الجمعة، سبتمبر 28، 2012

في ذكرى وفاة عبد الناصر



منذ صغري كنت لا أحب صوت هذا المؤذن، لقد كان صوته جافا بلا روح، يقول الأذان بلا ترتيل، ساعاته منضبطة لا تتأخر ثانية ولا تتقدم، والإقامة منضبطة لا تتقدم ولا تتأخر، لا تفلت منه صلاة.. وكم تمنيت ان تفلت ليؤذن آخر أندى منه صوتا..

مع الأيام وزيادة العمر والنضج، صرت معتادا على أذانه، معجبا بانضباطه ودقه ساعته.. ثم صارت بيننا علاقة بعد التزامي الكامل بالصلاة في المسجد، وكلما اقتربت منه كلما زادني انصباطه والتزامه بالموعد انبهارا، وإن كان هذا يثير حنق البعض أحيانا!

حكي لى فيما بعد أنه كان سائقا بجهاز أمن الدولة في العهد الناصري، وحكى لنا -رغم كتمانه- قصة أولئك الشباب الذين شهد اعتقالهم:

"كانوا يأتون بالشباب، وبعد الضرب والإهانة، يجردونه من ثيابه ليكون عاريا تماما، ثم يعلقونه ساعات طوال، يبدأ في العطش، فيعطونه الماء، لكنهم يربطون ذَكَره (عضو التناسل) برباط غليظ يمثل عذابا وحده، وكلما أراد الشرب كلما  أعطوه الماء.. بعد فترة يبدأ في الحاجة إلى التبول، لكنه لا يستطيع لهذا الرباط حول عضوه، وهنا يفهم معنى العذاب الحقيقي.. ويظل في عذاب وصراخ.. وعذاب وصراخ، وكلما عطش سقوه الماء.. حتى.. يموت!!

كنا في ذلك الوقت في بداية المراهقة نتطلع للحياة.. فكانت هذه القصص إحدى العلامات التي تعرفنا بها على الشر الذي يسكن هذا العالم، وعلى القذارة التي ندرسها في الكتب وتأتينا في التلفاز عن هذا "الزعيم" جمال عبد الناصر..

عامله الله بما يستحق، وأرانا في أشباهه سوء العذاب في الدنيا قبل الآخرة!

الجمعة، سبتمبر 21، 2012

الفروسية الإسلامية!


بدايةُ فكرة هذا المقال طَرَأَت منذ وقعت على كلمة هنري كيسينجر –وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق- الذي وصف فيه العسكر بأنهم "مجرد حيوانات غبية تستعمل كعساكر الشطرنج في تنفيذ السياسات الخارجية" (military men as dumb, stupid animals to be used as pawns for foreign policy)[1]، وهذا التصريح يعد من أهم ما قاله إلى الحد الذي سجله موقع "اقتباسات ويكي" كأول "اقتباس" لكيسينجر.

ذلك أن هذا القول يختصر العقلية الغربية في رؤيتها للجندي، الإنسان المسلح، فهي تعمل على تجريده من كل "قيمة" أو "شعور" أو "قدرة على التفكير" لكي يمكن استخدامه في تنفيذ السياسات المتوحشة التي لا تردد في إقامة المذابح الهائلة تنفيذا للأهداف التي يقررها الساسة مهما كانت لا أخلاقية.

وهذا الأمر ليس غريبا على التراث الغربي عامة من قديم، ففي عهد الإمبراطور الروماني فسبسيان، حاصر الرومان اليهود لخمسة أشهر حتى سقطت المدينة، فأمر الرومانُ اليهودَ أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم بأيديهم، ثم أخذوا يضربون القرعة بين كل يهوديين فمن فاز منهما قتل الآخر حتى أبادوا اليهود[2].

لم يكن الفرسان الغربيون يعرفون شيئا عن "أخلاق الفرسان" أو "الفروسية" حتى تأثروا بها في احتكاكهم بالمسلمين سواء في الأندلس أو صقلية (التي ظلت تحت الحكم الإسلامي لقرنين من الزمن) أو حملاتهم الصليبة على الشرق، عندئذ رأوا من أخلاق الجندي المسلم الفارس ما جعلهم يستلهمونها، وهذه حقائق تاريخية يشهد بها حتى الباحثون والمؤرخون الغربيون.

وفي هذه المقالة وددت أن أجمع للجندي المسلم ما يملؤه فخرا وعزة بانتمائه إلى الإسلام، ذلك الدين الذي يجعل الولاء للفكرة والقيم والإنسانية، ولا يسمح للجندي أن يكون مجرد أداة يستخدمها القائد السياسي أو العسكري في ارتكاب ما يأباه الشرف والدين والخلق القويم.. فانظر أيها الجندي، تلك شهادة قوم على غير دينك لأجدادك المحاربين المسلمين.

***

لقد استطاعت الفروسية الإسلامية، وسلوك الفاتحين أن يفعلا ما عجزت الامبراطوريات الكبيرة عن فعله في مصر مثلا، إذ منذ انتهت الحضارة الفرعونية لم يستطع الفرس ولا الإغريق ولا البطالمة إقامة حضارة في مصر، هذا ما يقوله الفيلسوف الفرنسي المعروف جوستاف لوبون:

"وما جَهِله المؤرخون من حِلْم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونُظُمهم ولغتهم، التي رَسَخَت وقاومت جميع الغارات، وبَقِيَتْ قائمةً حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، ونَعُدُّ من الواضح خاصةً أمرَ مصر التي لم يُوَفَّق فاتحوها من الفرس والإغريق والرومان أن يقلبوا الحضارةَ الفرعونية القديمة فيها وأن يُقيموا حضارتهم مقامها... وكان يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويُسِيئُوا معاملة المغلوبين، ويُكْرِهُوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحقُّ أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا مثل دينهم"[3].

ولقد أثرت هذه الأخلاق في العدو المحارب، وكان الاحتكاك الكبير بين المسلمين والغربيين في ثلاثة مناطق كبرى: الشام ومصر حيث دارت الحروب الصليبية، وجزيرة صقلية ومناطق جنوب إيطاليا حيث حكمها المسلمون ثم هُزموا أمام النورمان، والأندلس!

ترصد المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه ما طرأ على حال النورمان، وقد كانوا قبائل متوحشة، حين استولوا على صقلية فتقول:
"ولأوّل مرّة في تاريخ العالم المسيحي أظهر النورمان تسامحاً مع المخالفين لهم في العقيدة، متمثّلين بالعرب في شهامتهم ورجولتهم. فكان ذلك المسلك بالتأكيد، هو سرّ ما أصاب دولتهم من ازدهار، إذا قورنت بنظيراتهم في الغرب"[4].

وتكرر هذا المشهد في الأندلس، إذ ظهرت الفروسية العربية في أوروبا فكان "عرب إسبانيا يتَّصفون بالفروسية المثالية خلال تسامحهم العظيم، وكانوا يرحمون الضعفاء ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى هذه الخِلال"[5]، حتى شهد المستشرق الإنجليزي الكبير توماس أرنولد أنه قد "بلغ من تأثير الإسلام في نفوس معظم الذين تحوَّلوا إليه من مسيحيِّي إسبانيا مبلغًا عظيمًا، حتى سحرهم بهذه المدنيَّة الباهرة، واستهوى أفئدتهم بشعره وفلسفته، وفنِّه الذي استولى على عقولهم وبهر خيالهم، كما وجدوا الفروسية العربية الرفيعة مجالاً فسيحًا لإظهار بأسهم، وما تَكَشَّفت عنه هذه الفروسية من قصد نبيل وخُلق كريم"[6].

وأما في الحروب الصليبية في الشام ومصر فقد بهرت الفروسية الإسلامية نفوس الصليبيين حتى دخلت في الإسلام أعداد غفيرة منهم رغم أنهم قدموا أول الأمر لحرب المسلمين، لقد وقعوا في الأسر فاستقبلتهم فروسية المحاربين المسلمين بما أمرهم الله به من معاملة الأسرى، يقول توماس أرنولد: "في الصراع مع السلاجقة تخلَّى الإغريق الصليبيون عن إخوانهم في الدين، وكتب المؤرخ القديم: لقد جفوا إخوانهم في الدين الذين كانوا قساة عليهم، ووجدوا الأمان بين الكفار (يقصد المسلمين) الذين كانوا رحماء عليهم، ولقد بلغنا أن ما يربوا على ثلاثة آلاف قد انضمُّوا بعد أن تقهقروا، إلى صفوف الأتراك، آه! إنها لرحمة أقسى من الغدر! لقد منحوهم الخبز، ولكنهم سلبوهم عقيدتهم، ولو أنه من المؤكد أنهم لم يُكرهوا أحدًا من بينهم على نبذ دينه، وإنما اكتفوا بما قَدَّمُوا لهم من خدمات"[7].

ولا يقتصر الأمر على الأسرى فحسب، بل حتى الحجاج الصليبيون الذين قدموا من أوروبا لزيارة القدس كانوا عرضة للوقوع في أسر الإسلام، يضيف أرنولد: "وكان خطر الدخول في الإسلام - وهو ما كان (يتعرَّض) له حجاج الأراضي المقدسة - قد شاع أمره في ذلك العصر بصورة واضحة، حتى إن أموري دي لاروش ( Amaury de la Roche)  رئيس فرسان المعبد التمس من البابا ونوابه في فرنسا وصقلية، في مذكرة دونها حوالي سنة 1266م، أن يمنعوا الفقراء والشيوخ والعاجزين عن حمل السلاح من عبور البحر إلى فلسطين؛ لأن أمثال هؤلاء الأشخاص كانوا يَتَعَرَّضون إما للقتل أو الأسر، أو لأن يفتنهم العرب عن دينهم"[8].

وعلى أن الحروب الصليبية استمرت أكثر من قرنين من الزمان إلا أن المؤلفات الغربية تكاد لا تذكر شيئا من هذا التاريخ وتركز على شخصية صلاح الدين الأيوبي الذي يعد الشخصية العربية الأولى في المؤلفات الغربية، فهذا المؤرخ الأمريكي ول ديورانت صاحب موسوعة "قصة الحضارة" يشهد باجتماع العسكرية الإسلامية في القسوة على المحاربين حال الحرب وفي الرفق بهم إن صاروا أسرى أو مسالمين، يقول ول ديورانت "كان صلاح الدين مستمسكًا بدينه إلى أبعد حدٍّ، وأجاز لنفسه أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى[9]؛ ولكنه كان في العادة شفيقًا على الضعفاء، رحيمًا بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سموًّا جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي -"الخاطئ" في ظنِّهم- رجلاً يصل في العظمة إلى هذا الحدِّ"[10].

لقد كان تميز صلاح الدين في أخلاقه عن ملوك الصليبيين واضحا وناصعا، هذا ما يؤكده المستشرق الفرنسي الشهير مكسيم رودنسون: "أثار العدو الأكبر صلاح الدين إعجابًا واسع الانتشار بين الغربيين؛ فقد شنَّ الحرب بإنسانية وفروسية، برغم قِلَّة مَنْ بادلوه هذه المواقف، وأهمهم ريتشارد قلب الأسد"[11].

بدا هذا الفارق أكثر ما بدا –كما تذكر الألمانية زيجريد هونكه- حين "تمكَّن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس (583 هـ = 1187 م) -التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل (492 هـ = 1099 م) بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تُدَانيها مذبحةٌ وحشيةً وقسوةً- فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقامًا لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جُودِه ورحمته، ضاربًا المثل في التخلُّق بروح الفروسية العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خُلقي تجاه كلمة الشرف أو الأسرى"[12].

لقد دفع هذا الصليبيين إلى التزوير في تاريخ صلاح الدين والادعاء بأن أمه كانت صليبية فورث منها هذه الفروسية! لقد التقط الأمريكي مايكل هاملتون مورجان هذه الطرفة وأشار إلى أنها إعجاب بالفروسية وحدها، فصلاح الدين لم يكن من العلماء كالمأمون ولا زعيما لدولة مستقرة زاهرة حضاريا، يقول: "قائد مسلم، وهو رجل شديد التدين لن يتمتع بفكر مثل هارون الرشيد والمأمون، ولا الحَاكم في القاهرة، أو عبد الرحمن الثالث في قرطبة، إلا أنه سيجسد نوعًا من شرف الفروسية الإسلامية سيكون مثار انبهار الأوربيين، بل وسيدفعهم نبله هذا إلى العديد من المواقف المحرجة، فما كان منهم إلا التماس أن السبب وراء أخلاقه الرفيعة والكريمة ما هو إلا لأن لديه دماء أوربية تجري في عروقه، هذا الرجل هو صلاح الدين"[13].

وكانت النتيجة –كما يقول توماس أرنولد- أن "أخلاق صلاح الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرًا سحريًّا خاصًّا، حتى إن نفرًا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضمُّوا إلى المسلمين"[14].

***
أيها الجندي المسلم..

هكذا فروسيتك، يشهد بها الخصوم، ويزهو بها التاريخ!

وأنت –بإذن الله- خير خلف لخير سلف..


[2] مصطفى مراد الدباغ: بلادنا فلسطين 9/68 – 70. نقلا عن: د. راغب السرجاني: أخلاق الحروب، مؤسسة اقرأ، القاهرة، الطبعة الأولى، 1431 هـ = 2010م. ص50.
[3] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م. ص605.
[4] زيجريد هونكه: شمس الله تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون، كمال دسوقي، راجعه ووضع حواشيه مارون عيسى الخوري، دار صادر، الطبعة العاشرة - بيروت، 2002م. ص412.
[5] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص278.
[6] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، مكتبة النهضة المصرية، 1980م. ص164.
[7] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص108، 109.
[8] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص112.
[9] فرسان المعبد (الداوية  Knights Templar)،  وفرسان المستشفى (الإسبتارية  HOSPITALLERS): كتائب عسكرية صليبية لكنها تخضع للكنيسة والبابا لا للملك والنظام الإداري للدولة.
[10] ول ديورانت: قصة الحضارة، ، ترجمة مجموعة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة مكتبة الأسرة 2001م. 15/ 44، 45.
[11] مكسيم رودنسون: الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام)، بإشراف شاخت، وكليفورد بوزوروث، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1978م. ص41.
[12] زيجريد هونكه: الله ليس كذلك، ترجمة د. غريب محمد غريب، دار الشروق، الطبعة الثانية، القاهرة، 1417 هـ = 1996 م. ص34.
[13] مايكل هاملتون مورجان: تاريخ ضائع، نهضة مصر، الطبعة الثالثة - القاهرة 2008م. ص268.
[14] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص111.

الثلاثاء، سبتمبر 04، 2012

تغيير المنكر.. صناعة مناعة المجتمع

جاء حيي بن أخطب اليهودي إلى بني قريظة في إطار خطته المحكمة للقضاء على النبي (صلى الله عليه وسلم) بتحريض الأحزاب، إلا أن بني قريظة كانوا في موقف حرج: فلئن فشلت الغزوة فسينفرد بهم المسلمون ولن ينجيهم أحد، وهنا وعدهم حيي بن أخطب بأنه لو حدث ذلك فسيدخل معهم في حصنهم لينزل به ما نزل بهم، وقد كان، وقُتِل معهم وهو رابط الجأش!

وقبل هذه الواقعة بأعوام كلَّف النبي (صلى الله عليه وسلم) فريقا من الصحابة بقتل اليهودي كعب بن الأشرف الذي نقض عهده مع المسلمين وكان يهجو النبي ويحرض عليه ويرثى قتلى المشركين، فذهب هذا الفريق –وهو المكون من محمد بن مسلمة وأبو نائلة وآخريْن- إلى كعب بن الأشرف، وبعد تحضير وتدبير نادوا عليه، فخافت زوجته وحاولت منعه من النزول قائلة: "أسمع صوتا يقطر منه الدم" فكان من ضمن ما قاله لها "إن الكريم إذا دُعِي إلى طعنة بليل أجاب"، وقد كان في هذا مقتله.

***

هذان مثالان من يهود عاشوا بين العرب فاكتسبوا منهم صفات العرب التي تخالف طبائعهم الأصلية (أحرص الناس على حياة، يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، هذا مع أن اليهود هم أقل الناس تأثرا بالآخرين بما عاقبهم الله من تقطيعهم في الأرض (أسباطا أمما) فكانوا منعزلين، وبما يعتقدون في أنفسهم من علو يجعل منهم شعب الله المختار!

والمراد من هذين المثال تبيين أثر المجتمعات في تشكيل طبائع الأفراد وإن خالفت طبائعهم وصفاتهم الأولى.. ثم هاهو مثال يهودي ثالث فيه أيضا عبرة!

حين قطعهم الله أسباطا أمما جعل اليهود في حاراتهم ومناطقهم يحيون مجتمعهم القديم فحافظوا بذلك على وجودهم من الذوبان، وكانت هذه المجتمعات هي نواة تجددهم وإعادة انبعاثهم في دولة، فحتى "الحديث اليومي بين اليهود في المجتمع لم يكن يتمُّ بلغة البلاد، وإنما برطانة يهودية خاصة تُسَمَّى باليديش، وحين كان يهودي الجيتو يتعلَّم لغة جديدة، فإنه كان يتعلَّم "لشون هاقدوش"؛ أي: اللسان المقدس أو اللغة العبرية، لأن مجرَّد النظر إلى أبجدية الأغيار كان يُعَدُّ كفرًا ما بعده كفر، يستحقُّ اليهودي عليه حرق عينيه"[1].

حاصل هذه الوقائع التاريخية الثلاثة يؤدي بنا إلى قيمة "مناعة المجتمع".. حيث لكل مجتمع منظومة فكرية قيمية حاكمة لسلوكيات أفراده، وبقدر تأصل هذه المنظومة بقدر احتفاظ المجتمعات بقوتها وخصوصيتها، وكلما ضعفت كلما انهار المجتمع وكان عرضة للذوبان في غيره أو ليكون ساحة صراع بين المجتمعات المتماسكة!

***

في النظام الإسلامي يكون الإسلام –عقيدة وشريعة- هو هذه المنظومة الفكرية والقيمية الحاكمة، وجعل الإسلام حماية هذه المنظومة عملا تقوم به الأمة ولا تنفرد به السلطة لضمان أن يدافع المجتمع عن نفسه بأقوى وأفعل وسائل الدفاع.. فالكل جنود لهذه المنظومة! فلئن قامت السلطة بدورها في "حراسة الدين وسياسة الدنيا" فبها ونعمت، ولئن قصرت فلن يكون ضعفها أو انهيارها هو انهيار المجتمع بل على العكس.. يستطيع المجتمع أن يعيد تقويم السلطة لأن "الدين النصيحة... لأئمة المسلمين وعامتهم"، ولأن "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" .. فإن لم تقم الأمة بدورها فهذا هو الانهيار الكبير "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منهم"!

ومن الإعجاز الإلهي في إخراج الأمة المسلمة أنه جعل أمر "تغيير المنكر" من صميم الإيمان، فالمسلم يسمع قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وفي رواية أخرى "ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".. فذلك يجعل المسلم مدفوعا إلى تغيير المنكر دفاعا عن إيمانه! فإن لم يفعل ذلك دفاعا عن إيمانه فهو يفعله دفاعا عن وجوده ومصالحه.. ذلك أنه يسمع من النبي حديث السفينة، حيث لو ترك الصالحون المفسدين ليفعلوا ما أرادوا "هلكوا وهلكوا جميعا، ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا"!

ولكي يتعلم المسلمون من التجربة التاريخية لغيرهم قص الله عليهم قصة انهيار بني إسرائيل الذين لعنهم الله لأنهم "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه".. وحذرهم النبي من ذات المصير: "إنه من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل الخطيئة نهاه الناهي منهم تعذيراً حتى إذا كان من الغد وانسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى الله -عز وجل- ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله -عز وجل- قلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم".

لهذا كانت الأمة خير أمة أخرجت للناس، لأن الحفاظ على قيمها وثوابتها عمل شعبي عام يقوم به كل الناس دفاعا عن إيمانهم وعن وجودهم ومصالحهم، ولهذا تظل الأمة هي الأقوى تماسكا بين الأمم جميعا، وكان ضعف السلطة فيها لا يعني انهيارها الحضاري، بل لقد تفوق علينا الصليبيون والمغول عسكريا ثم وقعوا جميعا أسرى ثقافتنا وحضارتنا في الشام وصقلية والأندلس ووسط آسيا، وربما اختفى الإسلام من الأندلس وصقلية سياسيا وعسكريا ولكن إشعاعه الحضاري ظل طوال قرون يؤثر في تلك الأنحاء.

***

يمكننا أن نرى في ظهور "الدولة المركزية" نقطة نكبة في تاريخ الأمة، فمنذ تلك اللحظة حاولت السلطة السيطرة على حركة الأمة ومنعها من الفعل إلا بإذن من السلطة، وفي مصر على سبيل المثال انزعجت السلطة من بلاغات ضد ترويج الكفر في المؤلفات فأصدرت قانونا يمنع أحدا من رفع قضية في مثل هذه الأمور العامة[2] بل غاية ما يفعله أن يقدم بلاغا للنائب العام الذي تحول إلى كهف لمثل هذه البلاغات يقبرها جميعا، فينتشر الكفر –باسم الحرية- وتُمنع مقاومته –باسم القانون- ليزيد المجتمع انهيارا فتزيد السلطة فيه تحكما واستبدادا!

وهذا التطور الأخير هو حلقة في سلسلة بدأت قديما بتجريد الأمة من أموالها –الأوقاف الخيرية- ومن مجهودها الطوعي –الجمعيات الأهلية والخيرية- بل حتى من وسائل إعلامها الخاصة –المساجد والزوايا- ومن مدارسها المحلية –الكتاتيب والتكايا- فصار كل هذا في يد السلطة تحركه أو تمنعه أو تحتكره!

لهذا كله نزلت النكبات بالأمة تترى منذ مائتي عام، منذ ظهور "الدولة المركزية" حيث صارت الأمة كالأسير عند السلطة، هذه السلطة التي سلمتها للاحتلال الأجنبي العسكري والثقافي، احتلال الأذواق والقيم والأفكار، مما جعل الانهيارات أسرع وأكبر وأوسع من جميع ما تم فيما قبل هذا التاريخ!

***

ولا علاج لكل هذه الانهيارات إلا أن تعود الأمة إلى ساحة الفعل، وأن تكون الأمة أقوى من السلطة، ولا يمكن تحقق هذا إلا بنشر ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبها وحدها يشعر المسلم ضرورة القيام بها دفاعا عن إيمانه وعن وجوده.

لقد انهارت أمم وممالك وحضارات كثيرة بالظلم والطغيان منذ قوم نوح الذين كانوا (أظلم وأطغى) وحتى عصرنا الحاضر، وإلى يوم القيامة، بينما سيظل الروم أكثر الناس بنص حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" وهو ما فسره الخبير بهم عمرو بن العاص (رضي الله عنه) فذكر أن لهم خمس خصال جميلة "إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف (الأمر بالمعروف) وأمنعهم من ظُلْم الملوك (النهي عن المنكر)"!

وهذه كلها صفات يقوم بها الناس، العامة، الشعب، الرعية.. لا الملوك والحكام، ولهذا –وبهذا- تخلد الأمم!

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية 1/ 31، 32.

[2] وذلك في أوائل التسعينات في قضية نصر حامد أبو زيد.