الأحد، يوليو 14، 2013

ما أفلحت دولة حكمها انقلاب


في الإسلام: الإمارة شورى، ولا يحق لأحد أن ينصب أحدا –أو ينصب نفسه- حاكما على المسلمين بغير مشورتهم، بل قال عمر –رضي الله عنه- "من بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فلا يُتَابَع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقتلا".

وفي تجارب البشر بعد التاريخ الطويل توصلوا إلى ذات المعنى، اختيار الحاكم حق للشعوب، ومن تسلط على الناس بغير رغبتهم فهو مجرم، وما تزال الفلسفات تُعَظِّم من شأن من كتبوا في هذا المعنى وتنظيمه مثل جون لوك وجان جاك روسو وغيرهم من فلاسفة عصر التنوير وما بعد الثورة الفرنسية.

فمن لم يكن له علم من الدين، أو قراءة في الفلسفة، فالواقع واعظ بليغ، وخلاصة موعظته: ما أفلحت دولة حكمها انقلاب!

تلك السطور القادمة عن ثلاث نماذج معاصرة؛ شمالا وغربا وشرقا: تركيا والجزائر وباكستان، ومن أراد المزيد فلينزل جنوبا ليشاهد الساحة الإفريقية الغزيرة النماذج (190 انقلاب عسكري منذ رحيل الاحتلال)، أو ييمم وجهه أقصى الغرب في أمريكا اللاتينية، أو يتعمق في صفحات التاريخ، ولينظر: هل أفلحت دولة حكمها انقلاب؟!

***

تركيا

عبر ثلاثة أرباع القرن رأت عصبة العسكر العلمانية أن العسكر هم سادة تركيا وأن العلمانية هي دينهم، وأن أي خرق لسيادة العسكر أو لهيمنة العلمانية إنما هو خطر شديد وخطيئة لا تُغتفر، ودائما كان الرد بكل قسوة.

يمكن تقسيم التاريخ العثماني إلى فترات قوة وأمجاد زاهرة وفترات تراجع وضعف وركود، لكنه لا يمكن تقسيم حكم العسكر هناك إلى فترات أمجاد، بل على العكس، سارت تركيا عبر الثلاثة أرباع قرن من تراجع إلى تدهور إلى انحطاط، إن على سبيل الاستبداد في الداخل أو الخضوع للخارج.

ففي الداخل: طورد الدين حتى مُنِع ارتداء العمامة وأجبر الناس بالقتل على ارتداء القبعات، ثم مُنِع التعليم الديني، وأغلقت الكتاتيب، حوربت الشعائر الإسلامية كالحجاب وألغي الطلاق وتعدد الزوجات، وكُتِبت اللغة التركية بالحروف اللاتينية (بكل ما استتبع هذا من آثار كارثية لانقطاع الأجيال بتراثها وماضيها)، وجرت خطوات التغريب بأقوى وأقسى وأسرع ما تملكله سلطة قاهرة، وقُهِرت القوميات المختلفة ومُحِق حق الاختلاف والتنوع وسادت سلطة العاصمة المركزية ونُسِيت الأطراف، وسيطر نظام الحزب الواحد الذي لا يُري الناس إلا ما يرى، وانتشر الفساد في أرجاء الدولة وارتفع التضخم حتى بلغت المليون ليرة تركية تعادل دولارا واحدا!

وفي الخارج: ظلت تركيا المركز الإقليمي لأجهزة المخابرات الغربية لمحاربة الاتحاد السوفيتي، وقد دعم الغرب قوة تركيا كسلطة بقدر ما خدمه الموقع الجغرافي التركي لتعطيل التقدم السوفيتي في تركيا وفي البلاد العربية، وبينما تحلم تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كان هذا الأخير يختلق كل يوم سببا لرفض هذا الانضمام[1]، وللمطالبة بتعديلات في القوانين والإدارة التركية بلغت حد ، وفي مقابل هذا الرفض للالتحاق بالاتحاد الأوروبي لم يجدوا بأسا في قبول الانضمام لحلف شمال الأطلسي، فصار الجيش التركي جزءا من المخلب الغربي يحارب في أفغانستان ويقدم التسهيلات لاحتلال العراق.

عُرِفت تركيا بأنها "بلد انقلاب كل عشر سنوات"، لقد ظل الجيش التركي يقدس العلمانية ويحميها ويعطي لنفسه حق الانقلاب على السلطة المدنية كلما بدا له أنها تنحرف عن طريق العلمانية، ومن خلف الجيش تقف مؤسسات الإعلام والقضاء تمنح الغطاء والتبرير الجمعي والفكري والقانوني لإجراءات الجيش.

وبعد عشر سنوات من الإصلاحات الأردوغانية التي ووجهت بعقبات قاسية ما يزال الشوط واسعا بين الواقع وبين استقلال الإرادة التركية وعودة الأتراك إلى دينهم وهويتهم ومجدهم الأول.

***

الجزائر

"يريدون استقلال الجزائر؟ حسنا، سنعطيهم إياها ثم نستردها بعد ثلاثين سنة" – شارل ديجول

مأساة الجزائر نموذج يختصر مآسي العرب، الإسلاميون يجاهدون الاحتلال ببسالة منقطعة النظير لكنهم يفشلون في حصاد ثمرة جهادهم التي تسقط في أيدي عملاء الاحتلال ورجاله الذين هيأهم لوراثة البلاد من بعده، فيكونون أخطر أثرا على بلادهم من الاحتلال نفسه، إذ يرتكبون من الجرائم ما لم يستطعه الاحتلال لكن باسم الحفاظ على الثورة والاستقلال والتحرر الوطني!

تحررت الجزائر من فرنسا، لكنها عاشت السنوات العجاف تحت حكم هواري بومدين ثم الشاذلي بن جديد حتى انفجر الناس من سوء الأوضاع فيما عُرِف بمظاهرات الخبز (1988)، فاضطر الشاذلي بن جديد إلى إجراء إصلاحات سياسية لاحتواء الوضع، كان أهمها: إنهاء سياسة الحزب الواحد وحرية تشكيل الأحزاب، وأعلن عن إجراء انتخابات بلدية (1988) ثم برلمانية (1989).

اكتسح الإسلاميون انتخابات البلدية في مفاجأة زلزلت الجميع بما فيها الإسلاميون أنفسهم، وبدأ الفائزون في إصلاحات كبيرة وخدمات اجتماعية واسعة من خلال مناصبهم في البلدية بما أظهر الفارق الكبير بينهم وبين من سبقهم وبما هيأ الجميع لتوقع فوز أكبر بكثير في الانتخابات البرلمانية القادمة، فوضعت السلطة قانون انتخابات مفصل لتعويق نجاح الإسلاميين لكنهم برغم ذلك فازوا باكتساح في الجولة الأولى من انتخابات البرلمان.

وهنا حدث الانقلاب العسكري المشؤوم قطعا للطريق على وصول الإسلاميين للحكم، وبدأت الحملة المكثفة للاعتقالات الواسعة في صفوف الإسلاميين وقياداتهم، وسحق كل أوجه الاحتجاج على الانقلاب العسكري، ووُضِع الإسلاميون في خانة الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم فحملت بعض فصائلهم السلاح ضد هذا الغدر، وبدأت حرب عالمية مصغرة قوامها الجيش المسلح المدعوم من الغرب والشرق ضد هذه المجموعات الصغيرة المتناثرة، ووضعت المخابرات العالمية خلاصات تجاربها في القضاء على الإسلاميين في الجزائر، فكانت المذابح الهائلة ترتكبها قوات الجيش الجزائري ثم يقوم الإعلام بنسبتها للإسلاميين وشيطنتهم، وجرى اختراق مخابراتي خطير للجهاديين المتعصبين في الجزائر فكانوا أضرَّ على أنفسهم من أعدائهم.

بلغ الضحايا حوالي ربع مليون جزائري (في بلد تعدادها حوالي 26 مليون) وعدد غير معروف من المفقودين، واستقر حكم العسكر في الجزائر.. فإلى أين وصلت؟!

الجزائر الآن هي المركز الإقليمي لأجهزة المخابرات الأمريكية في مكافحة "الإرهاب" (اللقب الغربي للإسلام)، تحكمها العسكرية العلمانية التي تتغزل في فرنسا وتنسلخ من الإسلام، وقد وصل الأمر حدا خطيرا يؤشر له فِكْر وزيرة الثقافة الجزائرية التي قالت[2] بأن "الصلاة أكبر إهانة للإنسان.. لا أؤمن بالزواج.. وأتأسف على الأموال التي تضيع في سبيل الحج، وكان الأولى أن تبنى بها قاعات سينما!!"، ناهيك عن الاستبداد العام الذي يرزح تحت الجزائريون والذي لم يجد حرجا في إجراء استفتاء لتعديل دستوري يجعل الرئيس حاكما إلى آخر عمره، ولم يشك أحد في أن التعديل سيمضي ويُعمل به، وقد كان! وتحتل الجزائر الآن المركز 112 من بين 183 دولة على مستوى العالم في تقرير الشفافية.

وكما حاولت السلطة في تركيا مسح القوميات فزادت الأزمات وانفجرت في وجهها مشكلة الأكراد، فعلت السلطة في الجزائر ذات السياسة وتنفجر في وجهها بين الحين والآخر مشكلة الأمازيغ، وكم تكون المطالب العادلة مع السياسة الفاشلة مدخلا لمزيد من الهيمنة والتدخل الخارجي مع التأزم والغليان الداخلي.

ولئن كانت تركيا تشهد أملا، فإن الجزائر ما تزال بعيدة عن هذا الأمل.

***

باكستان

ربما تكون باكستان صاحبة الحظ الأوفر في "تبرير" الهيمنة العسكرية على الحياة، ذلك أنها منذ ولادتها نشأت في أجواء حربية أفضت إلى استقلالها عن الهند (1947) ثم عملت المؤامرات على تقسيمها، فانفصلت عنها بنجلاديش (1971)، وكشمير التي خاضت من أجلها ثلاثة حروب (1948، 1965، 1971) ولا يزال التوتر الكشميري مستمرا، وقربها –الذي يبلغ المشاركة- في الحرب السوفيتة على أفغانستان (1979 - 1989)، ثم ما تعانيه أحيانا من التوترات الداخلية، فبسبب من كل هذا يستمد العسكر هناك مبرر وجودهم وهيمنتهم، في مشهد شبيه بزمن الحروب الصليبية التي أخرجت الطبقات العسكرية في العالم الإسلامي –من سلاجقة وزنكيين وأيوبيين ومماليك- لتكون هي الطبقات الحاكمة.

لكن عسكر "الدولة الحديثة" ذوي الهوي العلماني ليسوا كعسكر الدولة الإسلامية الذين لا ولاء لهم إلا لأمتهم، فلئن اجتمع العسكران في طبائع الاستبداد والفشل في الإدارة المدنية والحضارية فإن العسكر الأولين –في العموم- بطشهم على الأمة وإن أصاب عدوها منهم ضرر، بينما العسكر الآخرين –في العموم- بطشهم على عدوهم وإن أصاب الأمة منهم ضرر.

على أن هذا "التبرير" وإن كان له وجه نظريٌ إلا أنه كاذب عمليا، فهذه الهند –قسيمة باكستان وعدوتها- يحكمها المدنيون برغم ذات الظروف الأمنية وذات الطبيعة الجغرافية والسكانية والعرقية والمذهبية، وقد حقق المدنيون في الهند لبلادهم ما لا يقارن بما صنعه العسكر الباكستان.

مشكلة العسكر في باكستان وإن كانت لها جذور تمتد إلى السياسة البريطانية وأجواء الاستقلال المرتبكة، إلا أن صلب الأزمة حين يرى الجنرال العسكري نفسه صاحب الحق في تحديد مصلحة البلاد ووجهتها، ثم يُنفِذ إرادته قهرا بالسلاح، حينئد لا تعود ثمة فائدة لانتخابات طالما أن إرادة الجنرال تعلو فوق إرادة الناس وتلغيها، وقد بدأ هذا منذ تدخل أيوب خان (1951) ثم استيلائه على السلطة (1958) فعاشت باكستان عشرية تحت الأحكام العرفية، ولما أجريت انتخابات (1970) رفض الجنرال يحيى خان فوز رابطة الشيخ مجيب الرحمن، فاندلعت انتفاضة قُهِرت بالسلاح وانفصلت فيها بنجلاديش بدعم هندي، وفيما كان ذو الفقار علي بوتو من الرافضين لهذا الفوز الانتخابي –مع الجنرال يحيى- فإنه وجد بعد سنين جنرالا آخر ينقلب عليه هو ضياء الحق، ضياء الحق هذا اغتالته أمريكا (1988) لما مثله من خطر على سياستها، ومن بعده ظل العسكر في خلفية المشهد حتى عادوا بانقلاب عسكري قاده برفيز مشرف (1997) فكانت باكستان في عهده مستباحة حتى تنحى (2008).

منذ أيوب خان وحتى مشرف كان همّ العسكر منقسما إلى: السيطرة على الشعب في الداخل ومدّ التحالفات في الخارج، وفي ظل عقلية عسكرية لا تكون السيطرة إلا بالقهر والعنف الذي يولد مشكلات تجر إلى مزيد من القهر والعنف ثم تجر أيضا إلى تدخلات خارجية عدائية تزيد المشكلات أو صديقة تزيد من فرص الهيمنة.

وبرغم هذه العسكرة فإن المفاجأة التي قد تصدم القارئ أن باكستان خسرت جميع الحروب! ما كسبته فقط هو قمع الانتفاضات الشعبية!!

كانت باكستان حلما للمسلمين جميعا، ولما استطاعت إنتاج قنبلة نووية اعتبرها المسلمون "القنبلة النووية الإسلامية"، فإلام انتهت باكستان؟

انتهت إلى أن صارت مركزا حربيا للأمريكان، ليس فقط للانطلاق والدعم في غزة وقتل الشعب الأفغاني المسلم بل صارت السماء الباكستانية مسرحا للطائرات الأمريكية لتقصف أهدافا داخل باكستان نفسها، ولم يعد الجيش الباكستاني يفكر في مواجهة الأعداء ولا تحرير كشمير ولا تطوير قدراته القتالية ليمثل رادعا لطموحات الهند، بل صار همّه تعقب المقاتلين من طالبان والقاعدة في أفغانستان وباكستان، صار جيشا لـ "مكافحة الإرهاب" لا لحماية البلاد، وحتى تلك القنبلة النووية التي طرب لها المسلمون تحولت من نقطة قوة إلى نقطة ضعف، إذ برر العسكر الباكستان تحالفهم مع الأمريكان والخضوع لهم بأنه لأجل "الحفاظ على باكستان، والحفاظ على القنبلة النووية"!!

***

خاتمة

من يطالع الفقه والتاريخ يعرف أن الإسلام مدني بطبعه، وهذا فوق كونه يجعل الإمارة شورى ولا يُقِرُّ بشرعية اغتصاب السلطة، ومما يزيد الحسرة أن يكون هذا واضحا لمستشرق مثل جوستاف جرونيباوم –مع ما لدينا على إنتاجه ملاحظات وتحفظات- ولا يكون ظاهرا للمسلمين أنفسهم، يقول: "كثيرا ما تولى الجند -بوصفهم طائفة- حكم الدولة الإسلامية، ولكن هذه السيادة الواقعية (غير الشرعية) لم تغير بأي حال «الإجماع» المنعقد على أن رئاسة الدولة وظيفة مدنية ... ومهما يُكْثر الخلفاء من تولي الإمرة على جنده بشخصه، ومهما يكثر الشعراء من التغني بشجاعته، فإنه لم يكن إلا موظفا مدنيا أولا، وجنديا حين تلم المُلِمَّات. وصور الإنسانية المثالية التي هي من خواص الحضارة الإسلامية إنما تتمثل شخصية غير عسكرية وإن واصل القوم استحسان الفضائل العسكرية".



[1] بلغ التدخل في التفاصيل حد أن تقريرا بتاريخ فبراير 2006 للجنة أوروبية طالب تركيا بإجراء 48 تغييرا في أسلوب العمل بالمحاكم منها: ألا تكون منصة الادعاء في نفس مستوى منصة القضاء، وأن تخرج مكاتب المدعين من مبنى المحكمة، وألا يدخل المدعون من نفس الباب الذي يدخل منه القضاة، وأن يظلوا في القاعة إلى ما بعد خروج القضاة لفترة من الوقت.
[2] في كتاب صدر عنها عنوانه "خليدة مسعودي جزائرية واقفة"، للصحافية الفرنسية إليزابيث شملا.