الخميس، سبتمبر 21، 2023

لطمتان في وقت واحد!

 



كان من عجائب التوافق أن وقع النصر والتحرير في أفغانستان في نفس الوقت الذي شهد انهيار تجربة حركة النهضة في تونس، حيث جرى الانقلاب على راشد الغنوشي وإزاحته من المشهد، فكان ذلك بمثابة اللطمتين المتعاكستيْن في وقت واحد: انتصار طالبان، وانهيار الغنوشي!

لقد انتصر أولئك الذين يُوصمون بأنهم متشددون في الدين، لا يفهمون العالم ولا يحسنون التقدير، وانهار ذلك الذي قدَّم أكثر المحاولات التطويعية للإسلام لكي يوافق المزاج الغربي، فسعى جهده لتطويع الإسلام فكريا ليجعله مجرد نسخة حداثية غربية، وسعى جهده لتنفيذ كل التوصيات العملية السياسية التي تجعله حزبا سياسيا أليفا ولطيفا ملتزما إلى أقصى حد بالمواصفات التي تطمئن الغربيين وتؤكد لهم أنه حزب "معتدل"!

ولذلك عاشت البيئة النخبوية الثقافية الإسلامية في صدمة ارتباك لفترة من الزمن، ولا تزال آثارها باقية حتى لحظة كتابة هذه السطور، فأي محنة أشد من هذه يمكن أن يعيشها أولئك الذين عاشوا أعمارهم يُنَظِّرون لأن التشدد هو مشكلتنا الثقافية التي سببت هزيمتنا وتخلفنا! وعاشوا يرسمون لنا أن التقدم والتطور كامن في الاستفادة من الحداثة الغربية وفهم التجربة الغربية في الانتقال من التخلف إلى التفوق.

ثمة أسباب عديدة يمكن أن تفسر نجاح طالبان ومن ورائها الشعب الأفغاني في دحر الاحتلال الغربي، وتفسر نكسة الحركات الإسلامية في العالم العربي، ولكني أريد في هذه الأسطر أن أتوقف عند سببٍ واحدٍ أراه أحد الأسباب الرئيسية في تحقيق الفارق بين التجربتيْن: ذلك هو الإيمان بـ "الدولة"!

إنه ما من صانع قرارٍ غربي حاول أن يبحث أسباب فشلهم في أفغانستان، إلا وقد توقف عند الفشل في بناء "الدولة"، بل لقد كان عدم وجود "الدولة الحديثة" مخيفا للأمريكان قبل احتلالهم، ولذلك اقترح بول وولفوتيز قبل الاحتلال أن يبدؤوا باحتلال العراق، إذ فيها دولة حديثة وجيش نظامي، ومن ثَمَّ سيسهل تحقيق النصر الأمريكي، بينما أفغانستان التي لا فيها دولة حديثة ولا جيش نظامي سيصعب الانتصار عليها[1].

وفيما بعد احتلال أفغانستان، لخص زلماي خليل زاده مسؤوليته فيها بقوله "توسطت في نزاعات بين أمراء الحرب، وحثثتهم على التعاون مع الحكومة الوطنية، كما ساعدت القادة الأفغان على وضع حجر الأساس للمؤسسات الوطنية، مثل: الجيش الوطني الأفغاني"[2].

وتقول كونداليزا رايس، التي عملت مستشارة للأمن القومي ووزيرة للخارجية، عن الفرق المتنوعة التي عملت في أفغانستان: "مع أن هذه الفرق كانت متنوعة التركيب والنشاط إلا أن لها جميعا هدفا واحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية"[3].

ومثلها يقول روبرت جيتس، الذي تولى وزارة الدفاع الأمريكية بعد دونالد رامسفيلد، وكان قد تولى قديما رئاسة المخابرات المركزية الأمريكية: "كانت عشرات الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية منخرطة في محاولة مساعدة الأفغان على تأسيس حكومة فاعلة"[4]، ويقول أيضا: "إن هناك تركيزا كبيرا في إنشاء حكومة مركزية قوية في بلد لم يسبق له عمليا أن كانت فيه حكومة، وتركيزا بسيطا جدا في تحسين الحكم والأمن والخدمات على صعيد المحافظة والقضاء، بما في ذلك الاستفادة أكثر من زعماء العشائر الأفغانية المحلية ومجالسها"[5].

ولا يقتصر الأمر على الأمريكان وحدهم، ففي مذكرات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي صدرت قبل أقل من عام (صدرت في أكتوبر 2022م)، نرى نفس الأمر أيضا؛ فقد روى نتنياهو أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أراد إقناعه بالموافقة على مقترح للسلام، ولكن نتنياهو أصرَّ على أن يحتفظ بحق اقتحام المناطق الفلسطينية بقواته الأمنية والعسكرية "لاستئصال الخلايا الإرهابية"، ولما طمأنه كيري بأن الأمريكان سيدربون قوات الأمن الفلسطينية للقيام بهذه المهمة، لم يطمئن نتنياهو، فاقترح عليه كيري ترتيب زيارة سرية لأفغانستان ليطلع بنفسه على إنجاز الأمريكان في تدريب الجيش الأفغاني، فقال نتنياهو: "في اللحظة التي ستغادر فيها أفغانستان ستقضي طالبان على هذا الجيش"، يواصل نتنياهو: وهذا ما حدث فعلا في 2021، ما إن سحبت أمريكا آخر قواتها حتى تبخر الجيش الأفغاني خلال أيام[6]!

ولقد كرر نتنياهو أكثر من مرة، في مذكراته، أن القوات التي يدربها الاحتلال لا تتمتع بنفس الإيمان والتضحية العقائدية التي تتمتع بها المنظمات التي يسميها "إرهابية"، ومن هنا قرأ سيطرة طالبان على أفغانستان كنموذج متكرر لسيطرة حماس على غزة (2007م) وهزيمتها لقوات السلطة الفلسطينية، ولسيطرة حزب الله على لبنان (2000م) واستعصائه على قوات الجيش اللبناني[7].

الخلاصة المقصودة أن الشعب الأفغاني احتفظ بعافيته، ولم تستطع "الدولة الحديثة" أن تكسر المجتمع الأفغاني ولا أن تتغلغل فيه وتتغول عليه، ومن ثَمَّ بقي المجتمع قادرًا على مقاومة الاحتلال، واحتضان المقاومة، ونبذ السلطات العملية المرتبطة بالمحتلين! وأهم من ذلك أن الأجهزة التي بناها الاحتلال لم ينظر إليها الأفغان باعتبارها مكسبا ولا على أنها مؤسسات وطنية يجب الحفاظ عليها!

بينما العكس تماما هو ما وقع في عالمنا العربي، وقد ازدادت محنة العرب حين نشأت هذه "الدولة الحديثة" وجيوشها النظامية بأيدي الحكام المحليين، مع أنهم كانوا عمليا تحت نفوذ الأجانب المحتلين، ومن المؤسف أن الحركات الإسلامية في العالم العربي –مع وجود الغفلة وطول الزمن- اعتبرت أن هذه المؤسسات الدولتية هي من المكاسب الوطنية التي تتحتم المحافظة عليها.

لقد ارتكب الغنوشي كل تنازل ممكن بغية المحافظة على الدولة ومؤسساتها، وأبدى عبد الفتاح مورو احترامه الكبير للطاغية المجرم للحبيب بورقيبة –مع أن مورو من ضحايا التعذيب في عهده- لأنه بنى "مؤسسات الدولة التونسية"، وكان الرئيس مرسي رحمه الله حتى جلسة محاكمته الأخيرة يطلب جلسة خاصة يُفضي فيها إلى قضاته بما لديه من أسرار لأنه كان رئيس دولة ويملك ما يرى أنه يجب ألا يُذاع!! ثم مات في نفس هذه الجلسة!! لقد كان وفيا لمنطق الدولة –مع كل أسف- حتى مات مقتولا على يد هذه الدولة نفسها!!

لقد سمحت الحركات الإسلامية العربية لهذه الدولة ومؤسساتها أن تفترسهم، ولم تفكر حتى الآن في أن هذه "الدولة" إنما صُنِعت أساسا لا لخدمة الشعب، بل للسيطرة عليهم وتنظيم امتصاص أموالهم، ولم تكن هذه الدولة إفرازا طبيعيا لديننا ومجتمعنا، وإنما نزلت علينا عبر الاحتلال وصنائعه، فما من قصة احتلال ولا هيمنة أجنبية إلا وكان لها صراع عنيف كسرت فيه المجتمع، وجردته من سلاحه، وهيمنت على أوقافه، وسيطرت على أمواله!

إن قوة المجتمع الإسلامي كامنة في توزع القوة فيه، فجيشها لا يحتكر السلاح ويجرد الرعية منه، والسلطة لا تسيطر على أنشطة المجتمع وفعالياته العلمية والاقتصادية والاجتماعية، والتماسك القبلي والعشائري هو أحد أهم عوامل القوة الداخلية والخارجية وليس نقطة ضعف كما تنظر إليه الحداثة التي لا تريد إلا سلطة قوية شاملة ومواطنا فردًا متجردًا من كل قوة ومربوطا بها في كل خطوة!

النظام الإسلامي نظام يحرص على قوة المجتمع وقوة العلماء وقوة التلاحم القبلي، لأن مجتمعًا بهذا الأسلوب لا يمكن احتلاله ولا يمكن الطغيان عليه، ولو حدث، فإنه احتلال متعثر وزائل، وهو كذلك طغيان محدود ومتهدد.

والدولة التي تتوغل على المجتمع لا تكتسب قوَّتَها إلا على حساب قوته، وكلما اختُزِلت القوة في السلطة كان الجميع مهددًا، فإذا استبد بالسلطة طاغية لم يستطع أحد أن يقوم له، وإذا هَزَم أجنبي جيش الدولة الرسمي فقد انهارت البلد كلها ولم يعد فيها مقاومة.

ونحن في الذكرى الثانية لتحرر أفغانستان، نعيد ونكرر ونجدد التهنئة على ما كتبه الله لهم من النصر، ونعيد ونكرر ونجدد الأمل في أن تبقى أفغانستان مجتمعا قويا متماسكا متلاحما، متمسكا بالدين وحريصا عليه، مستعصيا على استبداد طاغية محلي أو على احتلال طاغية أجنبي.


نشر في مجلة الصمود، الناطق بلسان الإمارة الإسلامية في أفغانستان، سبتمبر 2023



[1] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص114.

[2] زلماي خليل زاده، السفير، ص7.

[3] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.

[4] روبرت جيتس، الواجب، ص248.

[5] روبرت جيتس، الواجب، ص238.

[6] Benjamin Netanyah, BIBI: My Story, p. 527.

[7] Benjamin Netanyah, BIBI: My Story, p. 527-8.

الاثنين، سبتمبر 04، 2023

حتى مشكلة البيئة والسكان.. جاء محمد ﷺ بحلولها!

 

لم يكن الكفر بالله طريقا إلى عذاب الآخرة فحسب، بل هو كذلك باب العذاب في الحياة الدنيا، كما قال تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

ففي الوقت الذي يرفض فيه الإنسان الخضوع لله، ويتمرد على الله، فإنه يُنَصِّب نفسه إلهًا، ويجعل رغباته وشهواته دساتير وقوانين ومبادئ حاكمة، وما دام الإنسان مغرورا بنفسه فإنه يغفل عما في آرائه وأفكاره من النقص والخلل، ويغفل عما في تصرفاته من مآلات السوء والنكبة، يحسب أفكاره منتهى العقل والحكمة، ويحسب رغباته وشهواته مطلق الحرية والحضارة، كما قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية: 23].

ولا يزال كذلك حتى يُنْكَب بعقله وشهوته، ويذوق فساد رأيه ووبال أمره، كما قال تعالى {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [يونس: 24].

ومن أوضح الظواهر التي نراها دليلا على هذا الحال، ما ينعقد الآن من المؤتمرات الدولية التي تشكو من تغير المناخ ومن ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومن النقص في الموارد والثروات الطبيعية بحيث لا يتناسب معها الأعداد المتزايدة من السكان، فيتسبب كل هذا معًا في الكوارث البيئية والأعاصير والفيضانات والحروب والمجاعات وانتشار الفقر والمرض... إلخ!

وما من شك في أن الحضارة الغربية المهيمنة والمتفوقة هي المسؤول الأول عن كل هذا الخراب بما أحدثته في هذه البيئة من استهلاك عنيف للموارد، ومن تلويث ضخم للبيئة، ومن سياسات وحشية تمتص بها ثروات الأمم وتسيطر عليها، ولكنهم مع ذلك –ولكونهم أغلقوا على أنفسهم باب الرجوع إلى الله- فلا يجدون حلولا لهذه الكوارث إلا أن يستمروا في العتو والغلو واتباع الهوى والشهوات، فينتهون إلى ضرورة إنقاص عدد السكان.

وإذ وصلنا إلى هذه النتيجة: إنقاص عدد السكان، فإن العقل المعجون بالكِبْر والهوى والشهوة، ينتج الوسائل القبيحة للحصول على هذه النتيجة، ليس أولها وسائل القتل العمد مثل: إنقاص حجم المساعدات للمحتاجين والمكروبين، وإنقاص وسائل الضمان والرعاية الاجتماعية في البلدان التي تقدمها، ورفع الدعم الحكومي عن الفئات الفقيرة والمهمشة، وهي الوسائل التي تنتهي عمليا بدعم نشوب الحروب والعمل على إطالتها. وليس آخرها وسائل القتل الخفية مثل: تمكين المرأة من وسائل منع الحمل، وجعل الإجهاض من حقوق المرأة وتيسير وسائله، وإباحة عمل قوم لوط والفسق بالأطفال وإتيان الحيوانات، وهذه وسائل تمتزج فيها رغبة إنقاص عدد السكان بهوس اتباع الشهوات التي لا تنتهي.

وليست هذه الوسائل جديدة، بل هي قد بزغت منذ أن هيمنت العلمانية وغلبت المسيحية، إلا أنها في زماننا هذا تُغَلَّف بزخارف علمية (أبحاث ودراسات ومؤتمرات منحازة ومغرضة) وزخارف فكرية (تجعلها من حقوق الإنسان ومن علامات التحرر)، وتنتهي إلى حزمة من القوانين والدساتير التي يجري تعميمها وفرضها على الجميع، ودعم شبكات من المنظمات الاجتماعية التي تروج لها تحت غطاء: حقوق المرأة وحقوق الطفل ونحو هذه الأمور!

وإلا فقد قالها مالثوس قديما بكل وضوح، قبل أن تكتسب الحضارة الغربية هذه القدرة الفائقة على تغليف التوحش وتزيينه، فقد نادى بأن تبقى أجرة العامل عند حدّ الكفاف كي لا يتكاثر، ونادى بخفض الأموال التي تُنْفَق على العاطلين لأن ذلك يشجعهم على الكسل وعلى المزيد من الإنجاب، ونادى بوقف صرف إعانات للفقراء، ونادى بعرقلة الزواج المبكر. وقد كانت هذه الاقتراحات –كما يقول ول ديورانت- بمثابة "وحي إلهي مقدس" تلقاه البرلمان البريطاني لينفذ هذه التوجهات[1].

ما دام الإنسان قد كفر بالله، فقد كفر في ذات الوقت بأن هذا الكون هو كون موزون مُقَدَّرٌ خلقه إله حكيم عليم خبير رحيم. ومن هنا فلا ريب في أن الموارد قد تكون أقل من البشر، وأنها لا تكفيهم، وبذلك لا بد من إيجاد الحلول (لمواجهة، وتحدي) هذه الطبيعة وهذا الكون العشوائي الذي جرت الصدفة على هذا النحو فجعلته لا يكفي لحياة المخلوقات فيه!

وما دام الإنسان قد آمن بأنه هو مجرد نتيجة لتطور دارويني صدر عن خلايا تلاقت وتفاعلت بمحض الصدفة عبر ملايين السنين، فهو قد آمن في ذات الوقت بأن هذا الإنسان ليس ذا كرامة ولا قدر ولا أهمية، فمَثَلُه كمَثَل الحديد والخشب والنحاس وسائر المواد التي تكوّنت من تفاعل آخر لعناصر أخرى تلاقت بطريقة مختلفة! ومثلما يمكننا أن نحرق الحديد ونقطع الخشب ونصهر النحاس لنحسن بها أحوال حياتنا، فلا بأس أيضا أن ننقص البشر –بالقتل المباشر أو بوسائل أقل فجاجة- لكي يستطيع بقية البشر أن يتمتعوا بحياتهم!

وحين نصل إلى هذه النقطة فلا ريب أن الإنسان الغربي المادي المتفوق لن يوزع الموت بالعدل على نفسه وعلى سائر الأمم!! بل سيعمل على إهلاك بقية البشر ليستمتع هو بالقدر الأضخم من الموارد المحدودة للطبيعة، وعليه أن يستنفذها ويستهلكها ليحقق أقصى إشباع لمنفعته ولذته! ولماذا يفكر في العدل أصلا؟ ولماذا تخطر بباله الأخلاق؟! إن العدل والأخلاق وسائر هذه الكلمات ليس لها وجود في الميزان المادي، إنها من مخلفات عصر الإيمان وعصر الخرافة، ذلك الذي كان سائدا قبل عصر العقلانية وعصر العلم، حيث كان الناس يؤمنون بإله قادر حكيم، ويؤمنون بيوم القيامة.. لقد كانت تلك أوهامهم التي اخترعوها ليعيشوا بلا تظالم، فأما الآن، في عصر العلم والعقل، فلا دليل على وجود الإله أو وجود يوم القيامة، ومن ثَمَّ فلا معنى لكلمات مثل العدالة والأخلاق، أو مثل: الإسراف والاقتصاد!!

إن سياسة نهب العالم وطحن الشعوب لتوفير الرفاه المادي للشعوب الغربية هي نتيجة طبيعية وحتمية لمنظومة فكرية مادية لا تعرف غير تحقيق المنفعة واللذة، منظومة ترى في البيئة والطبيعة تحديا يجب مواجهته، وموارد يجب استغلالها، وبشرا إن لم يكونوا عمالة ماهرة فهم عبء يجب التخلص منه!

ولهذا لم يكن غريبا أن يخرج اقتراح في مؤتمر ستوكهولم (1972م) الذي كان يبحث في تلوث البيئة، يقضي بضرورة أن تبقى البلدان النامية بلا تصنيع؛ لأنها إن أنشأت المصانع فسترتفع معدلات تلوث البيئة!! أي أن الغربيين رأوْا أنفسهم الوكيل الحصري للتمتع بالموارد وتصنيعها، ولهم وحدهم حق تلويث البيئة لتحقيق منفعتهم ولذتهم!

كذلك لم يكن غريبا أن تُفرض برامج إنقاص عدد السكان على بلاد آسيا وإفريقيا، وبعض هذه البرامج نُفِّذ بطرق وحشية استؤصلت فيها الأرحام، وأعطيت فيها الأدوية التي تسبب العقم، وشُرِّعت فيها القوانين التي تحرم الإنجاب بأكثر من طفل أو طفلين.. ومن فَتَّش في هذا الملف رأى مآسي عظيمة عاشتها كثير من الأمم بسبب فرض هذه الأوضاع عليها، ولا يزال كثير من هذا الوضع مستمرا حتى الآن، وفي مصر هدَّد عبد الفتاح السيسي باتباع الوسائل الأوروبية في إنقاص عدد السكان، وألغى الدعم عن كل من سيتزوج، وعن كل من أنجب أكثر من طفلين، وافتخرت طبيبة في مؤتمر أمامه بأنها تُعَقِّم كل امرأة في مستشفاها بعد الولادة الأولى، وبالفعل تظهر الإحصائيات تدهورا في عدد المواليد في مصر! (ومصر مجرد مثال).

نحن المسلمين لدينا كنز عظيم، ذلك هو ديننا، رسالة نبينا محمد ﷺ، والتي ما تزال هي الحل لسائر مشكلات البشرية، كثير من الناس يجهلون ذلك ويغفلون عنه، وبعض أعدائنا يعرف ذلك تماما، ولكنه يحرص على بقاء هذا الحل مجهولا ومكتوما ومغمورا لأنه يعرقل طريقه إلى تحقيق منفعته ولذته على حساب الشعوب الأخرى.

وهذا الحل يبدأ من اللحظة الأولى ومن المبادئ الأولى للإيمان، فإن الله العليم الخبير الحكيم الرحيم قد خلق الكون موزونا مقدورا، خلقه بعلم وحكمة، وهو الرزاق، عنده مفاتح الغيب، وبيده خزائن السموات والأرض، فالعالم لا يشكو من الندرة لأنه مخلوق بيد أحكم الحاكمين. وأما ما يظهر من الفساد في الأرض فهو ثمرة إفساد الناس وظلمهم وطغيانهم، وهو عقوبة من الله لهم ليرجعوا إلى الحق والعدل {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

ومن مبادئ الإيمان أن الكون مسخر لخدمة الإنسان، وهذه الأرض خُلِقت له ذلولا، فليس الإنسان في عداء أو مواجهة مع الطبيعة من حوله، بل هو مُسْتَخْلَفٌ فيها، أي: أن الله جعله خليفة في هذه الأرض، عليه أن يستعملها ويدبر أمرها وفق منهج الله المؤتمن عليه.. وهذا هو الفارق الضخم بين الاستخلاف والامتلاك، فالمسلم مستخلف في الأرض بمعنى أنه يقوم فيها بأمر الله، وأما الملحد فهو يتصرف في الكون باعتباره مالكًا لا يُسأل عما يفعل وعما يُفسد وعما يُسرف!

ومن هاهنا احتوت تعاليم القرآن وتعاليم النبي ﷺ على ثروة ضخمة في معالجة مشكلة البيئة، مع أن هذه التعاليم ظهرت في زمن لم تكن قد حدثت فيه مشكلة بيئية ولا مشكلة سكانية أصلا، وهذا أمرٌ يجب أن ينتبه له الإنسان العاقل الصادق مع نفسه، فإنه من دلائل النبوة ومن براهين ربانية هذا الدين.

لقد جاء محمد ﷺ برسالة تحفل بالكثير من التوجيهات؛ جاء بالنهي عن الإسراف في الماء ولو كان الذي يستعمله يغرف من نهر جارٍ، وجاء بالنهي عن تغوير الآبار وعن إنقاص الماء وعن تلويث الماء، وبالنهي عن قطع الشجر، وبالنهي عن العبث في النبات، وبالنهي عن تلويث الأرض وإفسادها، وجاء بالأمر بالنظافة وجعل طهارة البدن والثوب والمكان من شروط العبادة، وجاء بالحث على الغرس والزرع، وبالحث على إحياء الأرض الميتة، وبالحث على إماطة الأذى... إلخ! وسيرى القارئ في هذا العدد من المجلة طرفا من ذلك عبر مقالات الكُتَّاب! وهو أمر قد كُتِبت فيه كتب كثيرة ومجلدات كبيرة.

وهذه النصوص القرآنية والنبوية أخذها العلماء والفقهاء فشَيَّدوا عليها بناء فقهيا سامقا وعظيما، واستنبطوا منها دقائق عجيبة ومدهشة، واستخلصوا منها قواعد ضابطة وحاكمة، من قرأها عرف أنه ما كانت لتظهر مشكلة البيئة ونقص الموارد لو استمر تفوق الحضارة الإسلامية في زماننا هذا، ذلك أن تفاعل المسلمين مع البيئة عبر تاريخهم كان مثالا لموازناتهم بين مقتضيات المصالح والمنافع التي تعود على البشر، وبين الأضرار والمثالب التي تعود من هذه المصالح على البيئة ومواردها.

إن من قرأ هذا الفصل في تاريخ حضارتنا أيقن أن الإسلام كان رحمة للعالمين، بما في ذلك عالم النبات والجماد أيضا.

مع أن مشكلة البيئة تبدو مشكلة عصرية حديثة ناتجة من التطور الصناعي الضخم الذي أقبلت به الحضارة الغربية، إلا أن حلولها كامنة في ديننا ورسالة نبينا ﷺ، ليس في جانب التصور الاعتقادي والنظري فحسب (مع أنه الأهم والأعظم كما أسلفنا)، بل حتى في التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي تضبط سلوك الفرد في نفسه وبيته وقريته، وفي مأكله ومشربه ونشاطه الاجتماعي والاقتصادي.

وإن تجلية هذا وشرحه وإبرازه هو واجب من واجبات "أنصار النبي ﷺ"، خصوصا في هذا الزمن وأمام هذه الهجمة التي يريد فيها الغرب إهلاك الشعوب ليبقى وحده متنعما برفاهية اكتسبها بعد أن أفسد البيئة على كل من حوله.

نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ، سبتمبر 2023


[1] ول ديورانت، قصة الحضارة، 42/251 - 253، 42/381 – 389؛ وانظر: رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني، البيئة ومشكلاتها، ص112؛ جان ماري بيلت، عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة، ص27.