الأحد، ديسمبر 27، 2020

كلمة عن كتاب "حياتي في رحاب الأزهر"

 


لكم وددتُ أن تطول هذه المذكرات، وتكون أكثر تفصيلا، وما ذلك إلا لأحاول فهم شخصية صاحبها، فإنه أحد الشخصيات المُحَيِّرة.
إنه محمد البهي..
المفكر الإسلامي الكبير الذي فاضت ألسنة الكثيرين من مشايخنا في مدحه والثناء عليه، وأولئك الذين مدحوه أبعد من أن يُتَّهموا بنفاق، فمنهم القرضاوي وأحمد العسال وعبد الجليل شلبي وأنور الجندي ومحمد عبد الله السمان وغيرهم.
وهو مع ذلك الوزير في عصر عبد الناصر، في أشد حقبة عبد الناصر ظلاما، إذ كان وزيرا لشئون الأزهر، وكان واحدا من رجال قانون "تطوير الأزهر"، أو بالأحرى تحطيم الأزهر، وهو الذي نَفَّذ بنفسه تحجيما لشيخ الأزهر لم يجرؤ عليه أحد من قبله، حتى لم يجد شيخ الأزهر (محمود شلتوت) حينها إلا أن يرفع شكايته لمجلس الدولة يحاول أن يسترد شيئا من كرامته، فإذا بمجلس الدولة ينصر الوزير عليه (وهذا هو المتوقع في ظل قانون وُضِع أصلا لتحطيم شيخ الأزهر)، فلم يجد شلتوت إلا أن يعتكف في بيته مريضا حتى مات!
ثم هو مع ذلك الرجل الذي لما سأله عبد الحكيم عامر عن رأيه في كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" قال: تمنيت لو أنني كتبتُ هذا الكتاب، فإن فيه رأي القرآن.. متعرضا في ذلك لدهشة عبد الحكيم عامر -الرجل الثاني، ربما الأول في ذلك الوقت- وغضبته!
محمد البهي..
الرجل الذي فاض لسانه وقلمه في التحذير من المستشرقين، وهضم الفكر الغربي، حتى إن سيد قطب حين أراد تلخيص هذا الفكر لم يجد خيرا من أن ينقل من كتاب البهي "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار".. وهو كتاب فاخر جميل يوصى به. ومع ذلك لا تجد مستشرقا يناقش انحدار شأن الأزهر إلا وهو جذل أو مستغرب من دور البهي في إمضاء قانون الأزهر المشؤوم عام 1961.
الرجل الذي لا يُشَكُّ في صدق همّه وهمته لاستئناف الحياة الإسلامية، وإعادة المكانة للشريعة الإسلامية، ولكنه كان حريصا على تطبيق القانون الوضعي تطبيقا صارما كأنما هو الشريعة، أثناء حياته كأستاذ وكرئيس للجامعة وكوزير!
الرجل الذي كانت له من الجرأة أن يحاضر ويكتب ضد الشيوعيين في ذروة قوتهم بمصر في مطلع الستينات من القرن العشرين، ثم لا يقترب منه أحد، إلا أن تُمْنَع كتبه من الطبع، أو تُصادر إذا طُبِعت خارج مصر. ومع ذلك فهو يحظى بحماية عبد الناصر نفسه في مقابلة عبد الحكيم عامر وزوجته برلنتي عبد الحميد!!
الرجل الذي شُهِد له بالنزاهة ونظافة اليد والنفور من أية مكاسب، حتى أنه لم يستطع أن يشتري مسكنه.. كيف لهذا أن يكون وزيرا في عصر عبد الناصر الذي كان وزراؤه أمثلة نموذجية في الفساد والانحلال؟!
لكم تمنيتُ أن تحل هذه المذكرات لغز هذه الشخصية، ولكن اختصارها وأخبار شذراتها لم تشفِ غليلي.
لقد مرَّ بسرعة على قانون تطوير الأزهر، ولم يُشر إلى دوره في إقراره إلا بكلمات بسيطة.. ولا مَدَح القانون ولا أثنى عليه (مع أنه كان مستبشرا به كثيرا في خاتمة كتابه: الفكر الإسلامي الحديث).. ومرَّ على الأحداث الفاصلة في عصره دون أن يشير إليها. لقد انصب اهتمامه على توضيح مواقف شخصية ونزاعات بينه وبين أساتذة الجامعة أو مسؤولي الوزارة!
لا أجد تفسيرا لهذه الشخصية إلا أن هذا الرجل المستقيم في نفسه، البعيد الهمة والكثير الهمّ، إنما كان مصابا بما أسميه "فيروس الدولة"!!.. وهو الفيروس الذي يصيب صاحبه بالشغف بالخضوع والنظام وتنفيذ القانون حرفيا مهما كان القانون جائرا، والسعي للإصلاح بقدر ما تتيحه السلطة من مساحة، وبحسب ما تتيحه السلطة من أدوات. فإن اعترض على شيء لم يكن له أن يكافح أو يناضل بل أن يكتم غيظه في نفسه، مستمرا في تأدية مهمته على الوجه الأمثل كما يفعل "المواطن الصالح"!
ترى هل يكون غيظ هذا "المواطن الصالح" منبعثا من انتهاك الدولة للعدل والحق؟ أم من انتهاكها لقانونها الذي وضعته؟!.. في مثل حالة الشيخ محمد البهي: لا أستطيع الإجابة.
لقد تفتحت حياة الرجل في ألمانيا، حيث كان في بعثه، وذلك في زمن هتلر، في السنوات التسع الذهبية التي عادت فيها ألمانيا كماكينة عمل هادرة، وتلملم شتاتها وأشلاءها من الحرب العالمية الأولى لتتحول فيما يشبه غمضة العين إلى قوة فظيعة تكاد تلتهم أوروبا كقطعة من الحلوى!
تضرب ألمانيا، منذ بسمارك وحتى الآن، مثلا نموذجيا في الدولة القوية التي تهيمن على شعب نشيط، كأنما هي مصنع كبير مُحْكَم التصميم، وتقدّم نموذجًا يُدرَّس في العلوم السياسية عن السلطة التي تستطيع إنشاء شعب على وفق مثالٍ منضبط. ومن خلال مذكرات من عاشوا ذلك الزمن، نرى أن هذا النموذج قد بلغ ذروته في هذه السنوات التسع (1930 - 1939م).. وتلك هي السنوات التي عاشها صاحبنا هناك.
هل يصلح هذا لتفسير ما يبدو كتناقضات لدى محمد البهي؟!
هل يكون إيمانه بالإصلاح السلطوي، والتنفيذ الحرفي لتوجهات السلطة، هو الذي دفعه لما يُعاب عليه من العنف الشخصي والقسوة الإدارية والسعي نحو قانون تطوير الأزهر على هذا النحو؟
لقد كان مؤمنا أن الأزهريين لن يُصلحوا من أنفسهم أبدا، وكان مؤمنا أن الحل كامن في إجبار الأزهريين على تعلم اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة.
وهو في قسوته الإدارية وعنفه في موقع المسؤولية يُذَكِّر بما قيل عن ابن خلدون، الذي كان إذا تولى القضاء بدا عنيفا شديدا، فإذا عُزِل عنه بدا سهلا رقيقا رفيقا.
إلا أنه في هذا يخالف محمد عبده، فمحمد عبده رغم قربه من السلطة الإنجليزية التي كانت تحتل مصر، ورغم تشوقه الكامل لإصلاح حال الأزهر بما قد يقترب من رؤية محمد البهي (بالمناسبة: محمد البهي يرى نفسه من مدرسة عبده) إلا أنه حين كان يقع الاختيار بين "إصلاح" يفرضه الإنجليز فرضا على شيوخ الأزهر لم يكن يسعى في هذا بل كان يتوقف عنه، كان عبده في نهاية الأمر يريد أن يحتفظ للأزهر بهيبته ومكانته وألا يكون شأنه في متناول السلطة، لقد كان عبده مدركا أن الأزهر لم ينحط إلا حين سيطرت السلطة على أوقافه وشيوخه منذ محمد علي، وكان متحسرا على هذه الأزمة: فلا أهل الأزهر يرغبون في تطوير حاله، ولا إصلاحه سيكون على يد العدو المحتل، وقد روى رشيد رضا عنه في هذا الأمر ما يُصَوِّر حجم حسرته.
فارق محمد البهي محمدًا عبده في هذا النهج، وكان ذراعا للسلطة في ضرب الأزهر.
على كل حال، إن هذيْن القرنيْن، هما عصر الهزيمة.. وهو عصر تلتبس فيه الحلول على أهل العقول، عصر يصير فيه الحليم حيرانا، لا يدري ماذا يفعل.. والقاعدة عندي أن من ثبت ولاؤه للإسلام وهمّه في العمل له يوسع له في الإعذار ويُغَلَّب في شأنه حسن الظن، ولا يمنع هذا من الإنكار عليه والإشارة لما وقع فيه.
ونسأل الله أن يهدينا إلى أرشد الأمور، وأن يخرجنا من هذا الضعف والوهن.


الاثنين، ديسمبر 21، 2020

كلمة عن كتاب "الدولة المستحيلة"

 منذ أن أنهيتُ كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق، وأنا أهيئ نفسي لتدبيج مقال مطوّل عنه، ومع الأسف يمرُّ الوقت وتجتمع المشاغل مع ضعف الهمة فلا يلبث المرء إلا أن يكون بين خياريْن: إما أن يُدرك بعضَ ما نوى أو أن يتخلى عنه كله.


ولهذا، فما هذه السطور إلا خواطر متناثرة، لا تزال تترسب في الذاكرة، قدَّرْتُ أن بثَّها خيرٌ من طيِّها.

[1]

بداية، ولكي نريح القارئ العجول، فأنا في صفّ المعجبين بالكتاب والمؤيدين لفكرته، والفكرة البسيطة للكتاب أن نموذج النظام الإسلامي مختلف جذريا ومتناقض تماما مع نموذج الدولة الحديثة، ولا يمكن التوفيق بين هذين النموذجيين، إذ أحدهما ديني أخلاقي أنتج بالفعل نظاما عاش 1300 سنة، فضلا عن تجذره في نفوس المسلمين وعالمهم بما يجعل انخلاعهم عنه وانخلاعه عنهم مستحيلا، مثلما يستحيل انخلاع الأوروبي من إرثه اليوناني والمسيحي والتنويري.. بينما النموذج الثاني علماني مادي وهو ابن تجربته الغربية، التي جعلت الدولة إلها حقيقيا متغولا وسائدا على المجتمع، مع أنه ليس لها لا رحمة الإله ولا حكمته، كما أنه ليست لها أخلاق، بل هي نظام عنيف مدمّر ولا إنساني.

وبالتالي -يقول حلاق- فالمسلمون حين يتطلعون إلى "دولة حديثة" كالتي في العالم الغربي، فإنهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير! بل يجب على الغرب أن يحاول حل مشكلة الحداثة بالنظر إلى التراث الإسلامي وما فيه من هيمنة أخلاقية قوية.

2. هذه الفكرة في جوهرها ليست جديدة، بل طرحها آخرون من المستشرقين والمسلمين منذ مائة عام على الأقل، ولم تزل تتردد في أروقة البحث ذي الصلة بهذا الموضوع.. ولكن قيمة كتاب حلاق هذا في أمرين؛ الأول: أنه خدم هذه الفكرة وتعمق في إثباتها بنقولات غزيرة من حقول القانون والفلسفة والسياسة لأعلام الفكر الغربي، تدلّ على تمكنه من مادته، وقدته البارعة على المقارنة الموفقة بين النموذجين الإسلامي والغربي. والثاني: هو هذا العنوان التشويقي الإثاري في الزمن الملتبس.

[2]

سأفترض جدلا أن اختيار حلاق للعنوان كان بريئا، وهذا أمر مستبعد جدا، لكن الذي يهمنا الآن أكثر من التفتيش في نواياه أن العنوان غير معبِّر بدقة عن فكرته.. فالكتاب أصلا لم يؤلف ليقرأه المسلمون، بل غرض تأليفه وجمهوره هم الغربيون الذين يُحاول تبصيرهم بعيوب الحداثة وكيف أنه يمكن أن نجد لها حلا في التراث الإسلامي.. فالعنوان الفرعي أدق في التعبير عن غرض الكتاب "الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي"!

ولكني أعرف تماما أنه لو كان هذا هو عنوان الكتاب، فلم يكن أحد ليتشجع لترجمته، ولم يكن مركز عزمي بشارة ليتحمس لنشره، ولكن عزمي بشارة يحمل مشروعا فكريا من أركانه إقناع المسلمين باستحالة عودة الدولة الإسلامية، حتى لو اعترفنا -حقا أو تخديرا- بأنها كانت دولة عظيمة في زمانها وضمن ظرفها التاريخي!

لقد كان عنوان الكتاب واقعا بقوة ضمن مشروع عزمي بشارة.. ولعله لهذا كان هو الكتاب هو الوحيد الذي ترجمه ونشره هذا المركز من تراث حلاق كله.

ولا يمكن أن ننسى الزمن الذي صدر فيه الكتاب، لقد كان زمن الاحتدام الضخم حول المستقبل، في إبان الربيع العربي ووصول الإخوان إلى السلطة في مصر وتونس، واحتمال وصولهما إليها في غيرها.. لقد شهدت هذه الفترة سعارا علمانيا محموما لنقض فكرة الدولة الإسلامية، يستوي في ذلك من اعتمد لغة هادئة أو من اعتمد لغة هائجة.

لقد زادَ هذا كلٌّه -العنوانُ والتوقيتُ- من رواج الكتاب وانتشاره، ولكنه شوَّه فكرته أيضا. أتصور أن الكاتب إذا خُيِّر بين رواج مع تشوه مثير للنقاش والجدل، وبين خفوت وانطماس فسيختار الأول.

كلمة "الدولة" معناها ملتبس، فهي في التراث الإسلامي تساوي الزمن أو العصر أو الحقبة، يقال: دولة بني أمية أو دولة بني العباس ويُقصد به زمانهم، فهي مشتقة من التداول (وتلك الأيام نداولها بين الناس).. ولكنها في المعجم السياسي المعاصر تشير إلى "جهاز الحُكْم" وإلى النظام السياسي.. ولهذا يفهمها المعاصرون العرب باعتبارها مردافا للحكم والسلطة والنظام.. إلخ!

بينما وائل حلاق يرفض استعمال هذا اللفظ "الدولة" إلا بمعنى "الدولة الحديثة" التي هي النسخة الغربية المعاصرة من شكل الحكم.. فالدولة عنده هي هذا المعنى، ويرفض بإصرار أن يُطلق لفظ الدولة على أي معنى آخر، حتى أنه اشتبك في أكثر من حاشية مع مستشرقين آخرين عبَّروا عن نظام الحكم الإسلامي بكلمة "دولة"، واشتبك مع نوح فيلدمان لاستعماله لفظ "دولة" لوصف نظام الحكم الإسلامي في كتابه "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" مع أن طرحهما متقارب جدا إن لم يكن متطابقا.

برأيي أن هذا الإصرار على هذا المعنى الوحيد للفظ "الدولة" لا ضرورة له، ففي النهاية فإن المنادين بالدولة الإسلامية -مهما كان إيمانهم بإمكانية تلاقي نظام الحكم الإسلامي مع شكل الدولة الحديثة- يعرفون أنهم في سعيهم هذا يُعدِّلون تعديلا جوهريا في شكل النسخة الغربية المعاصرة من الحكم "الدولة الحديثة".. وبالتالي فليس الاشتباك حول اللفظ أمرا شديد الأهمية طالما نستطيع تمييز الفحوى والمضمون.

كذلك فإن استعماله لفظ "المستحيلة"، بدا لمن لم يقرأ الكتاب، وكأنه يُصدر بهذا حُكْما نهائيا على استحالة عودة نظام الحكم الإسلامي، وهذا المعنى جديرٌ بأن يثير حساسية كل مسلم، مع أنه أوضح صراحة في أكثر من موضع أنه لم يقصد هذا، ولكنه قصد إلى أن شكل نظام الحكم الإسلامي إن عاد للواقع ذات يوم فسيكون مغايرا ومخالفا لشكل الدولة الحديثة. كما أنه طرح فكرة الصعوبات الواقعية، إذ النظام العالمي بتركيبته الرأسمالية المعولمة القائمة على شبكة من الدول القومية القُطرية لن يسمح بقيام حكم إسلامي، وسينفق في هذا كل ما لديه من عنف هائل في سبيل تحطيم أي حركة تسعى إليه.

[3]

ذكرتُ أن الكتاب لم يُكتب لنا، وإنما كتب للجمهور الغربي أو لصناع القرار في الغرب، ومن أبرز الأدلة على هذا أنه أنفق وقتا طويلا في شرح أركان الإسلام -في الباب قبل الأخير إن لم تخني الذاكرة- ليشرح آثارها الأخلاقية على مجتمع المسلمين.

ولهذا فإن الكتاب ليس مفيدا للحركيين ولا لعموم المسلمين، هو مفيد لمساحة المثقفين والباحثين الذين يخوضون هذا السجال الفكري مع العلمانيين أو مع الغربيين، والذين يهتمون بجمع الأدلة في بيان عيوب الدولة الحديثة وتفوق النموذج الإسلامي.

بينما المسلم يتشرب المعاني المطروحة فيه بشكل طبيعي من خلال الكتاب والسنة وتراث المسلمين ومواعظ العلماء والدعاة.. بل يتشربها بطريقة أكثر عمقا وبساطة، بل -وهذا هو الأهم- يتشربها بالطريقة التي تحثه على العمل.

أنا شخصيا قبل عشر سنوات كتبتُ كتابا عن "منهج الإسلام في بناء المجتمع"، أشعر أحيانا حين أقرؤه بأنه تافه لا يطرح جديدا على المجتمع المسلم، وأحيانا أشعر أنه جيد جدا وأتعجب كيف كتبته قبل عشر سنوات، لم أكن قد اطلعت فيها على آلاف الأدلة الإضافية على فكرته الرئيسية، وأشعر بإلحاح أني في حاجة إلى إنتاج نسخة أخرى منه مشروحة ومزيدة تحتوي ما وقعتُ عليه في هذه السنين من الأدلة والإضافات.

ضربتُ المثل بنفسي هنا لكي أقول، وبدون أي محاولة تواضع، أن الشاب المسلم يستطيع ببضاعة قليلة مزجاة من الثقافة العامة أن يعتنق نفس الفكرة الرئيسية التي تبدو وكأنها مفاجئة للبيئة الثقافية يوما ما! وذلك لشدة وضوحها.. والقصد أن أقول: إن هذا الكتاب -كتاب حلاق- ليس مؤثرا أبدا في مسيرة أي حركة إسلامية، لأنها تعتنق فكرته بطبيعتها.. هو ربما كان مفاجئا لقومه ومفاجئا للبيئة الثقافية المرتبطة بالإنتاج الغربي.

حتى الحركات الإسلامية التي تبدو مؤمنة بالحداثة والدولة الحديثة، هي في حقيقة الأمر ليست كذلك، ولو أتيحت لها الفرصة الحقيقية لتطبيق نموذجها، فسينتج عنها بشكل تلقائي تغييرات جوهرية على نموذج الدولة الحديثة يُفرِّغها عمليا من محتواها العلماني، ويتدرج في التطبيق والتنفيذ إلى إنتاج صيغة معاصرة من نظام الحكم الإسلامي. حتى الغنوشي والعثماني -مع عميق بغضي لأفعالهما ورفضي التام لسياساتهما وأفكارهما- إذا أتيحت لهما فرصة تامة وارتفعت عنهما الإكراهات العلمانية والدولية لكانت النتيجة نسخة توفق بين الإسلام والحداثة، وستنتهي حتما إلى الإسلام لا الحداثة!.. على الأقل هذه قناعتي، ولست مستعدا الآن للجدال حولها.

[4]

يعد كتاب وائل حلاق هذا واحدا من الكتب التي أتعجب أن صاحبها لم يعتنق الإسلام.. إن الكتاب يمكن ببساطة أن نجعل عنوانه "الإسلام هو الحل" وسيكون هذا العنوان أكثر تعبيرا عن محتواه من هذا العنوان الحالي.

يصلح الكتاب أن يكون مرافعة ممتازة لصالح نظام الحكم الإسلامي في مقابل نموذج الدولة الحديثة، ولا أكاد أشك أن نشأة وائل حلاق القديمة في الشام وما بقي في ذهنه من ذكراها جعلته يقارن بوضوح بين المجتمع الأخلاقي الذي نشأ فيه وبين الحداثة القاتلة التي يحياها الآن.

إن الذين يقيمون في الغرب يذوقون بالفعل روعة المجتمع الإسلامي الأخلاقي المتكافل، بشرط أن يتخلصوا من عقدة النقص.. وهذا الأمر بدا كثيرا في إنتاج كثيرين من المستشرقين بل وفي إنتاج المسلمين الذين ذهبوا إلى الغرب إذا لم يفقدوا أنفسهم.. ولا يزال تعبير سيد قطب العبقري يرنّ في رأسي منذ قرأته، "أمريكا: تلك الورشة الضخمة الغبية"!

ويمكن في هذا السياق أن نطالع كتابات جوستاف لوبون وآنا ماري شيميل وزيجريد هونكه وعلي عزت بيجوفيتش وعبد الوهاب المسيري.. حتى إن بعض المستشرقين المتعصبين يندّ عنهم شيء كهذا أحيانا مثل جولدزيهر الذي كان يتنكر ليصلي مع المسلمين ورينان الذي كان منظر الصلاة يثير فيه الندم أنه لم يكن مسلما.

قرأت كثيرا من كتب المستشرقين عن سيرة النبي أو فصولا كتبوها عنه وتعجبتُ إلى درجة الحيرة: لماذا لم يُسلم هؤلاء؟!.. إن بعضهم كتب أمورا يعجز عن كتابتها بعض الدعاة والعلماء المسلمين، وما ذلك إلا لأن خبرتهم بـ "الجاهلية" الغربية سمحت لهم بالتقاط جوانب من عظمة الإسلام لا ينتبه لها المسلم.

أحسب أني بعد هذه السنين وصلتُ إلى بعض الجواب: إن منهج الوضعية العلمية السائد في الغرب منذ دخوله عصر العلمانية جعل كثيرا من الباحثين يرى أن مهمته تتوقف عند إتمام البحث بصورة عملية ممتازة، ولا يرى نفسه بعد ذلك مكلفا باتباع ما وصل إليه من الحق أو الخضوع له!

هذه النزعة الوصفية التفسيرية التي لا يتبعها عمل تسربت بقوة إلى مجتمعاتنا العلمية، صار كثير من الباحثون والأساتذة العرب رؤوسا كبيرة متضخمة ممتلئة بالأفكار، لكن لا نصيب لها من سلوكهم وعملهم! صار الباحث يرى عمله واقفا عند جمع المعلومات وتركيب الصورة وتقديم التفسير وربما تقديم بعض التوصيات، دون أن يرى نفسه مُطالبًا بالحركة في سبيل ما آمن به من هذه القناعات!

وهذا أمر مُدَمِّر.. وهو خلاف ما كان عليه حال العلماء في حضارتنا الإسلامية، حيث العلم يُطلب للعمل، وحيث لا يقبل من العالِم أن يخالف ما يقوله.. الآن بإمكان الطبيب أن يحاضر عن خطورة التدخين أو الخمر ثم هو يدخن أو يشرب الخمر، وبإمكان أستاذ الجامعة أن يحاضر عن الحقوق والحريات ثم هو نفسه ترسٌ في آلة استبداد بشعة، بل حتى الحقوقي يحاضرنا عن المرأة والتحرش ثم هو نفسه يزني ويغتصب ويتحرش!!

هذا الحال الذي ينفصل فيه العلم عن العمل، والعلم عن الأخلاق، مقبول في الزمن الغربي حيث المنهجية الوضعية (التي هي بنت العلمانية)، ولكنه مرفوض أشدَّ الرفض في ديننا ومنهجنا.

كتاب حلاق هذا هو واحد من طابور طويل من الكتب التي عرف أصحابها الإسلام ثم لم يعتنقوه.. فكيف يفعل هؤلاء أمام ضمائرهم؟ وكيف يكون حالهم أمام الله يوم القيامة؟!

[5]

كشف هذا الكتاب، عند صدوره، مأساة في حالتنا الثقافية العربية.. فلو امتدت يد إلى كتاب حلاق هذا فغيَّرت أسلوبه الأكاديمي الجاف، واستبدلت بعض صياغاته بأخرى فيها آيات وأحاديث وبعض العاطفة، ومدَّت بعض الأفكار على استقامتها، لتحول هذا الكتاب إلى تنظير جها دي ممتاز، ولصار طبعة جديدة موسعة من "معالم في الطريق" لسيد قطب، أو طبعة جديدة من كتاب تأسيسي حركي لجماعة جها دية!

هذا يخبرك كيف أن الفكرة حين يكتبها غربي باللغة الإنجليزية وبالأسلوب البارد تصير موضع حفاوة وتقدير، أو على الأقل مناقشة وتفكير، ثم كيف أن نفس هذه الفكرة حين يكتبها مسلم غيور تُجابَه بالإنكار والرفض والتنديد والتشنيع!!

إن نخبتنا الثقافية تشربت من أصول التفكير الغربي ما لم تتشرب عشر معشاره من القرآن والسنة، حتى صار ما يعجبنا لا يزيد عن أن يكون "بضاعتنا رُدَّت إلينا"!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الثلاثاء، ديسمبر 01، 2020

كيف تتشكل صورة المسلمين في فرنسا؟ خبرة مستشرق فرنسي

 


في عام 2016 أصدر المستشرق الفرنسي فرانسوا بورغا كتابه "فهم الإسلام السياسي"، وفيه حاول أن يوجز رحلاته في الديار الإسلامية، حيث اكتشف هناك زيف الصورة التي يعتنقها الفرنسيون. واكتشف أيضا أن هذه الصورة ليست لمجرد ضعف الثقافة أو لأن الفرنسيين لا يعرفون إلا الغرب، بل لأن ثمة شبكة من المؤسسات السياسية والإعلامية والأكاديمية تعمل على ترويجها وفرضها وتثبيتها كصورة وحيدة. ونفس هذه الشبكة هي التي تُرَوِّج تحليلاتها وتفسيراتها وتقدم "الفهم الوحيد الصحيح" لما يحدث في بلاد المسلمين، ليس هذا فحسب، بل إنها تسعى سعيها المحموم لمطاردة أي صوت آخر يحاول أن يقدم صورة أخرى أو تحليلا آخر لما يجري هناك.

ومن ثَمَّ كان على المتحدث في شأن الشرق أن يلتزم بهذه الرواية الرائجة، فإذا تجرأ وقدَّم رواية أخرى تنصف المسلمين أو تحاول فهمهم، كان عليه أن يدفع الثمن، ومن الجدير بالذكر أن تهمة التعاطف مع الإسلام تساوي "باختصار: الخيانة"[1].

خرج الكتاب مزيجا بين السيرة الذاتية وبين أدب الرحلات وبين الفكر والتحليل السياسي! ومع أن فهمه لعموم المشاعر الإسلامية كان جيدا إلا أن فهمه للحركات الإسلامية يعاني قدرا غير قليل من التشوش والضبابية.

يبدأ بورغا كتابه باقتباس من رسالة الروائي الفرنسي الشهير إميل زولا، يقول: "إنهم يُهَيِّجون فرنسا، يختبؤون وراء عاطفتها المباحة، يكممون الأفواه بتكدير القلوب وإفساد العقول. لا أعرف جريمة مدنية أعظم من ذلك". ثم يشرع في بيان أن التوتر مع العالم الإسلامي يعود إلى المشكلات السياسية، لا الدينية، فالمسلمون يريدون الانعتاق من الاستعمار وقيوده التي لا تزال مستمرة، وهذا ما لا يريد الغربي أن يفهمه لأنه منكفئ على نفسه ولا يرى في العالم غير فرنسا أو الغرب فحسب، وبدلا من أن ينشط الغربي لفهم هذه الظاهرة الإسلامية فإنه يستعمل سوء الظن ليفسر به حركة هؤلاء "الأشرار" الآخرين.

يحاول بورغا التمييز بين المسلمين وبين الإسلاميين، فالمسلمون كأي أمة يريدون أن يعيشوا كما تمليه عليهم ثقافتهم وشريعتهم، فميلهم إلى الهوية الإسلامية هو فعل طبيعي، ليس فيه بالضرورة رفض مطلق للغرب ولا رغبة في إفناء الشعوب الغربية، ولكنها حركة استقلال وتحرر وانخلاع من الثقافة الاستعمارية التي لا تزال مفروضة عليهم بفعل الهيمنة الغربية، وهذه الحركة موجهة إلى العلمانيين والقوميين أيضا باعتبارهم ممثلي الثقافة الغربية ونتاجا لحقبة الاستعمار. هذه الرغبة في الاستقلال والتحرر لا بد لها من الانتماء إلى الإسلام وحضارته وتقاليده وقيمه، لأن أصحابها مسلمون، وهذه الرغبة هي التي تسود العالم الإسلامي، ولا يمكن إدانتها.

وأما الإسلاميون فهم أولئك الذين ترجموا هذه الرغبة إلى عمل وحركة، ومن الطبيعي أنهم سيعملون بقوة ضمن تحت الشعارات الإسلامية وسيتبنون خطابا إسلاميا، ولكن التنوع الكبير بين هؤلاء الإسلاميين (بدءا من الغنوشي وحتى البغدادي) في طرق العمل وطبيعة الأفكار، يجب أن يلفت النظر إلى أن الخطاب الإسلامي إنما هو مظلة واسعة للغاية، فمن الخطأ حصر الإسلام في شكل نمطي واحد كما يحدث في الغرب، ولفهم هذا التنوع يجب أن ننظر في الظروف والدوافع التي هيمنت على كل حركة حتى صار كلا من الغنوشي والبغدادي ينتسبان إلى الإسلام ويستعملان الخطاب الإسلامي.

يستخلص بورغا من خلال دراسته ورحلاته إلى قناعة مفادها أن ردة فعل حركة إسلامية ما "غالبا ما تكون ذات طبيعة انفعالية، أي أن باعثها المؤسس يتمثل في عنف ابتدائي"[2]، وبعبارة أخرى: أن ظهور التطرف والإرهاب لا يتحمل الإسلاميون وحدهم مسؤوليته، لا سيما إن كانت البداية عملا عنيفا جاء من الطرف الغربي كالاحتلال العسكري أو من ممثلي الغرب المحليين كالقمع والاضطهاد! ومن هنا يختلف بورغا مع معاصره الفرنسي جيل كيبيل (وهو واحد من أشهر الباحثين في الحركات الإسلامية) إلى درجة التناقض، إذ يرى كيبيل أن ما في الإسلام من قيم وأفكار إنما هي منتجة للتطرف بطبيعتها، وأنه حيثما وُجِد الإسلام فسيوجد التطرف!

يختصر بورغا أفكاره فيقول: "إذا ما اعتقدنا أنه ينبغي إصلاح الفكر الديني الراديكالي بغية إحلال السلام، نكون قد سلكنا طريقا خطأ، فالسبيل إلى إحلال السلام في المنطقة لا يمر عبر إصلاح الخطاب الديني، وإنما نبدأ بإحلال السلام في المنطقة لكي نصل إلى إصلاح الخطاب الديني"، ويضيف: "لا يصدر العنف "الإسلامي" من الإسلام. إنه نتاج التاريخ الحديث للمسلمين، تاريخ كتبته أياد عدة، منها أيادي الجارة الغربية الكبيرة (أوروبا)"[3].

طفق بورغا عبر هذا المدخل يسرد كيف انفتح على العالم الإسلامي، والبلاد التي زارها، وروى كثيرا من المواقف التي تعرَّض لها مما له دخل بهذه الفكرة أو مما يُروى للطرافة والغرابة أحيانا:

كانت رحلته الأولى إلى إسرائيل، وذلك قبل أن يبدأ الاهتمام بأحوال الشرق، وكانت معرفته المستقاة من المدرسة ومن الصحافة الفرنسية تقول بأن الإسرائيليين كانوا هم الذين نجحوا في زرع الورود وسط الصحراء، التي كانت مجرد أرض لم يفعل العرب إلا التجول فوق كثبانها على ظهور جِمالهم طوال هذه القرون. هناك استفاق على كلمة شاب فلسطيني يقول له "لقد أخذ اليهود بلدي مني". لم يكن يعرف شيئا عما جرى ولا لديه أدنى علم بالتاريخ الذي يحكي كيف صارت إسرائيل! وبهذا يمكن أن نتصور كيف يفهم الفرنسي الجاهل صورة الوضع إذا سمع بخبر هجوم على الذين نجحوا ولأول مرة في زراعة الورود في قلب الصحراء!!

وفي رحلته وعمله بالجزائر اكتشف ولأول مرة أن الاستعمار الفرنسي وجرائمه حاضرة في الجزائر حضورا طاغيا ومؤثرا في كل شيء، ويكاد يكون أثر هذا حاضرا في كل ردة فعل يقوم بها الجزائريون، بينما هذا التاريخ لا يدرس في فرنسا ولا يعرف الفرنسيون شيئا عما فعله أسلافهم في الجزائر، ومن ثَمَّ فإن كل ردة فعل غاضبة في الجزائر يفسرونها على أنه ناتجة عن الطبيعة المتطرفة الأصيلة المغروسة في نفوس المسلمين، بل إن أولئك المسلمين إنما هم ناكروا جميل، وذلك أنهم يتعاملون بعداء مع فرنسا مع أنها هي التي أدخلتهم العصر الحديث وبنت لهم المدارس وشقت لهم الطرق وألحقتهم بالثقافة العصرية!!

وحين وقع الانقلاب العسكري في الجزائر على الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبدأت حرب الجيش على الإسلاميين، بكل ما شملته من جرائم ومذابح، فإن فرنسا قدَّمت الدعم الكامل –هي وسائر الغرب- للجيش في معركته، ولم تأبه أن تسأل عن الديمقراطية المذبوحة! يرى بورغا أن هذه واحدة من اللحظات النموذجية التي يمكن من خلالها تفسير وفهم الحركات الجهادية. ولكن من سيسمح بذلك، إن بورغا نفسه كان يعاني غاية المعاناة لأنه يحاول تقديم الصورة الحقيقية في مناخ تعمل فيه الشبكة السلطوية كلها وبكل طاقتها في ترويج وترسيخ روايتها الوحيدة عن "الإرهاب الإسلامي".

هذه الشبكة جذبت إليها حتى الأحزاب اليسارية في فرنسا، التي من المفترض أنها تدافع عن العدالة وعن الطبقات الفقيرة وعن الظروف غير الطبيعية التي تدفع إلى العنف، لقد كانت حاجة هذه الأحزاب إلى الأصوات التي تذهب إلى أحزاب اليمين أهم عندها من الإخلاص لمبادئها!

يذكرنا حديث بورغا عن الشبكة المهيمنة على إنتاج المعرفة في الغرب بما قاله إدوارد سعيد، وتذكرنا معاناته ببعض ما لقيه مستشرقون حاولوا الإنصاف منذ رايسكه وحتى الآن. إننا لن نفهم الاستشراق حقا إذا لم نفهم أنه الذراع الأكاديمي لسياسات الهيمنة، وليس مسموحا ولا هو ممكن أن يتحول الاستشراق ليكون دراسة موضوعية تنتهي نتائجها إلى اتهام السياسة الغربية، وتحسين صورة العدو "الإسلامي".

ليست المشكلة في جهلٍ سببه ضعف التواصل أو ندرة المراجع أو قلة الباحثين، المشكلة في شبكة الطغيان التي تصنع الصورة اللازمة لاستمرار الحرب والنهب والعداء، وعموم الناس في الغرب هم ضحايا بوجه من الوجوه، إلا أن منهم من إذا عرف الحقيقة فضَّل ما هو فيه من الترف والمكاسب –التي هي من دماء الشعوب المستضعفة- على أن ينقلب مدافعا عن الحق ومتحملا ثمنه، وهو بهذا ينحاز إلى شبكة الطغيان طواعية ليكون جنديا في صفوفها!

من المؤسف أننا لا نملك الكثير لإنقاذهم من جهلهم، فهذا الجندي الجاهل الذي يهاجمنا بسلاحه في ديارنا ليس له إلا الصدّ والردّ والدفع بكل ما يندفع به! ومثلُ هذا الجندي الجاهل هذا الفرنسي الغافل في بلاده، لن يستيقظ إلا إذا مُسَّت بعض رفاهيته بمقاطعة المسلمين لمنتجاتهم، وبما يستطيعون من وسائل المقاومة الأخرى.

وهنا نفهم، لماذا كانت الفتوحات الإسلامية هي أوسع عملية في التاريخ لإنقاذ البشر من هيمنة الطغاة!


نشر في مجلة المجتمع الكويتية، ديسمبر 2020



[1] ص20، 22، 23.

[2] ص18.

[3] ص19، 25.

الاثنين، نوفمبر 02، 2020

فرنسيون أنصفوا الإسلام

نستأنف في هذا المقال ما كنا قد ختمنا به المقال السابق، حيث كان حديثنا عن الاستشراق الفرنسي، وكيف أنه كان ذراعا علميا للهيمنة الفرنسية، ووسيلة السياسة الفرنسية لتسهيل احتلالها البلاد الإسلامية سواء من خلال قيامهم بالدور العلمي في فحص ودراسة هذه البلاد وأحوالها لإيجاد أفضل الطرق وأقلها تكلفة لعملية الاحتلال والسيطرة، أو من خلال قيامهم بالدور الإعلامي الذي يبرر ويشرعن عملية الاحتلال من خلال تشويه أهلها وثقافتهم وأخلاقهم.

ومن بين طابور المستشرقين الفرنسيين الطويل خرج عدد قليل من أولئك الذين أنصفوا الإسلام ونبيه وحضارته، فمنهم من اصطفاه الله وكتب له الخير فأسلم واعتنق الدين، ومنهم من بقي على حاله.

وعموما فإن الكتابات المنصفة تصدر عن الغربيين بعد أن تنطوي صفحة الصراع المشتعل، حين ينتصرون في المعركة ويحسمونها لصالحهم، عندها لا يعود الشعور بالخطر قائما، وتصير الأمة المغلوبة كالجثمان الممدد أو الفريسة العاجزة، لا يُخشى منها، وعندئذ يمكن أن تبدأ دراستها بطريقة أكثر علمية وموضوعية، مثلما تجري دراسة الآثار في المتاحف، لا يستنكف أحد أن يعترف بعظمة حضارة قد دثرت وماتت.

لذلك فإن التأمل في تاريخ إنصاف الحضارة الإسلامية في الكتابات الاستشراقية سيفضي بنا إلى إدراك أن هذا الإنصاف لم يحصل إلا بعد العلو الغربي، وأما ما قبل ذلك فقد كان الجهر بإنصاف الإسلام أمرا خطيرا، فمن ذا الذي يجرؤ –ولو بدافع العلمية والموضوعية- أن يمتدح عدوه الذي يستشعر منه الخطر؟!.. إنه أمر لا يقوم به إلا أفذاذ الناس الذين يرفعون قدر الحق والحقيقة فوق كل اعتبار وكل مصلحة، ويكونون مستعدين لدفع الثمن الباهظ بمخالفتهم تيار السياسة وتيار الإعلام وتيار التحريض الشعبي. إن الذي ينطق بالحق في وقت الهزيمة والقهر وقلة النصير وشدة الخطر إنما هو في مرتبة عليا، بل هو في الإسلام "سيد الشهداء".

ومع هذا كله، ومع استيعابنا لهذه الظروف التي تسمح بالكلمة المنصفة، فإنه لا بد أن نُقَدِّر أيضا أولئك الذين أنصفوا ديننا ونبينا وتاريخنا، فلم يزل هذا الإنصاف مغامرة غير آمنة في كل الأحوال، لا سيما في فرنسا، ومن يتابع أعمال المستشرق المعاصر فرانسوا بورجا يرى بنفسه بعضا من هذه المعاناة التي يلقاها، والتهم التي يُرمى بها، ليس ذلك إلا لأنه جال كثيرا من بلدان العالم العربي ورأى الصورة التي تحجبها فرنسا، وتلمس التاريخ الذي لا يُدَرَّس فيها.

وبعض أولئك الذين حاولوا إنصاف الإسلام وحضارته ورسالته سلك مسالك متنوعة وحذرة في إزجاء المدح الواضح، وامتلأ حديثه بالاستدراك والاستثناء وطرح الاحتمالات، كأنه يحاول أن يجد طريقا لا يخون به العلم ولا يزعج به الحالة السائدة.

في هذه السطور القادمة التقطنا بعض هذه الشهادات المنصفة التي صدرت عن مستشرقين منصفين، وغرضنا منها أن نبين: أن الباحث إذا أخلص لوجه الحقيقة وتجرد لها فإنه سيصل بمشيئة الله إليها، حتى لو كانت بيئته وثقافته تنطلق من المعاداة.

 

1. تحدث المستشرق الفرنسي وعالم الاجتماع المعروف جوستاف لوبون عن الفتوحات الإسلامية فقال: «وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا مثل دينهم... وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم»[1].

ويعد كتاب "حضارة العرب" لهذا المستشرق شهادة ضخمة على أن الأمة الإسلامية كانت خير أمة أخرجت للناس، وإن لم يخلُ من أخطاء وهنَّات، إلا أنه كتاب إذا قرأه الجاهل كان له بمثابة الصدمة التي يعرف بها قدر هذه الأمة.

2. وصف الشاعر الفرنسي الشهير ألفونسي دي مارتين نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنه فيلسوف، خطيب، نبي، مشرع، مقاتل، فاتق أفكار، باعث عثائد في شريعة لا صور فيها ولا تماثيل، مؤسس عشرين مملكة على الأرض ومملكة روحية، ذاك هو محمد. ومهما تكن المعايير التي نقيس بها العظمة الإنسانية، فإننا نتساءل: أي إنسان كان أعظم منه؟"[2].

3. قال المستشرق والقانوني الفرنسي مارسيل بوازار عن تسامح الإسلام مع غير المسلمين وحفظه لحقوقهم: "الإسلام يتراءى أكثر تسامحًا كلما قَوِيَ واشتدَّ على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتنص الآية القرآنية التي تمنع الإكراه على اعتناق الدين عن تأكيد لا يتزعزع، وقوة الأُمَّة تُوَفِّر للمؤمن ألا (يُخِيفَ) اليهودي ولا المسيحي، وأن يحترم -بالتالي- شخصهما ودينهما ومؤسساتهما ... وينبغي من جهة أخرى الإشارة إلى أن الشعوب الإسلامية بمختلف نزعاتها، الدينية أو الفلسفية، قد قاست ما قاساه المعاهدون حين بلغ جو التعصب ذروته [في السلطة]، إن لم تكن قاست أكثر مما قاسوا. وتنقل الكتب مثلا أن أحد المسلمين لم ينج من القتل على أيدي زمرة تخالفه الرأي إلا بعد أن ادعى أنه ذمي".

ويتحدث عن قيمة الدين في صمود هذه الأمة وتماسكها رغم كل ما أريد لها من التمزيق فيقول: "كان الدين حافزا فعالا على تأليف كيان متميز لم تصدعه صروف الدهر، والاحتكاك بمختلف الحضارات على مر العصور .. ولقد تمكن المجتمع الإسلامي -الذي قام على الدين- من الصمود في وجه التفكيك السياسي، ولم تتأثر الروابط الدينية على الحدود والتخوم بين الدول كبير التأثير".

ويرى بوازار أن هذا الأمر لا يتقصر على الماضي بل "إن القرآن لم يقدر قط لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة"[3].

4. ويؤكد المستشرق الفرنسي كارا دي فو على أن "السبب الآخر لاهتمامنا بعلم العرب هو تأثيره العظيم على الغرب؛ إن العرب ارتفعوا بالحياة العقلية والدراسة العلمية إلى المقام الأسمى، في الوقت الذي كان العالم المسيحي يناضل نضال المستميت للانعتاق من أحابيل البربرية وأغلالها"[4].

5. ويقول المستشرق والقانوني الفرنسي جاك ريسلر عن شمولية الإسلام: "إن القرآن يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط بين القانون الديني والقانون الأخلاقي، ويسعى إلى خلق النظام والوحدة الاجتماعية، وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات، إنه يسعى إلى الأخذ بيد المستضعفين، ويوصي بالبر، ويأمر بالرحمة وفي مادة التشريع وضع قواعد لأدق التفاصيل للتعاون اليومي، ونظم العقود والمواريث، وفي ميدان الأسرة حدد سلوك كل فرد تجاه معاملة الأطفال، والأرقاء، والحيوانات، والصحة، والملبس ... إلخ"[5].

6. ويقول المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديل في استعراضه لأخلاق المسلمين: "لا يمكن إنكار أن الإسلام مارس فضائل حقيقية وخاصة منها الفضائل الاجتماعية، وهي استجابة لنداءات القرآن، نعثر فيها على أساليب تضيف إلى وصايا الله، وتبدو كأنها استمرار للبر؛ وذلك كما تحدد الآية الرائعة التالية: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}. فالتعاون وحسن الضيافة والكرم والأمانة للالتزامات -التي تؤخذ تجاه أعضاء المجتمع والاعتدال في الرغبات والقناعة- تلك هي الفضائل التي لا تزال تميز المسلمين، وهي مثالية حقيقية، تريد أن ترتقي بقوى الطبيعة البشرية، والتي تكفي لإعطائهم عزة نفس وكرامة كان يجهلها عرب الجاهلية"[6]

7. يقول هنري دي كاستري -الكاتب والعسكري الفرنسي الذي خدم في الجزائر- والذي قال: "أنا قد قرأت التاريخ، وكان رأيي -بعد ذلك- أن معاملة المسلمين للمسحيين تدل على ترفع عن الغلظة في المعاشرة، وعلى حسن مسايرة، ولطف مجاملة، وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذا ذاك، وخصوصا أن الشفقة والحنان كان عنوان الضعف عند الأوربيين، وهذه الحقيقة لا أرى وجها للطعن فيها على وجه العموم"، ويقرر أنه "لو كان دين محمد انتشر بالعنف والإجبار، للزم أن يقف سيره بانقضاء فتوحات المسلمين، مع أننا لا نزال نرى القرآن يبسط جناحه في جميع أرجاء المسكونة"[7]

8. ونختم بكلمة إنصاف للمستشرق الفرنسي المعروف أندريه ريمون والذي تخصص في دراسة البلاد العربية تحت الحكم العثماني، أنصف فيها العثمانيين وكيف كان العالم الإسلامي هو الملجأ الذي استقبل اليهود الفارين من التعصب المسيحي الكاثوليكي، يقول: "إن إنشاء الإمبراطورية العثمانية كان له بصفة عامة أثر إيجابي على مركز اليهود. وقد لجأ العديد من اليهود إلى البلاد الإسلامية للاحتماء بعد طردهم من إسبانيا أو هروبهم منها وذلك خلال الفترة بين عامي 1492 م و 1496 م ثم في القرن السادس عشر ... وقد مارس اليهود في المدن العربية الكبيرة حيث تمركزت جاليتهم أنشطة متنوعة: من المعروف أن أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة هي مهنتهم التقليدية. وفي القاهرة كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار الصاغة، كما كان اليهود يعملون أيضا في دار سك النقود. وكانوا يقومون بدور نشيط في التجارة الخارجية إذ كانوا يصدورن المنتجات المحلية ويستوردون المنتجات الأوروبية، وذلك بفضل علاقاتهم مع اليهود الأوروبيين. وتمكنوا بفضل رؤوس الأموال التي جمعوها من القيام بأنشطة بنكية في البلاد التي كانت البنوك فيها غير متطورة"[8].

 نشر في مجلة المجتمع الكويتية، نوفمبر 2020



[1] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص605.

[2] ألفونسو دي لا مارتين، مختارات من كتاب حياة محمد، ترجمة: د. محمد قوبعة، (الكويت: مؤسسة جائزة البابطين، 2006)، ص124.

[3] مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، ترجمة: د. عفيف دمشقية، ط1 (بيروت: دار الآداب، 1980 م)، ص202، 73، 74، 109.

[4] كارا دي فو، "الفلك والرياضيات"، ضمن: توماس أرنولد (إشراف)، تراث الإسلام، تعريب: جرجيس فتح الله، ط2 (بيروت: دار الطليعة، 1972م)، ص564.

[5] جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة: خليل أحمد خليل، (بيروت: عويدات للطباعة والنشر، د. ت)، ص51.

[6] دومينيك سورديل، الإسلام، ترجمة: سليم قندلفت، ط2 (دمشق: دار حوران، 2003م). ص107.

[7] هنري دي كاستري: الإسلام خواطر وسوانح، ترجمة: أحمد فتحي زغلول، ط1 (الجيزة: مكتبة النافذة، 2008م)، ص79، 131.

[8] أندريه ريمون، المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج، ط1 (القاهرة: دار الفكر للدراسات، 1991 م)، ص 84، 85.