الأربعاء، مارس 28، 2018

وما أمر فرعون برشيد!


لما طارد فرعونُ وجيشُه موسى عليه السلام وقعت المعجزة الهائلة أمام أعين الجميع، لقد شاهدوا معا هذا المشهد الرهيب غير المسبوق، لقد انشق البحر لموسى وصنع له طريقا يابسًا فعبر عليه مع بني إسرائيل دون أن يمسسهم سوء!

أغرب ما في المشهد فهو أن فرعون قد تبعهم، يريد أن يظفر بالرجل الذي تغيرت له قوانين الكون، يريد أن يقهر الفارين الذين أفلتوا من يده كما لم يخطر بخيال أحد قط!! أما أشد ما في هذا المشهد من الهول والغرابة والعجب أن جنود فرعون اتبعوه! اتبعوه دون أن يتوقفوا أو يترددوا أو حتى يفكروا في هذه المعجزة الكونية الكبرى التي شاهدوها بأعينهم.. فكانوا كما قال تعالى (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون).

هذا المشهد هو أبلغ ما يُقال في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد!

الاستبداد يسوق صاحبه إلى التفرعن حتى يظن أنه إله حقا، فمن استطاع قالها صراحة (ما علمتُ لكم من إله غيري) ومن لم يستطع قالها بأفعاله وسياسته. لكن الأدهى من هذا أن العبيد الذين صنعهم المستبد وأنتجهم قد تحولوا معه أيضا إلى ما يشاء! لقد أنتج المستبد من يعطيه عن قناعة ويقين صفة الإله وقداسته..

قبل بضعة عقود كان الجندي يخرج في مهمة رسمية للتفتيش على المواليد، فإن وجد الرضيع ذكرا فإنه ببساطة وبكفاءة واحترافية مهنية يذبحه بالسكين! إنه يقوم بواجبه الوظيفي! وهو ينفذ القانون! وهذه مهمة وطنية! إذ هو يحافظ على استقرار الدولة الفرعونية! ولئن تحرك في قلبه شيء فإنه يسارع بإسكاته بالقول: إنه عبد المأمور!

وقبل بضعة سنين حصل موقف آخر، لقد استدعي هذا الجندي للقيام بوظيفته في تأمين الاحتفال الجماهيري الكبير الذي يشهد تحديا فريدا، حيث سيتحدى موسى وأخاه نخبة الدولة المصرية العلمية والفكرية، وإذا بالمشهد ينقلب فجأة، لقد انتصر موسى انتصارا مدويا حتى لقد آمن له السحرة جميعا!! وما هي إلا لحظات حتى جاءه الأمر الرسمي بتعذيب السحرة حتى الموت!

هنا تطور المشهد خطوة إلى الأمام، لقد وقعت المعجزة نفسها أمام: السحرة، والجماهير، والجنود.. فآمن السحرة، وسكت الجماهير خوفا ورعبا من انقلاب المشهد، وتولى الجنود تعذيب السحرة! لقد كان القرار الرسمي أقوى في نفوسهم من معجزة شاهدوها بأعينهم.

بعد هذه النقطة سيكمل الجندي مسيرته في خدمة الوطن والدولة حتى يتبع فرعون ليكون معه من الهالكين. لكن اسمه سيسجل في قائمة الشرف، وسيُعطى لقب "شهيد الوطن"، وسيُنحت على المسلات الفرعونية لتخليد ذكراه، وربما صُنِع له تمثال أو أطلق اسمه على منشأة أو طريق.. بينما يعيش هو نفسه حالا آخر يكرر فيه نفس المشهد في يوم القيامة، وتلك هي خلاصة القصة الطويلة:

(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه، فاتَّبَعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد * يَقْدُم قومه يوم القيامة فأوردهم النار، وبئس الوِرْدُ المَوْرُود * وأُتْبِعوا في هذه لعنة، ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود * ذلك من أنباء القرى نقصُّه عليك، منها قائمٌ وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لمَّا جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب * وكذلك أخْذُ ربك إذا أخَذَ القرى وهي ظالمة، إن أَخْذَه أليمٌ شديد).

لو شئت أن أداعب مشاعر ضحايا الفراعين المشردين في البلاد لكان عليَّ أن أتوقف عند هذا الحد.. لكنها ستكون خيانة الأمانة.. فلقد بقي نصف الصورة الآخر الذي لا بد من ذكره.

نصف الصورة الآخر أن بني إسرائيل الذين ذاقوا الذل والقهر وقُتل أبناؤهم كانوا قد استسلموا نفسيا وفكريا للفرعنة والفراعين!! شعروا بالتهديد حين جاءهم النبي المنقذ فقالوا له (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. قال: عسى ربكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون).

لقد رأى بنو إسرائيل أيضا المعجزة الكونية الرهيبة، لقد أنقذهم الله من فرعون بما لم يكن يخطر ببال بشر، ورأى القوم غرق الجبار العتيد الذي خضعت له البلاد والعباد حتى ادعى أنه إله، وهلك الجيش الذي طالما أرعبهم وذبحهم.. وصاروا في لحظة واحدة أحرارا.. لا خوف ولا رعب ولا تهديد!

وهنا وقعت المفاجأة: مرُّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة!

أشعر أنني الآن أكثر فهما لنفسية بني إسرائيل في تلك اللحظة من أي وقت سابق، إنها لحظة الشعور بالخوف من الفراغ، الخوف من التحرر، الخوف من زوال السلطة.. نعم! إنه نفسه الخوف على مؤسسات الدولة، الخوف من الفراغ الدستوري، الخوف من الفوضى.. لم أفهم هذه النفسية كما فهمتها حين وجدت ضحايا الانقلابات العسكرية في بلادنا حتى بعد أن فقدوا أبناءهم وديارهم حريصين على "مؤسسات الدولة"، وعلى الحلول "القانونية" لحالة ذُبِح فيها القانون نفسه بلا رحمة على يد نفس هذه "المؤسسات" الفرعونية.

لم يستوعب بنو إسرائيل أن يكون الإله غير متجسد في كيان مادي ظاهر بارز، يُنظر إليه فيخيف ويرعب، ومن حوله كهنته وأحباره وجنوده يُعبِّدون له الناس.. فطلبوا أن يُنصب لهم صنم ليعبدوه! فزجرهم موسى عليه السلام (إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون). لكنهم ما إن غاب عنهم موسى ليتلقى الوحي عن ربه حتى عبدوا العجل: نفس ظاهرة السلطة المتجسدة في كيان مادي أمامهم، حتى لو لم يفعل العجل شيئا إلا إصدار صوت الخوار كما نحته المهندس الموهوب: السامري!

واستمرت قصة بني إسرائيل على ذات الوتيرة، إنهم لا يستوعبون أن يتحرروا من سلطان البشر والمادة والقوة القاهرة الحاضرة البارزة المتجسدة أمامهم، ولذلك فإنهم حين جاءهم الأمر بالجهاد قالوا (إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلون).. هذا مع أنهم موعودون بالنصر، وتحت قيادة نبي، والذي وعدهم بالنصر هو الله الذي أنجاهم قبل قليل من فرعون! إلا أنهم لم يتزحزحوا عن موقفهم، بل قالوا أبلغ كلمة تعبر عن نفس المنهزم (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون).

وهكذا، أولئك الذين سحقهم الذل ومسحت نفوسهم الفرعونية لا يجاهدون ولو كان قائدهم نبي ولو رأوا المعجزة بأنفسهم ولو كانوا موعودين بالنصر!!

وهكذا كُتِب التيه على بني إسرائيل أربعين سنة، أربعون سنة هي المدة التي يتجدد فيها الجيل، ليخرج قومٌ لا يعانون من سلطة الفراعين في مصر ولا العماليق في الشام، فهؤلاء هم من سيدخلون الأرض المقدسة، رغم أنهم لم يشهدوا المعجزة.

هكذا تفعل الفرعونية بجنودها وبضحاياها أيضا.. وكلما طال في الحكم فرعون كلما تشوهت أجيال وأجيال، أجيال من آمنوا بالفرعون وأجيال من عارضوه كذلك!.. وفي بيئة كهذه يكون المؤمن بالله حقا غريب، غريب محاصر يحترق، كما قال النبي "القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر"!

تعبر مشاهد الراقصات أمام لجان الانتخابات عن مدى التشوه الذي بلغته النفوس في عصر الفرعون، ولئن طال به الحكم فسنرى ما هو أفدح وأقبح وأبشع وأشنع.. كما تعبر مشاهد البائسين الحائرين في قطاعات المعارضة عن تشوه من نوع آخر.. فذلك كله من أثر فرعون وأمر فرعون، (وما أمر فرعون برشيد)!


الأربعاء، مارس 21، 2018

رأي الغزالي في رشيد رضا، ونقد الغزالي


هذا ختام سلسلة المقالات التي تتعرض لرأي الغزالي في زعماء التغيير، بدأنا برأيه في محمد بن عبد الوهاب ثم أحمد عرابي ثم جمال الدين الأفغاني، ونختم هنا برشيد رضا.. وكان للغزالي كلام طويل غزير في حسن البنا هو أوسع مما يسمح به المقام.

الشيخ محمد رشيد رضا

غلب الجانب العلمي والفكري في سيرة الشيخ رشيد رضا على كفاحه السياسي، فرغم كونه ظهر في وقت عصيب، هو وقت تمكن الاحتلال من الديار المصرية، حيث تمكن الاحتلال الإنجليزي من مصر ولم يزل رشيد رضا في السابعة عشرة من عمره، فكانت جريدة "العروة الوثقى" التي يصدرها الأفغاني وعبده من أوائل من حرك همه إلى السياسة وشؤون المسلمين، ثم التقى بمحمد عبده وصار رفيقه، ورغم انصراف محمد عبده إلى شأن التربية والتعليم والإصلاح بعد رجوعه إلى مصر دون اشتباك بشأن السياسة إلا أن مجلة المنار –التي صدرت قبل سبع سنوات من وفاة محمد عبده، واستمرت سبعة وثلاثين عاما حتى وفاة رشيد رضا- هي وثيقة تاريخية حافلة بالهم السياسي الواسع لرشيد رضا، والمتابعة الوافرة لشؤون المسلمين عبر العالم.

إلا أن شأنه لم يكن فقط الكتابة، فلقد شارك في المؤتمرين الإسلاميين المنعقدين في مكة (1926م) والقدس (1931م)، ولعب دورا في كفاح سوريا السياسي، فقد كان في حزب اللامركزية قبل 1914، وفي المفاوضات التي جرت أثناء الحرب مع البريطانيين، ورأس المؤتمر السوري (1920م)، وكان عضوا بالوفد السوري الفلسطيني إلى جنيف (1921م)، وفي اللجنة السياسية في القاهرة عند وقوع الثورة السورية عامي 1925و 1926م[1]. ولهذا النشاط السياسي وضعنا رشيد رضا ضمن زعماء التغيير في دراستنا هذه، مع أن الشيخ الغزالي لم يتناول إلا الجانب المشتهر منه، وهو الجانب العلمي الفكري، وهو كثيرا ما يتناوله ضمن موقعه من مدرسة الأفغاني ومحمد عبده.

ولقد بلغ تقدير الغزالي لرشيد رضا أن يسبغ عليه وعلى مدرسته هذا الوصف الكبير، يقول: "كان محمد رشيد رضا ترجمان القرآن وشارة السلفية الصحيحة والمفتى العارف بأهداف الإسلام والمستوعب لآثاره"[2]، وإن "مدرسة المنار هى المهاد الأوحد للصحوة الإسلامية الحاضرة، وعلى الذين يرفعون القواعد من هذا المهاد أن يتجنبوا بعض الهنات التى فات فيها الصواب إمامنا الكبير، فما نزعم عصمة له أو لغيره"[3].

كانت مجلة المنار النموذج الذي يرتضيه الغزالي للقيادة العلمية، ويقر بفضلها عليه، يقول: "أتردد على تفسير المنار بين الحين والحين لأتعلم منه ما لم أكن أعلم وهو فى نظرى موسوعة ثقافية موارة بالأبحاث التى تشمل الدين كله"[4]، وذلك لأن رشيد رضا كان علامة كبيرا فقد "استوعب مذهب المفسرين، من تفسير بالأثر إلى تفسير فقهى، إلى تفسير كلامى، ومن المختصرات إلى المبسوطات، ثم ضم إلى ذلك علما بآراء المذاهب الفقهية الكثيرة، إلى تقعيدات الأصوليين الذين نبغوا فى شتى العصور، إلى ما جد فى العالم الإسلامى بعد احتكاكه بالمجتمعات الحديثة"[5].

ويجمل الغزالي وصفه لمنهج رشيد رضا وطريقته في قوله: "بذلت مدرسة المنار جهوداً متصلة لتصحيح المعرفة الدينية، فحاربت التقليد المذهبي الجامد كما حاربت الأحاديث الضعيفة وضبطت داخل الهداية القرآنية الأحاديث الصحاح ، وطاردت قضايا كلامية، وتضليلات سياسية.. واستطاع محمد رشيد رضا أن يسوق توجيهات محمد عبده وسط حشد مِن الآثار المحررة. بَيْدَ أن قوى شريرة من الداخل والخارج اعترضت هذا الخير الدافق"[6].

وتكرر في كلام الغزالي إدراجه الشيخ رشيد مع أستاذه محمد عبده وأستاذ أستاذه الأفغاني، وهم عنده "من أعمدة اليقظة الإسلامية فى العصر الحديث"[7]، ومدرستهم "من أجلّ المدارس الفكرية فى تاريخ الإسلام"[8]، وهم "قادة الفكر الواعى الذكى فى القرن الأخير. والنقيق العالى الذى يثور ضدهم هو من أشخاص علمهم بالإسلام سطحى ودفاعهم عنه دفاع الدبة التى قتلت صاحبها"[9].

ما يؤخذ على الشيخ الغزالي

بعد هذا الجمع والتفكيك والتركيب الذي استخرجناه من كلام الغزالي المنتثر في سائر ما وصلت إليه أيدينا من الكتب نستطيع أن نبصر منهج الغزالي في تناول زعماء التغيير، وهو أن يبدأ بشرح الظروف السائدة في وقته، ثم يثني بصفاته الشخصية وأخلاقه ومواهبه، ثم يتحدث عن مجهوده وحركته وآثاره، ثم إن كان الأمر يحتاج إلى اشتباك مع الطاعنين فيه فَعَل فدافع عنه.

لكن أبرز ما يؤخذ على الشيخ في هذا الباب أنه لم يكن له بحث محرر في تجربة من تلك التجارب، إنه يعترض لها في سياق الفكرة العامة التي يريد توصيلها، ولهذا يُرهق من يحاول أن يجمع وراءه كلامه في الرجل الواحد ويعيد بنائه، لكن الإشكال ليس في إرهاق من يجمع إنما في أنه لم تكن ثمة صورة كلية بناها الغزالي مرة واحدة فيُمكن محاكمتها إلى معايير دراسة التجارب التاريخية وفهمها ونقدها. ولذلك يكثر في أحكامه ما لا يمكن فهم طريقة بنائه له، ولا المعلومات التي توفر عليها ليخرج بهذا الحكم. وهنا بطبيعة الحال لا نطلب من الشيخ أن يتحول إلى مؤرخ محقق لتحرير وقائع تاريخية فليس هذا بابه، وإنما المقصود أن يكون حديثه عن تجارب زعماء التغيير حديثا واضحا مكتمل الصورة علمي العبارة لا أحاديث منتثرة تهيمن عليها اللغة الأدبية العاطفية، فإن الصورة وإن كانت واضحة لدى الشيخ فلا تصل بنفس الوضوح لتلاميذه وقارئيه بتلك الوسيلة.

وقد انبنى على هذا المأخذ الرئيسي ثلاثة مآخذ فرعية:

الأول: أنه لم يُبِن موقفه من إشكالات كبرى في تلك التجارب كالمسوغات الشرعية للتوسعات الوهابية وتعاملها مع القبائل والبلدان التي وقعت في بعض مظاهر الشرك وما ينبني على هذا من التكييف الشرعي لقتالهم واستباحة أموالهم وغنائمهم، وما رأيه في سواغ الخروج على الدولة العثمانية في مناطقها لأنها متخلفة أو متراجعة أو تعتنق بعض مظاهر الشرك في حين تقوم بمواجهات مع جبهات أعداء الإسلام. ومسألة الجانب السياسي من الشيخ محمد عبده وعلاقته بالإنجليز وبالنخبة المتكونة حولهم وما مدى الاضطرار الحاصل في مسألة الإصلاح عبر سلطة غير شرعية فضلا عن أن تكون سلطة احتلال.

الثاني: أنه في غمرة تحمسه لبعض الزعماء قطع بأمور لم تكن صحيحة كمسألة أن العثمانيين كانوا لا يدرون شيئا عن العالم، أو أن سنتهم في الحكم كانت قتل الإخوة حتى الرضع منهم، وهو ما لم يكن صحيحا بحال، ولا ريب أن البحث في أسباب التخلف يحتاج نقاشا أعمق ولا ينفع أن يُكتفى فيه بعبارات موهمة غامضة.

الثالث: أنه لم يحلل أبدا تجربة فشل أولئك الزعماء، وكيف أخفق كل منهم في الوصول إلى ما يصبو، فهو إن تناول الأمر تناوله بعبارات مقتضبة تهيمن عليها أيضا لغة أدبية عاطفية حارة، أو تكتفي بذكر سبب هامشي أو عرضي. نعم، لا ريب أن الاستعمار تآمر وقوى الشر عملت على إجهاض عمل المصلحين لكن الشيخ الغزالي نفسه قد أفاض كثيرا في ضرورة دراسة الأسباب الذاتية في الإخفاق قبل دراسة الأسباب الخارجية، لكنه لم يطبق الأمر على الزعماء الذين احتفى بهم، وكان ينبغي أن يكون له وقفة ودرس في تحليل نتائجهم: لم فشل كل أولئك فيما حاولوا.

قال مرة: "السبب فى فشل جمال الدين وعجزه عن بلوغ غايته أن الاستعمار الفكرى استطاع خلق عدد كبير من أمثال هذا الشرقاوى[10] التافه يكره الإسلام، يرى عمق الإيمان به تهمة تشين صاحبها!! ولو كان جمال الدين من دعاة اليهودية أو النصرانية ما جرؤ أحد على تناوله بهذا الأسلوب! ولكنة من دعاة الإسلام المهيض الجناح، الذى يستنسر بأرضه البغاث"[11]، وهذا في النهاية كلام ينفع في معرض إدانة الغزو الفكري وعمل الاستعمار لكنه لا ينفع في فهم كيف أخفق جمال الدين، بل كان من شأن بحث الموضوع أن يفتح العلاقة بين السلطان عبد الحميد الثاني وجمال الدين الأفغاني وهو ما كنا سنفهم منه تقييما أوضح وأعمق لشخصية وتجربة عبد الحميد كما يراها الشيخ الغزالي.

وغني عن القول أن المآخذ على الكبار لا تنقص من قدرهم، بل إن الحرص على ذكر هذا النوع من الاعتذار ربما دل على مراهقة علمية، فلا زال الآخر يستدرك على الأول وإن لم يقاربه في علم ولا مقام، فلا يُنزل استدراكه من قدر الكبير ولا يرفع بالضرورة من قدر الصغير.





[1] ألبرت حوراني، الفكر العربي، ص273، 274.
[2] الغزالي، الحق المر: الجزء الخامس، ص4.
[3] الغزالي، علل وأدوية، ص91.
[4] الغزالي، علل وأدوية، ص86.
[5] نفس المصدر ص90.
[6] الغزالي، الغزو الثقافي، ص37.
[7] الغزالي، علل وأدوية، ص86.
[8] الغزالي، الفساد السياسي، ص80.
[9] الغزالي، علل وأدوية، ص90.
[10] محمود الشرقاوي، من حملة الدكتوراة من الأزهر، كانت رسالته بعنوان "الدين والضمير" وفيه نعى على جمال الدين الأفغاني أنه دعا إلى تجديد الخلافة لأن الدولة الدينية لا يدعو إليها من كان لديه عقل وحرية وضمير، وأرجع سبب "ضلال" الأفغاني في دعوته إلى الجامعة الإسلامية لقوة عاطفته الدينية!
[11] الغزالي، في موكب الدعوة، ص185، 186.

الاثنين، مارس 19، 2018

موجز سيرة رفاعي طه كما أملاها


كنت أعرف اسمه ولكني لم أعرف صورته قط، رأيته لأول مرة خطيبا لعيد الفطر (2012م) وتأثرت بخطبته دون أن أعرفه، ولما سألتُ لم أعرف إلا أنه "الشيخ رفاعي" الخارج توا من سجون مبارك ومن الجهاديين القدامى. وحيث كانت سجون مبارك ممتلئة فلم أعر الأمر اهتماما وظننته أحد أعضاء الجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد أو حتى الشباب الذي تحمس قديما وجاهد في أفغانستان ثم لما عاد وُضِع في السجن.

بعد تلك اللحظة بسنتين كنتُ قد وصلت إلى اسطنبول بعد الانقلاب العسكري بمصر، وأتيح لي أن أراه في مقر تحالف دعم الشرعية، عرفت حينها أنه لم يكن الرجل العادي بل هو الشيخ رفاعي طه من مؤسسي الجماعة الإسلامية وزعيمها بالخارج لفترة والرافض للمبادرات التي أطلقها قادة الجماعة بالتراجع عن أفكارهم. وحيث أني لا أتمتع بالموهبة الصحفية ولا حتى بالمهارات الاجتماعية الطبيعية ولست ممن يحب الاختلاط ببيئة السياسيين مرَّ اللقاء دون أن أحاول الكلام معه رغم أنه قد اشتعلت رغبتي في سماع تاريخه وتجربته.

ثم جاء موعد على غير ترتيب ولا تدبير، اقترح علي صديق أن أذهب معه لإنهاء إجراء أمني يتعلق بالإقامة في تركيا، وكان الأمر يتطلب سفرا فسافرنا، ثم ونحن في طريق العودة فوجئنا بالشيخ رفاعي مع الأستاذ إسلام الغمري عائدين إلى اسطنبول، كانت أمامنا ساعة للحديث في لقاء لم يكن له أن يتم لولا تدبير الله وحده. رأيتها فرصة لفتح موضوع التاريخ وكتابته وتاريخ الحركات الإسلامية، ووجدت لديه اهتماما تاريخيا عاما وأخبرني أنه في مطلع شبابه قرأ البداية والنهاية لابن كثير، وأنه يود لو كُتِبَت سيرة النبي اعتمادا على الأحاديث الصحيحة فقط، فقلت له: قد خرج في الموضوع أكثر من كتاب بالفعل. لم يكن يعلم بها لأنه كان في فترة سجنه الطويلة.

وهكذا سنحت الفرصة لألح عليه في كتابة مذكراته، فحدثني أنه كتب جزءا كبيرا منها بالفعل في السجن لكن إدارة السجن استولت عليها. والواقع أني وجدت نفسي أمام شخصية عزيزة المنال، فالقليل جدا من قيادات الحركة الإسلامية من يرون أهمية لكتابة مذكراتهم، وأقل القليل من ينوون كتابتها، وأقل أقل القليل من يشرع بالفعل في الكتابة، وهذا ما يجعل تاريخ الحركات الإسلامية حافلا بالتناقض والاضطراب والغموض بما لا يتناسب بحال مع حجم الحدث وضخامة التجربة.

عرضت عليه من فوري أن أرفع عنه عبء الكتابة، وأن يحدد بيننا موعدا فأسجل له وأستمع إليه، ثم أقوم بعبء التفريغ والتحرير والتدقيق البحثي في التواريخ والأحداث، فرحب للغاية، وهكذا جرى الأمر.

جلست إليه أحد عشر مرة، الأولى منها كانت بغرض التعرف على سيرته موجزة مجملة، والأخيرة أردناها أن نكمل لكن تشعب الكلام في هموم الواقع حتى انتهت الساعات، وكانت تلك آخر مرة أراه فيها، فمن بعدها شُغلت عنه وشُغل عني حتى فجأني خبر استشهاده في ليلة لا أنساها.

في تلك الجلسات اقتربت منه بقدر ما يقترب كاتب مذكرات بشيخ لا يعرفه، رأيت منه تواضعا وبساطة وبشاشة ورحابة صدر، ويكفي أنه استأمنني على كتابة سيرته، وربما غِبْت عنه أحيانا فكان يتصل ويتفقدني ويسأل عني، وهو شيء لا يكاد يفعله من كان في سنه ومقامه ومشاغله، وكان قريب الدموع رقيقا، لا يكاد يتذكر أحدا من إخوانه أو موقفا مؤثرا إلا بكى، وكان أكثر ما يبكي إذا ذكر زوجته، فقد كان شديد الوفاء لها وكثير الثناء عليها، ويتذكر بتأثر بالغ تضحيتها معه وصبرها عليه.

في تلك السطور أروي مجمل سيرته رحمه الله كما أملاها علي في أول جلسة بيننا، وإن شاء الله تعالى نأخذ في رواية مذكراته التي لم تكتمل بل توقفت عند فترة الثمانينات، عند بداية عمل الجماعة الإسلامية في الساحة المصرية.

وُلِد رفاعي أحمد طه في 24 يونيو 1954، وقتما كانت تعيش الحركة الإسلامية أولى محنها الرهيبة مع النظام العسكري، في قرية نجع دنقل التابعة لمركز أرمنت بمحافظة قنا (في ذلك الوقت) لأبوين من بسطاء الناس، وأبوه من قبيلة الفريحات التي ينتهي نسبها إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

وُلِد مصابا بالربو، فكانت تأتيه الأزمة الصدرية بين الفينة والأخرى، وتعلق بالصلاة منذ صغره فكان يحب أن يذهب للمسجد في كل صلاة حتى صلاة الصبح، والتحق بالكتاب في بداية أمره، فحفظ شيئا من القرآن، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية (1961م) وظهر تفوقه فكان الأول على صفه الدراسي، وهو التفوق الذي أهله ليكون ضمن طلائع التنظيم الطليعي التابع لجمال عبد الناصر، فكان من فتيانه ثم صار من شبابه، وكان كادرا ناصريا يُعقد عليه الأمل.

أفاق من سكرة عبد الناصر يوم وفاته حيث لقيه أستاذ له وهو يبكي حزنا عليه، فأخبره بما لم يتوقع من ظلم وبطش عبد الناصر بالمصريين، وبما قام به الجيش المصري من فظائع في اليمن، فبدأ في تكوين صورة أخرى.

بدأ تفكيره في التغيير منذ كان طالبا بالثانوية، حيث أفضى زميل له بأن حكم مصر يُوصل إليه بالانقلاب كما فعل عبد الناصر، وأن الطريق إلى ذلك هو دخول الجيش، رسخت الفكرة في ذهنه، واتفق عليها مع بعض أصدقائه، وتغير تفكيره من دخول كلية الطب إلى دخول الكلية الحربية، ثم وقعت له ظروف أخرى ساقته إلى كلية التجارة.

التحق بالكلية (1973م)، وكانت أولى أيامه في الجامعة قد شهدت نشوب حرب أكتوبر التي سمع باندلاعها في اللحظة التي كان خارجها فيها من الجامعة متوجها إلى سكنه، وفي الكلية بدأ النشاط الإسلامي في عهد السبعينات، وتكونت في تلك الفترة بذرة "الجماعة الإسلامية" عبر شباب الجامعة.

تخرج من الجامعة (1977م) بينما بقيت معه مادتان من السنة الدراسية، وواصل العمل في تكوين الجماعة الإسلامية والدعوة إليها ونشرها، ووُضِع ضمن قرارات اعتقال السادات (1981م) لكنه ظل هاربا حتى وقع في الاعتقال لأول مرة في 16 أكتوبر 1982، وفي السجن أتيح له أن يكمل المادتين العالقتين معه، فلم يتخرج من الجامعة إلا في عام (1983م).

خرج من السجن بعد أربع سنوات في 16 أكتوبر 1986، رغم أن الحكم كان بسجنه خمس سنوات، إلا أن خطأ وقع في تسجيل تاريخ إيداعه السجن، جعلت كأنما ألقي القبض عليه مع الدفعة الأولى من رفاقه، وقد فوجئ هو عبر صديق له رأى اسمه في قائمة من سيُفْرج عنهم، وقد كان هذا تأويل رؤية رآها في السجن، فقد رأى أنه كان جائعا فاشترى خمس (سندويتشات طعمية)، إلا أنه أكل منها أربعة فقط، فلما قصها على إخوانه أوّلوها له بأنه سيُحكم عليه بكذا لكنه لن يكملها.

خرج إلى السعودية يوم 2 أغسطس 1988، وأمضى هناك شهرين، ثم خرج إلى باكستان في نفس العام وأمضى هنالك ثلاثة أشهر، ثم الإمارات الإمارات في 16 ديسمبر 1989، وأمضى عشرين يوما في دبي وأبو ظبي، ثم إلى بيشاور (باكستان) في يناير 1990 وظل يتنقل بين باكستان والسودان، ثم عاد إلى السودان (1992م). تلك التنقلات التي كانت محكومة بالظروف التي وُضِعت فيها الجماعة الإسلامية وبقية الحركات الإسلامية أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات.

ولما وقعت محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا عاصمة إثيوبيا (25 يونيو 1995)، تصاعدت الضغوط على وجودهم بالسودان، فاضطر إلى الخروج إلى سوريا (أكتوبر 1995م)، وقضى بها خمسة أشهر، ثم انتقل إلى إيران في بدايات 1996 التي وفرت لهم اللجوء السياسي داخل أراضيها.

كانت إيران قد تعاملت مع الجماعة الإسلامية بتوقير وترحيب، ووفرت لهم مفوضا مباشرة للعلاقة بينهم وبين الرئاسة، كما وفرت له حراسة دائمة حتى في تنقلاته خارج إيران، ولا يفارقه الحارس إلا إن طلب منه هذا، فكان أسلوبه أن يسافر من إيران إلى سوريا، وهناك يطلب من الحارس أن يتركه، ثم يستعمل جواز سفر سودانيا فيسافر به إلى السودان باسم مختلف، فيقضي ما يشاء ثم يعود إلى سوريا، ويستبدل بالجواز السوداني جوازه الآخر، ويعود إلى إيران.

في ربيع عام 2001، وقع منه خطأ أمني كلفه أحد عشر عاما من الاعتقال، وذلك أنه اتصل من سوريا على أسرته في إيران وأخبرهم أنه يريد من أحد رفاقه بالجماعة الإسلامية التواصل مع السلطات الإيرانية لمنحه تأشيرة العودة حيث كان قد تجاوز وقت التأشيرة، وأخبرهم في هذا الاتصال بعنوان الفندق ورقم الغرفة التي يقيم بها في سوريا. يقول: فما إن أغلقت سماعة الهاتف حتى قلت لنفسي: ما هذا الذي فعلت؟! فهاتف البيت في إيران لا بد أنه مراقب، وأنا الآن قد كشفت عن مكاني بالتفصيل، فانزعجتُ وتضايقتُ وقررت قضاء الليلة عند صديق فلسطيني في مخيم بسوريا، وأفضيت إليه بما حدث، فقرر أن أبيت عنده، وأنه سيرسل شابا من عنده يتصرف ويأخذ الحقائب من الفندق، فيكون الخطر قد انتهى.

وبعد قضاء ليلته عنده عنَّ له أن يعود إلى الفندق، فألح عليه صديقه أن يبقى، لكنه أصر على الذها للفندق لترتيب حقائبه بنفسه وأن الأمر لن يستغرق سوى دقائق، حيث كان من أمتعته ما يحب أن يرتبه بنفسه، وفي النهاية عاد إلى الفندق، وما إن دخل إلى غرفته حتى سمع طرقا بعدها بدقائق على باب الغرفة، ففتح فوجد رجلين يقولان أنهما من إدارة الفندق وأنه حدث خطأ في تسجيل الغرفة، يقول: علمت من اللحظة الأولى أنهم من المخابرات وأنني في حكم المعتقل، وبأسلوب لطيف مهذب جرى اقتياده إلى مبنى المخابرات السورية التي تعاملت معه بتهذب لكونه ضيفا على الحكومة الإيرانية، ثم بعد ساعة سلمته إلى جهاز الأمن السوري الذي تعامل معه بعنف شديد وإهانة وتعرض هناك للتعذيب.

وبعد خمسة عشر يوما أُخبر بأنه سيُفرج عنه، إلا أن هذه كانت خدعة، حيث اصطحبوه مقيدا ومعصوب العينين إلى الميناء ووضعوه في سفينة مصرية بعدما أوهموه أنها سفينة سورية ستنقله إلى دولة أخرى، وفي السفينة قام ضباط المخابرات بتمثيلية هدفت إلى إقناعه أنه كان في سفينة سورية وأن المخابرات المصرية اختطفته منها في عرض البحر، بينما الواقع أنه وُضِع من البداية في سفينة مصرية.

قضى في جهاز الأمن المصري شهورا من التحقيق والتعذيب، ثم أودع السجن حيث كان محكوما عليه بالمؤبد، وظل فيه أحد عشر عاما إلى أن أفرج عنه بعد شهرين من تولي الرئيس مرسي، وبالتحديد في (5 سبتمبر 2012).

ولما وقع الانقلاب العسكري (3 يوليو 2013)، خرج مع عدد من قيادات الجماعة الإسلامية إلى السودان، لكن الحكومة السودانية أبلغتهم أنه لا يمكنها استضافتهم، واقترحت عليهم الخروج إلى مكان آخر، وعرضت أن توفر لهم وثائق للسفر مع فقدهم لوثائق السفر، وكان يرى أن يخرج إلى ليبيا بينما كان بعض رفاقه يرون الخروج إلى تركيا، ثم استقر أمرهم على تركيا مؤقتا، فإن لم يناسبهم الوضع عادوا إلى ليبيا.

سافروا إلى تركيا (سبتمبر 2013م) لكن وقعت مشكلة لم تكن في الحسبان، وذلك أن جوازات السفر السودانية التي سافروا بها من السودان إلى تركيا قد أخذها منهم ضابط المخابرات السوداني المرافق لهم بنوع من الخديعة، فصاروا بلا هويات ولا وثائق سفر، وبقي الشيخ رفاعي طه في تركيا.

كان طبيعيا لمثله أن يتواصل مع الحالة الجهادية في سوريا وأن يتواصلوا معه، حتى جاء صباح (8 إبريل 2016) يحمل خبر استشهاده في قصف جوي بغارة أمريكية مع خمسة آخرين بعد لقاء جرى مع أبي محمد الجولاني قائد جبهة النصرة في محاولة للتوفيق والإصلاح بين الفصائل الشامية وعلى رأسها جبهة النصرة وحركة أحرار الشام.

وبهذا أسدل الستار على حياة الشيخ رفاعي أحمد طه، أحد القادة التاريخيين للجماعة الإسلامية المصرية، وأحد أبرز الوجوه الجهادية في النصف الثاني من القرن العشرين.

نحاول بإذن الله في المقالات القادمة نشر ما أمكن تسجيله من مذكراته على حلقات، فالله المستعان.


الخميس، مارس 15، 2018

كيف عاش اليهود في الدولة العثمانية


ذلك هو المقال الخامس من سلسلة المقالات المستمرة التي تقارن بين أوضاع اليهود في ظلال الأمة الإسلامية، وبين أوضاعهم التي عاشوها في ظلال الأمم الأخرى، وآثرنا أن تكون مادة المقالات جميعها من مؤرخين غربيين ومستشرقين كي تكون الحجة أبلغ. استعرضنا في المقال الأول نظرة عامة، وفي المقال الثاني تناولنا أحوالهم في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي المقال الثالث تناولنا أحوالهم في عصر الدولتين الأموية والعباسية، وفي المقال الرابع أحوالهم في ظل الأندلس، ونتناول في هذه السطور أحوالهم في ظل الدولة العثمانية.

يسجل المستشرقان البريطانيان هاملتون جب وهارولد باون لحظة ما بعد فتح القسطنطينية، على هذا النحو: "سمح الفاتح لهم (اليهود) بالاستقرار في اسطنبول، وعيَّن الحاخام باشي، أو الحبر الأعظم، الذي مُنِح سلطات مشابهة لتلك التي مُنِحت للبطريرك، على جميع تابعيه في الإمبراطورية. تمتع الحاخام في الواقع بمكانة تفوقت على مكانة البطريرك وتلت مباشرة مرتبة رئيس العلماء، ومن خلال ذلك أصبح موقف اليهود أفضل بشكل عام"[1].

لهذا، وكما يقرر المستشرق اليهودي الصهيوني المتعصب برنارد لويس، فإن "معظم اليونانيين الذين كانوا غادروا المدينة قبيل الفتح قد عادوا إليها إلا القليل منهم، وجاء الآخرون من جميع أنحاء الإمبراطورية ليشاركوهم، وشكل هؤلاء جالية غنية تحت زعامة بطريركهم. وقد ازداد عدد اليهود أيضا، والذين كانوا موجودين من قبل في العاصمة البيزنطية"[2]، ويُفَصِّل في نمو وتطور الجالية اليهودية في ظل الدولة العثمانية، فيقول: "استطاع اليهود كسب ود المسلمين، وأصبح لهم ميزة على المسيحيين، فكان الأتراك يثقون كثيرا بذكائهم اللماح، ومهاراتهم في القضايا السياسية والاقتصادية الحساسة... وكان اعتماد الدولة التركية في الاتصال بالغرب على اليهود أكثر من اعتمادهم على أي طائفة أخرى مثل اليونانيين أو الأرمن. وهكذا تمكن اليهود بذكائهم من إقامة وتطوير مستعمرة تجمع التكتل اليهودي في مدينة سالونيكا بعد فتح العثمانيين لها، حيث تمكنوا من الاستفادة من هذه البقعة والميناء البحري الاستراتيجي المهم، وهكذا يمكنك أن تلاحظ أنه خلال القرن السادس عشر استطاع اليهود الأوروبيون الظهور بالمظهر المشرف في الدولة العثمانية، حيث أظهروا مهارات وقدرات تمكنهم من أداء الخدمات الخاصة والمهمة، لذلك كانوا يؤدون بعض الأعمال الخاصة لملوك مصر الذين كانوا يستعينون بخبرتهم ومعرفتهم باللغات الأوروبية، ومن ثم كانت تُعهد إليهم المهام الخاصة بالأنشطة الدبلوماسية، وأصبح لهؤلاء اليهود حق التنقل بحرية تامة، والاشتغال بالتجارة تحت حماية الدولة العثمانية"[3].

يؤكد على ذات هذا المعنى الباحثُ اليهوديُّ ميخائيل فينتر، فيقول: "وعلى الرغم من أن الإمبراطورية العثمانية كانت دولة إسلامية سنية متشددة مثلها مثل السلطة المملوكية إلا أنها كانت دولة مستنيرة عملت على التحلي بمفاهيم العصر. ولقد أدى الدمج بين النظرة الأساسية المتزنة للسلطان ورعاياه وبين المنظور العلمي العقائدي، إلى تحسن وضع اليهود في كافة أنحاء الإمبراطورية، فتقلد اليهود في مصر العثمانية بعض المناصب الرفيعة في وزارة الخزانة. وصحيحٌ أن وضع اليهود في فترة المماليك الشراكسة (1382 – 1517) كان مُعزَّزًا في الإدارة قياسا بفترة المماليك الأتراك (البحريين) (1250 – 1382)، وذلك على الرغم مما قلناه من قبل عن وضعهم العام في الدولة المملوكية، إلا أن الفترة العثمانية دفعت، على الأقل باليهود الذين عملوا في وزارة الخزانة إلى قمم لم يعرفوا لها مثيلا من قبل، أو على الأقل منذ الحكم الفاطمي في العصور الوسطى"[4].

وفي الحقيقة يمكن إجمال وضع اليهود في تلك الفترة بكلمة ج. ه. جانسن: "عاش اليهود تحت الحكم العثماني بسلام، لكنهم كانوا يلاقون دوما في أوروبا الشرقية تمييزا وكراهية قوية كانت تتفاقم من وقت لآخر لتنتهي بالمذابح"[5]، ولهذا انتهت الدولة العثمانية، كما يقول بروكلمان، "إلى أن تصبح ملجأ للحرية الدينية بالنسبة إلى اليهود المطرودين من إسبانيا والبرتغال عند منبلج القرن السادس عشر. فما وافت سنة 1590 على وجه التقريب، حتى بلغ عدد سكان الحي اليهود في اسطنبول نحوا من عشرين ألفا، واتخذ اليهود سبيلهم إلى قصر السلطان، بادئ الأمر، بوصفهم مضحكيم ومشعوذين... ولكنهم عرفوا، إلى ذلك، كيف يفرضون أنفسهم على البلاط بوصفهم أطباء"[6].

ولم يكن أطباء القصر مجرد أطباء، كما يشير برنارد لويس، فعلى سبيل المثال "كان مانويل برودو واحدا من بين الأطباء اليهود، ذوي الأصل الأوروبي، الذين عملوا في خدمة السلطان، وأصبحوا على قدر كبير من الأهمية حتى أن أرشيف القصر العثماني يدلنا على وجود طاقمين منفصلين من أطباء البلاط، أحدهما مسلم والآخر يهودي.... لقد لعب عدد من هؤلاء الأطباء دورا سياسيا مهما؛ فاقترابهم من رجال السلطان ووزرائه ومعرفتهم باللغات الأوروبية والأحوال الأوروبية جعلهم نافعين للحكام الأتراك والرسل الأجانب، وقد مكنهم ذلك من إحراز مناصب نفوذ وقوة، حتى إن بعضهم كان يُرسل إلى الخارج في مهمات دبلوماسية"[7].

وهكذا كان وجود الدولة العثمانية من أسباب السعد التاريخية الكبرى على اليهود، ليس فقط على مستوى إنقاذهم من الإبادة بل على مستوى إنعاش وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما يقرره المستشرق الفرنسي المعروف أندريه ريمون بقوله:

"إن إنشاء الإمبراطورية العثمانية كان له بصفة عامة أثر إيجابي على مركز اليهود. وقد لجأ العديد من اليهود إلى البلاد الإسلامية للاحتماء بعد طردهم من إسبانيا أو هروبهم منها وذلك خلال الفترة بين عامي 1492م و 1496م ثم في القرن السادس عشر... وقد مارس اليهود في المدن العربية الكبيرة حيث تمركزت جاليتهم أنشطة متنوعة: من المعروف أن أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة هي مهنتهم التقليدية. وفي القاهرة كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار الصاغة، كما كان اليهود يعملون أيضا في دار سك النقود. وكانوا يقومون بدور نشيط في التجارة الخارجية إذ كانوا يصدورن المنتجات المحلية ويستوردون المنتجات الأوروبية، وذلك بفضل علاقاتهم مع اليهود الأوروبيين. وتمكنوا بفضل  رؤوس الأموال التي جمعوها من القيام بأنشطة بنكية في البلاد التي كانت البنوك فيها غير متطورة"[8].

بقي لنا مقال سادس وأخير نختم به هذه السلسلة، فالله الموفق والمستعان.





[1] هاملتون جب وهارولد باون، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة ودراسة: أحمد إيبش، ط1 (أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2012م)، 2/308.
[2] برنارد لويس، اسطنبول: وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة وتعليق: سيد رضوان علي، ط2 (جدة: الدار السعودية، 1982م). ص135.
[3] برنارد لويس، اكتشاف المسلمين لأوروبا، ترجمة: ماهر عبد القادر، ط1 (القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 1996)، ص122، 123.
[4] ميخائيل فنتر، علاقات اليهود مع السلطان والمجتمع غير اليهودي، ضمن: "تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية" تحرير: يعقوب لاندوا، ترجمة: جمال أحمد الرفاعي وأحمد عبد اللطيف حماد، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000)، ص472.
[5] ج. ه. جانسن، الصهونية وإسرائيل وآسيا، مرجع سابق، ص16.
[6] كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، مرجع سابق، ص489، 490.
[7] برنارد لويس، اكتشاف المسلمين لأوروبا، مرجع سابق، ص266.
[8] أندريه ريمون، المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج، ط1 (القاهرة: دار الفكر للدراسات، 1991م)، ص84، 85.