الاثنين، أكتوبر 31، 2016

مراعاة البيئة في بناء المدينة في الحضارة الإسلامية (1/2)

لقد ورد في القرآن الكريم ما يجعل طيب المدينة وكثرة خضرتها من متعة الإنسان {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15]، ومما جاء في تفسير الآية أنها "طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها"[1].

وقد جعل النبي r موضع سوق المدينة –حين أنشأه- "على أطراف المدينة والمحلات السكنية بحيث لا تؤثر فيها سواء بضوضائها أو بفضلاتها الناتجة عن عملية البيع والشراء"[2]. وفي موضع السوق هذا كان النبي r يذبح الأضاحي أحيانا[3]، وأحيانا أخرى "عند طرف الزقاق عند دار معاوية" في موضع "غربي طريق بني زريق"[4]، وما نفهمه من مجموع الوصف في كتب تاريخ المدينة أن ذلك أيضا كان عند أطراف البنيان[5]. وقد كان موضع قضاء الحاجة –قبل اتخاذ الكُنُف- في موضع خارج المدينة عند البقيع[6].

ونستطيع أن نُرجِع إلى هذين الأصلين: النظري –وهو القرآن- والعملي –وهو السيرة- كافةَ ما أنتجه المسلمون –في الجملة، تأصيلا وتطبيقا- في مسألة بناء المدن واختيار مواقعها، وقد ظل التأصيل يمهد للتطبيق ثم يستفيد منه ثم يُطَوِّره عبر العصور الإسلامية المختلفة، حتى حصل هذا الانقطاع المعرفي بيننا وبين تراثنا فلم نفقه كثيرا منه إلا من خلال البحوث المعاصرة.

ولعله يحسن بنا أن ندرج كلامنا عن المدن الإسلامية في ثلاثة أمور:

§         التأصيل: الذي نراه في تراثنا الفكري المكتوب.
§         التطبيق: الذي جرى واقعا عمليا ونقلته إلينا كتب التاريخ والآثار العمرانية
§         ما فهمناه من البحوث المعاصرة من دقائق وأسرار المدن الإسلامية التي كشفت أمورا جديدة وغير متوقعة في دقة المراعاة الإسلامية لعنصر البيئة عند بناء المدينة.

ونلتقط في كل ذلك شذرات سريعة تكفي في مقام الإشارة وضرب المثال.

1. التأصيل

وضع ابن أبي الربيع –الفقيه البغدادي الذي عاش في القرن الثالث الهجري- في كتابه الذي وضعه للمعتصم العباسي، ستة شروطا لاختيار مواقع المدن هي: سعة[7] المياه المستعذبة، إمكان الميرة[8] المستمدة، اعتدال المكان وجودة الهواء، القرب من المراعي والاحتطاب، تحصين المنازل من الأعداء والذُّعَّار[9]، أن يحيط بها سواد[10] يعين أهلها[11].

كذلك لخَّص ابن الأزرق –وهو فقيه من القرن التاسع الهجري- في كتابه الذي وضعه للملوك، الأمورَ التي ينبغي مراعاتها في مواضع اختيار المدن، فجعل ذلك في أصلين: دفع المضار وجلب المنافع، وكان من جملة ما قال في "دفع المضار" ما أسماه "دفع المضار السماوية"، أي البيئية، وذلك يكون: "باختيار المواضع طيبة الهواء؛ لأن ما خَبَثَ منه بركوده أو تَعَفَّنَ بمجاورته مياهًا فاسدة أو منافع متعفنة أو مروجًا خبيثة يُسرع المرض فيه للحيوان الكائن فيه لا محالة". وجعل في جملة ما قال في "جلب المنافع" عدة أمور: "أحدها: الماء كأن يكون البلد على نهر أو بازائه عيون عذبة ولان وجوده كذلك يسهل الحاجة إليه وهي ضرورية. الثاني: طيب مرعى السائمة وقربه... الثالث: قرب المزارع الطيبة لأن الزرع هو القوت الضروري وكونها كذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله"[12].

ولقد تكرر في وصف الجغرافيين والرحالة الثناء على المدينة بطيب هوائها وقلة فساد الثمار والغلال بها، والأمثلة وفيرة غزيرة في كتبهم، ولنضرب أمثلة ببعض ما أورده القزويني ملتقطين مدنا من الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ لقد وصف القزويني أصفهان بقوله: "جامعةٌ لأشتات الأوصاف الحميدة من طيب التربة وصحة الهواء وعذوبة الماء، وصفاء الجو وصحة الأبدان... يبقى التفاح بها غضاً سنةً، والحنطة لا تتسوس بها، واللحم لا يتغير أياماً"، ووصف تونس بقوله: "قصبة بلاد إفريقية. أصلح بلادها هواء وأطيبها ماء وأكثرها خيراً! وبها من الثمار والفواكه ما لا يوجد في غيرها من بلاد المغرب حسناً وطعماً"، ووصف طليطلة بقوله: "من طيب تربتها ولطافة هوائها تبقى الغلات في مطاميرها سبعين سنة"، ووصف صنعاء بأنها أحسن مدن اليمن "بناءً وأصحِّها هواء وأعذبها ماء، وأطيبها تربة وأقلها أمراضًا... وهي قليلة الآفات والعلل، قليلة الذباب والهوام. إذا اعتل إنسان في غيرها ونقل إليها يبرأ، وإذا اعتلت الإبل وأرعيت في مروجها تصح، واللحم يبقى بها أسبوعاً لا يفسد"[13].

ولقد وُجِد في مؤلفات العلماء والأطباء تآليف في بيئة المدن، ومن ذلك ما أشار إليه الطبيب المؤرخ ابن أبي أصيبعة من أن الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك عمل فترة في بيمارستان الرقة[14]، فألف كتابا "في مِزاج الرقة، وهي بليغة في المعنى الذي صنفت فيه"[15].

ولقد حرصت الكتب الموضوعة في هذا الباب -لا سيما المؤلفات المبكرة- على اقتباس أقوال حكماء الأمم السابقة في هذا الموضوع، فنجد المؤلفات الإسلامية تثبت أقوال اليونان والفرس والهند وتفيد منها، وأبرز أولئك كان المسعودي في موسوعته "مروج الذهب".

وفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نعرض للتطبيقات العملية لهذه الأصول النظرية، ثم نعرض لما كشفته البحوث المعاصرة من أسرار ودقائق المدن الإسلامية من وجهة النظر البيئية.



[1] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/284.
[2] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص45.
[3] السمهودي: وفاء الوفاء 3/3، 4.
[4] السمهودي: وفاء الوفاء 3/12، 13.
[5] السمهودي: وفاء الوفاء 2/251 وما بعدها.
[6] البخاري (146)، ومسلم (2170).
[7] سعة: أي توفرها بما يكفي ويستوعب حاجة أهل المدينة.
[8] الميرة: الطعام.
[9] الذعار: المجرمون.
[10] السواد: الأرض الزراعية التي تحيط بالمدينة.
[11] ابن أبي الربيع: سلوك المالك ص106.
[12] ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك ص277، 278.
[13] القزويني: آثار البلاد ص50، 173، 296، 545.
[14] ومن المؤسف أننا لا نعرف عن هذا البيمارستان شيئا، ولولا عبارة ابن أبي أصيبعة هذه لم نكن لنعرفه. أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص201.
[15] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 4/383.

تزكية الشيخ عبد السلام البسيوني

تفضل علي الشيخ الكريم والأديب الشاعر والفنان الخطاط وصاحب الخبرة الإعلامية العريقة، الشيخ عبد السلام البسيوني، وهو عضو مؤسس بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وصاحب التأليف الغزير المتنوع.. تفضل علي بهذه التزكية العزيزة الغالية.


تزكية الإمام القرضاوي

وصلتني اليوم أرفع شهادة علمية أحصل عليها، وهي تزكية الإمام الفقيه شيخ العصر، يوسف القرضاوي، ولست أحب أن لي بها شيئا من الأوراق والشهادت الأكاديمية الأخرى.
وكان الإخوة في مكتب الشيخ يعدون لكتاب في ذكرى بلوغه التسعين عاما -أطال الله بقاءه في عافية وحسن عمل- فساهمت فيه ببحث عنوانه "إسهام القرضاوي في باب التاريخ"، عرضت فيه لإنتاج الشيخ في هذا الباب في كتبه وتراجمه ومذكراته ومقدماته وما وضعه من أصول لفهم التاريخ وما ردَّ به على غيره من الدعاة.
وقبل أسابيع قدر الله لي اللقاء بالشيخ منفردا على هامش مؤتمر "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" المنعقد في اسطنبول، وأتحفني بدعاء خاص سجلته صوتيا. https://goo.gl/hZSxpO
ثم الحمد لله أولا وآخر وظاهرا وباطنا، أهل الثناء والمجد..
أسأل الله أن يجعلني من المخلصين المقبولين.

نص التزكية

"الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه (وبعد)

فإن ابننا محمد إلهامي من الشباب المسلم المثقف الملتزم، الذين يحملون قضية الإسلام والحرية، ويعملون لأجلها، ويضحون في سبيلها، وهو رجل صاحب قلم، نشر عددا من المقالات لا سيما في علم التاريخ، الذي له اهتمام به: قراءة وكتابة.

وقد اطلعت على بحث له بعنوان (القرضاوي والتاريخ) فأعجبت به، ووجدته بحثا علميا مرتبا، يدل على رؤية كاتبه وقدرته وتمكنه، أحسبه كذلك ولا أزكية على الله.

وأسأل الله له التوفيق والسداد والرشاد

يوسف القرضاوي
رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"

الجمعة، أكتوبر 28، 2016

التحالفات المؤقتة بديلا للفرقة

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي عزَّ وجلَّ ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها، فسألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، فسألت ربي أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها"[1].

وبعد وفاة النبي بربع قرن بدأت الفرقة والفتنة، ولقد قال الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان للمتمردين عليه ناصحا ومحذرا: "فوالله لئن قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون بعدي جميعا أبدا، ولا تقاتلون بعدي عدوا جميعا أبدا"[2]. وقد كان ما قال كما قال!

وليس يعني هذا بطبيعة الحال أن نترك الوحدة ونطلب الفرقة، بل هي شر نحاول أن نتوقاه ونعالجه ما استطعنا، فإن عجزنا كان لا بد لنا من نضج ورشد يحملنا على فقه التعامل عند وقوع الفرقة وتعذر الوحدة. ولهذا ذهب الفقهاء إلى عدم جواز تعدد الإمام (الخليفة) للمسلمين في الزمن الواحد، لما في ذلك من الفرقة والتنازع التي نهى الله عنها، ولم يستثن من هذا سوى المالكية –وهو قول عند الشافعية- من جواز ذلك في حال تباعد الأقطار مع تعذر الاستنابة (أي عجز الخليفة عن تعيين نائب عنه في الدار البعيدة).

ثم شهد المسلمون وضعا جديدا بانهيار الخلافة الإسلامية (1924م) وانقسام بلادهم إلى أقطار أغلبها تحت الاحتلال، ثم زاد الوضع سوءا وتفرقا بعجز أكثر التجارب الإسلامية عن تحقيق وحدة أو تحالف دائم بل نشبت بين كثير منهم حروب وفشا في بعضهم الغلو والتكفير، ويبدو أن التجربة التاريخية تسوق نحو حل يتكرر طرحه: التحالفات المؤقتة.

في هذه السطور ثلاثة تجارب لأناس في مواطن مختلفة ومن مشارب مختلفة وفي ظروف مختلفة.

(1) باريس - 1926

عندما بلغ الفقيه القانوني المعروف عبد الرزاق السنهوري التاسعة عشرة من عمره كان يعاين لحظة إلغاء الخلافة الإسلامية (1924م)، وكان حينها في باريس وقد خرج من مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي منذ ما يقرب من نصف قرن، وفي ظل العجز الإسلامي عن إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، كتب السنهوري كتابه الأشهر "الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية"، وهو الكتاب المشتهر بعنوان "فقه الخلافة".

كان شابا في باريس الفاتنة المبهرة لكنه كان يؤلف في حال أمته، ووُجِدت في يومياته أبيات شعر، منها:

أأرضى أن أنام على فراش .. ونوم المسلمين على القتاد
وأهنأ في النعيم برغد عيش .. وقومي شُتِّتوا في كل واد
فلا نَعِمَتْ نفوس في صفاء .. إذا نسيت نفوسا في صفاد

كانت الفكرة المركزية للكتاب، كما وضحها أعرف تلاميذه به ومترجم كتابه وزوج ابنته وعلامة القانون في عصره والشخصية الإسلامية المرموقة د. توفيق الشاوي، هي الدعوة "لتحقيق الوحدة الإسلامية تدريجيا في صورة لا تتعارض مع الدول القطرية واستقلالها الذي أصبح واقعا مفروضا وقائما لا يمكن تجاهله... وهو يبدأ من عقيدة ثابتة بأن مبدأ الوحدة تفرضه علينا عقيدتنا وشريعتنا، فهو مبدأ موجود وقائم طالما بقيت عقيدة التوحيد، بل إن وحدة الأمة الإسلامية حقيقة واقة، ولكن هناك عوامل داخلية وخارجية قد أوهنتها أو أضعفتها"[3]. وذلك –كما تقول ابنته وشريكة ترجمة الكتاب د. نادية- عن طريق تكوين "منظمات دولية لا دولة كبرى موحدة، لكي تتفادى بها شراسة الهجمة الاستعمارية، وعداوة أوروبا لدولة الإسلام الكبرى الموحدة التي حاربوها... [باعتبارها] الطريقة العصرية التي تمكنها من المحافظة على وحدتها رغم ما فرضته عليها الظروف من تجزئة شعوبها وتعدد دولها واحتلال كثير من أقطارها"[4].

(2) في الشام - 2016

قبل نحو عشرة أيام نشر أبو الفتح الفرغلي، وهو شرعي في حركة "أحرار الشام"، عبر قناته بتطبيق "التليجرام" نداء بعنوان "سبب فشل الاندماج حتى الآن"، ومختصر ما قاله أبو الفتح أن الخلافات بين الفصائل الإسلامية في الشام هامشية وجزئية وفرعية وكلها يمكن التغلب عليها والسير نحو الوحدة، لولا سبب واحد هو "عدم الثقة".

"عدم الثقة" هذا يقف حجر عثرة أمام تحقيق اتحاد الفصائل الشامية رغم النتائج الكارثية الواقعة عليهم وعلى جهاد الشام كله جراء تفرقهم، ذلك أن كل محاولة اندماج تصطدم بشروط تعجيزية يضعها كل طرف لمحاولة ضمان مكتسباته أو لضمان ألا يُؤكل أو يُستخدم لأغراض فصيل آخر، وهكذا يتعطل مشروع الوحدة وتبقى الفرقة.

يرى أبو الفتح أن الرغبة في اندماج كامل وناجح ومستمر يؤدي إلى وضع شروط مستحيلة، وهو ما يؤدي إلى تعطل الوحدة وبقاء الفرقة، وبهذا صارت "ضمانات الوحدة" هي ذاتها "عوائق الوحدة"، فعاد الفرع على أصله بالنقض كما يعبر الأصوليون عن اجتهاد فاسد!

ويقترح أبو الفتح علاجا لهذا الحال ألا يُنظر إلى محاولة الاندماج "كأنه نهاية المطاف، و على غرار عقود النكاح الكاثوليكية ،لا يمكن أن تنقض إلا بالموت"، فلا بأس في الدخول في تحالفات مؤقتة، يُتنازل فيها عن الضمانات التعجيزية، ثم يعطون أنفسهم فرصة ووقتا يقيمون فيه التجربة من جديد، فإن رأى فصيل أن التحالف ينحرف عن غاياته فله أن ينسحب منه. وبهذا يتحقق التحالف الجزئي المؤقت الذي هو خير من بقاء التشرذم والفرقة.

والضمان –كما يراه أبو الفتح- أن أحدا في الشام لا يستطيع الضحك على الآخر ولا جر الساحة الشامية وحده إلى أغراضه، كما أن أي انحراف لفصيل يجد من يقومه وينادي عليه من داخل الفصيل نفسه، وهكذا يقوم اتزان القوى –إجمالا- كضمان عام لهذه التحالفات المؤقتة.

(3) في اسطنبول - 2016

وقبل أيام يشاء الله تعالى أن أُدْعى إلى ورشة عمل حول إنشاء تحالف سياسي إسلامي مصري، ورغم المجهود المضني المبذول من أصحاب المبادرة لضبط النقاش والإدارة بحيث يُؤدي في النهاية إلى ثمرة ملموسة، إلا أن التيار العام –في تقديري- دخل في ذات المشكلات التي تتفجر عند نوايا العمل، فالبعض متحمس أو متفائل والآخر واقعي أو متشائم، البعض يؤسس لأهداف كبرى وغيره يرى أنه يكفي أن نبدأ بأهداف صغيرة، البعض يرى أن النقص في المشروع والآخر يرى أن النقص في الأدوات، والبعض يحسب تأثير هذا العمل على خريطة علاقاته ومصالحه فيُقدم أو يُحجِم، ومع اختلاف التقديرات والاتجاهات والرؤى لم يكن ممكنا الوصول إلى ثمرة عملية مع أن الكل منسوب إلى التيار الإسلامي السياسي المضاد للانقلاب العسكري والمتضرر منه.

تخيلتُ للحظة أن لو كان لكل ممثل جهة على الطاولة أنصار وسلاح، فكانت صورة الساحة الشامية تسيطر على الخيال، فقررت طرح اقتراح أبي الفتح في التحالفات المؤقتة ذات الأهداف القريبة، وفي ذهني أن الضمان له هنا توازن الضعف بين هذه الأطراف لا توازن القوة كما هو في الشام، ولكن الاقتراح وجد معارضة في العموم، إذ كان تقدير الأكثرين أنه بالإمكان تأسيس ما هو أقوى وأدوم.

هذا وما زلنا في جلسة أولى، بينما الجلسات التالية هي التي تُطرح فيها الأسئلة القاتلة لكل تحالف مثل: نصيب التمثيل، لمن القيادة، نمط اتخاذ القرار، إلزامية القرار لمن لم يوافق عليه، صلاحيات ممثل كل فصيل في اتخاذ قرار داخل التحالف... إلخ!

والسؤال هنا: هل تستفيد حركات المقاومة في مصر من هذا، فإما توحدت وإما تحالفت مبكرا في ظل توازن الضعف قبل أن يحول "توازن القوة" بين اتحادها أو تحالفها؟!




[1] رواه مسلم.
[2] رواه خليفة بن خياط وابن سعد في الطبقات وابن أبي شيبة في المصنف والطبري بإسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ.
[3] عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة، تحقيق: د. توفيق الشاوي ود. نادية السنهوري، ط4 (القاهرة: مؤسسة الرسالة، 2000م) ص9، 10. (مقدمة الشاوي)
[4] السابق ص28. (مقدمة د. نادية)

الخميس، أكتوبر 27، 2016

عملية اختراق ناجحة للدعوة العباسية

اختار العباسيون خراسان كمقر انطلاق للدعوة لأسباب عديدة، وهو درس في اختيار مكان الثورة. ثم أسسوا خلايا سرية تعتمد على توجيهات واضحة في الاختيار والانتقاء والانتشار والتخفي، فهو درس في تكوين وتأسيس الخلايا الدعوية، واليوم يقدم لنا العباسيون درسا آخر في مواجهة الاختراقات التي قد تصيب بنيان الدعوة.

اختار بكير بن ماهان داعية جديدًا ليتولَّى أمر خراسان (118هـ)، فوقع اختياره على عمار بن يزيد، وكان عمار بن يزيد من النصارى الذين أسلموا في الكوفة، وكان داعية موهوبًا، وأحدث تقدُّمًا في الدعوة في خراسان، والتفَّ حوله كثير من الأتباع، وكان قد غيَّر اسمه إلى «خداش»؛ وفجأة بدا أن خداشًا يسير في طريقة أخرى غير طريق الدعوة؛ إذ دعا أتباعه إلى مذهب الخرمية؛ فأحل لهم نساء بعضهم، وأسقط عنهم الصلاة والصيام والحج؛ باعتبار أن الصلاة المطلوبة هي الدعاء للإمام، وأن الصيام هو الصيام عن ذكر اسم الإمام، وأن الحج هو القصد إلى الإمام، وكما فَرَّقَت هذه الآراء جموعًا كثيرة عنه، فهي قد جذبت إليه آخرين من أصحاب الجهل والهوى؛ لا سيما وهو يغلف هذه الدعوات بتفسيرات قرآنية؛ مثل: أخذه بظاهر الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]، ويزعم أنه يقول هذا نقلًا عن الإمام صاحب العلوم من آل البيت، ولم يكن غريبًا -وقد وصلت هذه الأفكار إلى الدعوة- أن يصل خبرها إلى والي خراسان أسد بن عبد الله القسري، الذي قبض على خداش وعذَّبه؛ حتى عرف منه اسم إمامه محمد بن علي العباسي ثم قتله[1].

ما من شكٍّ في أنها أزمة قاسية نزلت بالدعوة العباسية ورجالها؛ وذلك على مستوى سمعتها بين الناس أو على مستوى انكشاف بعض رجالها أمام السلطة الأموية، وقد استدعى هذا تحركًا سريعًا؛ إذ قام الإمام محمد بن علي بإرسال بكير بن ماهان بنفسه إلى خراسان، وهناك قام بكير بمهمتين أساسيتين: أولهما البيان والشرح بأن أفكار خداش إنما هي أفكار منحرفة، ولا تمت للدعوة بصلة، ولا يرضاها الإمام، ويتبرأ منها، والثانية إعادة هيكلة الدعوة في خراسان بما يُعالج أي انكشاف كان قد وقع في هذه الأزمة[2].

وصل بكير بن ماهان إلى خراسان ومعه رسالتان؛ رسالة إلى العامة، ورسالة أخرى إلى خاصة أهل الدعوة.

جاء في الرسالة الأولى، وهي طويلة مسهبة، توصيات حافلة واضحة ناصعة تؤكد على معاني تعظيم الله وعلى الزهد والعبادة والتقوى والصبر والعمل للآخرة، والتحذير من المعصية والاغترار بالدنيا ونسيان الآخرة ومصاحبة قرناء السوء، وبعد موعظة طويلة ذكر ما فيه إنكاره على الأفكار المنحرفة التي أعلن بها خداش، وقال "فاتقوا الله ولا تكونوا أشباهًا للجفاة؛ الذين لم يتفقهوا في الدين، ولم يُعطوا بالله اليقين، وإن الله أنزل عليكم كتابًا واضحًا ناطقًا محفوظًا، قد فصل فيه آياته، وأحكم فيه تبيانه، وبيَّن لكم حلاله وحرامه، وأمركم أن تتبعوا ما فيه، فاتخذوه إمامًا، وليكن لكم قائدًا ودليلًا، فعليكم به فعوه، ولا تُؤَثروا عليه غيره؛ فإنه أصدق الحديث، وأحسن القصص، وأبلغ الموعظة، به هدى الله من مضى من الأولين والآخرين. و {اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 41 - 44]. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30، 31]، فإن الله قد بيَّن لكم ما تأتون وما تتقون، فقال لنبي الرحمة: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... } [الأعراف: 33] الآية، وقال لنبيه: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } [الأعراف: 29] الآية. أسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم مهتدين غير مرتابين، والسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين"[3].

وقد جاء في الرسالة الطويلة فقرة تؤكد على معنى طاعة أولياء الأمر، تقول " ولا تقطعوا رحمًا ماسة محقة، ولا ترموا بريئًا، ولا تعصوا إمامًا، ولا تركبوا زيغًا، ولا تطيعوا إثمًا، ولا تفتحوا مغلقًا، ولا تقفلوا مفتوحًا، ولا تختانوا ولاة أموركم، وأحسنوا مؤازرتهم وصيانة أمرهم، أعينوهم إذا شهدتم، وانصحوا لهم إذا غبتم، وأقسطوا إذا حكمتم، واعدلوا إذا قلتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدُّوا إذا ائتمنتم، واصبروا إذا ابتليتم، واشكروا إذا أعطيتم".

وهذه الفقرة عليهم تحتمل معنيين؛ الأول: أن محمد بن علي العباسي لما علم بأن خداشًا قد انتسب إليه سارع بتبرئة نفسه علنًا أمام بني أمية برسالة يرسلها إلى عامة أهل خراسان، ويتولى تسريبها إليهم بكير بن ماهان، فكان طبيعيًّا أن يُعيد التأكيد على براءته من فتنة خداش البراءة من الأفكار المنحرفة عن الدين، والبراءة من الدعوة للثورة على بني أمية. والثاني: أنها رسالة إلى عامة أهل الدعوة لا إلى عامة أهل خراسان، وحينها ينصرف معنى ولاة الأمور إلى قادة الدعوة لا إلى أمراء بني أمية؛ رغبة في ضبط الأفراد داخل سياق التنظيم، وإلزامهم عدم الاجتهاد من أنفسهم في شيء قد يجر على الدعوة وبالاً كثيرًا.

وجاءت الرسالة الثانية التي هي خاصَّة لأهل الدعوة قصيرة مركزة مباشرة: «أما بعد؛ عصمنا الله وإياكم بطاعته وهدانا وإياكم سبيل الراشدين. قد كنتُ أعلمتُ إخوانكم رأيي في خداش، وأمرتهم أن يبلغوكم قولي فيه، وإني أشهد الله الذي يحفظ ما تلفظ به العباد من زكي القول وخبيثه، أني بريء من خداش؛ وممَّنْ كان على رأيه ودان بدينه. وآمركم ألا تقبلوا من أحد ممن أتاكم عني قولًا ولا رسالة خالفت فيها كتاب الله وسنة نبيه والسلام[4].

وكان محمد بن علي قد أرسل رسالة أخرى مع قحطبة بن شبيب الطائي؛ لكنه تأخَّر لمرض أصابه، وكان نصُّها: «وفقنا الله وإياكم لطاعته، قد وجهت إليكم شقَّة مني بكير بن ماهان، فاسمعوا منه وأطيعوا، وافهموا عنه؛ فإنه من نجباء الله، وهو لساني إليكم، وأميني فيكم؛ فلا تخالفوه، ولا تقضوا الأمور إلَّا برأيه، وقد آثرتكم به على نفسي لثقتي به في النصيحة لكم، واجتهاده في إظهار نور الله فيكم والسلام"[5].

وكانت هذه الرسالة بمثابة تفويض لبكير بن ماهات الذي بدأ في إعادة هيكلة التنظيم العباسي السري في خراسان (118هـ)، فجعل الدعاة على مراتب ودرجات؛ فالهيئة العليا للدعوة في خراسان سماهم النقباء؛ وعددهم اثنا عشر، اختارهم أهل الدعوة في خراسان ليكونوا رؤساءهم، ثم في المرتبة الثانية مجلس مكون من سبعين رجلًا (هيئة تأسيسية) يضمُّ الاثنى عشر نقيبًا، فهؤلاء هم رؤساء الدعوة في مرو (عاصمة خراسان)، وأما في البلاد والقرى المحيطة فكل داعية من الدعاة نقيب على من ببلدته من الذين يستجيبون للدعوة[6].

وبعدما تمَّ هذا الضبط وإعادة الهيكلة للتنظيم والقيادة لم يسجل التاريخ أن اختراقا آخر حدث ولا نجح للدعوة العباسية حتى قامت الثورة وصارت دولة.

نشر في ساسة بوست



[1] الطبري: تاريخ الطبري 4/ 164، وابن عساكر: تاريخ دمشق 10/ 389 (ترجمة بكير بن ماهان)، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/ 420، وابن كثير: البداية والنهاية 9/ 351، وابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 1/ 357.
[2] البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 117، والمطهر المقدسي: البدء والتاريخ 6/ 61.
[3] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص208 وما بعدها.
ولا بد من القول بأنه من ناحية الإسناد، فإن هذه الرسالة ضعيفة؛ لأنها رُويت بغير إسناد، ويزيدها ضعفًا طولها المفرط، الذي يصعب أن ينتقل عبر الجيل دون أن يُصيبه التحريف، وعلى هذا فلسنا نقول بأنها صحيحة السند، ولكنها مقبولة في إطار التأريخ؛ فهي لا تخرج عن الأطر العامة للدعوة العباسية وأفكارها، كما أنها مناسبة لأن تُقال في ظرفٍ كالذي وقع في أزمة خداش.
[4] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص213.
[5] المصدر السابق.
[6] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص214 وما بعدها.