الأحد، يناير 31، 2021

البلاء الشديد والميلاد الجديد: أربعة عشر عاما في جوانتانامو





أنهيتُ أخيرا كتاب "البلاء الشديد والميلاد الجديد" للأسير السابق في جوانتانامو فايز الكندري.. ليأخذ هذا الكتاب موضعه ضمن أفضل الكتب التي قرأتُها في حياتي على الإطلاق، وليتربع على عرش الكتب التي قرأتها في أدب السجون..
وإذا كنتُ الآن مُقْدِمًا على كتابة شيء عنه، فاعلم أخي القارئ أن الكاتب يُحْسِن التعبير عن المعاني التي أمسكها وقبض على زمامها، وأما المعاني التي تغمره وتحاصره فليس يحسن وصفها، بل يتيه ويتلعثم ويتلجلج، يحاول التنفيس عن نفسه أكثر مما يحاول تقديم الثمر إلى غيره.. وإن حالي مع هذا الكتاب كحال هذا الغريق الذي هاجمته المعاني من أقطارها فلم يحر سبيلا.

قد اجتمع في هذا الكتاب ما تفرق في غيره.. ودعني أقرب لك الصورة..

يحتفي الناس بكتاب ابن تيمية "درء التعارض بين العقل والنقل" لأنه سدَّ ثغرة فارغة، بين منهج السلف والالتزام بالنص وبين طريقة الفلاسفة وتسليط المنهج الفلسفي على النص، فهو -أي الكتاب- ردٌّ أثري على الطرح الفلسفي، حيث ثَوَّر ابن تيمية نصوص القرآن ليهدم بها بناء الفلسفة الذي بدا برّاقًا وخدَّاعًا حتى استلب عددا من فضلاء المسلمين فصاروا ينصرون الدين بمنطق الفلسفة ومنهجها.

ويحتفي الناس بكتاب ابن القيم "مدارج السالكين" لأنه سدَّ ثغرة فارغة بين الروحانية الصوفية التي تنزع إلى الشطحات وتتفلت من الأحكام وتتذرع لنفسها بالنصوص الضعيفة، وبين الجفاف الفقهي والصرامة الحديثية التي تصنع عقلا عظيما لكنه أشبه بالمحامي والخبير القانوني الذي يفتقد إلى روحانية العابدين.. فجاء هذا الكتاب ليكون هو الأمنية، كما يقول رشيد رضا!

ويحتفي الناس بكتاب سيد قطب "في ظلال القرآن"، وذلك أنه التفسير الذي قصد إلى بيان هداية القرآن والتعمق في معانيه وتوجيهاته وإرشاداته، وقد جاء بعد زمن طويل من تفاسير عديدة تهتم في القرآن بالنحو واللغة والبلاغة والأحكام الفقهية والجدل العقدي.. وكل هذا مهمٌّ في بيئة لا يتهدد فيها الإسلام نفسُه، أما وقد تهدد الإسلام بين أبنائه فما كان أشد حاجتهم إلى تفسير يُجَلِّي لهم معاني القرآن وهدايته وتفوقه وسموه على مناهج الأرض. وهو الأمر الذي رامه قبل ذلك محمد عبده ثم رشيد رضا ولكن لم يُقَدَّر لهما أن يكملاه، فبلغ الأمر تمامه على يد الشهيد سيد قطب رحمه الله.

وهذا الكتاب "البلاء الشديد والميلاد الجديد" يستحق أن يوضع في ذات المكانة بين كتب المذكرات وأدب السجون.. فقد اجتمع فيه ما تفرق في غيره!

1. اجتمع فيه أن كاتبه داعية إسلامي، يحسن التعبير عن الإسلام والدفاع عن قضيته وبيان محاسنه.. ولو أنك نظرتَ إلى كتب أدب السجون في عالمنا العربي لوجدتَ عجبا، إن الأغلبية الساحقة من نزلاء السجون هم من الدعاة والإسلاميين، ولكن أقل القليل منهم هو الذي كتب تجربته في السجن!

فلو أنك نظرت إلى كتب أدب السجون لانطبع في ذهنك أن أغلب الذين ذاقوا السجن كانوا من اليساريين والشيوعيين والمتهمين في انقلابات عسكرية فاشلة.

لقد كان الإسلاميون أكثر المسجونين، وأقلَّ الرواة لتجربتهم.. بعض هذا لزهدهم في الكتابة والرواية وبعضه لأن الظرف الأمني والسياسي لم يكن ليسمح بهذا.

2. وحتى الذين كتبوا تجربتهم من أولئك الإسلاميين، قد ندر فيهم من كتبها بقلمٍ بليغ وأسلوب بديع.. لقد جاء أغلب هذا كتابة خبرية تقريرية توثيقية.. بعض هذا لقلة الاهتمام بالأسلوب، وبعضه لأن الظرف الأمني والسياسي كان يناهض روايتهم فكانوا يكتبونها كإثبات وتوثيق أكثر من كتابتها لغرض الإفادة والتوجيه.

لقد اجتمع في هذا الكتاب عقل الداعية المسلم الذكي، مع القلم الأديب البليغ حسن البيان.. لقد كان المؤلف ذا علم غزير وذا بيان جميل، ولا يُزاحم كثرة المعاني الذكية الفائقة في كتابه إلا كثرة التشبيهات البديعة والعبارات الرائقة.

3. لم يكن جوانتانامو سجنا وحشيا كما هو حال السجون في الصين وروسيا والعراق وسوريا ومصر والأردن والمغرب.. لم تكن محنته في التقطيع والتعليق والسلخ وهتك الأعراض.. كان توحش هذا السجن توحشا على الطريقة الحديثة، على طريقة الحضارة الغربية.. إنه السجن الذي لا يسمح لك بالموت شهيدا في سبيل الله، بل يحاول أن يسلب إيمانك من قلبك، ويسيطر على مراكز التفكير في عقلك، ونقاط المشاعر في نفسك!

سجن أنشأه علماء نفس، لا لكسر العدو، بل "لترويضه".. سجنٌ يريد منك أن تتوب إلى الغرب وتقف باكيا على أعتابه، مؤمنا بأنك قد أخطأت في حقه، معترفا وموقنا في قرارة نفسك بأنك ارتكبت إثما عظيما حين فكرت في مقاومته، بل حين فكرت في إغاثة من سحقهم هو بيده!

لذلك اجتمع في جوانتانامو من قاومهم، ومن ذهب إلى الإغاثة، ومن ظل على الحدود يغيث من بعيد..

ولئن كان الأسير في السجون الوحشية على الطريقة الشرقية والعربية لا يجد له ملجأ إلا الإيمان، رغبا أو رهبا، حبا أو اضطرارا، فإن سجين الحضارة الغربية يوضع إيمانه على المحكّ!!

ولقد نجحوا أحيانا.. في هذا الكتاب ترى مسلمين قد ارتدوا، ومزقوا المصاحف بأيديهم، وترى من كان مجا هد ا في الصفوف الأولى يوما قد عمل جاسوسا على إخوانه، وترى من كان يصوم النهار ويقوم الليل وقد تطوع ليوقع غيره في المشكلات إرضاء للأمريكان!!

هنا ترى زلزلة النفس، وانقلابها، وتقلبها بين السمو والدُنُوّ، بين السموق والسفول..

نجحوا أحيانا، وفشلوا كثيرا.. تاجر المخدرات الذي سيق إلى جوانتانامو بالخطأ فأشرقت روحه فانقلب حاله، وآخر فضَّل البقاء في جوانتانامو على أن يُفرج عنه ليذهب إلى أوروبا خشية الفتنة، يوسف جديد يقول (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)، وآخر قد بلغ الغاية من النحافة والنحول والهزال ولكن همَّته أعجزتهم فكان يبلغ منهم وهو في أسره وضعفه ما جعلهم يندفعون إلى قتله والتخلص منه! وآخر قد خرج من جوانتانامو فصار مفاوضا للأمريكان ضمن وفد طالبان! وآخر قد خرج منه فعاد لمواجتهم مرة أخرى حتى قضى نحبه!!!

بل انقلب عليهم الأمر أحيانا أخرى، لقد أسلم عدد من الجنود الأمريكان بعدما رأى الإسلام يشع من هؤلاء الأسرى! ووقف المحققون معجبون أو متحيرون من صلابة هؤلاء واجتماعهم على غير أرحام ولا أنساب!!

4. ألم أقل لك قد اجتمع في هذا الكتاب ما تفرق في غيره؟!.. إذا كنت قد قرأت شيئا عن مآسي السجون المصرية أو السورية أو المغربية ... فهنا في جوانتانامو جاءك المصري والمغربي واليمني والسعودي والأفغاني والتركستاني والموريتاني.. أمة واحدة في سجن واحد!!

انتظر انتظر.. قد جاءك أيضا آخرون، قد جاءتك وفودٌ أمنية من البلاد العربية لتحقق مع المعتقلين.. سترى في هذا الكتاب قصة الوفد الأمني المصري، وقصة وفد أمني كويتي، وقصة وفد صيني، وقصة وفود أخرى لم يشأ المؤلف أن يُعَيِّنَها..

قد اجتمع في جوانتانامو خلاصة الظلم، وخلاصة المظلومين، قد نطق جوانتانامو عن نفسه بأنه ساحة المعركة الحضارية العالمية، حين يأتي مصري ومصري، بعضهم أسير وبعضهم يحقق معه، على الأرض الكوبية التي احتلها الأمريكان.. هل كان بوسع أحد أن يُلَخِّص حقيقة ما يحدث في هذا العالم أبلغ وأخصر وأوجز من أن يضع لك هذه الصورة؟!

5. كنتُ في منشور سابق، سأضع لك رابطه في نهاية هذا المقال، قد ذكرتُ أن من فوائد القراءة في أدب السجون أن تتعلم منها طبائع النفس والجماعات بأسلوب بسيط ومفهوم ومَحْكِيّ بدلا من كتب علوم النفس والاجتماع التي تمزق طبيعة المأساة الإنسانية لتحقق انسجامها التصنيفي الدراسي الصفيق الغليظ..

في هذا الكتاب أبدع المؤلف في وصف مشاعر النفس وتأملاتها ومآزقها ومحنها.. إنها أربعة عشر عاما في جوانتانامو.. حيث اليوم الواحد مزدحم بالمآسي فكيف بالأعوام الطويلة!

كذلك أبدع في وصف مجتمع المقهورين، وما ينشأ بينهم من الروابط، ثم ما ينشأ بينهم وبين سجانيهم وجلاديهم من العلاقات، وكذلك مجتمع الجلادين والسجانين.. دفقة قوية في علم الاجتماع تأخذها عمليا من حكاية جوانتانامو.

ولأن المؤلف -حفظه الله- على قدر عال من العلم والفقه في الدين فقد كانت تأملاته ومواقفه مربوطة دائما بالقرآن والسنة وقصص الأنبياء والصالحين.. وبهذا اجتمعت المعاني التربوية العميقة بالتأملات النفسية واليوميات الجماعية.. لم أر أحدا من قبل استطاع أن يبلغ هذا المستوى!

ولأن المؤلف قصد إلى بيان الحقيقة، فإن الواقع يظهر في هذا الكتاب كما هو، يظهر معقدا ومربكا ومستعصيا على القوانين والمعادلات البسيطة.. فليس كل مظلوم بطلا ولا كل ظالم فاجرا، ولا كل من عرف الحق اتبعه، ولا كل من جهل الحق أنكره، ولا كل الذين خاضوا اختبارا عسيرا فجازوه بنجاح استطاعوا أن يجتازوا بقية الاختبارات!!

6. بقي أن ترى في هذا الكتاب طبيعة العدالة الأمريكية، وطبيعة الحضارة الغربية، وطبيعة الحكومات العربية والإسلامية.

ستراها في غرائب المعتقل وعجائبه، حين يأتي محقق ويقول للأسير: لقد اكتشفنا -بعد عشر سنوات- أنك برئ فعلا وأنك ذهبت إلى الإغاثة، ولكن هذا لن يغير من حالك شيئا!

حين يُسَلِّم العملاء تاجر مخدرات باعتباره مسؤولا ماليا خطيرا لطا لبا ن، رغبة في الجائزة الأمريكية، فيكتشف الأمريكان هذا، ولكنهم لا يفكرون في الإفراج عنه بل يفكرون في تشغيله كجاسوس على بقية الأسرى.

حين يأتي جون ماكين إلى المعتقل، ويبدي تعاطفه معهم، ثم يذهب إلى الكونجرس ليعارض إغلاقه!

القصص كثيرة.. امتدَّ بها الكتاب حتى جاوز خمسمائة صفحة ضيقة السطور!!

7. لو كان لي من الأمر شيء، لفرضتُ تدريس هذا الكتاب على سائر المحاضن التربوية وسائر المجموعات الدراسية.. فقد اجتمع فيه ما يُغني عن الكثير جدا جدا من غيره!

إنه كتاب عظيم حقا.. أسأل الله أن يحفظ مؤلفه وأن يحفظ عليه دينه وأن ينفع به وأن يختم له بالحسني.

وأسأله تعالى أن يجيرنا وإياكم من الضعف والذل، ومن القهر والأسر، وأن يبلغنا أيام العزة والنصر!

اقرأ: كلمة في أدب السجون:
https://www.facebook.com/mohammad.elhamy/posts/10155869115796615
https://t.me/melhamy/2066

الأحد، يناير 10، 2021

هل حقا حققت الديمقراطة هدف التداول السلمي للسلطة؟

قيمة اللحظات الاستثنائية والفارقة أنها تيسر فهم الأمور التي تبدو عسيرة وخيالية حين كانت تُنَاقَش نظريا..

ومن أهم ما حدث في أيامنا هذه، أحداث اقتحام أنصار ترمب للكونجرس، وحجب حسابات ترمب من منصات التواصل الاجتماعي، ثم مغادرته للبيت الأبيض (هذا إن غادره ولم يكن عنده جديد :) ).

ومن بين أشياء كثيرة تستحق التوقف، دعونا نتوقف عند موضوع التداول السلمي للسلطة.

مما هو معروف أن من أصول النموذج الديمقراطي الحديث تداول السلطة سلميا، ويُعَدُّ هذا من أكثر الأمور المبهرة -إن لم يكن أكثرها- في هذا النموذج، ذلك أنه يحقق عددا من الفوائد، أهمها:

- ألا يطول مقام الرئيس في الرئاسة، فينحو به إلى الاستبداد

- أن يتغير الرئيس دون أن يصاحب ذلك حروب أهلية أو معارك دامية أو فترة من الفوضى والاضطراب السياسي والإداري والاجتماعي

يعتمد تحقق هذا النموذج على قوة المؤسسات، بمعنى أن تكون مؤسسات الدولة أقوى من الرئيس، فلا يفكر هو في احتوائها وتسخيرها لمصالحه، ويخشى أنه إذا لم يلتزم بالقانون والدستور والتقاليد فإن هذه المؤسسات لن تطيعه، بل هي التي تخلعه أو تعاقبه.

كما يعتمد على احترافية هذه المؤسسات، بحيث تطيع الرئيس وتخضع له طالما أنه في إطار الدستور والقانون، وتعصيه وتخلعه إذا خرج عن هذا القانون والدستور.

وبهذا تتحقق الإرادة الشعبية، فهو الرئيس المُطاع الذي تُنَفَّذ سياستُه عبر المؤسسات طالما كان منتخبا.. وهو نفسه الرئيس المخلوع والمطرود طالما جاءت الانتخابات بغيره.

إذن، وصلنا إلى كلمة السر: "المؤسسات"..

المؤسسات يجب أن تكون أقوى من الرئيس، ويجب أن تكون مؤسسات محترفة، تعرف متى تخضع وتطيع، ومتى تعصي وتتأبى.

لكن، ثمة ثغرات خطيرة كامنة في هذا النموذج، من أهمها: أن هذه المؤسسات ليست آلات جامدة، ليست أجهزة كمبيوتر، هي في النهاية بشر، وهؤلاء البشر لهم مصالحهم ورغباتهم وطموحاتهم وتحالفاتهم.. فلا يمكن الحديث عن ملائكة منزهين.. وساعتها يكمن الخطر في هؤلاء الذين يستطيعون -باسم الدولة- تحقيق رغباتهم عبر جهاز الدولة.

كذلك فإن هذه المؤسسات يديرها بشرٌ غير منتخبين، بل وصلوا إليها في ظروف متعددة، كمسار دراسي وارتقاء وظيفي طبيعي، أو من خلال خبرات معينة احتيج إليها في لحظات معينة، أو من خلال استحداث أقسام جديدة أو أجهزة جديدة... إلخ!

وغيرُ المنتخبين -هؤلاء- هم من خلال مجموعهم وشبكات علاقاتهم أقوى من الرئيس المنتخب.. بل يجب أن يكونوا هكذا لتكون المؤسسات أقوى من الرئيس!

[نفتح هنا هامشا لنستطرد ونحكي بعض الحكايات، على الأقل لنخفف الثقل النظري للكلام:

في زمن أسرة محمد علي ثم الاحتلال الإنجليزي، كانت السيطرة الأجنبية على مصر تجري عبر موظف نافذ في الوزارة، اسمه "مستشار الوزير" ولكنه هو الآمر الناهي على الحقيقة، ولا يستطيع الوزير أن يخالف عن أمره. وربما يتغير الوزراء مع الانتخابات أو مع تغير مزاج الملك أو مزاج المندوب السامي، ولكن لا يتغير المستشار، ومن ثَمَّ لا تتغير السياسة الفعلية للوزارة.

هذه البيروقراطية (لفظ يكافي لفظ المؤسسات، إلا أنه صار أثقل وأسوأ دلالة) هي جهاز الدولة الحقيقي، الذي لا ينفذ إليه المنتخبون، بل هو الجهاز الذي يستطيع التهام المُنْتَخَبين في دهاليزه.

أخبرني يحيى موسى يوما، وهو المتحدث باسم وزارة الصحة في عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي، أنهم حاولوا يوما تتبع النظام المالي للوزارة، فوجدوه ينتهي عند لواء عسكري في مكتب بعيد عن الأضواء يحمل اسم "مساعد وزير الصحة للشؤون المالية"، فهذا هو قلب الدائرة المالية.. فربما أمر الوزير بصرف مبلغ ما، ولكن المساعد يتعلل بأن الميزانية لا تسمح.. وهكذا يكون هذا "المساعد" هو الوزير فوق الوزير، مهما كان الوزير قد جاء إلى موقعه هذا ضمن حكومة منتخبة!!

وهذا المنصب يتداوله العسكريون كابرا عن كابر، لواءا عن لواء، ولعلكم تذكرون أن الفرح الذي حضرته وزيرة الصحة المصرية حاليا هالة زايد، وكان مخالفا لكل إجراءات ومحاذير وزارة الصحة، إنما كان فرح ابنة هذا اللواء العسكري "مساعد وزير الصحة للشؤون المالية".

وفي مذكرات روبرت جيتس -رئيس المخابرات الأمريكية الأسبق، ووزير الدفاع الأسبق- فصلٌ عن أهمية أن يحذر الوزير من أن يلتهمه الإداريون، إذ إن عدد التوقيعات والاجتماعات وجداول الأعمال كفيلة بالتهام كل الطاقة، حتى لا يعود ممكنا النظر في سياسة الوزارة وفي خططها القادمة وفي تطوير عملها.. وله في هذا نصائح مفيدة لأي صاحب عمل.

وقد ذكَّرني هذا الفصل بما رواه صديقٌ قديمٌ، كان مقربا من وزير في عهد مبارك، قال: كان الوزير يقضي طول اليوم في التوقيع على أوراق ترد إليه، ولم يكن يجد وقتا ليفعل شيئا.

ولعل من قرأ رواية نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" سيكون قد فهم كيف يكون منصب وكيل الوزارة أهم من منصب الوزير، فالوزير يتغير والوكيل الذي يدير دولاب الوزراة ويعرف دهاليزها لا يتغير، ولهذا فهو عمليا يتحكم في الوزير. وقد تعرضت روايات وأفلام أخرى لهذه الفكرة، ولكن أحسبني سأكتسب إثما لو أشرت إليها.

نكتفي بهذا القدر من الحكايات :) ونعود للكلام الثقيل]

وبهذا أفرزت لنا فكرة "تداول السلطة" المبهرة، فكرة أخرى مظلمة كانت تختبئ خلفها.. الفكرة التي صارت تُعرف فيما بعد باسم "الدولة العميقة"!

الدولة العميقة هي الهيئات والشخصيات غير المنتخبة التي تستطيع التهام الشخصيات المنتخبة، أو تستطيع احتواءها وتطويعها، أو تستطيع الانقلاب عليها والإطاحة بها.

خلف كل قصة انقلاب على حاكم منتخب، أو إفشال لحاكم منتخب، أو تطويع وتركيع لحاكم منتخب، توجد قصة دولة عميقة غير منتخبة، استعملت جهاز الدولة وقوة المؤسسات ضد إرادة الشعب.

يبدو هذا واضحا للغاية في مجتمعاتنا نحن، حيث تتصل الحبال والعلاقات بين أجهزة المخابرات الأمريكية وبين العاملين في الجيوش والمخابرات والشرطة.. وحيث تتصل الحبال بين الشركات العالمية وبين العالمين في مؤسسات الصحة والتموين والري... إلخ!

فإذا حانت لنا فرصة ننتخب فيها رئيسا، وجد الرئيسُ نفسَه في حال عجيبة! تحكمه المؤسسات ولا يحكمها، فإما أن ينطاع لها ويدخل في دهليزها فيكون قد خان أمانته وخان قومه، وإما أن تنقلب عليه وتعرقله وتلقيه في السجن أو تعلقه على المشنقة.

لكن هذه الصورة الواضحة عندنا، تكون خافتة وغامضة في الدول الغربية، وفي أمريكا طبعا.. هناك حيث لا قوى خارجية يمكنها أن تنسج حبالها -من موضع الضغط والتأثير- مع المؤسسات للعمل على تغيير السياسة وتغيير الفريق المنتخب.

إذا تصورنا وجود قوة خارجية دبَّرت لاقتحام الكونجرس، ضمن عملية مستمرة لإبقاء ترمب في الرئاسة، فمن المؤكد أن الأمر لن تكون نهايته بعد ساعة أو بعض الساعة، بل ستكون النهاية على الطريقة المصرية ( #رابعة ) أو الطريقة التركية (محاولة الانقلاب الفاشل) أو غيرها.

تمثل البيروقراطية مشكلة حقيقية في النموذج الديمقراطي، وتناقشها دراسات العلوم السياسية في الغرب، ولكن من الطبيعي ألا يصل هذا النقاش إلينا، فنحن في قعر الطغيان والديكتاتورية، فكيف لجائعٍ أن يتأمل في عيوب شطيرة البرجر الشهية؟!

لكن المهم هنا هو أن نتوقف عند هذا المشهد الفارق: إن مشهد تداول السلطة بقدر ما يبدو مبهرا، بقدر ما يبدو خادعا ومراوغا!

إن الرئيس الذي يختاره الشعب يأتي ويذهب، ولكن الذين يتحكمون في التفاصيل هم الذين لا يأتي بهم أحد ولا يذهبون مع اختلاف الرؤساء.

أولئك الذين يسكنون أجهزة الأمن والجيش والقضاء ويديرون المؤسسات هم الحُكَّام على الحقيقة، لا أولئك الذين اختارهم الناس عبر الصناديق..

وبهذا يطرح السؤال نفسه: هل حقق النموذج الديمقراطي حقا هدف "التداول السلمي للسلطة"؟! أم أنها منحت الشعب حق اختيار "موظف الاستقبال" وتغييره؟!

كل ما سبق إنما هو من حيث البناء الداخلي لمؤسسات الدولة..

بقي أمر آخر لا يقل خطورة ولا قوة.. وهو خارجي عن هيكل الدولة.. أولئك هم رجال الأعمال، القوة المالية الهائلة، الشركات الكبرى..

هؤلاء الذين يستطيعون من خلال قوتهم المالية لا مجرد النفاذ إلى مؤسسات الدولة ومداعبة طموحات وغرائز وأطماع البشر الذين يديرونها.. بل يستطيعون التلاعب بالنظام نفسه!

الأموال هي الي يعتمد عليها المرشحون في بناء شعبيتهم وإقامة حملاتهم الدعائية، وهي التي تنشئ القنوات والصحف حيث تُصْنَع الرغبات الشعبية وتُوَزَّع الاتهامات وتقام الحملات السوداء لتشويه الخصوم.

بالأموال يكون المرشح الرئاسي أو البرلماني أسيرا، لا يستطيع مصادمة الأموال في دولة تعتمد على الرأسمالية، بل يجب عليه أن يكون حريصا على مصالحهم ومعبرا عنها.. وإلا لقي عقابه المحتوم في دورة الانتخابات القادمة!

تشكيل القوانين يجري على يد أعضاء البرلمان الذين وصلوا إلى هذا الموقع عبر القوة المالية، هل يستطيع أحدهم أن يكافح لإصدار قانون يخصم من قوة حيتان المال ليناصر العمال والضعفاء والفقراء؟!

لهذا عرَّف بعضهم الديمقراطية بأنها قدرة الأقلية النافذة على استغلال الأكثرية للوصول إلى التمكين بطريقة أنيقة. وفي هذا ألَّف صحافي أمريكي كتابا بعنوان "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها"!

هذه القوى المالية التي تتحكم بالدولة، ليسوا منتخبين!

إنهم جزء لا يتجزأ من "الدولة العميقة" التي تحكم على الحقيقة!

منصات الفيس بوك وتويتر وانستجرام، هي نسخة محدثة من القنوات التلفازية والصحف..

ترمب، وهو رئيس أكبر دولة في العالم، ويتربع على عرش أضخم قوة في التاريخ، كان يلجأ إلى تويتر ليعبر عن موقفه حين تستعصي عليه وسائل الإعلام.. وفي الأيام الأخيرة حذف تويتر حسابه!!!

من الحاكم هنا؟ ومن المحكوم؟!

سيُقال: من حق تويتر، كما هو من حق أي قناة أو نافذة، أن تفعل ما تشاء، وأن تكون لها قوانينها الحاكمة للنشر.

وأقول: ليس عن هذا أتكلم.. ولا هذا هو الموضوع!

الموضوع هنا ببساطة: إلى أي حد يكون لأصوات الناس واختيارهم قيمة في عالم يتحكم فيه غير المنتخبين؟!

لماذا نستهلك طاقتنا في متابعة مسرحيات التشريع والتنفيذ والقضاء المتعلقة بالسلطة، إذا كنا في عالم الشركات الكبرى، وإذا كانت كل شركة تستطيع بقوتها المالية أن تمارس في نفس الوقت السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، فهي التي تحدد لوائحها، وهي التي تقضي بما يخالف وما يوافق، وهي التي تنفذ الحجب والحذف والحظر والتقييد؟!

ثم نختم بالسؤال نفسه: هل حققت الديمقراطية فعلا هدف "التداول السلمي للسلطة"؟!

السبت، يناير 09، 2021

المؤسسات: كيف اختبأت الديكتاتورية في الدولة الديمقراطية؟

 

قيمة اللحظات الاستثنائية والفارقة أنها تيسر فهم الأمور التي تبدو عسيرة وخيالية حين كانت تُنَاقَش نظريا..

ومن أهم ما حدث في أيامنا هذه، أحداث اقتحام أنصار ترمب للكونجرس، وحجب حسابات ترمب من منصات التواصل الاجتماعي، ثم مغادرته للبيت الأبيض (هذا إن غادره ولم يكن عنده جديد :) ).

ومن بين أشياء كثيرة تستحق التوقف، دعونا نتوقف عند موضوع التداول السلمي للسلطة.

مما هو معروف أن من أصول النموذج الديمقراطي الحديث تداول السلطة سلميا، ويُعَدُّ هذا من أكثر الأمور المبهرة -إن لم يكن أكثرها- في هذا النموذج، ذلك أنه يحقق عددا من الفوائد، أهمها:

- ألا يطول مقام الرئيس في الرئاسة، فينحو به إلى الاستبداد

- أن يتغير الرئيس دون أن يصاحب ذلك حروب أهلية أو معارك دامية أو فترة من الفوضى والاضطراب السياسي والإداري والاجتماعي

يعتمد تحقق هذا النموذج على قوة المؤسسات، بمعنى أن تكون مؤسسات الدولة أقوى من الرئيس، فلا يفكر هو في احتوائها وتسخيرها لمصالحه، ويخشى أنه إذا لم يلتزم بالقانون والدستور والتقاليد فإن هذه المؤسسات لن تطيعه، بل هي التي تخلعه أو تعاقبه.

كما يعتمد على احترافية هذه المؤسسات، بحيث تطيع الرئيس وتخضع له طالما أنه في إطار الدستور والقانون، وتعصيه وتخلعه إذا خرج عن هذا القانون والدستور.

وبهذا تتحقق الإرادة الشعبية، فهو الرئيس المُطاع الذي تُنَفَّذ سياستُه عبر المؤسسات طالما كان منتخبا.. وهو نفسه الرئيس المخلوع والمطرود طالما جاءت الانتخابات بغيره.

إذن، وصلنا إلى كلمة السر: "المؤسسات"..

المؤسسات يجب أن تكون أقوى من الرئيس، ويجب أن تكون مؤسسات محترفة، تعرف متى تخضع وتطيع، ومتى تعصي وتتأبى.

لكن، ثمة ثغرات خطيرة كامنة في هذا النموذج، من أهمها: أن هذه المؤسسات ليست آلات جامدة، ليست أجهزة كمبيوتر، هي في النهاية بشر، وهؤلاء البشر لهم مصالحهم ورغباتهم وطموحاتهم وتحالفاتهم.. فلا يمكن الحديث عن ملائكة منزهين.. وساعتها يكمن الخطر في هؤلاء الذين يستطيعون -باسم الدولة- تحقيق رغباتهم عبر جهاز الدولة.

كذلك فإن هذه المؤسسات يديرها بشرٌ غير منتخبين، بل وصلوا إليها في ظروف متعددة، كمسار دراسي وارتقاء وظيفي طبيعي، أو من خلال خبرات معينة احتيج إليها في لحظات معينة، أو من خلال استحداث أقسام جديدة أو أجهزة جديدة... إلخ!

وغيرُ المنتخبين -هؤلاء- هم من خلال مجموعهم وشبكات علاقاتهم أقوى من الرئيس المنتخب.. بل يجب أن يكونوا هكذا لتكون المؤسسات أقوى من الرئيس!

[نفتح هنا هامشا لنستطرد ونحكي بعض الحكايات، على الأقل لنخفف الثقل النظري للكلام:

في زمن أسرة محمد علي ثم الاحتلال الإنجليزي، كانت السيطرة الأجنبية على مصر تجري عبر موظف نافذ في الوزارة، اسمه "مستشار الوزير" ولكنه هو الآمر الناهي على الحقيقة، ولا يستطيع الوزير أن يخالف عن أمره. وربما يتغير الوزراء مع الانتخابات أو مع تغير مزاج الملك أو مزاج المندوب السامي، ولكن لا يتغير المستشار، ومن ثَمَّ لا تتغير السياسة الفعلية للوزارة.

هذه البيروقراطية (لفظ يكافي لفظ المؤسسات، إلا أنه صار أثقل وأسوأ دلالة) هي جهاز الدولة الحقيقي، الذي لا ينفذ إليه المنتخبون، بل هو الجهاز الذي يستطيع التهام المُنْتَخَبين في دهاليزه.

أخبرني يحيى موسى يوما، وهو المتحدث باسم وزارة الصحة في عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي، أنهم حاولوا يوما تتبع النظام المالي للوزارة، فوجدوه ينتهي عند لواء عسكري في مكتب بعيد عن الأضواء يحمل اسم "مساعد وزير الصحة للشؤون المالية"، فهذا هو قلب الدائرة المالية.. فربما أمر الوزير بصرف مبلغ ما، ولكن المساعد يتعلل بأن الميزانية لا تسمح.. وهكذا يكون هذا "المساعد" هو الوزير فوق الوزير، مهما كان الوزير قد جاء إلى موقعه هذا ضمن حكومة منتخبة!!

وهذا المنصب يتداوله العسكريون كابرا عن كابر، لواءا عن لواء، ولعلكم تذكرون أن الفرح الذي حضرته وزيرة الصحة المصرية حاليا هالة زايد، وكان مخالفا لكل إجراءات ومحاذير وزارة الصحة، إنما كان فرح ابنة هذا اللواء العسكري "مساعد وزير الصحة للشؤون المالية".

وفي مذكرات روبرت جيتس -رئيس المخابرات الأمريكية الأسبق، ووزير الدفاع الأسبق- فصلٌ عن أهمية أن يحذر الوزير من أن يلتهمه الإداريون، إذ إن عدد التوقيعات والاجتماعات وجداول الأعمال كفيلة بالتهام كل الطاقة، حتى لا يعود ممكنا النظر في سياسة الوزارة وفي خططها القادمة وفي تطوير عملها.. وله في هذا نصائح مفيدة لأي صاحب عمل.

وقد ذكَّرني هذا الفصل بما رواه صديقٌ قديمٌ، كان مقربا من وزير في عهد مبارك، قال: كان الوزير يقضي طول اليوم في التوقيع على أوراق ترد إليه، ولم يكن يجد وقتا ليفعل شيئا.

ولعل من قرأ رواية نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" سيكون قد فهم كيف يكون منصب وكيل الوزارة أهم من منصب الوزير، فالوزير يتغير والوكيل الذي يدير دولاب الوزراة ويعرف دهاليزها لا يتغير، ولهذا فهو عمليا يتحكم في الوزير. وقد تعرضت روايات وأفلام أخرى لهذه الفكرة، ولكن أحسبني سأكتسب إثما لو أشرت إليها.

نكتفي بهذا القدر من الحكايات :) ونعود للكلام الثقيل]

وبهذا أفرزت لنا فكرة "تداول السلطة" المبهرة، فكرة أخرى مظلمة كانت تختبئ خلفها.. الفكرة التي صارت تُعرف فيما بعد باسم "الدولة العميقة"!

الدولة العميقة هي الهيئات والشخصيات غير المنتخبة التي تستطيع التهام الشخصيات المنتخبة، أو تستطيع احتواءها وتطويعها، أو تستطيع الانقلاب عليها والإطاحة بها.

خلف كل قصة انقلاب على حاكم منتخب، أو إفشال لحاكم منتخب، أو تطويع وتركيع لحاكم منتخب، توجد قصة دولة عميقة غير منتخبة، استعملت جهاز الدولة وقوة المؤسسات ضد إرادة الشعب.

يبدو هذا واضحا للغاية في مجتمعاتنا نحن، حيث تتصل الحبال والعلاقات بين أجهزة المخابرات الأمريكية وبين العاملين في الجيوش والمخابرات والشرطة.. وحيث تتصل الحبال بين الشركات العالمية وبين العالمين في مؤسسات الصحة والتموين والري... إلخ!

فإذا حانت لنا فرصة ننتخب فيها رئيسا، وجد الرئيسُ نفسَه في حال عجيبة! تحكمه المؤسسات ولا يحكمها، فإما أن ينطاع لها ويدخل في دهليزها فيكون قد خان أمانته وخان قومه، وإما أن تنقلب عليه وتعرقله وتلقيه في السجن أو تعلقه على المشنقة.

لكن هذه الصورة الواضحة عندنا، تكون خافتة وغامضة في الدول الغربية، وفي أمريكا طبعا.. هناك حيث لا قوى خارجية يمكنها أن تنسج حبالها -من موضع الضغط والتأثير- مع المؤسسات للعمل على تغيير السياسة وتغيير الفريق المنتخب.

إذا تصورنا وجود قوة خارجية دبَّرت لاقتحام الكونجرس، ضمن عملية مستمرة لإبقاء ترمب في الرئاسة، فمن المؤكد أن الأمر لن تكون نهايته بعد ساعة أو بعض الساعة، بل ستكون النهاية على الطريقة المصرية ( #رابعة ) أو الطريقة التركية (محاولة الانقلاب الفاشل) أو غيرها.

تمثل البيروقراطية مشكلة حقيقية في النموذج الديمقراطي، وتناقشها دراسات العلوم السياسية في الغرب، ولكن من الطبيعي ألا يصل هذا النقاش إلينا، فنحن في قعر الطغيان والديكتاتورية، فكيف لجائعٍ أن يتأمل في عيوب شطيرة البرجر الشهية؟!

لكن المهم هنا هو أن نتوقف عند هذا المشهد الفارق: إن مشهد تداول السلطة بقدر ما يبدو مبهرا، بقدر ما يبدو خادعا ومراوغا!

إن الرئيس الذي يختاره الشعب يأتي ويذهب، ولكن الذين يتحكمون في التفاصيل هم الذين لا يأتي بهم أحد ولا يذهبون مع اختلاف الرؤساء.

أولئك الذين يسكنون أجهزة الأمن والجيش والقضاء ويديرون المؤسسات هم الحُكَّام على الحقيقة، لا أولئك الذين اختارهم الناس عبر الصناديق..

وبهذا يطرح السؤال نفسه: هل حقق النموذج الديمقراطي حقا هدف "التداول السلمي للسلطة"؟! أم أنها منحت الشعب حق اختيار "موظف الاستقبال" وتغييره؟!

كل ما سبق إنما هو من حيث البناء الداخلي لمؤسسات الدولة..

بقي أمر آخر لا يقل خطورة ولا قوة.. وهو خارجي عن هيكل الدولة.. أولئك هم رجال الأعمال، القوة المالية الهائلة، الشركات الكبرى..

هؤلاء الذين يستطيعون من خلال قوتهم المالية لا مجرد النفاذ إلى مؤسسات الدولة ومداعبة طموحات وغرائز وأطماع البشر الذين يديرونها.. بل يستطيعون التلاعب بالنظام نفسه!

الأموال هي الي يعتمد عليها المرشحون في بناء شعبيتهم وإقامة حملاتهم الدعائية، وهي التي تنشئ القنوات والصحف حيث تُصْنَع الرغبات الشعبية وتُوَزَّع الاتهامات وتقام الحملات السوداء لتشويه الخصوم.

بالأموال يكون المرشح الرئاسي أو البرلماني أسيرا، لا يستطيع مصادمة الأموال في دولة تعتمد على الرأسمالية، بل يجب عليه أن يكون حريصا على مصالحهم ومعبرا عنها.. وإلا لقي عقابه المحتوم في دورة الانتخابات القادمة!

تشكيل القوانين يجري على يد أعضاء البرلمان الذين وصلوا إلى هذا الموقع عبر القوة المالية، هل يستطيع أحدهم أن يكافح لإصدار قانون يخصم من قوة حيتان المال ليناصر العمال والضعفاء والفقراء؟!

لهذا عرَّف بعضهم الديمقراطية بأنها قدرة الأقلية النافذة على استغلال الأكثرية للوصول إلى التمكين بطريقة أنيقة. وفي هذا ألَّف صحافي أمريكي كتابا بعنوان "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها"!

هذه القوى المالية التي تتحكم بالدولة، ليسوا منتخبين!

إنهم جزء لا يتجزأ من "الدولة العميقة" التي تحكم على الحقيقة!

منصات الفيس بوك وتويتر وانستجرام، هي نسخة محدثة من القنوات التلفازية والصحف..

ترمب، وهو رئيس أكبر دولة في العالم، ويتربع على عرش أضخم قوة في التاريخ، كان يلجأ إلى تويتر ليعبر عن موقفه حين تستعصي عليه وسائل الإعلام.. وفي الأيام الأخيرة حذف تويتر حسابه!!!

من الحاكم هنا؟ ومن المحكوم؟!

سيُقال: من حق تويتر، كما هو من حق أي قناة أو نافذة، أن تفعل ما تشاء، وأن تكون لها قوانينها الحاكمة للنشر.

وأقول: ليس عن هذا أتكلم.. ولا هذا هو الموضوع!

الموضوع هنا ببساطة: إلى أي حد يكون لأصوات الناس واختيارهم قيمة في عالم يتحكم فيه غير المنتخبين؟!

لماذا نستهلك طاقتنا في متابعة مسرحيات التشريع والتنفيذ والقضاء المتعلقة بالسلطة، إذا كنا في عالم الشركات الكبرى، وإذا كانت كل شركة تستطيع بقوتها المالية أن تمارس في نفس الوقت السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، فهي التي تحدد لوائحها، وهي التي تقضي بما يخالف وما يوافق، وهي التي تنفذ الحجب والحذف والحظر والتقييد؟!

ثم نختم بالسؤال نفسه: هل حققت الديمقراطية فعلا هدف "التداول السلمي للسلطة"؟!

الأحد، يناير 03، 2021

هل يتغير موقف الشعوب الغربية إذا عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم؟


روى فايز الكندري، الأسير الكويتي المحرر من سجن جوانتانامو، في كتابه شديد الروعة "البلاء الشديد والميلاد الجديد"، أن أحد الجنود الأمريكان في معسكر قندهار بدا أنه مثقف وذو أدب، حاول التعرف على الإسلام، فكان يستمع باهتمام بالغ إلى شرح أفكاره، ويتعامل باحترام كبير مع الأسرى، حتى أنه إذا أراد أن ينصرف ليستكمل جولته استأذن من الأسير في الانصراف! ولما رآه الرقيبُ العسكري هذا الجنديَّ واقفا مع الأسرى، استدعاه إليه، ووبَّخه على ذلك، وهدده بالعقاب إذا رآه مرة أخرى في هذا الموقف.

انقلب الجندي بعدها إلى وحش، صار نارا على الأسرى، أو بتعبير فايز الكندري "رضي أن يكون آلة في هذه المنظومة الظالمة التي لا تراعي أبسط الحقوق الإنسانية، فألغى عقله في معرفة الحق والباطل والظلم والعدل، وألغى قلبه الذي يطالبه بأن يكون إنسانا يُعامل الآخرين بإنسانية"[1].

أتّخذُ هذه القصة مدخلا للإجابة على بعض استدراكات القراء التي وصلتني على المقال الماضي ( https://bit.ly/2X9apgK )، إذ قُلْتُ بأن الشعوب الغربية ضحية للخطاب الإعلامي الكاذب عن المسلمين والذي تنتجه شبكات السلطة والنفوذ الغربية –كما عرضنا ذلك من خلال تجربة المستشرق الفرنسي المعاصر فرنسوا بورجا[2]- إلا أنه حتى إذا أتيح لبعضهم معرفة الحق فلن تكون مجرد المعرفة كافية لانتقاله من معسكر الغالبين إلى معسكر المغلوبين مُضَحِّيًا في ذلك بامتيازاته وترفه ومتحملا تكاليف معاكسة التيار.

ولهذا فإن حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية هي أقل ما يفعله المسلمون لاستعادة كرامتهم، إذ تلك هي الوسيلة التي يمكن أن تكون مؤلمة ومفيدة في تنبيه هؤلاء إلى خطورة النيل من نبينا صلى الله عليه وسلم، وبها يضع المسلمون أنفسهم ضمن شبكة القوى وشبكة المصالح التي تؤثر على اختيارات هذه الشعوب.

لكن يبرز السؤال هنا: لماذا تكون معرفة الحق غير كافية وحدها لاتباعه عند أغلب الناس؟ ولماذا يرضى أغلب الناس بمخالفة الحق –بل ومحاربته- في سبيل منفعتهم الذاتية؟!

ذلك واحدٌ من الأسئلة التي كم هلكت فيها العقول وفاضت الكتب في محاولة الإجابة عنها، ولن يمكن أن نقدم الإجابة ولا أن نختصر ما قيل في هذا المقال، وإنما نهدف من هذه السطور القادمة إلى بيان أن الشعوب الغربية تهيمن عليها مناهج فكرية ونظم سياسية وُلِدت في مسارات تاريخية بعينها، تجعل من المستبعد أن يتغير موقف هذه الشعوب مهما اجتهدنا في إيصال الصورة الصحيحة لديننا ونبينا إليهم.

علم نفس الطاعة

من بين الفروع التي يدرسها علم النفس السياسي، فرع عن علم نفس الطاعة، وتبرز في هذا الفرع تجارب ستانلي مليجرام الشهيرة التي توصلت إلى أن 65% ينفذون ما يُطلب منهم فعله مهما كان هذا الطلب يؤذي الآخرين أو حتى يقتلهم.

تتضاعف نسبة الطاعة في حالات أخرى، من أهمها حين يكون الذي يُصدر الأمر جهة فوقية، فالاعتقاد في أن الذي يطلب أو يأمر أوسع علما أو أكثر مالا أو أرفع شأنا يجعل الطاعة تزداد، وأما إذا كان الآمر يمثل السلطة التي تملك الجزاء والعقاب، فنسبة الطاعة تزداد إلى حدودها القصوى، ولا يبقى إلا النادر الذي يفكر في التمرد أو يقوى على تنفيذه. وأسفرت التجارب أن الإنسان وهو يقوم بهذا العمل غير الإنساني يُنْتِج مبرراته لنفسه، وهذه النقطة الخطيرة أشار إليها رئيس سابق لجهاز الاستخبارات الأمريكية –كما أورد ذلك ستيفن جراي في كتاب "أسياد الجاسوسية الجدد"- في درسه للمتدربين على قيادة شبكات التجسس، فقد أخبرهم أنه ليس من المُجْدي كثيرا بحث المداخل والدوافع لتجنيد العميل، بل يجب إيقاعه في الخيانة فعلا، ثم سيتولى هو بنفسه إيجاد المبرر لنفسه[3].

كذلك تتضاعف نسبة الطاعة حين تكون المسافة بعيدة، فالذي يمارس القصف بالطائرة أو بالصاروخ لا يشاهد نتيجة عمله على الضحية، ومن ثَمَّ فلا يفكر في الرفض أو التمرد، بينما تزيد احتمالية التمرد لو أنه سيقتل بالسكِّين. وتكمن الفائدة العملية من هذه النتيجة في أن تقسيم الجريمة إلى مجموعة من الأعمال تجعلها أسهل عليهم جميعا، فالذي يأمر بقصف المدنيين –مثلا- لن يتألم لأنه لا يفعل أكثر من كتابة قرار، والذي يوصل القرار إلى الهيئة التنفيذية لن يشعر بأي ألم جراء مشاركته في هذه المذبحة، ومثله الذي يرتب خطة القصف، وكذلك الذي يشحن الطائرة بالصواريخ، وكذلك الطيار الذي يلقي القنبلة، وبطبيعة الحال لن يشعر بالألم كل الفريق العلمي والصناعي الذي أنتج القنبلة.

وتتضاعف نسبة الطاعة أيضا حين تكون الضحية قد جرى تشويهها أو نزع الإنسانية عنها، مثلما يحدث في السجون –مثلا- من إلغاء اسم السجين واستبدال رقمٍ به، أو الحديث المتكرر عن غبائه أو عن خبثه وخطورته.. إلخ! إن هذا يجعل عملية الإيذاء مبررة بل وضرورية، إن لم تكن شيئا مطلوبا ومرغوبا فيه لتخليص البشرية أو الوطن من عنصر الشرّ هذا أو على الأقل: لتجنب خطورته وخبثه!

إذا جمعنا بين هذه الأمور الثلاثة: تأثير الجهة الفوقية والسلطة، وتأثير تقسيم العمل إلى أجزاء صغيرة، والتشويه المتكرر للعدو، وطبقناها على حالتنا هذه، فسنجد أنه من الصعوبة جدا أن يتغير موقف الشعوب الغربية من النبي ومن المسلمين:

فنحن إزاء شبكة سلطوية قوية مُنْتِجة لصورة المسلمين في الغرب، تتمثل في نخبة متميزة من السياسيين والوزراء والمثقفين والأكاديميين والصحافيين وحتى الممثلين، والكلمة من هؤلاء تجد طريقها بغير صعوبة إلى عقول عموم الناس هناك وقلوبهم، فليس من طبائع البشر أن يناقضوا قولا يتفق عليه ويردده زعماؤهم وأعيانهم وكبارُهم.

ثم إنه ليس مطلوبا من عموم الناس هناك ارتكاب جرائم مباشرة ضد المسلمين، بل على العكس، ليس مطلوبا إلا الإبلاغ عمن يعتقدون أنه يمثل خطورة وتطرفا، مع تقديم الدعم الاجتماعي لإجراءات الحكومة، وهو ما يكفي فيه مجرد السكوت والوقوف في مكان المتفرج الذي لن يرتكب شيئا بيده. وأما الأجهزة الحكومية التي ستنفذ قرارات السلطة فإن العمل مقسَّم فيما بينها بحيث لن يشعر أحدٌّ ما بنوع من ألم الضمير، لأنه مجرد منفذ لجزء صغير من سياسات كبرى هو لا يستوعبها ولا يعرف نتائجها على الضحية.

وحتى إذا شعر البعض بتأنيب الضمير، فإن الميراث الطويل من خطاب الكراهية الذي يتحدث عن الخطر الإسلامي قد صنع فعلا حالة من الخوف المرضي من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، وهذا الأمر يعمل كمُخَدِّرٍ ومُنَوِّمٍ للمشاعر المتعاطفة مع الضحايا، كما يعمل كحافز ومثير للمشاعر المتضامنة مع الدولة والسلطة والأجهزة التي تنفذ واجبها في حماية المجتمع من الأخطار المحتملة!

وإذا افترضنا أن مواطنا صالحا في فرنسا أو في غيرها من بلاد أوروبا كان يكتفي بموقع المتفرج، أو حتى تسيطر عليه عاطفة التضامن مع الضحايا، فإن هذا المواطن بمجرد أن يتولى وظيفة في الشرطة أو الجيش أو نحوها من الأجهزة التي تتولى هذه الحرب ضد المسلمين، الأغلب أن هذا المواطن يتحول تحولا مفاجئا إلى جندي مخلص في هذه الحرب، على ذات النحو الذي فعله الجندي الأمريكي الذي ذكرناه في بداية المقال. فتلك هي نتيجة التجارب النفسية العديدة التي أجراها العديد من خبراء علم النفس الاجتماعي، وتناولها كثيرون مثل سولومون آش وستانلي مليجرام وفيليب زمباردو وديفيد باتريك هوتون وباتريك بوكانان وحنة أرندت وزيجمونت باومان وغيرهم[4].

إن نسبة نادرة يمكنها أن تقاوم الحالة الاجتماعية السائدة، لا سيما في مجتمعات تهيمن عليها العلمانية والإلحاد، وتضمر فيها الهيمنة الأخلاقية، بحيث يمكن لأي عمل مهما كان وضيعا أن يوجد له المبرر الذي يجعله ضرورة أو حتى يجعله مرغوبا فيه.

وأندر منها نسبة الذين يقاومون السلطة أو يتمردون عليها، وهذا أمرٌ نلمحه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن لهم عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا"[5]. فمما نتبنه من هذا الحديث أن مقاومة عنصر الجهاز الأمني أو العسكري أو المالي لأوامر السلطة الظالمة أمرٌ لا يكاد يُستطاع، فجاء النهي النبوي عن الدخول فيه من الأصل.

كان هذا كله عاملا واحدا، وهو "علم نفس الطاعة" الذي يحمل الشعوب على أن تظل في مواقعها العدائية حتى وإن وصلت إليهم الصورة الصحيحة عن النبي وعن المسلمين، مع أن هذا افتراضٌ جدلي على سبيل التنزل، إذ كيف يمكن منافسة الشبكة السلطوية المهيمنة على شعب ما فضلا عن التغلب عليها لإعادة تشكيل وعي الشعب.

وبقي أمر آخر نؤجله إلى المقال القادم إن شاء الله، وهو أمر المنهج الوضعي الذي ساد في أوروبا منذ عصر التنوير، وكيف ساهم هذا المنهج في الانفصال بين العلم والعمل، وبين العلم والأخلاق، بمعنى: أنه صار طبيعيا ومتكررا أن يتوصل عالِمٌ ما أو مستشرق ما إلى الإعجاب القوي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالحضارة الإسلامية ثم لا يشعر أنه مُلزم باعتناق الإسلام واتباع هذا النبي. كيف نشأ هذا المنهج في التفكير وكيف ساد؟.. هذا ما يكون في المقال القادم إن شاء الله وقدَّر.

نشر في مجلة المجتمع الكويتية، يناير 2021

-----------

[1] فايز الكندري، البلاء الشديد والميلاد الجديد، ط1 (بيروت: جسور للنشر والترجمة، 2020م)، ص109، 110.
[2] محمد إلهامي، "كيف تتشكل صورة المسلمين في الغرب: خبرة مستشرق فرنسي"، مجلة المجتمع الكويتية، ديسمبر 2020م.
[3] ستيفن جراي، أسياد الجاسوسية الجدد، ترجمة: مركز التعريب والبرمجة، ط1 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2016م)، ص218.
[4] للمزيد، انظر "الإذعان للسلطة" (Obedience to Authority) لستانلي مليجرام، وعلى حد علمي فإن هذا الكتاب لم يترجم للعربية، ولكن تجربته ونتائجها تناولها العديد من الكتب والدراسات الأخرى، و"تأثير الشيطان" لفيليب زمباردو، و"علم النفس السياسي" لديفيد باتريك هوتون، و"الذرة الاجتماعية" لباتريك بوكانان، و"آيخمان في القدس" و"تفاهة الشر" كلاهما لحنة أرندت، و"الحداثة والهولوكوست" لزيجمونت باومان.
[5] رواه ابن حبان (4586) وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (360).