الأربعاء، يوليو 11، 2018

بدائع وروائع الصين في التراث الإسلامي


في المقالات السابقة فتحنا ملف العلاقات الإسلامية الصينية، فتناولنا في الأول موجزا للعلاقات بين الأمة المسلمة والصينية، وفي الثاني تحدثنا عن منافذ التواصل بين الأمتين وكيف تكونت وكيف أثرت فيهما، وفي الثالث تحدثنا عن بعض عجائب الصين كما وُجِدت في التراث الإسلامي، ونستكمل اليوم حديث العجائب ليكون هذا هو المقال الأخير في هذه السلسلة.
4. الأخلاق
لأهل الصين "آداب حسنة للرعية مع الملك وللولد مع الوالد: فإن الوالد لا يقعد في حضور أبيه ولا يمشي إلا خلفه ولا يأكل معه"[1]، "والشيوخ بالصين يُعَظمون تعظيما كثيرا"[2].

"وليس في بلادهم خمر، ولا تُحمل إليهم ولا يعرفونها ولا يشربونها"[3]، والزنا ممنوع كما في قوانين "توتال" وعليه عقوبة حد، إلا للنساء اللواتي يُردن العمل بالبغاء فهؤلاء يحرم عليهن النكاح وتُعطى كل منهن ما يشبه الرخصة والعلامة لمزاولة تلك المهنة مقابل ضريبة سنوية للخزانة، وما ولدوه من ذكور فهم جند للملك، وما ولدوه من إناث فلهن ويُلحقن بمهنتهن[4]. وهذا التفصيل هو ما يفسر اختلاف المصادر الأخرى في تلك المسألة، فبعضهم يورد أنه ممنوع وبعضهم يورد أنه مباح، وبعضهم يورد أنه مما يقترفه "سفلتهم لا عند أهل التمييز"[5]، واللواط مثل ذلك[6].

وأما من يقدم عليهم من التجار المسلمين فلهم وضع مختلف، فإن سُنَّتَهم مع المسلمين أنه إن إراد التاجر المسلم التسري أعانه صاحب الفندق فاشترى له جارية، وإن أراد الزواج تزوج، "وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه! ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا فإنّها أرض فساد"[7].

وعقوبة الزنا القتل للمحصن وغيره وللرجل والمرأة، إلا أن اغتَصَبَ الرجلُ امرأةً فيُقتل وحده. وعقوبة السرقة القتل في القليل والكثير، ويتزوج الرجل ما شاء من النساء، ولا يختنون[8].
5. الاقتصاد

لم تكن عملة الصين ذهبا أو فضة وإنما عملة ورق "كاغد" كالتي نستخدمها الآن، بينما الذهب والفضة واللؤلؤ وغيرها بضائع ومتاع[9]، وحجم العملة الورقية حجم الكف وعليها طابع السلطان، ويستطيع من اهترأت عملته أن يستبدلها من دار السكة، ولا يستطيع صاحب الدرهم والدينار أو الذهب والفضة أن يشتري شيئا بها، وإنما يستبدلها بالعملة الورقية[10]، والعملة الورقية متنوعة فمنها ما يقوم مقام الدرهم ومنها ما يقوم مقام الدينار إلى مائة دينار[11].

والدولة تكفل الفقراء والصغار والكهول، فمن لم يجد سعر الدواء أخذه من بيت المال[12]؛ ولا تؤخذ الضريبة ممن قل عن ثمانية عشر عامًا أو زاد على الثمانين[13]، وإن بلغ الصانع ستين سنة أُعفي من العمل وأنفقت الدولة عليه، واعتبروه كالصبي فلم تجرِ عليه الأحكام[14].

ومن الصورة العامة للصين يمكن القول بأن الاقتصاد قائم على الزراعة والتجارة، وعلى مهارات الصناع الفائقة.
6. التعليم
وينتشر التعليم في الصين، وهو تعليم نظامي يشمل الجميع وتشرف عليه الدولة ويُنفق عليه من بيت المال[15]، ويكثر في أهل الصين الطب وعلم الفلك، ويبدو ازدهار الطب من وفور صحتهم، إذ "البلد معتدل الهواء قليل الأمراض، لا يكاد يوجد فيه أعمى ولا أعور ولا صاحب عاهة"[16].

ومن أبلغ الأدلة على ما بلغه أهل الصين من مهارة الطب ما رواه المؤرخ الجغرافي ابن فضل الله العمري، فقد سأل شيخه الشريف السمرقندي عن أهل الصين، وما يحكى عنهم من رزانة العقل، وإتقان الأعمال، فقال: هم أكثر مما يقال، ثم حكى له أنه اشتكى من ضرس في فمه فعالجه منه صيني استطاع بمهارة أن يخلع له ضرسا ونصف الضرس دون أن يشعر لها بألم، ثم أخرج الصيني مما معه أضراسا وأنصافا وأثلاثا، ثم صار يقيس موضع الضرس المخلوع، ويلتمس له مما معه نفس المقاس، ثم وضع عليها مادة ودهانا التأمت به في وقتها،  وأمره ألا يشرب عليها الماء ليوم كامل، فانتهى ألمه. وقد رأى الجلساء أضراسه الجديدة فإذا هي واضحة لكنها على أحسن ما يكون[17]. واللافت للنظر في تلك الرواية أن القائم بالعلاج هنا لم يكن طبيبا وإنما حطابٌ صينيٌّ، فلعله أن يكون من أثر انتشار التعليم، أو من توارثهم هذا النوع من العلاج جيلا بعد جيل.
7. الثقافة

يقرر النويري، صاحب موسوعة نهاية الأرب وفي مؤلفه اجتمع علم الكثير مما سبقه، أن "ملوك الصين ذوو آراء ونحل، إلّا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضيّة العقل وسنن الحق فى نصب القضاة والأحكام، وانقياد الخواصّ والعوامّ الى ذلك"[18]، وهم أهل عقول راجحة "جمة وترتيب حسن وفقهنة في الأمور"[19]، ويصدورن في أمورهم ونظامهم عن "كتب يشتغلون بها"[20].

ومن عاداتهم أنه "لا يتزوّج أهل كل فخذ إلا من فخذهم، ويزعمون أنّ فى ذلك صحة النسل وقوام البنية، وأنّ ذلك أصحّ للبقاء وأتمّ للعمر"[21]، وهم أهل ملاهٍ، ويأكلون لحم من قُتل بالسيف من البشر، وهم أجمل من أهل الهند وأشبه بالعرب في اللباس والدواب والهيئة والمواكب[22].
8. الصنائع

وأما أمر الصنائع ومهارتهم فيها فهو الأمر الجاري المشتهر الذي تفنن كل واصف فيه، فقد أخرجت دقة الصينيين وإحسانهم في صناعاتهم أوصاف البلاغة من المؤلفين العرب، حتى إنهم ليضربون بهم المثل فيه، بل يضربون بهم المثل في الشأن كله، حتى ليقال "نزلت الحكمة على رؤوس الروم، وألسن العرب، وقلوب الفرس، وأيدي الصين"[23]، ويصف الجاحظ الأتراك فيقول بأنهم "في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة"[24].

فالصينيون "أحذق خلق الله كفًّا بنقشٍ وصَنْعَةٍ وكل عمل، لا يتقدمهم فيه أحد من سائر الأمم"[25]، وهم "أعظم الأمم إحكاما للصناعات وأشدهم إتقانا فيها؛ وذلك مشهور من حالهم قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا سواهم، فإن لهم فيه اقتدارا عظيما"[26].

وأسهب العرب في وصف مهارتهم بوصف ما يعملون من الصناعات، فمنها "أقداح في رقة القوارير، يُرى ضوء الماء فيه"[27]، ومنها "المماطِر التي لا تَبَل بالمطر، ولهم الستائر التي يستتر بها الفارس والفرس في الحرب ولا تؤثر السهام فيها ولا الجروح، ويكون زنة كل واحدة منها دون الرطل الشامي، ولهم مناديل الغمر التي إذا اتسخت ألقيت في النار فتعود جديدة ولم تحترق"[28]، بل "إن العرب تقول لكل طُرفة من الأواني صينية"[29].
و
كان الصينيون يعرفون ويقدرون مهارتهم تلك، وهم "يقولون الفرنج عور وباقي الناس عمي، يعني أن صنائعهم صناعة بصير العين وباقي الناس صناعتهم صناعة من هو أعمى ما يبصر ما يعمل"[30].
9. الرسوم

ولا يكافئ مهارتهم في التصنيع إلا مهارتهم في الرسم والنقش، فلهم "الإبداع في خرط التماثيل وإتقانها، وعمل التصاوير والنقوش المدهشة كالأشجار والوحوش والطيور والأزهار والثمار وصور الإنسان على اختلاف الحالات والأشكال والهيئات، حتى لا يعجزهم شيء إلا الروح والنطق، ثم لا يرضون بذلك حتى إن مصورهم يفصل بين الشخص الضاحك من الغضب والضاحك من العجب والضاحك من سرور والضاحك من الخجل"[31].

وقد اضطردت في تراث العرب قصة الملك الذي أهديت إليه لوحة مرسومة لطائر يقف على غصن، فاستحسنها هو ومن معه، حتى مر بها رجل من العامة فأخرج منها عيبا بسيطا، أن الغصن لم يكن منحنيا بل مستقيما، فصح عندهم قوله وصارت من العيوب التي منعت الملك من شرائها ومنعت صانعها من المقام الرفيع.

واستخدموا مواهبهم الفائقة في الرسم في رسم من يمرون بهم من الغرباء فيكون نوعا من التوثيق الفني والثقافي وهو في نفس الوقت جزء من النظام الأمني كما أسلفنا الحديث عنه في خبر ابن بطوطة، ومن قبله في خبر ابن وهب القرشي.
10. ما استقبح من أهل الصين

وأما ما عُرض في الرواية العربية على سبيل الاستنكار والرفض من أحوال الصين فهو ما تعارض مع الإسلام كعبادة الأوثان واعتناقهم تناسخ الأرواح وبيع الأولاد والبنات وشرعنة البغاء وأكل الميتة وتبرج النساء وإتيانهن في المحيض والتبول وقوفا وعدم الاستنجاء بالماء وبعض أمور أخرى[32].
خاتمة
كما رأينا في السطور السابقة، يمكن للعلاقة الإسلامية الصينية أن تُسْتأنف على قاعدة قوية من التعاون والتفاهم، فالتاريخ القائم بين الأمتين يهمين عليه جانب التعاون الحضاري والتبادل التجاري والتقدير الثقافي، وليس بينهما تاريخ عدائي، بل حتى القضايا المثيرة للأزمات في واقعنا المعاصر يُستطاع بالمجهود السياسي الصادق معالجتها، وأهمها الموقف من الثورة السورية، والوضع الداخلي لإقليم تركستان الشرقية وحقوق المسلمين فيه.

ويُستطاع في ظل التعاون المشترك لتحقيق المصالح المشتركة ومواجهة التحديات المشتركة أن يُزال كل ما من شأنه أن يعيق تأسيس علاقة راسخة بين الأمتين، فالأمة الإسلامية ليست مجرد مخزن للثورة والطاقة فحسب، وإنما هي قبل كل هذا وبعده مخزنا ضخما للطاقة الروحية والثروة الثقافية العميقة، والعالم الإسلامي هو الذي يقوم الآن في وجه المنظومة العالمية التي تريد فرض هيمنة ثقافية وحيدة على جميع العالم، وهو العالم الذي بإمكانه تقديم البديل الحضاري المتجاوز لمشكلات الحضارة المعاصرة التي أرهقت العالم وأثقلته. فالسابق إلى العالم الإسلامي من باب التعاون الحضاري يستطيع أن يعزز موقعه في المعادلة الحضارية القادمة فوق تعزيز موقعه ضمن خريطة الثروة المادية.



[1] القرزويني، ص46.
[2] ابن بطوطة 4/147.
[3] السيرافي، ص32.
[4] المسعودي، 1/106؛ السيرافي ص57.
[5] ابن الفقيه، ص69، 70.
[6] سليمان التاجر، ص57.
[7] ابن بطوطة 4/134.
[8] سليمان التاجر، ص57.
[9] سليمان التاجر، ص49.
[10] ابن بطوطة 4/129.
[11] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق: أحمد عبد القادر الشاذلي، ط1 (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 2003م)، 3/134، 135.
[12] سليمان التاجر، ص54.
[13] سليمان التاجر، ص54.
[14] ابن بطوطة، 4/147.
[15] سليمان التاجر، ص50، 54؛ السيرافي ص40، 45.
[16] سليمان التاجر، ص59.
[17] ابن فضل الله العمري، 3/135، 136.
[18] النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، ط1 (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2003م)، 14/329.
[19] ابن فضل الله العمري، 3/136.
[20] ابن الفقيه، ص69.
[21] النويري، 14/329، وهو عند المسعودي أيضا.
[22] سليمان التاجر، ص56، 59.
[23] التوحيدي، المقابسات، تحقيق: حسن السندوبي، ط2 (الكويت، دار سعاد الصباح، 1992 م)، ص260.
[24] الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، (القاهرة، مكتبة الخانجي، 1964م)، 1/71.
[25] المسعودي، 1/113؛ وانظر: التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، (بيروت: المكتبة العصرية، 2004م)، ص70؛ شيخ الربوة، ص180.
[26] ابن بطوطة 4/132.
[27] سليمان التاجر، ص49؛ ابن الفقيه، ص69، 70.
[28] ابن الوردي (سراج الدين عمر بن المظفر)، خريدة العجائب وفريدة الغرائب، تحقيق: أنور محمود زناتي، ط1 (القاهرة: مكتبة الثقافة الإسلامية، 2008)، ص377.
[29] النويري، 1/366.
[30] ابن فضل الله العمري، 3/136؛ وانظر: القزويني، ص54. وعند القزويني أهل بابل بدلا من الروم، وكُتبت بالخطأ كابل.
[31] ابن الوردي، ص376، 377؛ القزويني، ص54؛ النويري، 1/366.
[32] سليمان التاجر، ص43، 57، 58؛ ابن الفقيه، ص69، 70؛ المسعودي، 1/106 وما بعدها؛ انظر: السيرافي ص57، 77، ابن بطوطة، 4/134.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق