الأحد، فبراير 16، 2020

مذكرات الشيخ رفاعي طه (23) حقيقة الصفقة بين السادات وبين التيار الإسلامي ضد اليسار


مذكرات الشيخ رفاعي طه (23)

من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

حقيقة الصفقة بين السادات وبين التيار الإسلامي ضد اليسار

·        قادتنا أفكارنا إلى الفكرة المجنونة: تكوين جماعة تكون بديلا عن الإخوان المسلمين
·        كنا ندرس العقيدة الطحاوية وكتب الحنابلة وابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب
·        نمو التيار الإسلامي في السبعينات كان رغما عن السادات

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لقراءة الحلقات السابقة:
تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة  (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي   (15) بداية زعامة صلاح هاشم – (16) محاولة الإخوان الهيمنة على جامعة أسيوط (17) كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية؟ - (18) الانشقاق بين الإخوان والجماعة الإسلامية في أسيوط – (19) أخفقت في التوفيق بين الإخوان والجماعة الإسلامية – (20) لم يتسامح السادات مع التيار الإسلامي – (21) نظرة من الداخل على التيار الإسلامي بجامعة أسيوط (22) حاربنا التحرش في جامعة أسيوط بترتيب يمنع الاختلاط

إذا أردت أن ألخص نشأة الجماعة الإسلامية في سياق واحد، يجمع ما سبق أن فصَّلْتُ فيه، فسيكون كالآتي:

·        كانت المجموعة الأولى التي تشكلت منها نواة الجماعة الإسلامية من شباب يجد في نفسه إنسانا معارضا لهذا النظام المصري، وهم: صلاح هاشم وأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وأبو بكر عثمان وناجح إبراهيم. ومن أبرز ما يدل على ما كان عندنا من المعارضة الجذرية لهذا النظام أن واحدا منا كان اسمه جمال عبد الناصر من شبرا فغَيَّرَ اسمه إلى: عبد الله عبد السلام نفورا من اسم عبد الناصر.

·        بحث هؤلاء الشباب عن طريق للعمل وتحقيق أحلامهم، فبدأ عملهم داخل جامعة أسيوط، التفوا في البداية حول دعاة التمسوا فيهم الإخلاص مثل الشيخ مصطفى درويش وعبد الله السماوي، ثم دعاة الإخوان المسلمين ممن كانوا يجوبون الجامعات مثل الشيخ الغزالي وكذلك الأستاذة زينب الغزالي رحمها الله، وغيرهما.

·        ثم حاولت جماعة الإخوان المسلمين احتواءنا لكنها لم تنجح، وكان لنا عليها مطاعن دينية تتعلق بعدم التزامهم عقيدة السلف الصالح وأن فيهم متصوفين، ومطاعن سياسية تتعلق بتهدئهم مع نظام السادات ومحاولتهم احتواء الشباب كنوع من رد الجميل له لإخراجهم من السجون. وهذه الخلافات اجتمع فيها أننا كنا شبابا متحمسين قصيري النظر شديدي الحماسة مع طريقتهم الإقصائية الحادة التي تضيق مساحة التعاون فإما الهيمنة وإما المفارقة.

·        ثم نجحنا في الفوز بانتخابات اتحاد الطلاب، وكان قفزة واسعة في نشاطنا الدعوي بالجامعة، وفي ظل هذا النشاط الدعوي كانت هذه المجموعة تمثل قيادة للجامعة، ومن هنا استطاع هؤلاء الشباب أن يكونوا هم المهيمنين على الحالة الدعوية في جامعات الصعيد، مما دفع الأستاذ مصطفى مشهور فيما بعد أن يحاول مع قيادات الجماعة الإسلامية أن ينضووا مرة أخرى تحت لواء الإخوان، وذلك في صيف 1978 أو 1979، لا أتذكر بالضبط، لكنه لم ينجح في إقناع هذا الجيل، حتى مع موافقة عدد قليل على العمل مع الإخوان مثل المهندس أبو العلا ماضي ومحيي الدين عيسى.

في ظل هذه الظروف كانت قناعاتنا تسوق إلى إنشاء جماعة جديدة، جماعة تلتزم بالعقيدة الصحيحة والهدي الظاهر، تناوئ السلطة وتستثمر حماسة الشباب وطاقتهم في معارضتها، تتجاوز جماعة الإخوان التي كانت قناعتنا وقتها أنها غير قادرة على حمل همّ الأمة.

بمقاييس ذلك الزمن، وقياسا إلى أعمارنا وخبراتنا كانت هذه فكرة أشبه بالمجنون، تحتاج إلى ثقة عظيمة في النفس، كما تحتاج عزما عظيما، وجهدا غير عادي، ولو اطلع أحدٌ على ما في نفوسنا وقتها لعدَّنا مجموعة مخبولة، ثلة طلاب في جامعة من الصعيد تريد أن تكون بديلا عن جماعة بحجم الإخوان المسلمين!!

بدأت النواة بصلاح هاشم وحمدي عبد الرحمن ورفاعي طه وكرم زهدي وأسامة حافظ وناجح إبراهيم، لكن التكوّن الفكري بالشكل السابق كان متمثلا بشكل أكبر في أسامة حافظ وصلاح هاشم والفقير إلى الله، بينما كانت للشيخ كرم زهدي نزعة جهادية، فهو أميل إلى ألا تكون الجماعة قائمةً على فكرة بقدر ما أنها تقوم على التغيير، والتغيير السريع، أي أنها جماعة ثورية!

وخلاصة الأمر أننا شرعنا في إنشاء جماعة على التصور السلفي وعلى العمل الثوري الذي يستهدف تغيير النظام.

عقدنا العزم على أن يكون أعضاء الجماعة الإسلامية أصحاب عقيدة صحيحة، عقيدة السلف الصالح، فشرعنا في دراسة العقيدة الطحاوية وتدريسها لأعضائنا، ولا بأس من التعريج على كتابي "التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشرحه "فتح المجيد"، وفي الفقه لا بأس بدراسة كتب الفقه الحنبلي وإن كنا نميل في هذه المرحلة إلى كتب الفقه المقارن بصفة عامة، كنا نحاول أن نخط لأنفسنا خطًّا محددا بعيدا عن التجاذبات الموجودة  عند السلفيين، الذين لم نكن راضين عن خطهم، وكنا نسميهم "صوفية الحركة الإسلامية"، أمثال الشيخ الدبيسي وأسامة عبد العظيم وغيرهم، وكان هؤلاء الأقرب إلينا، وكانوا هم سلفية القاهرة قبل أن يظهر الشيخ محمد عبد المقصود والمجموعات التي صارت تُعرف بسلفية القاهرة، ففي السبعينات لم يكونوا قد ظهروا بعد. وكان أخونا سيد العربي يمثل تيارا أقرب إلى التيار التكفيري بمعنى أنه لا يعذر بالجهل ونحو هذه الأمور، وكنتُ في هذه الأفكار أقرب إلى الفكر الذي لا يجنح إلى التكفير، ومع هذا كنت قريبا من الشيخ سيد العربي ومن الشيخ ناجح في نفس الوقت، وحاولت بقدر الإمكان أن أقارب بينهم بحيث يستمر سيد العربي ضمن الجماعة الإسلامية، لكن لم أنجح في هذا، وخرج سيد العربي، لكن في ذلك الوقت لم يكن قد أصبح تيارا بعد، ورجع إلى شبرا وصارت له مجموعة داخل شبرا.

صار للجماعة الإسلامية تأسيس فكري قائم على العقيدة الطحاوية، لا يجنح إلى التكفير، وعملنا في مرحلة مبكرة جدا قبل أن ندخل إلى السجون، مجموعة رسائل صغيرة في مسألة "عدم العذر بالجهل"، وتصدينا لفكر التكفير الذي نشره شكري مصطفى، لأنها بدأت في أسيوط، وكنا نحذر الشباب من ذلك. وعلى المستوى الفقهي لم نكن نتبنى مذهبا فقهيا لكن كان المذهب الحنبلي أقرب إلى مدرسة أهل الحديث، التي كنا نستند إليها، فكنا ندرس كتب: المغنى والكافي والعمدة، وجاء المغني في مرحلة متأخرة لاتساعه وطوله بينما كانت البداية بالعمدة والكافي. بالإضافة إلى كتب ابن القيم وابن تيمية، وهؤلاء الثلاثة: ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم كانوا بمثابة المرجعيات العلمية التي ندرس كتبهم ونتتلمذ عليها ونقدمها، ثم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

وفي هذا كله كنا مجتهدين بذاتنا، لم نقلد أحدا، وعندما شببنا عن الطوق وقررنا تكوين الجماعة الإسلامية بدأنا في بحث "الطائفة" في مرحلة مبكرة جدا، إلا أنه أخذ قيمته العلمية بعدما دخلنا السجن، وربما نأتي في سياق آخر للتعريف بهذه الكتب، لا سيما الكتب الثلاثة: "الطائفة" و"شحذ الهمة" و"الميثاق" التي كانت أهم إنتاج الجماعة الإسلامية وتمثل محاورها الفكرية فيما بعد، لكن لا نزال الآن في الشكل الهلامي للجماعة الإسلامية.

كذلك أقمنا لقاءًا سميناه "لقاء الاثنين"، وبدأنا نجيب على سؤال: لماذا الجماعة الإسلامية؟ وبم تتميز؟ ولماذا فارقت الاتجاهات الإسلامية الأخرى؟ فشرعنا في بيان هذا نرد على رؤية الإخوان المسلمين، ورؤية أنصار السنة المحمدية، ورؤية الجمعية الشرعية، ورؤية بقية الأطياف الإسلامية بحيث نبرر ونفسر لماذا وجدنا أنه من الضرورة إنشاء الجماعة الإسلامية.

تركزت خلاصة الفكرة الثورية للجماعة الإسلامية في القيام على دعوة مكثفة مناهضة للنظام تعمل على تثوير الشعب المصري وكسر حاجز الخوف الذي ينتصب بين الناس وبين السلطة، ومن ثم فلا بد أن تدعو خطاباتنا ولقاءاتنا وكل محاضراتنا لتسفيه النظام المصري وكسر هيبته واختراق رهبته وتجريئ الشعب عليه.

ولا شك أن مرحلة السادات كان فيها قدر كبير من الحرية لكافة التيارات، قياسا بما سبقها وبما تلاها من الحقبة العسكرية المصرية، فقد كان نشاطنا هذا كله علنيا، ومع هذا فلا ننسى أن هذا القدر الكبير من الحرية الممنوح للجميع كان السادات يريد أن يحرم التيار الإسلامي منه، لكن هذه المعادلة كانت صعبة وغير ممكنة التنفيذ بشكل كامل.

وهنا أنتهز الفرصة للرد على شائعة مشتهرة تقول بأن السادات سمح للجماعة الإسلامية أو للتيار الإسلامي بصفة عامة أن يضرب التيار اليساري داخل الجامعات، وأنه كان متواطئا معها، أو أن الجماعات الإسلامية كانت متعاونة أو متحالفة أو عميلة للسادات بشكل أو آخر.

إنني أقرر هذا بيقين أن هذه المقولة خاطئة 100%، بل إن السادات منح الشرعية والاعتراف الرسمي لثلاثة تيارات رئيسية: تيار الوسط الذي كان يمثله حزب مصر، والحزب الوطني الذي هو حزب السلطة، والليبراليين الذين كان يمثلهم في وقتها حزب الأحرار، ثم منح الشرعية لحزب الوفد وحزب العمل الذي كان أقرب إلى اليسار، وتمخض عن التيار اليساري جريدة الأهالي، فكان في مصر ثلاث تيارات تمنح الشرعية والاعتراف الرسمي، بينما لم يكن للتيار الإسلامي أي حزب رسمي!

لم يكن السادات متعاونا قط مع التيار الإسلامي، بل كان يعمل على تقويضه، وأكبر دليل على هذا سعيه الحثيث لاجتثاث الإسلاميين من اتحادات الطلاب، وكانت هي المؤسسة الوحيدة التي يهيمن عليها الإسلاميون لأنها تنتج من انتخابات الطلاب لا باعتراف من السلطة، واتحاد الطلاب هو مؤسسة صغيرة جدا إذا قورنت بالعمل السياسي الممنوح للتيارات غير الإسلامية، لقد كان السادات حريصا على إبقاء التيار الإسلامي خارج دائرة الشرعية ليكون نشاطه تحت التهديد الدائم، ولقد كان يستهزئ كثيرا –كما في اللقاء الشهير- بالأستاذ عمر التلمساني رحمه الله، ويناديه: يا عمر.. يا عمر، مجردا من أي ألقاب، وقد كان أكبر منه بحوالي خمسة عشر عاما!

يمكن للقارئ أن يرجع إلى التسجيل، ليستمع إلى الأستاذ التلمساني وهو يقول له: لو فعل ذلك غيرك لشكوته إليك، أما والأمر منك فإني أشكوك إلى الله، فيرد السادات: "اسحب شكواك يا عمر فإني أخافه"، في لهجة استهزائية واضحة. أضف إلى هذا هجوم السادات على شعائر الإسلام، وقد وصف الحجاب بالخيمة، وهجومه على الشيخ أحمد المحلاوي وقوله عنه: مرمي في السجن زي الكلب، وقد شن ضده حملة كبرى.

لقد كان السادات من خصوم التيار الإسلامي، وكان مناهضا له ساعيا في تقويضه، وفتح للتيارات الأخرى بما في ذلك اليسار الذي امتلك جريدة التجمع، وقد كانت صحيفة قوية في هذه المرحلة، وكان لكل تيار كيان إلا الإسلاميون، وغاية ما تحصل الإسلاميون عليه من كرم الحريات هذا مجلة الدعوة التي صدرت للإخوان المسلمين، وحصل الأستاذ حسين عاشور على تصريح لاستئناف صدور مجلة الاعتصام، وأصدر أيضا مجلة المختار، وقد صودرت هذه المجلات في غضبة السادات المشهورة عام 1981م.

والشاهد من هذا أن الحركة الإسلامية استفادت من الهامش الذي فتحه السادات للجميع، وكانت أقل هذا الجميع استفادة من هذا الكرم الساداتي، إن صح أن تسمى الحقوق كرما كأنها من جملة المنح والعطايا التي يهبها الحاكم للناس.

ولست أوافق حتى على القول بأن السادات فتح المساحة للجميع وهو يعرف أن التيار الإسلامي سيقوم بدوره في هزيمة التيار اليساري، ذلك أن قرار مواجهة اليساريين كان قرارا ذاتيا بدأه الإسلاميون من تلقاء أنفسهم وبطبيعة أفكارهم التي تناهض الكفر والانحلال اليساري، ولم يكن في ذلك مدفوعا من أحد إطلاقا. ومن الأدلة على ذلك أن التيار الإسلامي لم يسلم من السلطة وهو يواجه اليساريين بل تعقبته السلطة، فلقد كان يُساق الطلاب الإسلاميون إلى مجالس التأديب وتوقع عليهم العقوبات داخل الجامعات إثر ما يكون بينهم وبين اليساريين من المعارك والاشتباكات، فلم تكن السلطة تمنحنا ولا حتى غض الطرف عن هذه المعركة التي يُقال إنها في صالحها!!

إن كافة ما وقع بيننا وبين اليساريين من مواجهات واشتباكات وما حققناه من مكاسب إنما انتزعناه عنوة رغم أنف اليسار ورغم أنف السلطة معا، وأمورٌ مثل التي ذكرتها سالفا كالحجاب والكتاب الإسلامي والمعرض الإسلامي وتنظيم المدرجات لمنع الاختلاط بين الشباب والفتيات، والهدي الظاهر وغير هذا من محاولات صبغ الجامعة بالصبغة الإسلامية، كل ذلك إنما دفعنا ثمنه من أعمارنا ومستقبلنا وتحملنا ضريبة الفصل من الجامعة، وضريبة دخول المعتقلات والسجون في مرحلة مبكرة من أعمارنا إذ كنا في ريعان الشباب.

لم يكن نمو التيار الإسلامي في عهد السادات مقصودا منه، بل انفجر رغما عنه، ولقد حاول هو كثيرا أن يحتوي هذا التيار ويقلم أظافره ويقضي عليه، واستعمل في ذلك ذهب المعز وسيفه، ولكنه فشل في ذلك، ولقد حاول نظام السادات مرارا اختراق الجماعة الإسلامية، والقبض على رموزها، وحاول تحييدها، ومما وقع لي شخصيا أنه كان يُلقى القبض علي في الامتحانات بقصد تعطيل مساري الدراسي، وظللت على هذا الحال أربع سنوات في السنة الأخيرة من الكلية، فقد كان ينبغي أن أتخرج في سنة 1978 ولكني ظللت محروما من هذا التخرج حتى سنة 1982، ثم دخلت السجن ولا زلت لم أمتحن مادتين من مواد السنة النهائية. كان هذا شيئا من محاولات النظام تقويض الجماعة الإسلامية ورموزها وتشويههم، فكيف يُقال: أطلق السادات الحرية للتيار الإسلامي للقضاء على اليساريين؟ أو كيف يقال إن التيار الإسلامي كان متواطئا ومتعاونا مع السادات؟!

نعم، يمكن القول إن الجماعة الإسلامية لم تتعرض في عهد السادات لمثل الجحيم الذي تعرضت له في عهد مبارك، ولكن قياسا بما كان موجود من هامش الحرية، فقد تعرضت الجماعة الاسلامية تعرضت لأكثر أنواع التضييق في ذلك الوقت.

وحين أقول "الجماعة الإسلامية" فأنا أعنيها من بين كل التيارات الإسلامية، ولكن لا يعني هذا أن بقية الإسلاميين كانوا ينعمون بحرية كالتي ينعم بها الآخرون، بل حتى الإخوان المسلمين، بالرغم من موقفهم المهادن للنظام كان مضيقا عليهم، وما إن ارتفع صوتهم حتى شرعت السلطة في تقويضهم كذلك، وأشهر ما في هذا ما جرى بين السادات والأستاذ التلمساني، وما جرى بين السادات وعبد المنعم أبو الفتوح وصياح السادات في وجهه: قف مكانك.. قفك مكانك! الإسلام علمكم ذلك الأدب؟!

لقد ضاق السادات ذرعا بالتيار الإسلامي، ولم يكن مستعدا أن يقبل بهذا النمو الذي كان رغما عنه، مع أن الإسلاميين في هذا الوقت لم يكونوا يملكون شيئا غير الكلمة، ولقد كان يعلم أننا لا نملك شيئا غير هذه الكلمة.

نشر في مجلة كلمة حق 

الجمعة، فبراير 07، 2020

أنفقوا في سبيل الله


بدأت سيرة هذه الأمة برجال لا يبخلون بأموالهم وأنفسهم أن ينفقوها في سبيل الله، وسَجَّلت صفحات التاريخ الأولى لقصة الأمة المسلمة موقف أبي بكر رضي الله عنه وهو ينفق الأموال ليشتري بها العبيد والإماء الذين أسلموا ليُنْقِذَهم من العذاب، ثم يعتقهم فيحررهم، فإذا العبد المعذب بالأمس يصير مسلما حرا اليوم، وأشهر هؤلاء قاطبة: بلال بن رباح مؤذن النبي وصاحبه الذي ضُرِب به المثل في صبره واستهانته بنفسه في سبيل الله! حتى قال عمر، وهو العربي القرشي، "أبو بكر سيدُنا، وأعتق سيدَنا".

ثم مضت سيرة الدعوة حتى هاجر المسلمون إلى المدينة فابتدأت سيرة الدولة، ولقد بدأت سيرة الدولة الإسلامية برجال لا يبخلون بأموالهم وأنفسهم أن ينفقوها في سبيل الله، ولقد ضرب الأنصار مثلا رفيعا سامقا لولا أنه جاءنا بأصح الأسانيد ينقله الثقة عن الثقة لظننا أنه من أساطير الأولين وخرافات القصاصين، لقد استقبل القوم في بلادهم طوفانا من المهاجرين بل تسابقوا على استضافتهم، حتى صارت تضرب القرعة بين الناس على من يستضيف!! "فما نزل مهاجر على أنصاري إلا بسهم"، ثم بلغ الحال أن الأنصاري يعرض نصف ماله على أخيه المهاجر، بل يعرض أن يطلق إحدى زوجتيه ليتزوجها أخوه المهاجر.. هذا خبر لا يُصَدَّق، ولو أن أحدنا طالب أحدًا أن يفعل ذلك لوقع في نفسه أنه مجنون! ولهذا يجب أن نعرف عظمة أسلافنا الأنصار الذين أقبلوا على هذا الذي نعده جنونا وهم فرحون مستبشرون. ولقد وصفهم الله بوصف انفردوا بهم فقال تعالى (والذين تبوؤا الدار والإيمان) أي أن الأنصار دخلوا في الإيمان وسكنوا فيه وكان لهم وطنا.

ومن نظر في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وجد عجبا، فإن الله تعالى قد خاطب النفس من جميع مداخلها كي تتخلص من البخل فتنفق في سبيله.

فقد تكرر في القرآن الكريم أن الإنفاق في سبيل الله من صفات المؤمنين، حتى إن المرء ليخشى على من لا ينفق أن لا تكون له صفة الإيمان، ففي أول آيات القرآن الكريم وصف للمؤمنين بأنهم (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، وجاء في سورة الحجرات (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، ويُفهم هذا من قوله تعالى في سورة الحديد (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا) فالمفهوم من الآية أن كل مسلم هو مُنْفِقٌ بالضرورة، إلا أن الذين أسلموا قبل الفتح أعظم درجة من الذين أسلموا بعده، والفتح المقصود هنا هو: صلح الحديبية.

كذلك تكرر في القرآن الكريم أن الله وصف إنفاق المال بأنه جهاد في سبيل الله، قال تعالى (والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم)، وقال تعالى (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، بل وقدَّم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وهو ذروة سنام الإسلام كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخبر الله أن البخل من صفات الكفار والمنافقين وأنه سمة من يتخلف عن رسول الله (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، وقال تعالى: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله).

وكرر الله تبارك وتعالى في كتابه أن المال الذي ينفقه صاحبه لا يضيع، بل إن الله يحفظه له وهو العليم الخبير البصير، ثم إنه ينميه ويضاعفه له حتى يبلغ أن يكون سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم). ومن بديع ما رقق الله به القلوب ووجهها إلى الإنفاق أنه تعالى سمَّاه قرضا لله، وهذا معنى عظيم تخشع له النفوس، إذ لا يتصور الإنسان نفسه وهو الضئيل الضعيف القليل أنه يُقرض الله شيئا، كأن الله في حاجة إليه أو إلى ماله، ثم إنه قرض موعود بالمضاعفة حين الردَّ! وهذا معنى أعظم وأعظم، إذ الإنسان لو احتاج إليه عظيم من عظماء بلده ذا فضل عميم قديم لأقرضه ولم يتردد وهو يستشعر الشرف، فكيف إذا كان موعودا بالمضاعفة؟! قال تعالى (إن تقرضوا الله قرضا حسنا، يضاعفه لكم، ويغفر لكم، والله شكور حليم).

وفي المقابل فإن الذين يبخلون بأموالهم إنما يصنعون العذاب لأنفسهم كما قال تعالى (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيُطَوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة، ولله ميراث السموات والأرض)، وقال تعالى (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، واعتدنا للكافرين عذابا مهينا)، وأسوأ هذه الأصناف رجل سأل الله أن يغنيه وعاهد الله أنه ينفق المال في سبيله إذا أغناه، فإذا به ينقلب فيصير حاله كما قال تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون).

وقد أقسم رسول الله على أن المال لا ينقص بالإنفاق، وهذا القسم من النبي دليلٌ على ما في النفس من البخل وحب المال حتى ليحتاج النبي في توجيهها إلى القسم كي تطمئن النفوس فتبذل المال، قال صلى الله عليه وسلم "ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة.."!

ومن راجع خواتيم آيات الإنفاق في سورة البقرة سيجد أن الله تعالى وصف نفسه بكل ما يحبب الإنسان في الإنفاق، ويطمئنه أن ما أنفقه لن يضيع، (والله واسع عليم)، (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، (والله غني حليم)، (والله بما تعملون خبير)، (وما تنفقوا من خير يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون)، (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم).

إن أمتنا اليوم في حاجة إلى الإنفاق في سبيل الله، لقد أنتجت هذه الجراحات والنكبات عشرات الملايين من اليتامى والأرامل والمشردين والجرحى واللاجئين، فضلا عن الفقراء والمساكين والمحتاجين، فضلا عن المصالح التي لا تقوم الأمة إلا بها من نشر العلم والإنفاق على طلبته وتربية الأطفال على حفظ القرآن وتعاليم الإسلام، وإن إنفاق الدينار في هذا اليوم خير من إنفاق آلاف الدنانير في معالجة آثاره فيما بعد، فالطفل الذي يحفظه الدينار والديناران في الكُتَّاب لا يكفيه الآلاف حين ينحرف فيصير إلى الإلحاد أو الإجرام والفساد حين يكبر!

إذا نشأ الفتى في مجتمع يتراحم الناس فيه فيعطف غنيهم على فقيرهم، فإن الخير يعود على الغني نفسه، ذلك أنه إذا نشأ في مجتمع يأكل الغني فيه حق الفقير ويتضخم بامتصاص مجهوده فإنه يوشك أن يتحول إلى قنبلة موقوتة تنفجر أول ما تنفجر في هذا الغني نفسه.

ولقد كانت أمتنا قبل عصر الرأسمالية المتوحشة هذا تتراحم فيما بينها، حتى ليكاد الغنى أن يقترن بالمروءة والكرم، ولا يكاد يُعرف الغني البخيل الذي لا يفتح أبواب بيته لإطعام الفقراء وإكرام الضيوف وكفالة المحتاجين، ما كان مثل هذا يُعرف في مجتمعاتنا قبل هذه الحداثة المادية الغبية التي نزعت التراحم من الناس، وأورثتهم بدلا منها أحقادا متبادلة تورث حذرا وبطشا وضغائن لا تموت.

أمتنا اليوم بحاجة إلى المنفقين.. لأننا أمة مهزومة مستضعفة تعاني جراحها، ومن يدري.. من يدري.. من يدري أن يكون غني اليوم فقير الغد اللاجئ المحتاج المطرود! وما هذا ببعيد.. فنحن نرى في يومنا هذا من كان غنيا بالأمس فصار اليوم إلى حالٍ يرثى لها!

فأنفقوا في سبيل الله.. كي يقيض الله لكم من ينفق عليكم إذا احتجتم إلى ذلك يوما ما! هذا إذا لم تنفقوا ابتغاء وجه الله وثواب الآخرة!

ثم أنفقوا.. فإن الصدقة تقي مصارع السوء.

نشر في مجلة المجتمع، فبراير 2020

الثلاثاء، فبراير 04، 2020

تنصيب الأنظمة العربية هو صفقة القرن الحقيقية


في نفس اليوم (28 يناير 2020م) سقطت معرة النعمان بيد قوات نظام الأسد، وأعلن ترمب صفقة القرن واقفا إلى جوار نتنياهو، ونشر خريطة لقطع من الأرض المتمزقة والمتناثرة ومعها خمسين مليار دولار كحلٍّ للقضية الفلسطينية.
يمكن قول الكثير في كلا الأمريْن، وهو ما ستفيض فيه الأقلام لا ريب، لكن الذي يجب أن يلفت النظر في كلا الأمريْن هو الحرص الأجنبي على بقاء السلطة المحلية "الوطنية" في مشهد الصراع، فإذا كانت روسيا قادرة على هزيمة الثورة السورية بتفوقها العسكري الكاسح، وإذا كانت إسرائيل قادرة على احتلال الأراضي الفلسطينية، فلماذا يحرصان على بقاء سلطة الأسد ونظام محمود عباس؟!

إن فهم هذا الحرص قد يكون مفتاح الحل الرئيسي لقضايانا المتعددة، لقد وفَّرت هذه الأنظمة كل ما من شأنه أن يجعل احتلال بلادنا عملية سهلة سائغة قليلة التكاليف للأجنبي المحتل، ومن ثَمَّ فإن بقاءها صار ضرورةً لا يمكن الاستغناء عنها. فلا يمكن لإسرائيل أن تعيش بدون سلطة فلسطينية، ولا يمكن لروسيا أن تخوض حربها ضد الثورة السورية بدون نظام الأسد، ولا يمكن للأمريكان أن يسيطروا على أفغانستان بدون سلطة محلية.. وهكذا!

إسرائيل، أصلا، لم تنشأ إلا بمجهود الأنظمة العربية المحيطة في حمايتها ورعايتها، مهما جعجعوا أياما طويلة ضدها، ولم تكن إسرائيل يوما ما أشد رعبا من يومٍ بدا فيه أن أنظمة هذه الدول المحيطة بها تعاني من تهديد الثورات العربية. وكتب التاريخ مثل صفحات الواقع حافلة بالتفاصيل!

لقد تحولت بلادنا تحت هذه الأنظمة الحاكمة إلى سجون حقيقية، وهذه الأنظمة هي السجَّان، ولكننا نحن –المسجونين- ننفق الكثير جدا جدا جدا من الوقت والطاقة في الجدال حول ما إن كنا في سجن أم لا؟ وما كنا لننفق هذا كله لو تغير أمر واحدٌ فقط: لو كان المحتل أجنبيا صراحة!

لو كان المحتل أجنبيا كنا سنبصر في التو واللحظة أننا في سجن يديره الاحتلال وأنه يجب علينا أن نتحرر منه، أما حيث أن السجان يشبهنا، فقد صار كثرةٌ منا يدافعون عن السجن ويظنونه الوطن، وعن العبودية ويظنونها الوطنية، وعن القيود ويظنونها نظاما، وعن التعذيب ويظنونه عقوبة عادلة للمتمردين، وعن أباطرة التعذيب ويظنونهم حماة الوطن، ويهاجمون من يحاول التحرر ويظنونه إرهابيا، بل يهاجمون فكرة التحرر أصلا ويظنونها الفوضى!

السيطرة على وعي الإنسان يساوي السيطرة عليه والتحكم فيه! وهذا الوعي الزائف أقتلُ ما أصاب أمتنا وعرقل مجهوداتها نحو التحرر! وذلك أنه نقل قسما كبيرا من أبناء الأمة نفسها ليكونوا جنودا في جيش العدو الأجنبي، يوفرون عليه الدماء والأموال والمجهود!

وإذا نظرنا في تاريخنا قبل أكثر من مائة عام وحسبنا عدد الذين قتلهم العدو وقارنَّاهم بمن قتلتهم الجيوش "الوطنية" وأجهزة الأمن لخرجنا بالنتيجة الفظيعة المرعبة التي تؤكد ما نقول! بل لو أتيح لنا أن نحسب عمليات المقاومة التي أجهضها العدو بنفسه، والعمليات التي أجهضها بفضل أجهزة الأمن "الوطنية" لخرجت لنا النتيجة الأكثر فظاعة وإرعابا!

إن السلطة الفلسطينية هي آخر من ينبغي أن يفكر في تركيب كاميرات مراقبة في شوارع الضفة الغربية، فإنها تعاني من فراغ كل مظاهر السلطة والسيادة، وينتشر فيها الفساد المالي والأخلاقي، ويُفترض أنها في مهمة تحرر وطني إذا صدَّقنا ما تعلنه، ولكنها مع ذلك تمتلك جهازا أمنيا مدربا تدريبا ممتازا، وتحرص على نشر الكاميرات في كل مناطق الضفة، لماذا؟ لأن مهمتها الحقيقية هي حماية إسرائيل، وإدارة شأن الفلسطينين اليومي بما يرفع هذا العبء عن الإسرائيليين!

كذلك، تلقي روسيا حممها من طيرانها البعيد المرتفع، ولكنها لا تحصد شيئا على الأرض إلا من خلال قوات نظام الأسد الذين يهلكون في المعارك، ولا ثمن لهم عند أحد، فإذا وضعتَ نفسك مكان الروسي: فمن أين سيكون لك مئات آلاف الجنود على الأرض إن لم يكن نظام الأسد موجودا؟!

إن تاريخ هذه الأنظمة العربية في دعم إنشاء إسرائيل ورعايتها وتمكينها من الهيمنة تاريخٌ أسودٌ ضخم، ولن يُعرف حق المعرفة إلا حين تزول هذه الأنظمة.. وفي هذا الشهر الماضي وحده بدأ تصدير الغاز الإسرائيلي لمصر!

تصدير الغاز الإسرائيلي لمصر هو مجرد حدث واحد في ملايين الأحداث التي مَكَّنَت بها الأنظمة لإسرائيل، وقد كنتُ سألت بعض الأصدقاء المهتمين بهذا الملف فأخبروني بعدد من المفاجآت ملخصها كالآتي:

حقول الغاز الموجودة في البحر المتوسط تقع ضمن الحدود المصرية، لكن النظام المصري تنازل عنها لإسرائيل، غير أن المشكلة أن إسرائيل لا تمتلك بعض التقنيات الضرورية لبيع الغاز، فجرى الاتفاق على أن تبيع إسرائيل هذا الغاز لمصر، لكن مصر في هذا الوقت لا تحتاج لاستيراد الغاز لأنها تستخرج من حقولها ما يغطي هذه الحاجة، فقررت مصر خفض إنتاجها من الغاز لكي تفسح الطريق للغاز المستورد!

وهكذا ترى كيف أن الأمة خسرت ثلاث مرات: خسرت الأموال الضخمة بالتنازل عن الغاز، ثم خسرت أكثر منها حين تشتريه مرة أخرى بأكثر من ثمنه، ثم خسرت بتعطيل إنتاجها من الغاز. وكسبت إسرائيل ثلاث مرات.. وهكذا تبرعنا بدمائنا لتمكين عدونا، فعلها طبيبٌ يبدو أنه منَّا، وفعلها وهو يقول أنها في مصلحتنا!!

ترى ما شعورك حين ترى طبيبا فقأ عين أبيك ليتبرع بها إنقاذا لعين قاتله، وأنت لا تدري، فتشكره وتمتنُّ له، وتحسب أنه فعله لصالحك!

وهذه قناة السويس الجديدة.. المشروع الأبرز الأضخم لحماية إسرائيل!

قد ذكرتُ في مقالات وبحث سابق أنه ما كان ممكنا أن تنشأ إسرائيل وتتمتع بالبقاء الآمن لولا الحماية التي وفرتها قناة السويس كمانع طبيعي يفصل بين سيناء وبين بقية أرض مصر، ويجعل التواصل بين أهل الوادي وأهل سيناء تحت المراقبة والتحكم، وقد اعترف قادة حرب أكتوبر –بمن فيهم السادات- أن قناة السويس هي أصعب مانع مائي حربي. ومع ذلك كانت سياسة النظام المصري منذ السادات وحتى السيسي زيادة التفريعات في قناة السويس، باستثناء مرسي رحمه الله الذي أراد أن يقيم حولها كثافة سكانية وتجارية تعيد اتصال سيناء بالوادي. فكانت هذه التفريعات تحفر بالأموال المصرية لتزيد من صعوبة واتساع المانع المائي لقناة السويس، فلما جاء السيسي وصل بين هذه التفريعات بتفريعة هي الأكبر والأضخم، وبها صارت قناة السويس قناتيْن، وتحول المانع المائي إلى مانعيْن، يستحيل أن تتكرر فيهما قصة العبور التي كانت في حرب أكتوبر.

لكن الشاهد المقصود هنا أن هذا كله تم بأموال المصريين، وبحملة جعلتهم يقدمون أموالهم عن رضا وطواعية وانتظارا لمكسب عظيم يعود عليهم منها، واستهلك المشروع احتياط النقد الأجنبي، وأفضى إلى أزمة خانقة في الدولار وترتبت عليه آثار اقتصادية ضخمة.. وبهذا بنى المصريون بأموالهم ودفعوا من مجهودهم وعرقهم تكلفة بناء حماية جديدة لإسرائيل. ما كانت إسرائيل لتحلم بشيء من هذا، فانظر كيف صار الحلم حقيقة عبر النظام الخائن العميل.

إن مواجهة صفقة القرن لن تكون في بيت المقدس، بل هي على الحقيقة في القاهرة ودمشق وبغداد والحجاز، وعبر التاريخ كان فتح بيت المقدس بعد فتح جزيرة العرب والعراق والشام، ولم يصل صلاح الدين إلى بيت المقدس إلا بعد أن تحررت دمشق والقاهرة والحجاز، ثم لم يحتل الإنجليز بيت المقدس إلا بعد أن كانت القاهرة ودمشق وبلاد العرب تحت الاحتلال، ولم تُغرس إسرائيل إلا بعد تنصيب هذه الأنظمة!.. هذه سيرة التاريخ وهي أصدق من كل التحليلات السياسية الخائبة التي تتصور أنه يمكن عقد الأمل على نظام من هذه الأنظمة!

يقولون كيف؟!

نعم إن المهمة ثقيلة، ولكننا لسنا أول أمة تقع تحت الاحتلال والاستبداد، ولسنا أول أمة تعاني من حكم الخونة، ومن ثَمَّ فلسنا أول أمة تفكر في المقاومة وهي في موقع الاستضعاف!

فأول بند في إجابة سؤال كيف: أن نؤمن أن الهزيمة ليست قدرا، وأن النصر ليس مستحيلا، وأن المقاومة واجبة علينا مهما اختلت موازين القوى!

وثاني بند: أن نعلم ما نملكه من الموارد، فنحن بحمد الله نمتلك أصلب عقيدة لا تزال تحير عدونا لشدة ثباتها وأصالتها وعمقها في النفوس وتجددها عبر الأجيال، ثم إننا نملك طاقة من البسالة الهادرة التي أفصحت ثورات الربيع العربي وساحات الكفاح عن جانب منها، ولا تزال تفصح وتكشف!

ثالث بند: أن نعلم مواضع ضعفنا ومن أين نؤتى.. وإن لدينا ضعفا خطيرا في مسألة القيادة ذات الكفاءة التي تستطيع أن تجمع بين فهم الدين وفهم الواقع، بين السياسة والقتال، بين الحلم والحزم. ولدينا ضعفا خطيرا في الجانب الأمني والمعلومات وهو ما يجعلنا على ضعفنا كالملاكم الذي لا يعرف أين يضرب ومتى؟ وهذا الضعف يجعل صفوف الفاعلين غير مؤمنة ضد الاختراقات الأمنية حتى وصل إلى قيادة حركات إسلامية فعالة من هم عملاء لأجهزة الأمن والمخابرات، فكانت ضرباتهم من الداخل أقسى وأقتل من كل ضربات العدو في الخارج. ثم إن لدينا ضعفا خطيرا في جانب المبتكرين والمبدعين، أولئك الذين يستطيعون بفكرة وبشيء من الإمكانيات أن يضيقوا فارق الفجوة العلمية الرهيبة التي تقتلنا قتلا وتحصدنا حصدا؛ فما أشد حاجة أمتنا إلى فكرة تعطل تفوق الطيران فقط، لو امتلكنا هذا لاختلفت نتائج المعارك اختلافا حاسما.

ومع هذا فإنه لا مجال للوصول إلى الحل ومعالجة نقاط الضعف إلا بمواصلة العمل والكفاح، ففي ساحاته ينبت القادة وتظهر الكفاءات، ولأجل ضروراته تنشأ المحاذير الأمنية وتلح الحاجة إلى المعلومات، وتحت وطأته تخرج الأفكار والإبداعات! والحمد لله الذي تعبدنا ببذل المجهود ولم يحاسبنا على بلوغ الغايات.

قد خرج سلمان الفارسي من بيته في فارس وراء معلومة سمعها يوما، فظل ينتقل من فارس إلى العراق إلى الأناضول إلى الحجاز حتى بلغ غايته فلقي النبي، ثم لقي معه الكرامة الكبرى "سلمان منا آل البيت"، ثم رافق النبي حتى كان على يديه نجاة دولة الإسلام بفكرة "الخندق" في أخطر لحظة تهديد للدولة الإسلامية، ثم واصل الجهاد حتى دخل أرض فارس فاتحا وهي التي خرج منها خائفا يترقب. نعم النموذج في الهمة، ونعم النموذج في الصبر والدأب والسعي وراء الحق حتى يدركه.. وما أحوجنا إلى ذلك..

لا يعرف المسلم اليأس.. ولا مشيئة فوق مشيئة الله.. وكم من اتفاقيات أبرمها الساسة الطغاة سحقتها أقدام المستضعفين النحيفة الدامية! ومن كان يدري أن أبا جهل هشام بن عمرو بن المغيرة المخزومي سيد بني مخزوم في قريش تكون نهايته تحت قدم ابن أم عبد، راعي الغنم نحيف الساقين، من كان لا يجرؤ قبل الإسلام أن يرفع عينه في مثل أبي جهل؟!

ثم من كان يدري أن يتعثر الأمريكان، أضخم قوة في الأرض، في أفغانستان التي تبدو متهالكة ضعيفة فقيرة تنهبها المجاعة؟ أو في العراق المنهكة بعد ثلاثين سنة من الحروب ونحو خمسة عشر عاما من الحصار وبعد نصف قرن من الطغيان الذي أهلكها؟!

في التاريخ عبر كثيرة كثيرة كثيرة.. وما أحوج المهزوم المستضعف إلى أن يتعلم.

نشر في مجلة كلمة حق