بدايةُ فكرة هذا المقال طَرَأَت منذ وقعت على كلمة هنري
كيسينجر –وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق- الذي
وصف فيه العسكر بأنهم "مجرد حيوانات غبية تستعمل كعساكر الشطرنج في تنفيذ
السياسات الخارجية" (military men
as dumb, stupid animals to be used as pawns for foreign policy)[1]،
وهذا التصريح يعد من أهم ما قاله إلى الحد الذي سجله موقع "اقتباسات
ويكي" كأول "اقتباس" لكيسينجر.
ذلك أن هذا القول يختصر العقلية الغربية في رؤيتها
للجندي، الإنسان المسلح، فهي تعمل على تجريده من كل "قيمة" أو
"شعور" أو "قدرة على التفكير" لكي يمكن استخدامه في تنفيذ
السياسات المتوحشة التي لا تردد في إقامة المذابح الهائلة تنفيذا للأهداف التي
يقررها الساسة مهما كانت لا أخلاقية.
وهذا الأمر ليس غريبا على التراث الغربي عامة من قديم، ففي
عهد الإمبراطور الروماني فسبسيان، حاصر الرومان اليهود لخمسة أشهر حتى سقطت
المدينة، فأمر الرومانُ اليهودَ أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم بأيديهم، ثم أخذوا
يضربون القرعة بين كل يهوديين فمن فاز منهما قتل الآخر حتى أبادوا اليهود[2].
لم يكن الفرسان الغربيون يعرفون شيئا عن "أخلاق
الفرسان" أو "الفروسية" حتى تأثروا بها في احتكاكهم بالمسلمين سواء
في الأندلس أو صقلية (التي ظلت تحت الحكم الإسلامي لقرنين من الزمن) أو حملاتهم
الصليبة على الشرق، عندئذ رأوا من أخلاق الجندي المسلم الفارس ما جعلهم
يستلهمونها، وهذه حقائق تاريخية يشهد بها حتى الباحثون والمؤرخون الغربيون.
وفي هذه المقالة وددت أن أجمع للجندي المسلم ما يملؤه
فخرا وعزة بانتمائه إلى الإسلام، ذلك الدين الذي يجعل الولاء للفكرة والقيم
والإنسانية، ولا يسمح للجندي أن يكون مجرد أداة يستخدمها القائد السياسي أو
العسكري في ارتكاب ما يأباه الشرف والدين والخلق القويم.. فانظر أيها الجندي، تلك
شهادة قوم على غير دينك لأجدادك المحاربين المسلمين.
***
لقد استطاعت الفروسية الإسلامية، وسلوك الفاتحين أن
يفعلا ما عجزت الامبراطوريات الكبيرة عن فعله في مصر مثلا، إذ منذ انتهت الحضارة
الفرعونية لم يستطع الفرس ولا الإغريق ولا البطالمة إقامة حضارة في مصر، هذا ما
يقوله الفيلسوف الفرنسي المعروف جوستاف لوبون:
"وما جَهِله المؤرخون من حِلْم العرب الفاتحين وتسامحهم،
كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونُظُمهم
ولغتهم، التي رَسَخَت وقاومت جميع الغارات، وبَقِيَتْ قائمةً حتى بعد تواري سلطان العرب
عن مسرح العالم، ونَعُدُّ من الواضح خاصةً أمرَ مصر التي لم يُوَفَّق فاتحوها من الفرس
والإغريق والرومان أن يقلبوا الحضارةَ الفرعونية القديمة فيها وأن يُقيموا حضارتهم
مقامها... وكان يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما
يقترفه الفاتحون عادة، ويُسِيئُوا معاملة المغلوبين، ويُكْرِهُوهم على اعتناق دينهم،
الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحقُّ أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين
مثل العرب، ولا دينًا مثل دينهم"[3].
ولقد أثرت هذه الأخلاق في العدو المحارب، وكان الاحتكاك
الكبير بين المسلمين والغربيين في ثلاثة مناطق كبرى: الشام ومصر حيث دارت الحروب
الصليبية، وجزيرة صقلية ومناطق جنوب إيطاليا حيث حكمها المسلمون ثم هُزموا أمام
النورمان، والأندلس!
ترصد المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه ما طرأ على حال
النورمان، وقد كانوا قبائل متوحشة، حين استولوا على صقلية فتقول:
"ولأوّل مرّة في تاريخ العالم المسيحي أظهر النورمان
تسامحاً مع المخالفين لهم في العقيدة، متمثّلين بالعرب في شهامتهم ورجولتهم. فكان ذلك
المسلك بالتأكيد، هو سرّ ما أصاب دولتهم من ازدهار، إذا قورنت بنظيراتهم في الغرب"[4].
وتكرر هذا المشهد في الأندلس، إذ ظهرت الفروسية العربية
في أوروبا فكان "عرب إسبانيا يتَّصفون بالفروسية المثالية خلال تسامحهم العظيم،
وكانوا يرحمون الضعفاء ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى هذه الخِلال"[5]،
حتى شهد المستشرق الإنجليزي الكبير توماس أرنولد أنه قد "بلغ من تأثير الإسلام
في نفوس معظم الذين تحوَّلوا إليه من مسيحيِّي إسبانيا مبلغًا عظيمًا، حتى سحرهم بهذه
المدنيَّة الباهرة، واستهوى أفئدتهم بشعره وفلسفته، وفنِّه الذي استولى على عقولهم
وبهر خيالهم، كما وجدوا الفروسية العربية الرفيعة مجالاً فسيحًا لإظهار بأسهم، وما
تَكَشَّفت عنه هذه الفروسية من قصد نبيل وخُلق كريم"[6].
وأما في الحروب الصليبية في الشام ومصر فقد بهرت
الفروسية الإسلامية نفوس الصليبيين حتى دخلت في الإسلام أعداد غفيرة منهم رغم أنهم
قدموا أول الأمر لحرب المسلمين، لقد وقعوا في الأسر فاستقبلتهم فروسية المحاربين
المسلمين بما أمرهم الله به من معاملة الأسرى، يقول توماس أرنولد: "في الصراع
مع السلاجقة تخلَّى الإغريق الصليبيون عن إخوانهم في الدين، وكتب المؤرخ القديم: لقد
جفوا إخوانهم في الدين الذين كانوا قساة عليهم، ووجدوا الأمان بين الكفار (يقصد المسلمين)
الذين كانوا رحماء عليهم، ولقد بلغنا أن ما يربوا على ثلاثة آلاف قد انضمُّوا بعد أن
تقهقروا، إلى صفوف الأتراك، آه! إنها لرحمة أقسى من الغدر! لقد منحوهم الخبز، ولكنهم
سلبوهم عقيدتهم، ولو أنه من المؤكد أنهم لم يُكرهوا أحدًا من بينهم على نبذ دينه، وإنما
اكتفوا بما قَدَّمُوا لهم من خدمات"[7].
ولا يقتصر الأمر على الأسرى فحسب، بل حتى الحجاج
الصليبيون الذين قدموا من أوروبا لزيارة القدس كانوا عرضة للوقوع في أسر الإسلام،
يضيف أرنولد: "وكان خطر الدخول في الإسلام - وهو ما كان (يتعرَّض) له حجاج الأراضي
المقدسة - قد شاع أمره في ذلك العصر بصورة واضحة، حتى إن أموري دي لاروش ( Amaury de la Roche) رئيس فرسان المعبد التمس من البابا ونوابه في فرنسا
وصقلية، في مذكرة دونها حوالي سنة 1266م، أن يمنعوا الفقراء والشيوخ والعاجزين عن حمل
السلاح من عبور البحر إلى فلسطين؛ لأن أمثال هؤلاء الأشخاص كانوا يَتَعَرَّضون إما
للقتل أو الأسر، أو لأن يفتنهم العرب عن دينهم"[8].
وعلى أن الحروب الصليبية استمرت أكثر من قرنين من الزمان
إلا أن المؤلفات الغربية تكاد لا تذكر شيئا من هذا التاريخ وتركز على شخصية صلاح
الدين الأيوبي الذي يعد الشخصية العربية الأولى في المؤلفات الغربية، فهذا المؤرخ
الأمريكي ول ديورانت صاحب موسوعة "قصة الحضارة" يشهد باجتماع العسكرية
الإسلامية في القسوة على المحاربين حال الحرب وفي الرفق بهم إن صاروا أسرى أو
مسالمين، يقول ول ديورانت "كان صلاح الدين مستمسكًا بدينه إلى أبعد حدٍّ، وأجاز
لنفسه أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى[9]؛
ولكنه كان في العادة شفيقًا على الضعفاء، رحيمًا بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه
بوعده سموًّا جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي -"الخاطئ"
في ظنِّهم- رجلاً يصل في العظمة إلى هذا الحدِّ"[10].
لقد كان تميز صلاح الدين في أخلاقه عن ملوك الصليبيين
واضحا وناصعا، هذا ما يؤكده المستشرق الفرنسي الشهير مكسيم رودنسون: "أثار العدو
الأكبر صلاح الدين إعجابًا واسع الانتشار بين الغربيين؛ فقد شنَّ الحرب بإنسانية وفروسية،
برغم قِلَّة مَنْ بادلوه هذه المواقف، وأهمهم ريتشارد قلب الأسد"[11].
بدا هذا الفارق أكثر ما بدا –كما تذكر الألمانية زيجريد
هونكه- حين "تمكَّن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس (583 هـ = 1187
م) -التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل (492 هـ = 1099 م) بعد أن سفكوا دماء أهلها
في مذبحة لا تُدَانيها مذبحةٌ وحشيةً وقسوةً- فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقامًا
لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جُودِه ورحمته، ضاربًا المثل
في التخلُّق بروح الفروسية العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانية
أي التزام خُلقي تجاه كلمة الشرف أو الأسرى"[12].
لقد دفع هذا الصليبيين إلى التزوير في تاريخ صلاح الدين
والادعاء بأن أمه كانت صليبية فورث منها هذه الفروسية! لقد التقط الأمريكي مايكل
هاملتون مورجان هذه الطرفة وأشار إلى أنها إعجاب بالفروسية وحدها، فصلاح الدين لم
يكن من العلماء كالمأمون ولا زعيما لدولة مستقرة زاهرة حضاريا، يقول: "قائد مسلم،
وهو رجل شديد التدين لن يتمتع بفكر مثل هارون الرشيد والمأمون، ولا الحَاكم في القاهرة،
أو عبد الرحمن الثالث في قرطبة، إلا أنه سيجسد نوعًا من شرف الفروسية الإسلامية سيكون
مثار انبهار الأوربيين، بل وسيدفعهم نبله هذا إلى العديد من المواقف المحرجة، فما كان
منهم إلا التماس أن السبب وراء أخلاقه الرفيعة والكريمة ما هو إلا لأن لديه دماء أوربية
تجري في عروقه، هذا الرجل هو صلاح الدين"[13].
وكانت النتيجة –كما يقول توماس أرنولد- أن "أخلاق صلاح
الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره
تأثيرًا سحريًّا خاصًّا، حتى إن نفرًا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم
إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضمُّوا إلى المسلمين"[14].
***
أيها الجندي المسلم..
هكذا فروسيتك، يشهد بها الخصوم، ويزهو بها التاريخ!
وأنت –بإذن الله- خير خلف لخير سلف..
[2] مصطفى مراد
الدباغ: بلادنا فلسطين 9/68 – 70. نقلا عن: د. راغب السرجاني: أخلاق الحروب، مؤسسة
اقرأ، القاهرة، الطبعة الأولى، 1431 هـ = 2010م. ص50.
[3] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة
عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م. ص605.
[4] زيجريد هونكه: شمس الله تسطع
على الغرب، ترجمة فاروق بيضون، كمال دسوقي، راجعه ووضع حواشيه مارون عيسى الخوري، دار
صادر، الطبعة العاشرة - بيروت، 2002م. ص412.
[5] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص278.
[6] توماس أرنولد:
الدعوة إلى الإسلام، ، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، مكتبة النهضة المصرية، 1980م.
ص164.
[9] فرسان المعبد (الداوية Knights Templar)، وفرسان
المستشفى (الإسبتارية HOSPITALLERS): كتائب عسكرية صليبية
لكنها تخضع للكنيسة والبابا لا للملك والنظام الإداري للدولة.
[10] ول ديورانت: قصة
الحضارة، ، ترجمة مجموعة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة مكتبة الأسرة 2001م.
15/ 44، 45.
[11] مكسيم رودنسون: الصورة الغربية
والدراسات الغربية والإسلامية، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام)، بإشراف شاخت،
وكليفورد بوزوروث، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1978م. ص41.
[12] زيجريد هونكه: الله ليس
كذلك، ترجمة د. غريب محمد غريب، دار الشروق، الطبعة
الثانية، القاهرة، 1417 هـ = 1996 م. ص34.
لم تبقي لقائل من قول ولكني أود أن تعلو هامات جنودنا فترتفع لهامات السابقين لهم
ردحذفالسلام عليكم و رحمة الله و بركاته .. أتمنى يا أخي أن تكتب دراسة كاملة في المقارنة بين الفكر اليهودي(أو الصهيوني)-الغربي عن الحرب و بين الفكر الاسلامي مدعمة بحقائق التاريخ و أن يتم انتاجها اعلاميا (بشكل أو آخر) حتى يخرج الناس من أساطير هوليود و أكاذيب حقوق الانسان و اتفاقيات جينيف الى أرض الواقع المرير .. تحياتي
ردحذف