه الأصول هو "الانطلاق من الإسلام"، وذلك لأن وجود النموذج هو من ضرورات العلوم، ثم إن المسلم لا يسعه أن يتخذ له منهجا غير الإسلام، كذلك فإن الإسلام من حيث كونه دينا ربانيا ونموذجا معصوما فإن يعطينا من العلم والهدايات والتوجيهات ما يحسم أمورا كانت بغيره تكون بلا حل ولا حسم.

ونواصل فنقول بأن: الذات الإسلامية هي أساس النهضة.

فيجب أن يكون الإسلام هو نموذجنا الحاكم لأن الذات هي أساس النهضة، فإن "الشرق بالإسلام، والإسلام بالشرق، وإذا تحدثت عن أحدهما فكأنني أتحدث عن الآخر. والإسلام دين ومدنية، وإن أمتنا ذات مدنية أصيلة، وليست الأمة الطفيلية التي تُرَقِّع لمدنيتها ثوبا من فضلات الأقمشة التي يلقيها الخياطون"[1].

وما من أمة استطاعت بعث نفسها في عالم الحضارة إلا بالتمسك بأصولها وإن كانت فاسدة.

فلولا أن اليهود -حين تقطعوا أمما- كانوا في حاراتهم يحيون مجتمعهم القديم؛ لذابوا، وإنما كانت هذه المجتمعات هي نواة تجددهم وإعادة انبعاثهم في دولة، فحتى "الحديث اليومي بين اليهود في المجتمع لم يكن يتمُّ بلغة البلاد، وإنما برطانة يهودية خاصة تُسَمَّى باليديش، وحين كان يهودي الجيتو يتعلَّم لغة جديدة، فإنه كان يتعلَّم "لشون هاقدوش"؛ أي: اللسان المقدس أو اللغة العبرية؛ لأن مجرَّد النظر إلى أبجدية الأغيار كان يُعَدُّ كفرًا ما بعده كفر، يستحقُّ اليهودي عليه حرق عينيه"[2]، فاستطاعوا بعد آلاف السنين أن يعيدوا بعث لغتهم من جديد في عملية مثيرة للانبهار على الرغم من كل شيء.

ولعله يثير العجب أن نجد الرواد الأوائل للنهضة الغربية، مع ثبوت تأثرهم بالإسلام وحضارته بشكل مباشر أو غير مباشر، يأخذون منه وهم يسبونه ويحتقرونه[3]، فهذا مارتن لوثر -الذي لا يجد الباحثون جذورا لدعوته ضد سلطة الكهنة إلا الإسلام- يقول: "أي كتاب بغيض وفظيع وملعون هذا القرآن، مليئ بالأكاذيب والخرافات والفظائع". وهذا الشاعر الإيطالي دانتي -الذي عاش في بلاط النورمان العربي، وفي ظل فريدريك المحب لعلوم العرب- يضع النبي r وعلي بن أبي طالب في الحلقة الثامنة من الحفرة التاسعة في الجحيم ويصف عذابهم في "الكوميديا الإلهية" المتأثر فيها بأبي العلاء المعري ومحيي الدين بن عربي. وهذا توما الإكويني أبرز فلاسفة العصور الوسطى -والذي ما كان ليكون هكذا لولا تأثره بمنهجية ابن رشد وغيره من المسلمين- يزعم أن "محمدا (r) أغوى الشعوب من خلال وعوده لها بالمتع الشهوانية"[4].

وحين أخرجت اليابان بعثة من طلابها للتعلم في أوروبا، أغروهم هناك بدراسة الفلسفة والأفكار والآداب الغربية لا التقنية والصناعات كما هو المطلوب، فلما أن عادوا أمَر الإمبراطور الياباني بإحراقهم، ويرى د. عبد العظيم الديب أنه ربما يكون هذا هو السبب الذي أوصل اليابان إلى نهضتها[5].

ويشن باتريك بوكانان حربا واسعة في كتابه "موت الغرب" ضد من يتحدث عن جرائم الرجل الأبيض وتاريخه في المجازر والمذابح، ويقول بأن هذه "الحرب على الماضي" هي المسؤولة عن إنتاج أجيال لا تؤمن بنفسها ولا تنتمي إلى حضارتها، ولا بأس لديه في طمس كل هذا تجنبا لتفكك أمريكا[6].

وإذا كان هذا تصرف الأمم ذات التاريخ الدموي الملوث، فكيف بنا نحن وبتاريخنا الناصع؟ حتى وإن كانت كلمة "الناصع" هذه تثير "الموضوعيين، وذوي الحساسية الحيادية"، إلا أن تاريخنا بالمقارنة بهذه التواريخ ناصع ولا شك، ولولا أن يخرج البحث عن قصده لأوردنا من أقوال مؤرخيهم ما يشهد بهذا.

لقد وُفِّق الأستاذ الإمام محمد عبده حين وصف السرَّ في ضرورة أن تكون النهضة ذاتية، قال: "إذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة فيه ما ليس لهم في غيره، وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلِمَ العدول عنه إلى غيره؟!". فهذا على الحقيقة هو السر الذي يفسر أقوال زعماء كل نهضة في كل مكان[7].

***

إن "الانطلاق من الإسلام" هو ما يعصمنا من التأثر غير الواعي بالمناهج الأخرى، وقد رأينا في تاريخنا القريب كيف يكون المرء متعصبا ضد الغرب ولكن على منهاج الغرب نفسه، كما هو الحال في القوميين العرب، الذين شربوا القومية بمفهومها الغربي ثم أعادوا توجيهها ضده، ويظنون أنهم متحررون منه مضادون له[8]!!

هذا حسن حنفي الذي كتب "مقدمة في علم الاستغراب" ليواجه به التغريب، لم يشعر أنه يتحرك على قاعدة الغرب إذ يواجهه، ودعا إلى استعراض جديد للتاريخ بناء على رؤيتنا كشرقيين، فانظر ماذا صنع؟

قال حسن حنفي: "العصور الوسطى بالنسبة للغرب هي بالنسبة لنا عصرنا الذهبي (وبالتالي) فإن العصور الحديثة بالنسبة للغرب هي عصورنا الوسطى... ويظهر (أثر المركزية الغربية) في وعينا الحالي لدرجة زحزحة الوعي التاريخي الإسلامي كلية لحساب الوعي التاريخي الأوروبي، فإذا سئلنا: في أي قرن نحن نعيش؟ لأجبنا في القرن العشرين! أي أننا نجيب بحضور الوعي التاريخي الأوروبي ونحن لسنا أوربيين. ولو سئلنا في أي عصر نحن نعيش لأجبنا: في عصر العلم والتكنولوجيا مع أننا ما زلنا في عصر النهضة، نحاول الخروج من العصر الوسيط"[9].

فهنا يبدو حسن حنفي محكوما بالسياق الغربي نفسه والتقسيم الغربي للعصور والمراحل، لكنه يريد زحزحة هذا المقياس لتعبر كلمة "العصور الوسطى" ذاتها عن زمن آخر، وكلمة "عصر النهضة" عن زمن آخر، فالمعيار والتقسيم واحد بينما "تصنيف الحالة" داخل هذا المعيار هو المختلف باختلاف الحالة بيننا وبين الغرب. بينما الاستغراب الذي نؤصل له والمنطلق من رؤية إسلامية لا يلتزم بالأساس بهذا المعيار، وليس محكوما بأن نُجْرِيَ مقياسهم على تاريخنا، فنحن لسنا ملزمين من الأصل بأن نستعمل هذه المصطلحات التي صارت لها مدلولات سلبية (العصور الوسطى) أو إيجابية (عصر النهضة)، وإذا ألزمتنا ظروف علمية أو أكاديمية أو شيوع المصطلح، فبالإمكان أن نعمل على نزع الإيحاءات السلبية أو الإيجابية لما لا نرتضيه من مدلولات هذه الألفاظ. ولا يعني هذا الاضطرار أن نتخلى عن صياغة النظرية أو المعيار الذي يعبر عن تاريخنا وعن تاريخ العالم أصدق تعبير، وهو معيار منطلق من القرآن والسنة. وقد بُذِلت مجهودات كثيرة[10] في رسم هذه المعايير لكنها تحتاج جمعا وتمحيصا ثم تفعيلا.

ثم لا بأس أن نستعمل مقياسهم إذا وجدناه الأصدق في التعبير عن حقيقة علمية، باعتباره حكمة نأخذها من كل أحد، إلا أن هذا سيكون قليلا إذا كان "الانطلاق من الإسلام" هو المنهج، بينما سيكون كثيرا إذا كان "الانطلاق من الجغرافيا" هو المنهج، ولا يكون من فائدة حينئذ إلا تغير وِجْهة الألفاظ.

وفي النهاية يظل موضوع "الانطلاق من الإسلام" في دراسة الغرب بحاجة إلى مؤتمر أو أكثر، وعدد من الندوات وورش العمل لصياغة ملامح عامة يسترشد بها أصحاب التخصص في دراساتهم التفصيلية والفرعية المتخصصة.

نشر في نون بوست




[1] عبد الرزاق السنهوري: إسلاميات السنهوري باشا ص.
[2] د. عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية 1/ 31، 32.
[3] ونحن لا نضرب المثل بهم في الإجحاف والظلم بل نضربه في قدرتهم على الانتقاء وأخذ ما يريدون دون ما يكرهون.
[4] ثابت عيد (مترجم): صورة الإسلام في التراث الغربي ص20، 21، 24، 25، 32.
[5] د. عبد العظيم الديب: نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي ص182.
[6] باتريك بوكانان: موت الغرب ص285 وما بعدها.
[7] محمد عبده: الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام 3/248.
[8] والحديث هنا عمن صدقوا في مذهبهم، لا عمن كانوا قوميين ظاهرا وهم أدوات الغرب والشرق -ومؤخرا: إيران- على الحقيقة!
[9] د. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص41، 42.
[10] كتب في هذا المجال كثيرون منهم الشيخ محمد قطب رحمه الله، والشيخ د. منير الغضبان رحمه الله، ود. جمال عبد الهادي، ود. عماد الدين خليل،  وغيرهم.

الخميس، مايو 28، 2015

نخبة عصر الاحتلال

في إحدى قرى المنوفية، قبل أكثر من مائة عام، دخل ثلاثة من الجنود الإنجليز -وهم في إجازة من عملهم العسكري- ليصيدوا الحمام..

فأصابت إحدى رصاصاتهم امرأة داخل جرن قمح، فقتلت المرأة واشتعل الجرن نارا، فهاج زوجها يريد أن يسوق العساكر الإنجليز إلى القسم، فتعصب له زميلاه، فتعصب للرجل أهل القرية، فهاجموا الإنجليز فأصابوا الثلاثة، لكن الثالث فرَّ منهم، وأثناء فراره أصيب بضربة شمس فمات.

فحضرت القوة البريطانية فقررت أن تعاقب الرجل وجميع جيرانه، وبينما هم يجمعون الناس للاعتقال، فرَّ منهم واحد، فأطلقوا عليه النار وقتلوه ومثلوا بجثته.

ولمزيد من النكاية والانتقام عقد الإنجليز محاكمة لأهل القرية، استغرقت في نظر القضية ثلاثة أيام لمحاكمة خمسين من المتهمين، ولم تعط المحكمة فرصة لسماع الدفاع إلا نصف ساعة (أي 30 ثانية تقريبا لكل متهم).. ثم قضت عليهم بهذا القضاء:

الإعدام لأربعة

الأشغال الشاقة المؤبدة لاثنين

السجن خمس عشرة سنة لواحد

السجن سبع سنين لستة

خمسين جلدة لخمسة

ما قد يندهش له الكثيرون هو "المشاركة المصرية" في هذه المحكمة، وكانت كالآتي:

1- أن رئيس المحكمة كان بطرس غالي (جد بطرس غالي ويوسف بطرس غالي)

2- وأن أحد قضاتها كان هو أحمد فتحي زغلول (شقيق سعد زغلول) وهو الذي كتب حيثيات الحكم القضائي

3- وأن تنفيذ الأحكام تم تحت إشراف محافظ المنوفية

4- وأن الشرطة المصرية "الخيالة" كانت تحرس موقع الإعدام الذي نُفِّذ في القرية أمام أهالي المحكوم عليهم.

5- وأن ممثل الاتهام في المحكمة كان هو إبراهيم الهلباوي، والذي برأ الإنجليز من دم المرأة والرجل وحرق الجرن، وأدان الاعتداء الذي أوقعه الفلاحون على الضباط الإنجليز!!

6- وأن الصحف المصرية التابعة للإنجليز (بما فيها صحيفتان نصرانيتان) أدانت التعصب الديني لدى الفلاحين الذين قتلوا الإنجليز لمجرد أنهم كفرة (والواقع أنهم لم يقتلوا أحدا وإنما أصابوا، وأن الدافع كان هو رد الاعتداء).

ولهذا يجب أن نعلم علم اليقين أن عملاء الاحتلال ليسوا أقل ضررا من الاحتلال نفسه، بل أشد وأخطر.. وأنه ما نزل الكفر بأرض إلا وتحول إليه بعض أهلها ضد أنفسهم وأهليهم وضد الحق والعدل.

لقد أثارت هذه الحادثة كافة الأحرار في مصر وغيرها، حتى لقد أدانها بعض الإنجليز أنفسهم، وترتب عليها عزل اللورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر..

غير أن الذي يجب أن نتوقف عنده طويلا.. أن كرومر عُزِل تتبعه اللعنات، فيما بقي نظامه ورجاله يواصلون عمله..

لقد صار بطرس غالي رئيسا للوزراء، يحكم وينفذ ويبيع موارد البلد لأجيال قادمة للإنجليز.. وظل أحمد فتحي زغلول من النخبة الوطنية، وظل إبراهيم الهلباوي كذلك من هذه النخبة.

ولقد منَّ الله على المصريين بأن استطاع إبراهيم الورداني -شاب من الحزب الوطني التابع لمصطفى كامل- أن يغتال بطرس غالي (1909).. لكن لم يستطع أحد الوصول إلى غيره فظلوا كما هم.

وحين كنت اقرأ مذكرات أحمد أمين، لفت نظري هذا الموقف العجيب..

لقد آتاه خبر دنشواي وهو في وليمة عشاء، فكتب يقول: "فتنغص عيشنا، وانقلبت الوليمة مأتما، وبكى أكثرنا".

لكنه بعد عدة صفحات يحكي لنا مواقف عن إبراهيم الهلباوي الحاضر دائما في الصالونات الثقافية، فهو يجالس من "تنغص عيشهم" قديما بلا نكير، بل ويقوم أهل المجلس والبوليس على حراسته ورعايته مما قد يقوم به بعض الشباب من تذكير له بتاريخه في محكمة دنشواي.

وبعد عدة صفحات أخرى وفي حفل تكريم لأحمد أمين يذكر كيف كان حفل تكريمه هذا مشهودا، فيذكر الموائد ومن كان على رأسها فيكون منها مائدة على رأسها إبراهيم الهلباوي نفسه!!

لقد ذهب تنغص العيش وبكاء الوليمة القديمة، وصار الرجل حاضرا على مائدة ولائم التكريم!

إنني ما زلت متحيرا، هل من العدل إدانة أحمد أمين في مثل هذه المواقف؟ أم أنه قانون الزمن.. قانون فشل الثورات وحركات المقاومة التي من توابعها أن يعلو الأرذلون في الأرض ويصيرون هم النخبة!

لقد صار هؤلاء نخبة بقوة قانون الزمن، ما يستطيع أحد أن يحذفهم من جملة النخبة ولو كره، يُدعون في المجالس ويُقَدَّمون في الولائم والحفلات.. رغم كل تاريخهم!

لو أن هذه الثورة فشلت وانتهت حقا، فسيكون معتز عبد الفتاح وناجي شحاتة وتوفيق عكاشة ومصطفى بكري وتامر أمين وأشباههم هم نخبة العصر.. ولن تتلوث أسماؤهم إلا إن حدثت ثورة أخرى ونجحت بعد نصف قرن آخر على الأقل!

إن عرابي ظل مشتوما ملوثا طوال عهد أسرة محمد علي، حتى إن من ورثوا القضية كانوا يذكرونه بالشتائم أيضا.. فإنك لتجد في رسالة لمحمد فريد -الزعيم الوطني ووارث الحزب الوطني لمصطفى كامل- موجهة إلى الخديو يصف فيها الثورة العرابية بأنها "الثورة المشؤومة".

ترى هل كانوا مخدوعين جراء الغزو الفكري والتخريب المعرفي؟ أم كان ذلك أمر قاهر لا يستطيعون منه فكاكا؟.. هذا مبحث آخر. لكن الخلاصة أن هزائم الثورات وحركات التحرر تأتي بالأرذلين في موضع النخب، وتلقي بالثائرين تحت الأقدام.

فاختاروا لأنفسكم.. واختاروا لأبنائكم!

الاثنين، مايو 25، 2015

موجز تاريخ الثورة المصرية

عانت مصر من تدهور الأحوال على كافة المستويات، وفي نهاية ثلاثين سنة من حكم مبارك العجوز التقت رغبات أطراف عدة على إسقاط نظامه؛ ففي الداخل لم يرض العسكر –وهم يرون حكم مصر حقا لهم منذ 1952- بخطته لتوريث ابنه جمال، وكان الشباب قد اكتشفوا أنفسهم وواقعهم من خلال الانترنت الذي لم يتح فقط مصادر حرة للمعلومة بل أتاح بيئة للتفاعل والتواصل والمبادرة.

وبعد نجاح أمريكا في إسقاط نظامين وإقامة نظامين في أفغانستان والعراق، لم تشك في قدرتها على فعل هذا في مصر بغير حرب، إذ هيمنتها على النظام المصري كاملة. فحملت النظام على إجراء انتخابات شبه ديمقراطية وعلى ترك مساحة واسعة للإعلام –الذي شهد منذ أواخر 2004 ثكاثرا في عدد الصحف والفضائيات- الذي صار يهاجم شخص مبارك بضراوة مفاجئة، ثم التقى مرة أخرى –بخلاف اتجاهاته- على تلميع محمد البرادعي ليكون الرئيس القادم. كذلك شهدت مصر تكاثرا في منظمات المجتمع المدني التي تبنت أو دعمت حركات شبابية أو بعض رموزها.
صار المشهد كالآتي: ساحة مهيئة للثورة، تزداد سخونة بالإعلام الجرئ، أجنحة النظام متعارضة في ظل حاكم عجوز، نخبة علمانية، والإسلاميون لا يريدون أكثر من التغيير وفتح مساحة حرية ولا ينوون المنافسة على الحكم، ووقود الساحة شباب يمكن احتواؤه، وشخصية علمانية تتصدر التغيير.

جاءت الشرارة بسقوط نظام بن علي، فشهدت مظاهرات 25 يناير –التي خرجت في يوم عيد الشرطة للاحتجاج على الشرطة- أعدادا غير مسبوقة، سرعان ما شجعت أطيافا أخرى على النزول في يوم 28 يناير الذي كان يوم الثورة بحق، إذ استطاعت الحركة الشعبية كسر جهاز الشرطة وحرق العديد من المقرات الأمنية، ثم صاحب ذلك تنفيذ لخطة فوضى بفتح السجون، لكن خطة الفوضى دعت المزيد من الناس للنزول وتشكيل لجان شعبية، فساهم هذا في مزيد من انهيار الجهاز الأمني وسيطرة الناس على الشوارع، ونزل الجيش للسيطرة على المقرات المهمة.

بدت هذه اللحظة هي المناسبة للتخلص من حكم مبارك، نزل الجيش إلى الشارع، وأعلن في وقت لاحق أنه لن يتصدى للمتظاهرين، ورغم أن هذه الأيام الثمانية عشرة قد شهدت عددا من اللحظات كان يمكن فيها فض الاعتصام في ميدان التحرير إلا أن هذا القرار لم يتخذ، أو اتخذ ولم يُسمح بتنفيذه. فصار الميدان بؤرة تتسع وتحتوي الفاعلية الثورية التي تمددت لتصل إلى إضرابات في المصانع الحربية ودعوات لحصار مبنى التليفزيون وقصر الرئاسة. وعند هذه اللحظة اتخذ الجيش قراره بالانقلاب على مبارك، لكنه أخرج المشهد في صورة: تنحي!

بدا سقوط مبارك بعد ثلاثين سنة كالمعجزة، وبذل المجلس العسكري جهدا كبيرا لطمأنة الشارع الذي أحس بقوته وقدرته على صنع المعجزات، فرتب لجنة تعديلات دستورية متوازنة (ستة شخصيات تحظى بالاحترام وتمثل القوى: الإسلامية والليبرالية والقومية واليسارية والأقباط) وضعت تعديلات محترفة تنهي بها المرحلة الانتقالية في ستة أشهر.

كانت هذه التعديلات –نظريا- أسرع وأسلم طريقة تحول من الثورة إلى الدولة، فقد رتبت انتخابات البرلمان الذي سينتخب لجنة تكتب الدستور، وفي أثناء كتابة الدستور ينتخب الرئيس، فينتهي كل شيء في ستة أشهر وفي ظل الزخم الثوري لحماية النظام الجديد. إلا أن هذه التعديلات تقضي عمليا على نفوذ العسكر والعلمانيين فإنهم بلا شعبية، فانطلقت حملات إعلامية ضخمة ضد الإسلاميين (ما تزال كل وسائل الإعلام بيد النخبة العلمانية) خصوصا الغول السلفي الخارج من كهف النسيان، وكانت الصدمة هائلة حين خرجت النتائج بتأييد التعديلات بنسبة 77%.

قال الشعب: نعم، وسار العسكر في طريق "لا"، وغض الإسلاميون الطرف عن هذا رغبة في تجنب الصدام مع الجيش، وانقسم المشهد إلى ثلاث فئات: فلول وعسكر - علمانيين – إسلاميين، وفي الوسط بينهم شباب ثائر مفتقد لقراءة المشهد وطبيعته وهم على استعداد لبذل دمائهم لكن ضعفهم وتفرقهم يعجزهم عن فرض خيارهم ومثاليتهم تُعجزهم عن اختيار أفضل الحلين. وفي خلال الستة أشهر –التي زادت إلى العام ونصف- تضخم الاستقطاب بين الأطراف جميعا. وفي خلالها انبعث فجأة إسلاميون آخرون لا يقبلون تنازلات الإخوان على رأسهم رجل المرحلة حازم أبو إسماعيل الذي أعاد المشهد إلى حقيقته: صراع الشعب إسلامي الهوى والمزاج ضد العسكر ومعهم العلمانيون الذين يريدون تجاوز الشعب وصنع نظام فوقي ثم تسويقه، مما أربك الخريطة السابقة تماما. وانقلبت مشورة وأفكار النخبة العلمانية العسكرية عليهم: فتأجيل الانتخابات أدى لزيادة الاستقطاب (فازداد الإسلاميون قوة وازداد غيرهم تشرذما) وابتداع نظام الانتخاب القائمة الذي اضطر معه الإخوان للمنافسة على كل المقاعد لا على ثلثها كما تعهدوا ثم -وهو الأعجب- أنه أتى لهم بالسلفيين (وقد كان مستحيلا حصولهم على هذه النسبة بالفردي).

خلال العام والنصف، وقعت كثير من الوقائع الثورية والاشتباكات الدموية أبزرها: فض اعتصام التحرير (تبعه اعتذار من المجلس العسكري) فض اعتصام أهالي الجرحى (تبعته أحداث محمد محمود التي اضطر المجلس العسكري على إثرها أن يحدد موعد الانتخابات الرئاسية) فض اعتصام مجلس الوزراء (وفضيحة سحل الفتاة) ثم عدد من المرات في العباسية والتحرير ورمسيس وغيرها. وتحطم ما كان بين العسكر والإسلاميين من ود ظاهر، خصوصا بعدما رفض المجلس العسكري أن ينفذ صلاحيات مجلس الشعب، وبعدما استعمل سلاح القضاء لحل لجنة الدستور ثم لحل مجلس الشعب. وكانت القاصمة برفض تشكيل البرلمان للحكومة، وترشح عمر سليمان وأحمد شفيق لانتخابات الرئاسية (وهذا يعني عودة عصر المذابح من جديد)، فاضطر الإخوان للترشح للرئاسة. وبعد سجالات وأحداث عصيبة فاز محمد مرسي، بعدما قدم الإخوان كل ما يجعلهم أفضل المتاح: اعتدال في مقابلة تشدد حازم أبو إسماعيل (المرشح الأوسع شعبية على الإطلاق)، شعبية تجعلهم طرفا يملك تحقيق الاستقرار، تعهد بالحفاظ على الوضع الخاص للجيش في مقابل المطالب الثورية، وهم الخيار المتاح أمام شباب الثورة المخلص بديلا عن عودة النظام القديم، وهم الخيار المتاح أمام غيرهم من الإسلاميين والأفضل من النظام العلماني أو النظام العسكري.

منذ اللحظة الأولى لفوزه بدأ طوفان إعلامي غير مسبوق ضده وضد نظامه في محاولة مبكرة لتقويضه، وتضافرت مؤسسات الدولة القديمة مع وسائل الإعلام (التي تدفقت عليها أنهار من المال الخليجي) لتنهي تجربته في أقرب وقت، واستطاعت هذه الموجة أن تبتلع كافة الرموز الشبابية الثورية (التي تم تصنيع أغلبها إعلاميا عبر العامين ونصف العام) لتكون –إلا القليل النادر- من أشد الفئات على مرسي. وأثيرت الفوضى الأمنية التي يدعمها التحريض الإعلامي والتخريب الاقتصادي والأحكام القضائية والتمويل الخارجي ليظل المشهد طوال عام حكم مرسي من أغرب ما يكون: دولة تعمل ضد رئيسها.

وعلى الجانب الآخر، بذل مرسي جهودا مضنية وخرافية في تحسين الأوضاع الاقتصادية وحقق على هذا المستوى نجاحا مدهشا (لكنه لم يُسوَّق في ظل الآلة الإعلامية الجبارة لخصومه)، لكنه كان في غاية السوء والفشل في إدارة ملفات الأمن والسياسة. ذلك أنه –وبنفسية الداعية الإصلاحي- تعامل مع الجيش والأمن والمخابرات والإعلام وخصومه السياسيين بقدر مدهش من الرفق واللين والتسامح رغبة في كسبهم، بينما جعلهم هذا يطمعون فيه أكثر وينتقلون إلى هجوم أوسع. وكان من ضرورات ذلك ألا يصارح الشعب بحقيقة ما يحدث وأن يدير معركته في الخفاء والدهاليز مما أسفر عن تفتت الالتحام الشعبي خلفه، بل وانسياق كثير منه مع الموجة الإعلامية الهادرة ضده. وكان أخطر ما في الأمر: الوثوق الكامل من جانب مرسي وقيادات الإخوان بشخص السيسي ومحمد إبراهيم.

توج هذا كله بمشهد 30 يونيو الذي دُبِّر لتنفيذ انقلاب 3 يوليو، وهو المشهد الذي توقعه الجميع إلا الإخوان، أو لعلهم توقعوه ولم يريدوا أن يصدقوه، فوجدوا أنفسهم فجأة أمام دولة انقلبت عليهم وأظهرت أنيابها، وبين نظام استعاد نفسه عبر سنة حكمهم وبين جماعة لم تحسب للأمر حسابا جرى المشهد الحاضر حتى الآن: نظام يعرف ما يريد ومقاومة متفاجئة مندهشة تحار في أمرها، لذا سدد النظام ضربات قوية باعتقال القيادات المؤثرة وفض الاعتصامات بعنف ومصادرة الأموال والسيطرة على المؤسسات والجمعيات. فتشتتت الجماعة –ومن ورائها الإسلاميين- واستفاق شباب الثورة المخدوع على الحقيقة الأليمة، فمنهم من أكمل المسير ومنهم من توقف أو همس باعتراض فاعتقل وأقلهم انضم لمعسكر مقاومة الانقلاب مشتتا كغيره من رفاق معسكره.

لكن نظام السيسي فشل فشلا ذريعا في إدارة الشأن المصري بعد الانقلاب، رغم الدعم الكامل من مؤسسات الدولة ومن النظام الإقليمي والدولي، ولم يستطع القضاء على الإخوان، بل أنتج بطشه بذور حركات مسلحة يبدو أنها تتطور وتزيد قوة مع الأيام. بالإضافة إلى فشله في الملفات الاقتصادية والسياسية، وهو الآن يعاني سوء علاقات مع كل دول الجوار، وزاد الأمر سوءا عليه بتغير الوضع في السعودية.

تتمثل أهم النجاحات في: حسن استعمال الانترنت وتنظيم الشباب لأنفسهم في حركات وفعاليات ثورية، إسقاط حسني مبارك، مقاومة المجلس العسكري حتى إسقاطه وإنجاح مرسي، صمود مرسي والإسلاميين في مواجهة الانقلاب العسكري وتثبيت شرعية مرسي، والمقاومة الإعلامية الفاعلة لنظام السيسي.

وأما أهم الإخفاقات فهي في تنازلات الإسلاميين رغبة في تجنب الصراع مع المجلس العسكري، وإطالة الفترة الانتقالية، والتنازلات المريعة بغية الوصول إلى توافق مستحيل مع العلمانيين، وسوء الأداء الإعلامي والسياسي لاحتواء شباب الثورة، والمنهج الإصلاحي مع الدولة العميقة، والوثوق في شخصية السيسي، وبقاء مرسي في القصر الرئاسي، والاعتصام بعيدا عنه، واكتفاء الاعتصام بالسلمية في لحظة الانقلاب ولحظة فض رابعة وما بعدها، والفشل في التعامل مع ملف الانقلاب وفي بناء قوي وفاعل لتحالف دعم الشرعية، والثقة في سرعة سقوط الانقلاب، وتأخر تجديد الدماء في المواقع القيادية، والتصلب على نهج سياسي يثبت عدم جدواه.

وخلاصة التقييم العام أن ثورات هذه المنطقة تؤول إلى الإسلاميين فهم المعبرين الحقيقيين عن طموحات الناس، بينما الانقلابات تكون دائما مدعومة من أنظمة الاستبداد والاحتلال، ولذا تفشل دائما محاولات الوصول إلى حلول وسط وعليه فلا يصلح النهج الإصلاحي في الثورات والمعارك الكبرى، وعليه فلا أمل في الوصول إلى توافق بين العلمانيين والإسلاميين، لأن العلمانيين هم الذراع المدني للنظام الدولي –الذي يدعم ويسند ويتغذى على الذراع العسكري الذي هو الجيوش المحلية- ومن ثم تؤول الثورات إلى تحالف عسكري علماني ضد الإسلاميين. ومن ثم ينبغي على الإسلاميين امتلاك أنواع القوة للوقوف بأنفسهم ضد محاولات استئصالهم وليكونوا جزءا من معادلة السياسة التي لا تأبه إلا بالقوي.


الأحد، مايو 24، 2015

لماذا يجب أن ندرس الغرب انطلاقًا من الإسلام (2)

قلنا إنه لا بد أن تكون أولى أصول علم الاستغراب: الانطلاق من الإسلام، وذكرنا في المقال الماضي أن الانطلاق من الإسلام نابع من حتمية وجود نموذج، ولا ينبغي للمسلم أن يكون له منهج غير الإسلام لا في التصورات ولا فيما يترتب عليه من أحكام.. كذلك فإن الإسلام ليس مجرد نموذج، وإنما هو حق مطلق، لأنه رباني متجاوز ومفارق للبشرية بكل ما فيها من نقص وعيوب وتأثر بالبيئة والثقافة وسائر ما يؤثر على الطبيعة البشرية.

ونستكمل فنقول:

وحيث كان هذا "النموذج" دينا، فإن ما فيه من علم يحسم الإجابة عن أسئلة نهائية ومصيرية، وما فيه من توجيهات يرتقي ليبلغ مرتبة الفرض أو العبادة التي يُتقرب بها إلى الله خوفا وطمعا فيحفز هذا نشاط الأتباع، وما فيه من هدايات وضوابط يتحول إلى أوامر ونواهٍ فيُجتهد في تنفيذها برقابة الضمير الذاتي وخوفا من الحساب الآخر.

ولتوضيح الصورة نحتاج ضرب أمثلة على: العلم، والتوجيهات، والهدايات.

أ. فأما العلم، فمنه عام مُجمل كُلِّي كالثوابت والأصول، ومنه خاص جزئي تفصيلي:

فأما العام المجمل الكُلِّي، فكإدراك أن الحق واحد، وأنه حقيقة، وأن منه ما هو ظاهر لا يخفي، ومنه ما يَدِقّ ظهوره ويحتاج اجتهادا في إدراكه. فإن الإيمان بهذا إيمان ببطلان النسبية والعدمية وتكافؤ الأدلة، ويستلزم هذا: التعامل معها كباطل ابتداءً، يُبحث في بطلانه وتهافته وآثاره السيئة، فضلا عن أن تكون هذه الانحرافات أساسا يُسَلَّم به أو تُبنى عليه مناهج تحليل!

وكذلك العلم بمنهج الإسلام في بناء الفرد والمجتمع، والتوازن بين الروح والمادة، وبين الفردية والجماعية، وبين الحاكم والرعية، فالعلم بهذا المنهج يضبط نظر الإنسان ورؤيته في تحليل ما سوى ذلك من المناهج، فلا يذوب في الموضوع المدروس انبهارا به أو تطرفا في رفضه، بل يقوم في نفسه العلم بالحق فيقبل بحق ويرفض بحق ويعرف موضع الانحراف ومقداره.

وأما الخاص الجزئي التفصيلي، فكقول النبي "تصالحون الروم صلحا آمنا، وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائهم فتسلمون وتغنمون، ثم تنزلون بمرج ذي تلول، فيقوم إليه رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول: الأغلب الصليب، فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله، فعند ذلك تغدر الروم وتكون الملاحم، فيجتمعون إليكم فيأتونكم في ثمانين غاية[1] مع كل غاية عشرة آلاف"[2].

فمن هذا الحديث نعلم أن الروم سيظلون حتى آخر الزمان، وسيظلون عدوا حتى آخر الزمان، ولا يمنع هذا من فترات صلح وتعاون وتحالف ضد عدو مشترك، وأن المسيحية ستبقى شعارهم وجزءا أصيلا من تكوينهم إلى النهاية[3]، ويشير تعدد الرايات إلى أنهم لا يصيرون أمة واحدة بل سيظلون منقسمين إلى دول، لكل دولة جيش، وإن اجتمعوا في تحالف واحد.

فهذا مثال على العلم الذي يحسم أمورا، ويجيب عن أسئلة، ويحكم التوقعات وتسترشد به التحليلات، فلا يأتي على بال أحد -ولو في ذروة النصر العظيم- أن هذه هي نهاية الروم كما كانت نهاية الفرس، أو يأتي على بال أحد -ولو في ذروة انتصار العلمانية- أن أوروبا ستتخلى عن المسيحية، أو يأتي على بال أحد -ولو في ذروة الاتحاد الأوروبي والأطلسي- أن الروم سيصيرون يوما دولة واحدة[4].

كذلك فإن دراسة الظواهر الاجتماعية والأخلاق وحتى العلوم التطبيقية ستتأثر بوضوح وتختلف منطلقاتها، وإذا أخذنا مثالا فجًّا ليتضح المعنى فسنذكر مسألة اللواط أو "الشذوذ الجنسي"، إن الأمر في الإسلام محسوم الحرمة، وفاعله يعاقب عقوبة شديدة باعتباره اقترف جريمة. بينما جرت الأمور في الغرب على تدرج نفيه كخطأ، ثم اعتبرت بعض الدراسات أن المسألة راجعة لحالة نفسية، ثم -وفي مرحلة لاحقة- اعْتُبِر أن المسألة راجعة لحالة جسدية وجينات وراثية، ثم اعتبرت حقا من الحقوق، وأخيرا أسبغت الشرعية على زواج المثليين.

هنا تكون انطلاقة المسلم في دراسة الظاهرة مختلفة كليا عن رؤية الغربي لها، فهذا يحسم أنها انحراف ثم يبحث في جوانب نشوئه وعلاجه بينما الآخر يتيه في تحديد كونها انحرافا أم لا منذ البداية، ويترتب على هذا التيه تيه أكبر في النتائج يستحيل معه إدراك حق فضلا عن الرجوع إليه: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17، 18]، وقد اخترنا هذا المثال لشدة وضوحه وحدِّيته، ولكن المقصد أن الرؤية الإسلامية عامل حسم في فهم وتحليل الأوضاع الاجتماعية والمذاهب الفكرية.

ب. وأما التوجيهات فمنها:

طلب العلم الذي صار فريضة على كل مسلم ولم يعد مجرد شيء مرغوب فيه، فتحركت بهذا دوافع النشاط العلمي في المسلمين كأقوى ما يكون.

ومنها الاقتداء بالنبي r في كل أحواله، فهذا أيضا ليس مجرد شيء حسن بل هو واجبٌ على كل مسلم، ومما يتعلق بموضوعنا هذا من سيرة النبي r:

§         ما كان عليه r من الوعي بالمحيط الدولي من حوله منذ اللحظات الأولى للدعوة، فعلى هذا اختار لأصحابه الهجرة إلى الحبشة لأن "بها ملكا لا يظلم عنده أحد"[5]، وبهذا راسل هرقل وحَدَّثه عن "الأريسيين"[6]، واستدرك على عدي بن حاتم أمرا في مذهبه فقال له: "ألستَ رُكوسيًّا[7]؟ ألستَ تأكل المرباع[8]؟" فقال عدي: بلى. فقال النبي r: "فإن ذلك لا يحلّ في دينِك"[9].

§         توجيهه r لزيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود، وذلك قبل أن يكمل عمر الدولة الإسلامية أربع سنوات، وذلك لهدفين: أن يقرأ مسلم موثوق فيه الرسائل الواردة إلى النبي r بهذه اللغة[10]، ولكي يُحْرَس القرآن من تحريف اليهود إذا هم نقلوه إلى لسانهم، قال r: "يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب"، فتعلم زيد لغتهم في خمس عشر ليلة[11]. ولا يعرف قدر هذا التوجيه إلا من قرأ تاريخ ما فعله المترجمون غير المسلمين في الدولة العثمانية، أو ما فعله ويفعله الغرب الآن في ترجمات القرآن الكريم[12].

جـ. وأما الهدايات، فمنها:

الحث على السياحة والسير في الأرض مع النظر والاعتبار و"تذكر حال الماضين والاعتبار بما كان لهم في زمانهم وما انتهى إليه أمرهم من عمار أو دمار، وليس هذا إلا ليزداد الفكر تنورا والعقل تبصرا وينفسح أمامه مجال النظر والتصرف وترتيب المسببات على الأسباب، سنة هذا الشرع الحنيف فيما كلفنا به من الأعمال"[13]، فموضع الهداية -أو الضبط- هنا هو الحجز عن أن يكون الغرض مجرد سياحة وتمتع ولذة نفسية، بل تشكيل العقل المسلم على التبصر والتفكر والاعتبار.

ومنها: العدل والإنصاف، وهذا أهم ما نقدمه في موضوع دراسة الغرب بديلا عن "الخرافة" المسماة بـ "الحياد العلمي"، فالعدل والإنصاف مع الجميع أمر ممكن، وكون الإسلام دينا يجعل المرء تحت رقابة الله وإن فقد الرقيب، ويبتغي وجه الحق برغم المصالح والأغراض التي تغريه أو ترهبه لتحمله على قول الزور أو تزوير الحقائق، وهذا هو الفارق الكبير بين أن يوكل الباحث إلى دين أو أن يوكل إلى نفسه، ولقد تحير حسن حنفي في إيجاد شيء يحجز الباحث في الاستغراب عن الوقوع في التعصب للشرق كما فعل المستشرقون لما تعصبوا للغرب، ثم لم يجد إلا أن يَكِل هذا إلى "وعي الباحث وأصالته"[14]! وما دام يصر بعضهم على عدم اعتماد "الإسلام" كدين ونموذج حاكم فلن يجد شيئا من المناهج الأرضية يمكنه إلزام أحد بشيء!

وصحيحٌ أن الخطأ وارد والمعصية واردة وأن مجرد اعتناق الباحث للإسلام لا يعفيه من الخطأ أو التزوير، لكنه ذات الفارق بين إلزام الناس بقانون لا يُحترم إلا في وجود الشرطة، وبين اعتناقهم دينا يحترمونه ويلتزمونه من تلقاء أنفسهم ولا بأس بعدها من وجود شرطة أيضا. ولكن في العمل البحثي ليس ثمة شرطة على الباحث إلا الضوابط العلمية، ويعرف كل باحث أنه من السهل تحقيق هذا "الشكل" العلمي لعمله غير النزيه، بل إن ذوي الصنعة يعرفون كيف يعيدون بعث الخرافات في عصر العلم إذا "أضيفت إليها زخارف عصرية" بتعبير مكسيم رودنسون[15].

نشرت في نون بوست 



[1] غاية: أي راية.
[2] أحمد (16871) وهذا لفظه، أبو داود (4292)، ابن ماجه (4089)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
[3] ويُستأنس لهذا المعنى بحديث آخر –وإن كان فيه ضعف- يقول: "فارس نطحة أو نطحتان؛ ثم لا فارس بعدها أبدا، والروم ذات القرون أصحاب سحر وصحر، كلما ذهب قرن خلف قرن مكانه، هيهات إلى آخر الدهر، هم أصحابكم ما كان في العيش خير". رواه ابن أبي شيبة: المصنف (10699)، وابن قتيبة: غريب الحديث 1/65، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3999).
[4] ولئن كان ثمة من يخالف هذا التحليل لسبب أو لآخر، فليس المقصود الآن بيان صحته أو خطئه، بل بيان أن العلم المعصوم، يحسم إجابات ويحل إشكالات كانت من دونه ستبقى بلا إجابات ولا حل.
[5] د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/170.
[6] راجع مبحث السفارات من الفصل الثاني من الباب الأول.
[7] من مذاهب النصرانية، وقال بعضهم: هي بين النصرانية والصابئة.
[8] المرباع: ربع الغنيمة التي يأخذها لنفوذه ورئاسته دون أن يشارك في القتال.
[9] أحمد (19408)، وابن حبان (6679)، وصححه شعيب الأرناؤوط.
[10] البخاري: كتاب الأحكام، باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد.
[11] أحمد (21658)، وأبو داود (3645)، والترمذي (2715)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
[12] يقول الشيخ عبد السلام البسيوني -في معرض ثنائه على جهود د. حسن المعايرجي في موضوع ترجمة القرآن- إن الداخل لهذا الباب يجد "مئات الترجمات الحقيرة المسيئة لكتاب الله تعالى، بمئات الطبعات، ومئات اللغات، بمئات الأشكال والأحجام "اقترفها" قساوسة وحاخامون، ودجاجلة ومستشرقون، وخمورجية وحشاشون، وجواسيس وصيادون في الماء العكر، كلهم "يعك" شيئا يسميه ترجمة، مرًة تحت اسم "قرآن محمد" ومرة "أحاديث محمد على المائدة" وثالثة "مختصر القرآن" ورابعة أهم عشر سور، وخامسة القرآن مرتبا على طريقة "حادي بادي كرنب زبادي"، أو "واحد اثنين عم حسين".. جرأة رهيبة، وإهانات بشعة ضد القرآن الكريم، الذي هان بهوان أصحابه، ولا من منتبه، ولا من غيور، ولا رقيب ولا حسيب". عبد السلام البسيوني: دعاة ومشاهير عرفتهم ص111.
[13] أحمد زكي: السفر إلى المؤتمر ص6، والكلام في المتن للشيخ عبد الكريم سليمان الذي قرظ الكتاب فأثبتها أحمد زكي في المقدمة.
[14] د. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص33.
[15] مكسيم رودنسون: الصورة العربية والدراسات الغربية الإسلامية، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث 1/69.