استطاعت ضربة جمال عبد
الناصر للإخوان المسلمين عند سنة 1954 أن تضرب العمل الجهادي في فلسطين ضربة
قاضية، فمن بعد ما كان الإخوان المسلمون في فلسطين هم أقوى الحركات الشعبية في
فلسطين بل لا يكاد يكون لهم منافس حقيقي صاروا لا يرجون أكثر من البقاء على قيد
الحياة مع الحملة الإعلامية الناصرية العنيفة، بالإضافة إلى أن الإدارة المصرية
لقطاع غزة كانت تعمل بجد في كسر المقاومة واستئصال الإخوان، وأسفر الواقع عن نتيجة
خلاصتها أن صار توجه الإخوان "المحافظة على النفس والانكفاء على الذات
بانتظار ظروف أفضل"[1].
لكن المثير للتأمل هنا أن
الظروف الأفضل حين جاءت كانت قيادة الإخوان الفلسطينيين نفسها قد تعوَّدت على هذا
الموقع السري المهموم بأمور الدعوة والتربية ومراعاة الأيتام، حتى صارت تستغرب
وتستنكر بشدة من يحدثها عن فكرة الجهاد والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي!!
لقد كان "التيار
العام وسطهم يدعو إلى التريث والتركيز على الجوانب التربوية والإيمانية"،
واضطر الشباب الذين يصرون على الجهاد إلى التحرك بعيدا عن مسار الإخوان، وكان من
هؤلاء مؤسسي حركة فتح الأوائل، وقد استمر هؤلاء يركزون في تجنيدهم على الشباب
الإخواني حتى عام 1962م، إلا أن الافتراق ظل يتسع حتى أصدر إخوان غزة أمرا
بالتمايز التام: إما مع الإخوان أو مع فتح. وحتى بعد أن حلَّت نكبة 1967 وشاركت
تنظيمات الإخوان بالخارج في "معسكرات الشيوخ" بالأردن فإن "قيادة
التنظيم الفلسطيني لم تَتَبنَّ المشاركة في هذه المعسكرات، على أساس أن هذا العمل
العسكري سابق لأوانه"[2].
يروي عدنان مسودي، أحد
مؤسسي حماس في الضفة، هذه الفترة في مذكراته، فيذكر أنه حين عاد إلى فلسطين
(1970م) كان محملا بأفكار الجهاد والمقاومة التي تلقاها في "معسكرات
الشيوخ" وفي سوريا، لكنه فوجئ أن فكرة مقاومة الاحتلال تسبب صدمة للإخوان
هناك، واكتشف أن الإخوان هناك لم يقرؤوا تراث الحركة الإسلامية نفسها مثل "في
ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" كلاهما لسيد قطب و"جاهلية
القرن العشرين" لمحمد قطب، فعقدت له جلسة خاصة من قيادة الإخوان في الخليل،
ودارت فيها نفس الأفكار التي نسمعها اليوم في مصر حول خطورة هذه الأفكار والعجز عن
تحويلها إلى واقع وصدورها عن شاب متحمس لم يختبر شدة العدو وجهازه العسكري، ومسودي
من ناحيته يدافع ويقول: لسنا أقل من فتح أو الجبهة الشعبية، ثم انتهى الاجتماع
بقرارين؛ قرار من جهتهم برفض ما يقول وبتحذيره من الاتصال "بأحد من الإخوان
الذين كنت تعرفهم، فقد يكون هذا الأخ (عميل)!؟"، وقرار من جهته هو بالعمل
بعيدا عنهم في تكوين حركة واستقطاب شباب على هذه الأفكار. ومن الطريف اللافت للنظر
أنه سمى تلك الفترة بـ "انقلاب قطبي"[3]!
وأما في قطاع غزة فلا
خلاف في أن تأسيس حماس كان منفصلا عن الإخوان المسلمين، وقد بدأه الشيخ أحمد ياسين
الذي صرح بانتفاء كونه من الإخوان حتى الثلاثين من عمره وإن كان تتلمذ على أفكار
حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب ومحمد الغزالي، واستخدم في وصف حماس تعبير
"خرجت من رحم الإخوان المسلمين، هذا صحيح، لأنه فكرنا ونشاطنا هو نفس الفكر والنشاط"[4]، وذكر بأن الإخوان في تلك المرحلة لم يكونوا يقاومون "مع إن اللي بيشتغلوا
مش الإخوان، الإخوان لسه نايمين، ماعندهمش خبر"، وإنما هم الشباب الذين خرجوا
من الإخوان ليقاوموا وأسسوا حركة "فتح"، وكان خلاف الشيخ ياسين مع نهج
فتح خلافا في سياسة توسيع منطقة المواجهة لتشمل دولا عربية أو غربية، ولذلك لم
ينضم إليهم، وعمل على تكوين تنظيم إسلامي مسلح في غزة والذي بدأ يخرج إلى النور في
مطلع الثمانينات. والطريف هنا أن أول ما طبعه الشيخ أحمد ياسين لتعليم وتوجيه
الشباب في غزة كانت أجزاء من "في ظلال القرآن" لسيد قطب، كان يطبعها
ويوزعها مجانا[5]، فلا نبعد إذا قلنا أن سيد قطب كان هو الأب الروحي الذي انطلقت حركة حماس
من أفكاره.
وفي هذا السياق لا بد من
الإشارة إلى تجربة مجموعة أخرى، يرويها أحد أطرافها وهو المهندس إبراهيم غوشة في
مذكراته، وخلاصتها أن حركة فتح التي بدأت بشباب من الإخوان انطلقت في اتجاه التسلح
والمقاومة، وازداد الافتراق بينها وبين الإخوان، وانحرفت فتح عن الوجهة الإسلامية
واتخذت وجها وطنيا علمانيا واستغرفت فيه (وهنا لا يملك المرء إلا أن يتحسر على
قرارات قيادية استسلامية تدفع بالشباب الإسلامي إلى العلمانية)، ثم عندما شعرت فتح
بتزايد الضغوط السياسية عليها عرضت على تنظيم الإخوان بفلسطين الانضمام إليها
وبمواقع متقدمة، فاشترط الإخوان أن "تلتزم حركة فتح بالإسلام" فجاء
الجواب بالرفض، وهكذا تم الافتراق وانتهت آمال التحالف والاندماج، وكان هذا في عام
(1964م)[6].
لكن صدمة الهزيمة (1967م)
دفعت عددا من الشباب إلى القيام بحركة تصحيحية داخل الإخوان المسلمين، إذ لم
يُرْضِهم ما أسفر عنه مؤتمر دعا إليه الإخوان في الأردن لكونه توقف عند الوصف
والتحليل دون الدعوة إلى بناء جهادي للبدء في العمل، وهنا يقر إبراهيم غوشة بأن
قرار حركة فتح لبدء المعركة كان "حكيما وبعيد النظر"، ويقول: "كنا
نحن الإسلاميين وقبل حركة فتح يمكن أن نملأ الفراغ بالجهاد"، وهكذا بدأت
مجموعة الشباب هؤلاء في مشروع جهادي داخل حركة الإخوان، وكانوا "متأثرين بفكر
المرحوم حسن البنا وسيد قطب"، إلا أن الحركة لم تستمر لسببين؛ الأول: نذر
المواجهة بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية الذي انتهى إلى حادثة أيلول
الأسود (1970م)، والثاني: أن قيادة الإخوان اكتشفت هذه الحركة وتمكنت من إجهاضها
بالشدة واللين، ثم انتهى الشباب إلى "إنهاء هذه التجربة، على أن يُترك للزمن،
وللعمل من داخل الصف تحقيق التصحيح المطلوب، حيث في هذه المرحلة الأخيرة خشينا من
أن نكون سببا في شق الإخوان المسلمين"[7].
ولم يستطع أولئك الشباب
شيئا على الحقيقة، لكن بعضا من أحلامهم بدأ يتحقق بعد ثلاثة عشر سنة (1983) حين
أنشأ الإخوان قسم فلسطين، واتفقوا في مؤتمر أن العمل لتحريرها لا يتعارض مع السعي
لإقامة دولة إسلامية، إلا أنهم على الحقيقة دعموا حراكا قد تكون على الأرض من خارج
صفوفهم التقليدية سواء في قطاع غزة أو في الضفة، وكان الدعم ماليا ومعنويا، فلو
نظرنا إلى مسار التاريخ لوجدنا ثلاثين سنة تفصل بين 1954 و1983، هذه الثلاثين سنة
أفرزت على الأرض حراكا لم ينشأ ضمن الإخوان المسلمين في فلسطين.
والخلاصة التي نريد قولها
في النهاية أن الجيل المهزوم الذي قرر الانتظار إلى حين تتحسن الظروف لم يفعل شيئا
حين تحسنت الظروف، بل كان ظرفا سيئا ضمن الظروف المعيقة والمضادة لتجربة المقاومة،
المقاومة التي بدأها جيل جديد إما تفلت من هذه القيادة القديمة فأسس كيانات أخرى،
أو أتى بعدها فأسس كيانات تجاهلت الجيل القديم وجنَّبتْه الحركة، وحسنا فعلوا فإنه
أمر لم يعودوا يحسنونه.
والسؤال هنا: هل يستوعب
الشباب درس التاريخ فيُقدمون؟ وهل يستوعب الشيوخ فيؤدون أمانة الله ثم أمانة الأمة
فيفسحون الطريق ولا يكونوا من المعوقين؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق