الاثنين، يوليو 16، 2018

مذكرات الشيخ رفاعي طه (4) فهمت الحديث النبوي من ضابط أمن الدولة

مذكرات الشيخ رفاعي طه (4)
أول تحقيق في أمن الدولة حين كنت بالصف الأول الثانوي
عندما فهمت معنى الحديث النبوي من ضابط أمن الدولة


سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

كان مقياس الدولة الإسلامية عندي منحصرا في ثياب النساء وفي الرشوة وفي المحسوبية، ففي تلك الفترة كانت هذه الثلاثة شائعات جدا، فلا يمكن أن تقضي حاجة لك دون أن تدفع رشوة، أو يكن لك واسطة. كان تقديري حينذاك أن الدولة الإسلامية ستقضي على هذه الأمور، وقد كنت حينئذ قد حفظت خمسة عشرة جزءا من القرآن من التزامي بالكُتَّاب، وكنت أقرأ كذلك في كتب الحديث، وأتذكر قراءتي في صحيح مسلم.

يرجع الفضل في قراءتي كتب الحديث المختصرة إلى الأستاذ عيد الرافعي، كان مدرسا أول للغة العربية، وكان حافظا لكتاب الله، ولاحظ أنني شاب متدين فكأنه كان يتبناني، وكان لي زميل في المدرسة الثانوية اسمه علي، فكنا أنا وهو نجلس كثيرا إلى الأستاذ عيد الرافعي، وكان يطلب مني تحضير حديث الصباح في الإذاعة المدرسية، ولم تكن حينها إلا ثلاث فقرات: حديث شريف، كلمة قصيرة، نشرة أخبار.

في كل يوم سبت أجهز برنامج الإذاعة، أختار الطالب الذي سيلقي نشرة الأخبار، وأختار الحديث، وأعد الكلمة. كان لدى الأستاذ عيد نسخة من صحيح مسلم، وكان يعطيني منها بعض الأحاديث لأحفظها، أو يحفظني إياها أحيانا، وربما طلب إلي أن أختار حديثا ثم أقرؤه عليه كي يصحح لي فلا أخطئ فيه، ومن هنا صارت لدي ثروة أحاديث في مرحلة يمكن فيها أن أتفكر وأتدبر ويتشكل عندي من حصيلتها رؤية وأفكار.

ذات يوم وقعت عيني على الحكمة القائلة: "سُئل فرعون: من فرعنك؟ قال: حين لم أجد من يردني ويصدني"، فأعجبتني للغاية فوضعتها من فوري على مجلة حائط المدرسة. وفي اليوم التالي اخترت لحديث الصباح حديثا لم أكن أفهم إلا نصفه فقط، ولم يكن الأستاذ عيد يعلم أني سأقوله، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخث المائلة.. الحديث". كنت أفهم نصف الذي ينهى عن التبرج لكن لم افهم نصفه الأول، وقد كان غرضي من إلقائه هو مسألة التبرج، حيث كانت كل نساء المدرسة متبرجات.

غير أن كلامي أصاب منهن واحدة بعينها دون أن أقصد.. تلك هي: الأستاذة إكرام.

كانت إكرام مدرسة الدراسات الاجتماعية لصفنا "الأول الثانوي"! وكانت مغرقة في التبرج، والأهم من ذلك أنها كانت زوجة ضابط مباحث قسم الشرطة في المركز، فإذا بها تُنْزل كلامي على نفسها، وتحسب أنها المقصودة به.

ومن عجائب اليوم أن حصتها علينا كانت في نفس اليوم وشهدت اشتباكا بيننا لم أقصده ولم يخطر ببالي أيضا، لقد قالت في أثناء الشرح بأن اللغة العربية هي المسؤولة عن نشر الإسلام في الوطن العربي، فلفت نظري ما تقول، ولم أكن قرأت شيئا في الموضوع من قبل، لكن وجدتني أرد عليها قائلا:

-      أعتقد يا أستاذة أن الإسلام هو سبب نشر اللغة العربية وليس العكس فالعرب أنفسهم لم يكونوا معروفين قبل الإسلام.
-      من قال لك هذا الكلام؟
-      لم يقله لي أحد، ولكن هذا ما أفهمه.

ظلت تجادلني وأجادلها في الموضوع، فتأكد لديها أنني أتقصدها وأشاكسها، ومن ثم ترسخ عندها أني أقصدها بالحديث الذي ألقيته عن التبرج صباح اليوم. ثم لا أدري إن كانت هي أم غيرها من ربط هذا بالحكمة التي كتبتها في مجلة الحائط عن الفرعون الذي لم يجد من يرده ولا من يقومه. في اليوم التالي وجدتني مطلوبا لأمن الدولة!!

حضر إلى المدرسة المخبر سيد وقال لي "عايزينك في كوم امبو"، حيث مقر أمن الدولة إذ لم يكن لهم مقر في مركز ادفو، فتفجر في صدري خوف شديد، لماذا أنا؟ ماذا فعلت؟ وما الذي حصل؟.. ثم إني ذهبت.. ذهبت وحدي، فقد كان أبي -رحمه الل رحمة واسعة- يتخوف من تلك الأشياء.

تركوني أربع ساعات منتظرا، وتلك فترة طويلة، طويلة على المنْتَظِر، وهي أطول منها على المنتظر الخائف المترقب، وهي أطول وأطول إن كان هذا غلام يافع صغير لم يخبر من الدنيا مخوفاتها! ثم أدخلوني إلى التحقيق:

-      من قال لك حديث فرعون الذي كان على مجلة الحائط؟ وماذا تقصد به؟
-      لا أتذكر أين قرأته ولكنه أعجبني.
-      وماذا تقصد به؟
-      لم أقصد به شيئا معينا، فقط أعجبتني الفكرة: الحاكم اذا لم يعترض عليه أحدا يكون فرعونا.
-      كيف تعرف أنت هذه الأمور؟ من قال لك هذا الكلام؟
-      لا تحتاج إلى من يعرفني، أي حاكم إذا لم نعترض عليه يكون مثل فرعون! (كنت خائفا، لكني كنت أتماسك وأكابر).
-      وحديث النساء العاريات؟!
-      هذا حديث عن البنات التي تمشي متبرجة في الشارع، وسبحان الله، لقد وصف النبي حالهن تماما كأنه معنا الآن!
-      هل قصدت به أستاذة إكرام زوجة ضابط المباحث؟! أنت لا تحترم أستاذتك، ولا تحترم الرجل الذي يجتهد لحماية البلد.. ضباط المباحث يقاومون الجريم،ة ويحمون البلد من السرقة.
-      لم أقصد هذا المعنى أبدا.. لكن الحقيقة أنك الآن شرحت لي النصف الذي لم أفهمه من الحديث، سبحان الله! حقا ضباط المباحث هم كما وصف النبي بيدهم سياط كأذناب البقر ويضربون بها الناس!!

شعر الضابط من التحقيق أنني أتكلم من تلقاء نفسي، وأنه ليس ثمة أحد يؤثر علي أو يوجهني، وأنني غير مندرج في أي نشاط جماعي أو ما شابه.. كنت أتحدث معه ببراءة الغلام الذي يتعرف على الحياة ويستقبلها بفطرته السليمة، ويتفهم ما فيها من المعاني والأحداث بنفسه رويدا رويدا. عندما أيقن من هذا قال لي: أنت طيب يا رفاعي، وهذا رقم هاتفي، وإذا أردت أي شيء اتصل بي.

رجعت إلى البيت، ولم أهتم بما قال، لكن المهم أن الخوف المهيمن على أجواء الأسرة انقشع حين وصلتُ، وبدأ يتسرب إليها من جديد الشعور بالأمان.

صباح اليوم التالي في المدرسة أقبل على الناظر فسألني: ماذا فعلوا معك بالأمس؟ فقصصت عليه ما كان، فقال لي: يا بني أنت متفوق، وأنت ابننا، ونحن نحبك، لا تدخل نفسك في مثل هذه الأمور. فقلت له: لم يحدث شيء، فقط سألوني من أين جئت بهذا الحديث وأجبته وأنتهى الأمر. ولقد كان اللافت للنظر أن الأستاذ عيد الرافعي لم يمنعني من الحديث في الإذاعة.

في المدرسة الثانوية شكلت مجموعة من الطلاب، كنا أحد عشر طالبا وكنت زعيمهم رغم أني في الصف الأول الثانوي وبينهم من هو في الصف الثاني والثالث الثانوي، فكنت أجمعهم في وقت الراحة بين الحصص الدراسية ونجلس في المسجد لنقرأ ما نجده مفيدا من كتب في مكتبة المدرسة: رياض الصالحين، وأتذكر كتابا أعجبني للغاية وقتها هو "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، فكنت أقرأ منه على المجموعة. لكن الغرض الخفي الذي جَمَعَنا واتفقنا عليه هو أننا سندخل الكلية العسكرية لنكون ضباطا في الجيش، وننفذ انقلابا عسكريا نقيم به الدولة الإسلامية المنشودة. 

لم يعرف أحد نيتنا هذه، لكن الأستاذ عيد الرافعي خشي علينا من مجرد الاجتماع والقراءة في كتب دينية، فأرسل إلي ابنه علي أن لأذهب إليه ببيته، وقال لي بأني أعرض نفسي للمشكلات بمثل هذه الطريقة، واقترح إنقاذا للموقف أن يتقدم هو بصفته مدرس اللغة العربية للمدرسة لتحويل تلك المجموعة إلى "أسرة مدرسية" يكون هو مقررها، واقترح أن نسميها "مجموعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فهكذا يُسبغ على المجموعة صفة شرعية رسمية وتكون مندرجة ضمن نظام الأسر المدرسية بإشراف مدرس وبإذن الناظر، ورحبت لا شك بالفكرة والاقتراح التي لم تخطر لي على بال، ولم أطلعه على غرضنا منها بدخول الكلية الحربية.. وهكذا صار لنا غرض معلن وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المدرسة".

الأربعاء، يوليو 11، 2018

بدائع وروائع الصين في التراث الإسلامي


في المقالات السابقة فتحنا ملف العلاقات الإسلامية الصينية، فتناولنا في الأول موجزا للعلاقات بين الأمة المسلمة والصينية، وفي الثاني تحدثنا عن منافذ التواصل بين الأمتين وكيف تكونت وكيف أثرت فيهما، وفي الثالث تحدثنا عن بعض عجائب الصين كما وُجِدت في التراث الإسلامي، ونستكمل اليوم حديث العجائب ليكون هذا هو المقال الأخير في هذه السلسلة.
4. الأخلاق
لأهل الصين "آداب حسنة للرعية مع الملك وللولد مع الوالد: فإن الوالد لا يقعد في حضور أبيه ولا يمشي إلا خلفه ولا يأكل معه"[1]، "والشيوخ بالصين يُعَظمون تعظيما كثيرا"[2].

"وليس في بلادهم خمر، ولا تُحمل إليهم ولا يعرفونها ولا يشربونها"[3]، والزنا ممنوع كما في قوانين "توتال" وعليه عقوبة حد، إلا للنساء اللواتي يُردن العمل بالبغاء فهؤلاء يحرم عليهن النكاح وتُعطى كل منهن ما يشبه الرخصة والعلامة لمزاولة تلك المهنة مقابل ضريبة سنوية للخزانة، وما ولدوه من ذكور فهم جند للملك، وما ولدوه من إناث فلهن ويُلحقن بمهنتهن[4]. وهذا التفصيل هو ما يفسر اختلاف المصادر الأخرى في تلك المسألة، فبعضهم يورد أنه ممنوع وبعضهم يورد أنه مباح، وبعضهم يورد أنه مما يقترفه "سفلتهم لا عند أهل التمييز"[5]، واللواط مثل ذلك[6].

وأما من يقدم عليهم من التجار المسلمين فلهم وضع مختلف، فإن سُنَّتَهم مع المسلمين أنه إن إراد التاجر المسلم التسري أعانه صاحب الفندق فاشترى له جارية، وإن أراد الزواج تزوج، "وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه! ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا فإنّها أرض فساد"[7].

وعقوبة الزنا القتل للمحصن وغيره وللرجل والمرأة، إلا أن اغتَصَبَ الرجلُ امرأةً فيُقتل وحده. وعقوبة السرقة القتل في القليل والكثير، ويتزوج الرجل ما شاء من النساء، ولا يختنون[8].
5. الاقتصاد

لم تكن عملة الصين ذهبا أو فضة وإنما عملة ورق "كاغد" كالتي نستخدمها الآن، بينما الذهب والفضة واللؤلؤ وغيرها بضائع ومتاع[9]، وحجم العملة الورقية حجم الكف وعليها طابع السلطان، ويستطيع من اهترأت عملته أن يستبدلها من دار السكة، ولا يستطيع صاحب الدرهم والدينار أو الذهب والفضة أن يشتري شيئا بها، وإنما يستبدلها بالعملة الورقية[10]، والعملة الورقية متنوعة فمنها ما يقوم مقام الدرهم ومنها ما يقوم مقام الدينار إلى مائة دينار[11].

والدولة تكفل الفقراء والصغار والكهول، فمن لم يجد سعر الدواء أخذه من بيت المال[12]؛ ولا تؤخذ الضريبة ممن قل عن ثمانية عشر عامًا أو زاد على الثمانين[13]، وإن بلغ الصانع ستين سنة أُعفي من العمل وأنفقت الدولة عليه، واعتبروه كالصبي فلم تجرِ عليه الأحكام[14].

ومن الصورة العامة للصين يمكن القول بأن الاقتصاد قائم على الزراعة والتجارة، وعلى مهارات الصناع الفائقة.
6. التعليم
وينتشر التعليم في الصين، وهو تعليم نظامي يشمل الجميع وتشرف عليه الدولة ويُنفق عليه من بيت المال[15]، ويكثر في أهل الصين الطب وعلم الفلك، ويبدو ازدهار الطب من وفور صحتهم، إذ "البلد معتدل الهواء قليل الأمراض، لا يكاد يوجد فيه أعمى ولا أعور ولا صاحب عاهة"[16].

ومن أبلغ الأدلة على ما بلغه أهل الصين من مهارة الطب ما رواه المؤرخ الجغرافي ابن فضل الله العمري، فقد سأل شيخه الشريف السمرقندي عن أهل الصين، وما يحكى عنهم من رزانة العقل، وإتقان الأعمال، فقال: هم أكثر مما يقال، ثم حكى له أنه اشتكى من ضرس في فمه فعالجه منه صيني استطاع بمهارة أن يخلع له ضرسا ونصف الضرس دون أن يشعر لها بألم، ثم أخرج الصيني مما معه أضراسا وأنصافا وأثلاثا، ثم صار يقيس موضع الضرس المخلوع، ويلتمس له مما معه نفس المقاس، ثم وضع عليها مادة ودهانا التأمت به في وقتها،  وأمره ألا يشرب عليها الماء ليوم كامل، فانتهى ألمه. وقد رأى الجلساء أضراسه الجديدة فإذا هي واضحة لكنها على أحسن ما يكون[17]. واللافت للنظر في تلك الرواية أن القائم بالعلاج هنا لم يكن طبيبا وإنما حطابٌ صينيٌّ، فلعله أن يكون من أثر انتشار التعليم، أو من توارثهم هذا النوع من العلاج جيلا بعد جيل.
7. الثقافة

يقرر النويري، صاحب موسوعة نهاية الأرب وفي مؤلفه اجتمع علم الكثير مما سبقه، أن "ملوك الصين ذوو آراء ونحل، إلّا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضيّة العقل وسنن الحق فى نصب القضاة والأحكام، وانقياد الخواصّ والعوامّ الى ذلك"[18]، وهم أهل عقول راجحة "جمة وترتيب حسن وفقهنة في الأمور"[19]، ويصدورن في أمورهم ونظامهم عن "كتب يشتغلون بها"[20].

ومن عاداتهم أنه "لا يتزوّج أهل كل فخذ إلا من فخذهم، ويزعمون أنّ فى ذلك صحة النسل وقوام البنية، وأنّ ذلك أصحّ للبقاء وأتمّ للعمر"[21]، وهم أهل ملاهٍ، ويأكلون لحم من قُتل بالسيف من البشر، وهم أجمل من أهل الهند وأشبه بالعرب في اللباس والدواب والهيئة والمواكب[22].
8. الصنائع

وأما أمر الصنائع ومهارتهم فيها فهو الأمر الجاري المشتهر الذي تفنن كل واصف فيه، فقد أخرجت دقة الصينيين وإحسانهم في صناعاتهم أوصاف البلاغة من المؤلفين العرب، حتى إنهم ليضربون بهم المثل فيه، بل يضربون بهم المثل في الشأن كله، حتى ليقال "نزلت الحكمة على رؤوس الروم، وألسن العرب، وقلوب الفرس، وأيدي الصين"[23]، ويصف الجاحظ الأتراك فيقول بأنهم "في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة"[24].

فالصينيون "أحذق خلق الله كفًّا بنقشٍ وصَنْعَةٍ وكل عمل، لا يتقدمهم فيه أحد من سائر الأمم"[25]، وهم "أعظم الأمم إحكاما للصناعات وأشدهم إتقانا فيها؛ وذلك مشهور من حالهم قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا سواهم، فإن لهم فيه اقتدارا عظيما"[26].

وأسهب العرب في وصف مهارتهم بوصف ما يعملون من الصناعات، فمنها "أقداح في رقة القوارير، يُرى ضوء الماء فيه"[27]، ومنها "المماطِر التي لا تَبَل بالمطر، ولهم الستائر التي يستتر بها الفارس والفرس في الحرب ولا تؤثر السهام فيها ولا الجروح، ويكون زنة كل واحدة منها دون الرطل الشامي، ولهم مناديل الغمر التي إذا اتسخت ألقيت في النار فتعود جديدة ولم تحترق"[28]، بل "إن العرب تقول لكل طُرفة من الأواني صينية"[29].
و
كان الصينيون يعرفون ويقدرون مهارتهم تلك، وهم "يقولون الفرنج عور وباقي الناس عمي، يعني أن صنائعهم صناعة بصير العين وباقي الناس صناعتهم صناعة من هو أعمى ما يبصر ما يعمل"[30].
9. الرسوم

ولا يكافئ مهارتهم في التصنيع إلا مهارتهم في الرسم والنقش، فلهم "الإبداع في خرط التماثيل وإتقانها، وعمل التصاوير والنقوش المدهشة كالأشجار والوحوش والطيور والأزهار والثمار وصور الإنسان على اختلاف الحالات والأشكال والهيئات، حتى لا يعجزهم شيء إلا الروح والنطق، ثم لا يرضون بذلك حتى إن مصورهم يفصل بين الشخص الضاحك من الغضب والضاحك من العجب والضاحك من سرور والضاحك من الخجل"[31].

وقد اضطردت في تراث العرب قصة الملك الذي أهديت إليه لوحة مرسومة لطائر يقف على غصن، فاستحسنها هو ومن معه، حتى مر بها رجل من العامة فأخرج منها عيبا بسيطا، أن الغصن لم يكن منحنيا بل مستقيما، فصح عندهم قوله وصارت من العيوب التي منعت الملك من شرائها ومنعت صانعها من المقام الرفيع.

واستخدموا مواهبهم الفائقة في الرسم في رسم من يمرون بهم من الغرباء فيكون نوعا من التوثيق الفني والثقافي وهو في نفس الوقت جزء من النظام الأمني كما أسلفنا الحديث عنه في خبر ابن بطوطة، ومن قبله في خبر ابن وهب القرشي.
10. ما استقبح من أهل الصين

وأما ما عُرض في الرواية العربية على سبيل الاستنكار والرفض من أحوال الصين فهو ما تعارض مع الإسلام كعبادة الأوثان واعتناقهم تناسخ الأرواح وبيع الأولاد والبنات وشرعنة البغاء وأكل الميتة وتبرج النساء وإتيانهن في المحيض والتبول وقوفا وعدم الاستنجاء بالماء وبعض أمور أخرى[32].
خاتمة
كما رأينا في السطور السابقة، يمكن للعلاقة الإسلامية الصينية أن تُسْتأنف على قاعدة قوية من التعاون والتفاهم، فالتاريخ القائم بين الأمتين يهمين عليه جانب التعاون الحضاري والتبادل التجاري والتقدير الثقافي، وليس بينهما تاريخ عدائي، بل حتى القضايا المثيرة للأزمات في واقعنا المعاصر يُستطاع بالمجهود السياسي الصادق معالجتها، وأهمها الموقف من الثورة السورية، والوضع الداخلي لإقليم تركستان الشرقية وحقوق المسلمين فيه.

ويُستطاع في ظل التعاون المشترك لتحقيق المصالح المشتركة ومواجهة التحديات المشتركة أن يُزال كل ما من شأنه أن يعيق تأسيس علاقة راسخة بين الأمتين، فالأمة الإسلامية ليست مجرد مخزن للثورة والطاقة فحسب، وإنما هي قبل كل هذا وبعده مخزنا ضخما للطاقة الروحية والثروة الثقافية العميقة، والعالم الإسلامي هو الذي يقوم الآن في وجه المنظومة العالمية التي تريد فرض هيمنة ثقافية وحيدة على جميع العالم، وهو العالم الذي بإمكانه تقديم البديل الحضاري المتجاوز لمشكلات الحضارة المعاصرة التي أرهقت العالم وأثقلته. فالسابق إلى العالم الإسلامي من باب التعاون الحضاري يستطيع أن يعزز موقعه في المعادلة الحضارية القادمة فوق تعزيز موقعه ضمن خريطة الثروة المادية.



[1] القرزويني، ص46.
[2] ابن بطوطة 4/147.
[3] السيرافي، ص32.
[4] المسعودي، 1/106؛ السيرافي ص57.
[5] ابن الفقيه، ص69، 70.
[6] سليمان التاجر، ص57.
[7] ابن بطوطة 4/134.
[8] سليمان التاجر، ص57.
[9] سليمان التاجر، ص49.
[10] ابن بطوطة 4/129.
[11] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق: أحمد عبد القادر الشاذلي، ط1 (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 2003م)، 3/134، 135.
[12] سليمان التاجر، ص54.
[13] سليمان التاجر، ص54.
[14] ابن بطوطة، 4/147.
[15] سليمان التاجر، ص50، 54؛ السيرافي ص40، 45.
[16] سليمان التاجر، ص59.
[17] ابن فضل الله العمري، 3/135، 136.
[18] النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، ط1 (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2003م)، 14/329.
[19] ابن فضل الله العمري، 3/136.
[20] ابن الفقيه، ص69.
[21] النويري، 14/329، وهو عند المسعودي أيضا.
[22] سليمان التاجر، ص56، 59.
[23] التوحيدي، المقابسات، تحقيق: حسن السندوبي، ط2 (الكويت، دار سعاد الصباح، 1992 م)، ص260.
[24] الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، (القاهرة، مكتبة الخانجي، 1964م)، 1/71.
[25] المسعودي، 1/113؛ وانظر: التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، (بيروت: المكتبة العصرية، 2004م)، ص70؛ شيخ الربوة، ص180.
[26] ابن بطوطة 4/132.
[27] سليمان التاجر، ص49؛ ابن الفقيه، ص69، 70.
[28] ابن الوردي (سراج الدين عمر بن المظفر)، خريدة العجائب وفريدة الغرائب، تحقيق: أنور محمود زناتي، ط1 (القاهرة: مكتبة الثقافة الإسلامية، 2008)، ص377.
[29] النويري، 1/366.
[30] ابن فضل الله العمري، 3/136؛ وانظر: القزويني، ص54. وعند القزويني أهل بابل بدلا من الروم، وكُتبت بالخطأ كابل.
[31] ابن الوردي، ص376، 377؛ القزويني، ص54؛ النويري، 1/366.
[32] سليمان التاجر، ص43، 57، 58؛ ابن الفقيه، ص69، 70؛ المسعودي، 1/106 وما بعدها؛ انظر: السيرافي ص57، 77، ابن بطوطة، 4/134.