الأربعاء، أبريل 25، 2018

اختبر نفسك: كيف تتفاعل مع الشائعة؟


قال الجبرتي:

"في يوم الأربعاء رابع عشري الحجة آخر سنة 1147 [أي اليوم التالي لعيد الأضحى من هذه السنة، وهو يوافق 7 مايو 1735م] أشيع في الناس بمصر بأن القيامة قائمة يوم الجمعة سادس عشري الحجة [بعد يومين فقط]، وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة حتى في القرى والأرياف وودَّع الناس بعضهم بعضا:

1. ويقول الإنسان لرفيقه: بقي من عمرنا يومان، وخرج الكثير من الناس والمخاليع الغيطان والمنتزهات، ويقول بعضهم لبعض: دعونا نعمل حظا ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة.

2. وطلع أهل الجيزة نساء ورجالا وصاروا يغتسلون في البحر.

3. ومن الناس من علاه الحزن، وداخله الوهم.

4. ومنهم من صار يتوب من ذنوبه ويدعو ويبتهل ويصلي.

5. واعتقدوا ذلك ووقع صدقه في نفوسهم، ومن قال لهم خلاف ذلك أو قال: هذا كذب لا يلتفتون لقوله.

6. ويقولون: هذا صحيح، وقاله فلان اليهودي وفلان القبطي، وهما يعرفان في الجفور والزايرجات ولا يكذبان في شيء يقولانه، وقد أخبر فلان منهم على خروج الريح الذي خرج في يوم كذا، وفلان ذهب إلى الأمير الفلاني وأخبره بذلك وقال له: احبسني إلى يوم الجمعة وإن لم تقم القيامة فاقتلني. ونحو ذلك من وساوسهم.

وكثر فيهم الهرج والمرج الى يوم الجمعة المعين المذكور. فلم يقع شيء! ومضى يوم الجمعة وأصبح يوم السبت

7. فانتقلوا يقولون: فلان العالم قال: إن سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفعوا في ذلك وقبل الله شفاعتهم، فيقول الآخر اللهم انفعنا بهم فاننا يا اخي لم نشبع من الدنيا وشارعون نعمل حظا ونحو ذلك من الهديانات".

انتهى كلام الجبرتي.. والذي نقلته بحروفه، ولم أتدخل إلا بالترقيم وبتوضيحين بين معقوفين [..].

في هذا المشهد نرى أن الشائعة استطاعت أن تنتشر انتشارا واسعا في القاهرة والقرى والأرياف رغم أن الزمن كان أسرع ما فيه الحمام الزاجل! حتى لكأن بعض الشائعات لها قدرة انتشار ذاتية تهزم به حواجز الزمن والمسافات! وفيه نرى أيضا أصناف الناس ومذاهبهم في التعامل مع النوازل الكبرى المتوقعة، وقد رصد الجبرتي منهم سبعة أصناف:

1. فمنهم من لا يرى في أي حادثة إلا مصدرا أو فرصة للهو واللعب والضحك والمرح، ولعل أولئك هم القادرون دائما على ابتكار النكات الساخرة التي تخرج في أشد أوقات الأسى والبؤس حتى كأن الذي ابتكرها يعيش في عالم وحده، يراقب المشهد من بعيد بغرض إنتاج نكات جديدة. ففي هذه الواقعة التي بين أيدينا أشيع بين الناس أن يوم القيامة بعد يومين فبادروا إلى قضائهما في اللهو واللذة لأنهما آخر يومين في الحياة! فتشاوروا في اختيار المتنزهات وأماكن اللهو والحقول التي ستشهد آخر نعيمهم!

2. ومن الناس من تفاعل مع الموقف بعقلية جماعية لا تزال تحير علماء الاجتماع في تفسيرها، السلوك الجمعي للبشر واحد من أهم الحقول التي لا تزال تُدرس لفهمها، يُقال بأن الناس تتعامل مع الموقف الجمعي تبعا لأول ردة فعل، وأن أي إنسان يستطيع قيادة أي تجمع حائر لو تصرف كقائد. يضربون لها مثلا باجتماع الناس حول حادث مثلا فإذا أتى رجل من الخلف قائلا "وسَّع يا جدع" وتقدم باعتباره يملك الحل، فإن الناس بتلقائية تفسح له دون سؤال ولا تردد ودون معرفة سابقة، مع أنه قد يكون مجرد متفرج جديد! كذلك من يسارع للتعامل مع المريض أو المصاب كأنه طبيب فإن الناس تستسلم له ويتركونه لفحص المريض وإذا طلب دواء كذا أو كذا هرع بعضهم لتنفيذ أمره!.. في الواقعة التي كانت أيام الجبرتي سارت في أهل الجيزة طبيعة تصرف جماعية وهي أنهم نزلوا يغتسلون في نهر النيل.. لماذا؟ ولأي غرض؟ وبأي دافع؟.. الله أعلم! لعلهم اتبعوا في هذا التصرف رجلا بدأ به وعملت النزعة الجماعية على نشر هذا السلوك.

3. بعض الناس كالعادة أوقفوا حياتهم، ودخلوا بيوتهم، وتلفعوا بأحزانهم.. يمارسون الانتظار! وهو سلوك كثير من الناس إذا شعر أن الموقف أكبر منه وأنه لا يملك حياله أي شيء، وأن كل شيء صار بلا فائدة، ولم يعد من جدوى لأي شيء.. أتصور لو أن هؤلاء في زماننا لكان الواحد منهم أغلق هواتفه وجلس في غرفته بعد أن أغلقها عليه! ولو كان به بعض الإيجابية لقضى وقته في التعليق على كل منشور بمواقع التواصل الاجتماعي بما معناه: "انتوا بتتكلموا في ايه، ده القيامة هتقوم"، فلو رأى منشورا يدعو للتوبة قال: "خلاص، مفيش فايدة.. اللي تاب تاب زمان"، ولو رأى منشورا يدعو للهو قال: "والله انت ما عندك دم.. بعد بكرة ربنا هيحرقك"!

4. ومن الناس من تذكر الله تعالى فصار يتوب ويصلي ويبتهل في محاولة أخيرة لتغيير مصيره في الآخرة.. ولا شك أن هذا أفضل المنازل، وأفضل العمل فيه هو واجب الوقت: إن كانت الصلاة أو الجهاد أو غيرها، وفي الحديث أن النبي جعل أفضل العمل لمن يغرس الفسيلة أن يغرسها. وأتذكر أن قريبا لي –وكان تاجرا في قرية بالصعيد المصري- روى لي أنه في عام 1996 تقريبا، وكانت مصر تشهد كسوفا للشمس –ولم تكن شهدته من قبل لأعوام طويلة- صار يأتيه الناس ويسددون له الديون التي عليهم لأن القيامة ستقوم يوم الأربعاء (يوم الكسوف)، كي يتحللوا منها، حتى صار يضحك قائلا: وماذا سأفعل أنا بالأموال إن كانت القيامة ستقوم أيضا!

لكن مشكلة هذا الصنف هو في تصديقه الوهم والخرافات، مشكلته في تسليمه نفسه للدجالين والكذابين، وأنه يخضع لقولهم دون فحص.. فلئن كانت استجابته أفضل من غيره، إلا أن الخطر يأتيه من هذه الخصلة.

5. من الناس من سيبذل جهده في مواجهة هذه الشائعة، ويقدم العقل على العاطفة، ويقاوم السلوك الجمعي العام السائد، ويجادل بأن هذا كذب.. لكنه سيكون الصوت الأضعف في غمرة الفوران الجمعي المستجيب للشائعة، وأخطر وأكبر من يؤجج هذا الفوران الشعبي في مقابله هو الصنف القادم:

6. أولئك الذين يتبرعون من تلقاء أنفسهم لإثبات الشائعة وتأكيدها واختراع الأدلة لها، هنا يتفاعل خليط من الكذب والهوى وحب الظهور والشهرة ليصنع هذا الصنف من الناس. والمؤسف أن هؤلاء ليسوا بالقليل بل إن وجود أحدهم يشجع ظهور آخرين على نفس المنوال، في الواقعة التي بين أيدينا اخترعت الأدلة والقصص والروايات والمصادر التي تؤكد الشائعة، فهذا فلان اليهودي وفلان القبطي الذين يعرفون الغيوب وعلم المستقبل، ويُخترع لهم تاريخ من النبوءات الصادقة كالمريض الذي شُفي وفلان الذي رزق بالولد وفلانة التي رجع إليها زوجها.. إلخ! والريح التي أخبروا أنها تهب فكانت كما قالوا، واخترع آخرون قصة تزيد التأكيد عن فلان الذي ذهب إلى الأمير الفلاني وقال له: احبسني إلى يوم الجمعة وإن لم تقم القيامة فاقتلني.

ولا شك أن كل واحد فينا يتذكر أشياء من هذه، لا سيما في أوقات الثورة والاضطرابات، والمصادر التي تتحدث عن هروب فلان أو مقتل فلان أو تحذير فلان أو الاتفاق على الأمر الفلاني أو ترتيب الوضع السياسي بالشكل الفلاني، ويتضخم الخبر ويتأكد عبر شبكة من الكذابين الذين لا يتثبَّتون ولا يتبينون، بل لقد تخصصت حسابات على تويتر وفيس بوك في نشر الشائعات وتخصصت حسابات أخرى في تأكيد وترسيخ ما يُنشر! ثم ينفض السامر على الكذب.. لكن الحسابات تواصل مهمتها لأن كافة شرائح الشائعة لا تزال تتعامل معها كأنه لم يحدث شيء من قبل.. وأولئك هم الفئة السابعة.

7. هؤلاء هم الذين لما لم تقم القيامة في اليوم الموعود اخترعوا قصة غيبية تماما، شفاعة انطلق بها الأولياء الصالحون لله تبارك وتعالى، فقبل الله شفاعتهم ومدَّ في عمر الحياة الدنيا!!

إن الشائعة تجد من يخترع لها قصة دارت في الملكوت الأعلى لئلا تكون كاذبة، أي أن المخدوع بالشائعة كان أهون عليه أن يكذب مرة أخرى على الله وعلى أوليائه الصالحين من أن يعترف بأنه أخطأ أو كان من المغفلين!..
ولولا أني لا أريد حرف المقال عن فكرته العامة لذكرت بعض أسماء الصحافيين والإعلاميين الذين تخصصوا في نقل ما يحدث في الغرف المغلقة بين الرجل وزوجته أو الوالد وابنه أو ما دار في مكاتب الرؤساء ورؤساء المخابرات وفي الدوائر السياسية الضيقة التي لا يتسرب منها الهواء، فينشرونه على الصفحات ليفسرون به حركة التاريخ وليستروا به عورة كذبهم ودجلهم!!

نفس ما رواه الجبرتي قبل ثلاثة قرون وقع لمجموعة في أمريكا من عام 1955، حيث اعتقدوا بأن نهاية العالم ستكون الساعة الرابعة من يوم 21 ديسمبر، ووقعت قصة لا تختلف في جوهرها عما رواه الجبرتي، خلاصتها أن المؤمنين ستأتيهم أطباق طائرة في فناء منزل سيدة بعينها لتستخلصهم وتنقذهم، وهو ما حدا بالمؤمنين إلى التجمع في منزل السيدة، ثم فشلت نبوءتهم عند الساعة الرابعة! وهي القصة التي استخلص منها عالم النفس الشهير ليون فينجستر نظريته عن التنافر الإدراكي، ونشرها في كتابه "عندما تفشل النبوءة"، محاولا تحليل التفسيرات التي قدمتها المجموعة حين تناقض الواقع مع ما آمنوا به[1].

مثل هذه المواقف تثبت أن الإنسان هو الإنسان، وأنه لا يخضع لمعايير التقدم المتعلقة بالمادة، ولذا لا يصح أن يُقال بأن شعبا ما متقدم أو شعبا ما متخلف لمجرد العرق أو البقعة الجغرافية أو نوع الثقافة.

المطلوب الآن أن تغمض عينيك وتتخيل: كيف تستعمل السلطة هذه الطبائع الإنسانية لتتحكم بالناس وتسيطر عليهم؟ وإذا أتيح لك أن تقدم مقترحاتك لمكافحة هذا، فبم يمكن أن تنصح؟! كلما كنت صاحب تفكر وتأمل أعمق كانت نصائحك ومقترحاتك أصوب وأجود.



[1]  Leon Festinger et al, When Pophecy Fails, (Minneapolis: Minnesota Univeristy press, 1965) p. 30 – 192.

السبت، أبريل 21، 2018

مذكرات رفاعي طه (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهول


وُلدت في 24 يونيو 1954م، في أجواء أزمة الإخوان المسلمين، وكانت أزمتهم بدأت في مارس، أي أنني وُلدت بعد بداية الأزمة بثلاثة أشهر، وكانت قريتى تُدعى نجع دُنْقُل، وكانت قرية صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وهي تابعة لمركز أرمنت محافظة قنا آنذاك، وأصبحت الآن تابعة لمحافظة الأقصر.

كان والدي من قرية تدعى المراعزة، وكذا أعمامي جميعهم، ونحن ننتمي لقبيلة تسمى الفريحات ينتهي نسبها لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. وأما أمي فهي من نجع دنقل من سلالة ينتهي نسبها إلى تنقلا بالسودان، وهي أيضا تنتهي بالنسب إلى قليلة جعفرية، فيلتقي نسب والدي ووالدتي بالجعافرة سواء جعافرة السودان أو جعافرة مصر، ولست أعرف بالتحديد عند أي جدٍّ يلتقي نسبهما، لكني أتصور أن جدتي لأبي ووالدة جدي لأمي أخوات، لكن لا أعرف نسب الرجال في أي جد يلتقون.

ما أذكره من ميلادي هو من رواية أمي، لقد ولدت مريضا بالربو "حساسية الصدر"، وأتذكر أنني في سن الخامسة كانت تنتابني نوبات ربو شديدة جدا، ولم يكن بالقرية شيء من وسائل العلاج أبدا، وقد بلغت مرحلة الموت مرات عديدة، وكانت والدتي –كما روت لي- تعالجني بطريقة خاطئة، كانت أمي امرأة لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وكانت تظن أنها إذا جعلت صدري إلى أسفل ورجليّ إلى أعلى أنها تساعدني على التنفس بشكل أفضل، إلا أن هذا كان يزيد من الأزمة لا يعالجها، وهذا الوضع هو مرحلة مميته لمريض الربو لأن الرئتين يزيد عليهما الضغط، ويتطلب الحجاب الصدري الجلوس أو الوقوف.

أول ما أتذكره بنفس دون رواية من أحد كان وأنا في سن الرابعة، في ذلك الوقت دفعتني ابنة عمتي "شربات" فوقعت على الأرض، فدخلت في يدي قطعة زجاج، ولما لم يكن في القرية أية وسيلة من وسائل العلاج، فقد جاءت والدتي فنزعت هذه القطعة فتدفق الدم غزيرا من الجرح الغائر، ثم أحرقت بعضا من الورق وبقايا مصاصات القصب فأحرقتها حتى استحالت رمادا، فأخذت من الرماد وكبست به الجرح ليتوقف تدفق الدم. إن خلو قريتنا من أبسط وسائل العلاج كثيرا ما أفضى إلى الموت، وإني أتذكر وفاة خالتي التي كانت في حال الولادة، وكانت أقرب مستشفى على بعد ثلاثة كيلومترات، فوُضِعت على عربة كارو يجرها حمار، وعندما وصلت كانت قد فارقت الحياة. لقد كانت قرية غارقة في الفقر والجهل.

كان جدي عمدة القرية، ومع هذا لم نكن نعرف الكراسي في بيوتنا، كانت الكراسي معدومة إلا في البيوت الكبيرة، أو في منظرة العمدة، وأما البيوت فالناس يجلسون على الدِكَك، وهي تقارب "الكنبة" المعروفة اليوم، ولكنها من الخشب، فهي قطعة خشبية طولها متران وعرضا سبعين سم، ولها ظهر يُستَنَد إليه كما لها مُتَّكأ على طرفيها يتكئ عليه الجالس.

ولذا فعندما خُتِنْتُ –وهو ثاني حدث أتذكره بنفسي- أجلسوني على "الماجور"، وهو وعاء كبير تصنع فيه المرأة عجينها، فإذا قُلِب كان بوسع الطفل الجلوس عليه، ثم جاء حلاق القرية، والذي هو في نفس الوقت طبيبها ومعالجها ومسعفها، وهو الذي ختنني، ولم يكن ثمة وسيلة من وسائل التخدير، بل يداعبني فإذا غافلني قطع قطعة من هذه الجلدة التي تغطي الحشفة، فأصرخ صراخا شديدا، ثم يهدئني ويغافلني ثم يقطع قطعة أخرى فأصرخ، وهكذا، حتى تم الأمر بين صراخي الشديد من هذا الألم القاسي. فهذان الموقفان هما ما أتذكرهما بنفسي، وكانا عند الرابعة لأن والدتي كانت تقول بأن عمري أربع سنوات، ولا أتذكر قبل هذه السن أي شيء.

عندما كنت في الخامسة أو السادسة بدأت في الذهاب إلى الكُتَّاب، وكان شيخه الشيخ بسطاوي هو من يُحَفِّظنا القرآن، وكان رجلا طيبا وصالحا، ولم يكن لدينا شيء من وسائل الكتابة بل كنا نكتب على الأرض، ثم ظهرت الألواح فيما بعد حين كنت في التاسعة أو العاشرة، كانت من الخشب فكنا نكتب عليها بقلم من البوص أو نحوه يُبَلَّل في الحبر، ثم نمسحها بمادة طينية نسميها "الطَّفْلة"، أما هذه الأقلام فلم تكن معروفة لنا قط، ولعل هذا يُصَوِّر إلى أي حدٍّ كانت الحياة حينذاك شديدة الصعوبة.

في زمن الكتابة على الأرض كان الحفظ يعتمد على السماع فقط، يظل الشيخ يردد الآية حتى تستقر في رأس الطفل، وفي اليوم التالي يقرأ الطفل على الشيخ ما حفظه ثم يسمع الجديد، وهكذا. وفي تلك الفترة حفظت ربع القرآن الأخير منذ نهاية حتى سورة يس.

لم أذهب إلى المدرسة الابتدائية، كانت أقرب مدرسة تبعد عن قريتنا بخمسة كيلومترات، ولم يكن من وسيلة للذهاب إليها، وكان أبي وأمي يخافان عليَّ أن أذهب وحدي، وأظن أن قريتي كلها لم يكن يذهب منها أحد في سني هذا إلى المدرسة. وهكذا فالكُتَّاب هو المدرسة الوحيدة في القرية، ولهذا فإن أهلها لا يعرفون القراءة والكتابة إلا بصورة بسيطة.

كذلك لم تكن القرية متدينة، كان كبار السن يصلُّون، وكان إلى جوار منزلنا مسجد "أبو الحمد"، وكان فيه تابوت الشيخ "أبو الحمد"، ولهذا الشيخ قصة لعلي أرويها لاحقا في وقتها. وهذا البُعد عن الدين كان سببه الأكبر قطعا الحقبة الناصرية، فلقد كانت شديدة في تغييب الدين ليس فقط عن قريتنا بل عن مصر كلها، ولكني لم أدرك تأثير عبد الناصر على المجتمع المصري إلا وأنا في الثانية عشرة من عمري.

كانت نساء القرية لا يعرفن الشارع إلا قليلا، من أولئك القليل التي تذهب إلى السوق، وهي التي لا عائل لها، كان الرجال يقومون بكل شيء، وكان الحمار وسيلة النقل الوحيدة، فمن لديه حمار فهو يذهب ويجيئ به داخل القرية أو خارجها، وكانت المدينة تبعد عنا ثلاثة أو أربعة كيلو مترات، فكان الرجل إذا أراد أن يتسوق أو يشتري ما ليس يوجد في القرية يمتطي حماره ويقطع تلك المسافة. كذلك فقد كانت مياه الشرب منعدمة في قريتنا، وكانت النساء يذهبن ليملأن مياه الشرب من ترعة بعيدة على مسافة 2 كيلومتر، كنَّ يعتبرنها نقية، فالعادة حينئذ أن تأتي النساء بالماء لغرض العجين والخبيز، فتلك مسؤوليتهن، ولم يكن في ذلك الوقت أفران مثل اليوم، فلقد كان الخبز يصنع في البيوت، فتحمل النساء الجرَّة وتملأها من الترعة، والجرَّة تزن نحو الخمس أو الست كيلو جرامات من المياه. وأما الطبخ والغسل ونحوه فكن يستعملن الطُلُمبَّة، وهي مضخة يدوية تُخرج المياه الجوفية، وكانت النساء ترى أن ماء الترعة أعذب وأصفى من المياه الجوفية، ولقد كان منزل جدي كبيرا، فهو عمدة القرية، وكانت فيه طُلُمْبتان.

ما كانت أمي تلد الأطفال إلا ويموتون، ولما تكرر هذا نصحها بعض أهل القرية أن تذهب إلى السادة الرفاعية، وأولئك هم أتباع طريقة صوفية تعرف بالرفاعية، وظنَّت أمي أنها إن أسمت المولود الجديد رفاعي أو رفاعية فإن هذا ينجيهما من الموت، وهو ما كان فعلا، فلما رُزِقت بأختي الكبرى أسمتها "رفاعية"، ثم لما وُلِدت بعدها أسمتني "رفاعي"، ثم لتختر فيما بعد ما تشاء من الأسماء، وكان لأختي الكبرى اسم آخر هو "عدلية".

عاشت "رفاعية" أو "عدلية" ست سنوات أو سبع، ثم توفيت، وعشت أنا إلى هذا اليوم، وسُمِّيت باسمي هذا "رفاعي"، ثم جاءت بعدي أخت سميت "روحية" إلا أن والدي كان يحب المغنية شادية فأطلق عليها هذا الاسم، فهي في الأوراق الرسمية "روحية" ولكنها في الواقع "شادية"!

في ذلك الوقت كان أبي يعمل تاجر حديد خردة، ويسمى هذا "مقاول حديد خردة"، يجتمع النفر من هؤلاء المقاولين فيشترون الحديد الخردة إما من مخلفات المصانع أو المباني أو ما يجمعه الناس، إذ يمرُّ عليهم صاحب حمار وينادي على من كان لديه حديد يشتريه منه، فكان الناس يبيعونه ما لديهم من مخلفات الحديد كقائم للسرير، فلقد كانت الأسرة في ذلك الزمن تُصنع من الحديد، أو "الناموسية" التي تظلل سرير العروس، وهي من الحديد أيضا، أو الأواني التي تكون من الحديد أو الألومنيوم، ونحو هذا. وكان الغالب في عملية البيع والشراء المقايضة، فلقد كان وجود النقود محدودا جدا آنذاك، فيشترى الرجل قطعة الحديد مقابل ثلاث بيضات أو كمية من الغلال والحبوب، أو ربما أتى بأشياء جديدة مثل "شبشب" أو نحوه، وكان مصنع سكر أرمنت بدأ بالعمل حديثا تلك الأيام، فكانوا يأخذون مخلفاته أيضا، وكان أبي يعتبر من أعيان البلد لأن هذه الأشياء كانت ثمينة في ذلك الوقت. ثم في مرحلة لاحقة بلغه أن مركز إدفو التابع لمحافظة أسوان سينشئ مصنعا جديدا، فعزم على الانتقال إلى هناك، لعلمه أن المصانع في بدايتها تخلف كثيرا من كمايات الحديد، وهو ما كان، وظل يعمل هناك في موقع نشاطه الجديد إلى أن عزم على نقل الأسرة معه إلى هناك. وكان والدي أول رجل من قريتنا يغترب عنها، وهو اغتراب داخلي بسيط، ومع ذلك فأهل القرية اعتبروها غربة كبيرة فاجتمعوا وأخذوا في البكاء، وهذا إنما هو لانعدام وسائل الاتصال في ذلك الوقت.

لم أعرف الراديو إلا في السنة الخامسة الابتدائية، فقد كنا نزور قريتنا كل سنة أو كل ثمانية أشهر إذ نعود إليها من مكان استقرارنا الجديد في مركز إدفو، وفي تلك الزيارة كان جدي قد اشترى واحدا، وكان جهازا ضخما حينئذ، حوالي 70 سم × 50 سم، ولما رأيته يتكلم سألت جدي باستغراب: ما هذا؟ فقال: هذا راديو، وكان بعض الناس يتصورون أن المذيع قابع بداخل الراديو ويستغربون كيف يُحمل معه، لكن أغلب الناس كانوا يسخرون ويتندون من هؤلاء، يقولون: ألم تسمع عن الزمان الذي سيتكلم فيه الحديد؟! ها هو قد جاء وتكلم الحديد!


الأربعاء، أبريل 18، 2018

الحرية أولا أم الشريعة


في عقد التسعينات والعقد الأول من الألفية الجديد شهدت الساحة الفكرية هذا السؤال الذي يُطرح على الإسلاميين: أيهما تريدون أولا، الحرية أم الشريعة؟

طرْح السؤال في البيئة العلمية الفكرية شيء، وطرحه في البيئة السياسية شيء آخر. فالبيئة العلمية الفكرية أقرب إلى المعمل الذي تُجرى فيه التجارب تحت ظروف خاصة ومجهزة بحيث يمكن رصد النتيجة بأعلى قدر من الدقة، فهو بحث موضوعي نظري. أما طرحه في البيئة السياسية فهو محاكمة مُبطَّنة، يجلس فيها القوي المسيطر موقع الخصم والحكم ويجلس فيها الضعيف في موقع المتهم، ويُطرح السؤال على صيغة: هل أنت من المؤيدين لحكمي الرشيد؟ أم أنك لا قدر الله من المعارضين؟! وهنا يتبارى المتهمون المستضعفون في تقديم إجابة توازن بين موقعهم الحقيقي من خريطة القوى وبين ما يؤمنون به من أفكار.

هذا السؤال: الحرية أولا أم الشريعة، هو سؤال الثقافة الغالبة على الثقافة المغلوبة. سؤال ثقافة الليبرالية التي هي إنتاج الحضارة الغربية على المعتنقين للثقافة الإسلامية المغلوبة.

وقد أجاب الإسلاميون على هذا السؤال بطيف واسع من الإجابات، فقال بعضهم: الديمقراطية كفر والشريعة أولا، وقال بعضهم: الديمقراطية هي جوهر الإسلام ومقصوده والحرية أولا.. وبين الإجابتين درجات كثيرة من إجابات تحاول إنتاج توازن بين مناطق التناقض والتعارض بين الحرية –كما تطرحها الليبرالية- والشريعة، ويجري تلوين كثير ومناورات كثيرة، فمنها ما يحاول إعادة تعريف الحرية في صورة تنسجم مع الإسلام، ومنها ما يحاول إعادة تعريف الشريعة في صورة تنسجم مع الليبرالية، وبينهما أطياف كذلك.

المهم المقصود من كلامنا الآن أن فريقا عريضا من الإسلاميين أجاب على السؤال بقوله: الحرية أولا. حتى لو كانت حرية علمانية ليبرالية كالتي نراها في المجتمعات الغربية، فإن الإسلام سينتشر في البيئة التي تتنفس الحرية، ويكفينا أن يتمتع الدعاة بحرية الدعوة وستعمل جاذبية الإسلام بنفسها وبمجهود الدعاة على أن تستثمر مناخ الحرية لنصل في النهاية إلى: الشريعة.

لقد اعتنقتُ لبضعة أعوام هذه الإجابة.. وإليك قصة نبذي لها وتخلصي منها، بل واعتباري إياها خرافة جاءت من خلط وتلبيس سأقصه عليك.

لم يكن السؤال المطروح على الإسلاميين سؤالا فكريا قادما من البيئة العلمية، بل كان سؤالا مطروحا في البيئة السياسية، وهو لم يُطرح أصالة على الفقهاء والمفكرين بل طُرِح على الحركيين، وحتى من تدخلوا فأجابوا من الفقهاء والمفكرين لم تكن إجابتهم حكما شرعيا بل كانت فتوى محكومة بظروف الزمان والمكان والحال.

كان سؤال الحرية والشريعة في وقته وظروفه معناه ببساطة: هل تقبلون يا معشر الإسلاميين بحاكم علماني ليبرالي على النمط الغربي بديلا عن المستبدين الذين يحكمونكم الآن؟ أم أن البديل الوحيد المقبول عندكم هو حاكم إسلامي يطبق الشريعة؟!

وحيث لم يكن للإسلاميين قوة ولا قدرة على نصب حاكم يطبق الشريعة، فقد قبلوا بصورة الحاكم العلماني الليبرالي الذي سيطلق الحريات العامة كمرحلة يثقون أنها ستوفر لهم الفرصة لنشر الدعوة وجذب الجماهير فينتقلون بعدها إلى المرحلة المنشودة: مرحلة الشريعة! الشريعة كثمرة من ثمرات الحرية واختيار الناس الحر النزيه.

فما المشكلة في هذا التصور؟

المشكلة بقدر ما هي بسيطة، بقدر ما هي فارقة وجوهرية وأصيلة.. المشكلة ببساطة هي في تَوَهُّم أن ثمة من قد يمنحك الفرصة للاختيار بين الحرية والشريعة!

سؤال الحرية والشريعة يمكن أن يستفيض الفقهاء والمفكرون في الكتابة عنه وبحثه، على مستوى النظر. أما على مستوى الواقع فإن الذي يملك القدرة على الحكم لا يُعطي خيارات لأحد! فالجهة التي تملك أن تخيرك بين نظامين هي الجهة التي تستطيع أن تفرض أحدهما، ولماذا تُقدم الخيار للضعيف إن كانت قادرة على إنفاذ خيارها المفضل لديها؟!

أي أن الإسلاميين، وأي مستضعف في أي مكان في العالم، لن يستطيع أن يختار لأنه –وبكل بساطة- لن يتمتع بوجود فرصة اختيار، من يملك أن يختار هو من يملك أن يفرض، فالقادر على الحرب هو من يحصل على السلام، ومن يملك القوة على الأرض هو من يملك قراره على مائدة المفاوضات.. بغير وجود القدرة على الاختيار تنعدم فرصة الاختيار نفسها.

ببساطة مخلة: يستطيع الإنسان أن يختار بين الطب والهندسة إن كان مجموعه بالأصل يُمَكِّنه من دخول هذه أو تلك، أما صاحب المجموع الضعيف فلا يملك الاختيار.. وبصورة أكثر واقعية: لا يملك الضعيف أن يختار بين شيئين لا يستطيع فرض أحدهما أو انتزاعه، وإنما يملك صاحب القوة أن يفرض ما يشاء بالقدر الذي تسمح له به قوته وقدرته.

لهذا فمهما تنازل المرء عن أفكاره وراوغ فيها وقدم المراجعات الفكرية فلن يمنحه أحد شيئا لا يستطيع انتزاعه بنفسه، ولعله لا يوجد من قدم تنازلات فكرية حاول بها حشر الإسلام في قالب الحداثة والحضارة الغربية مثلما فعل راشد الغنوشي بإخلاص مثير للشفقة والسخرية، ومع هذا لم يحصل على شيء في واقع السياسة، بل اضطر إلى تسليم الحكم بنفسه إلى النظام القديم الذي قامت ضده ثورة جاءت بالغنوشي نفسه إلى الحكم!

التنازلات الفكرية لم تؤد إلى مكاسب سياسية! لأن التنازلات الفكرية مهما عظمت لا تغير من موازين القوى في الواقع. والعكس صحيح أيضا: فلا السبسي ولا السيسي ولا حفتر ولا بشار قدموا رؤى فكرية عظيمة أو اقتربوا فكريا من الحداثة الغربية فكان ذلك سبب مكاسبهم السياسية، إنما حملتهم إلى مواقعهم خرائط القوى السياسية والعسكرية والمالية.

ولهذا تبدو سخافة الدعوات المتكررة إلى تقديم مراجعات فكرية ورؤى جديدة ونقد التراث وتجديد الأصول وإعادة النظر في مناهج التفكير.. و.. و.. و.. إلخ! فكل ذلك يتغافل عن حقيقة أن الفكرة المجردة لم تحق حقا ولم تبطل باطلا، ولقد كان الأنبياء يُقْتلون ويُذبحون وهم يملكون الحق المطلق وهم خير البشر قاطبة، فيقتلهم ويبقى في الحكم شرار الناس وأراذلهم.

الوعي المطلوب والمراجعات المطلوبة هي التي تحاول فهم سنن الكون والبشر وطبيعة السياسة والاجتماع لنبصر بها أين أخطأنا وكيف نمتلك القوة وكيف نستعملها برشد وحكمة ونحوطها بقوة سياسية واقتصادية وإعلامية، لنغالب بها الذين قهرونا واحتلونا وأكلوا لحومنا وشربوا دماءنا وهرسوا أطفالنا وأذلوا بناتنا.. الوعي المطلوب هو وعي السنن، وليس تقديم التنازلات من ديننا على مذبح الحداثة الغربية لننال منها بعض الرضا ثم نأمل في أن تنعم على بلادنا بحرية كالتي عندهم!

وليت شعري، كيف يتوهم عاقل أن يمنح العدوُّ عدوَّه أداة استقلاله وتحرره؟! كأن الغرب صار يوزع حرية وإنسانية في السوق العالمي للأعمال الخيرية!! والعجيب أن القائل بهذا هو الذي منذ وُلِد لم ير من الغرب في بلادنا إلا كل شر وجريمة!

كنت أظن أن الله أنعم على هذه الأمة بحفظ كتابه من التحريف والتبديل على يد الأمم الأخرى، ولكني أعرف حق المعرفة أن نعمة الله العظمى كانت بأنه حفظ كتابه من التحريف والتبديل الذي سيرتكبه المنهزمون نفسيا من هذه الأمة نفسها، فإن أولئك هم أقرب الناس وأجدرهم بارتكاب هذا.. وأبرز دليل على هذا أن التوراة والإنجيل حرفهما اليهود والنصارى بأنفسهم لا أعداؤهم من الوثنيين أو عباد النار أو عباد البقر! (فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا). [راجع: القرآن المحفوظ دليل المقاومة]

ولأن القرآن محفوظ، والسنة محفوظة، وقد تَكَوَّن حولهما تراث إسلامي ضخم وعريق، فإن محاولات تقديم تنازلات فكرية ترضي الحداثة الغربية وموازين القوى تثير من المشكلات داخل البيئة الإسلامية، فما هو إلا أن يتحول المجدد من سياسي يرى في نفسه الدهاء والمناورة إلى متهم لدى الجميع، فالغربيون يريدون منه مزيدا من الأدلة على أنه معتدل يتخلى عن العنف وله موقف صلب من المتطرفين، والمسلمون من ناحية أخرى يرونه منفلتا ضائعا منحرفا.. فما هو إلا أن يتحول من سياسي يدير معركة سياسية مع النظم المستبدة ومراكز التأثير الغربية إلى مفكر إصلاحي يدير معركته مع المسلمين وشيوخهم وتاريخهم وتراثهم!! فلا انتصر في سياسة ولا بقي له الدين!

الخلاصة: لم يكن الحل أن نختار بين أيهما أولا: الحرية أم الشريعة. الحل أن نملك القدرة على الاختيار أصلا، وحين نملك هذه القدرة سننتزع ما نريد بقوة الإمكانية والقدرة لا لأن أحدا سيُنعم علينا بإعطائنا ما نريد.

سؤال الحرية والشريعة مجرد سؤال نظري، يمكن الثرثرة حوله طويلا.. لكن سؤال الواقع هو: ما الذي يجبرني على الدخول معك في تفاهمات أصلا؟


الأربعاء، أبريل 11، 2018

مواقف لا أنساها


في ثنايا المذكرات والسير الذاتية تكمن مواقف كاشفة، لا أحسب أنه يمكن فهمهم بدونها مهما طالت القراءة لهم، وكثيرا ما تتبدى في تلك المواقف تناقضات واختلافات مثيرة.. وكثيرا ما راودتني نفسي أن أجمع هذه المواقف التي أسمعها من بعض الشيوخ والعلماء والرموز، أو التي أقرؤها في مذكراتهم، متوقعا أن جمعها قد يتيح دليلا كاشفا للباحثين في التاريخ والباحثين في تراثهم.. ولعل هذا يكون إن شاء الله!

سأذكر في هذا المقال بعض المواقف التي لا أنساها منذ قرأت مذكرات الشيخ القرضاوي حفظه الله:

(1) الدعاة والتخطيط
قال القرضاوي عن التلمساني:

"قيل له يوما: لا بد لنا من خطة استراتيجية تستلهم الماضي وتعايش الحاضر وتستشرف المستقبل.

فقال: لا أرى أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى هذا كله، هل يحتاج قولك للناس: اتقوا الله واعملوا بإسلامكم إلى استراتيجية وخطة مستقبلية... إلخ

فقلت له: يا فضيلة الأستاذ، نحن لسنا مجرد وعاظ نذكر الناس بالله والدار الآخرة، نحن مع ذلك دعاة إصلاح للأمة وتجديد للدين ولنا أهداف كبيرة، نريد الوصول إليها، وهذه الأهداف تحتاج إلى وسائل متنوعة، وإلى مراحل محددة، تسلم كل مرحلة إلى الأخرى، كما علينا أن نحدد المفاهيم التي تلتبس على الناس، ونرد الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام، ونضع المفاهيم العلمية والدعوية والتربوية وغيرها اللازمة للنهوض بالأمة، والسير بالجماعة إلى الطريق الأقوم والسبيل الأوضح.

وهنا قال: أدعو الله يا شيخ يوسف أن يوفقكم فيما تصبون إليه"[1]. (انتهى الاقتباس)

كان الأستاذ التلمساني مثالا في الرقة والرقي وحسن الخلق، هذا مع صلابته الفولاذية، وأتذكر أني حين قرأت مذكراته "ذكريات لا مذكرات" دهشت للغاية منهما معا، من رقته وصلابته!.. كان رقيقا إلى الحد الذي يحتفظ فيه ببقايا ورقة مهترئة لأنها من خط البنا في رسالة إليه، وكان صلبا إلى الحد الذي أنه لما فُتِحت الزيارة في السجون لم يزد على أن صافح زوجته مصافحة باليد بعد السنوات الطويلة لكي لا يبدو منه ولا منها ما قد يُشمت بهما ضباط السجن!

(2) الطغاة والتخطيط

قال القرضاوي عن صدام حسين عند احتلاله الكويت:

"كان صدام قد مهد لذلك بمحاولة كسب الرأي العام العربي إلى صفه، فبدأ يتظاهر بأنه مع الإسلام، وأنه لم يعد متمسكا بأفكار البعث، وأضاف إلى علم العراق كلمة "الله أكبر". ودعا أكثر من مرة إلى مؤتمرات عنده، حشد فيها من علماء الدين من استطاع حشده من بلاد العرب والمسلمين، ليعلن أنه ليس ضد الدين.. بل هو ناصر الدين!

وفي آخر مؤتمر عقده شارك فيه عدد كبير من علماء الأمة منهم شيخنا الشيخ الغزالي، والشيخ عبد الله الأنصاري من قطر، وغيرهما. وقد حرص على أن يجتمع بالشيخ الغزالي قبل سفره اجتماعا خاصا طال لمدة ساعتين، وتأخرت الطائرة التي تقله حتى ينتهي الاجتماع. وقال الشيخ الغزالي: يبدو أن الرجل تغير، وسبحان مقلب القلوب! وعاد الشيخ الأنصاري يتحدث عنه وكأنه أحد أبطال الإسلام!

وكان أخونا الشيخ أحمد البزيع ياسين في الكويت من أكبر الدعاة لصدام، وكنت أختلف معه بشدة حين نلتقي في اجتماعات مجلس إدارة الهيئة الخيرية الإسلامية، وهو أمين الصندوق فيها، وكان يقول لي بثقة واعتزاز: إنه فحل العرب!

أحسب أنه كان -بهذه الأمور كلها- يهيئ النفسية العربية والذهنية العربية لما يريد أن يفعله.

وأحمد الله أني لم أشارك في شيء من هذا، وقد دعيت أكثر من مرة لمؤتمرات صدام، وألحَّ عليّ في الدعوة السفير العراقي في قطر، ولكني اعتذرت وأصررت على الاعتذار، وكانوا يقولون في العراق: هناك عالمان فقط لم يستجيبا لدعوة العراق أو دعوة صدام: أبو الحسن الندوي في الهند، ويوسف القرضاوي في قطر. وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس"[2]. (انتهى الاقتباس)

(3) الخلاصة

بين هذين الموقفين في مذكرات القرضاوي نحو مائتي صفحة، وبينهما في الواقع نحو عشرة أعوام، ولربما لم يكن القرضاوي وهو يروي الموقف الثاني يربط بينه وبين الموقف الأول، وهما موقفان –بغض النظر الآن عن شخوصهما- يكشفان لماذا ساد الثاني وأمثاله على مثل الأول وأمثاله!

هنا يستسهل الداعية ويحسب الدعوة أمرا بسيطا فطريا لا تحتاج إلى تخطيط وتدبير، وهنا يقسر الطاغية نفسه ويفعل ما هو خلاف طبعه، ويتنزل ويتنازل، ويتودد إلى أمثال من كان يعذبهم بالأمس أصغر ضابط من رجاله، وما ذلك إلا ليبلغ مراده ومقصوده.. ثم هو ينجح! ولسنا على الحقيقة نحتاج أن نتذكر مواقف قديمة، ونحن لدينا أمثال السيسي الذي خطط ودبر لخداع العلماء والدعاة في مصر حتى أنزل نفسه منهم منزلة الخادم الوضيع (والمواقف في هذا كثيرة تروى بالدموع الضاحكة أو الباكية)، حتى نسوا تاريخه ومكانه ووظيفته وقالوا: تغير أو حتى قالوا: مؤمن آل فرعون!



[1] مذكرات القرضاوي 4/342
[2] مذكرات القرضاوي 4/511، 512.

السبت، أبريل 07، 2018

اليهود وأمة الإسلام.. الأمس والغد


وصلنا إلى ختام سلسلة "اليهود بين أمة الإسلام والأمم الأخرى"، وقد عرضنا فيها بإيجاز واختصار سريع لأحوال اليهود في ظل الأمة الإسلامية عبر مختلف الأحقاب، وهو الموضوع الذي التزمنا فيه أن ننقل حصرا عن المستشرقين والمؤرخين الغربيين كي تكون الحجة أبلغ والشهادة أقوى. وقد بدأنا في المقال الأول حديثا عاما عن حظ اليهود من الحياة بين المسلمين مقارنة بحظهم منها لدى الأمم الأخرى وعن منهجنا في النقل، ثم تحدثنا في المقال الثاني عن اليهود في ظلال الخلافة الراشدة، وفي الثالث: عن اليهود في ظلال الدولة الأموية والعباسية، وفي الرابع: عن اليهود في الأندلس، وفي الخامس: عن اليهود في الدولة العثمانية.

ليس من أولئك الذين نقلنا عنهم أحد كانت له مصلحة في نفاق المسلمين أو تزوير التاريخ، إذ سائر هذه الكتب كتبت في عصر الاحتلال والهيمنة الغربية على بلادنا، بل هي كتبت كذلك في عصر صعود القوة اليهودية والصهيونية سواء قبل هرتزل وحتى ما بعد تأسيس إسرائيل. وإنما كان الأمر بحثا علميا بحتا، والواقع أن الأمم حين تكون في مواجهة مستعرة ومتكافئة مع عدوها تنحو الحالة الثقافية العامة بما فيها البيئة العلمية نحو التشويه والتخويف والتشنيع فتكون سلاحا في المعركة القائمة، بينما حين يهدأ غبار المعارك ويتحقق النصر الكامل ولا يبقى ثمة تخوف أو تهدد من العدو فإن البيئة العلمية تنحو إلى الدراسة الموضوعية للخصم بينما تُتْرك مهمة التشنيع والتخويف للأداة الإعلامية. والبيئة العلمية نفسها في بحوثها الموضوعية لا تنفك أيضا أن تكون سلاحا في المعركة، ذلك أنه يعتمد الدراسة الموضوعية بغرض الوصول إلى الحقائق التي تمهد له سبل السيطرة والهيمنة واكتشاف الثغرات. 
وتلك سيرة الاستشراق منذ بدأ، لقد بدأ في عصر التفوق الإسلامي والتهدد الوجودي الأوروبي فكان حالة عامة من الهياج والخوف والتشنيع والتشويه، ثم انتهى في عصر التفوق الغربي ليكون أداة علمية قوية وكاشفة تحاول فعلا سبر أغوار الأمة وفهمها عبر الدراسة العلمية الموضوعية الرصينة.

وخلاصة ما نختم به هذه السلسة أن نعيد التذكير بأن المسألة اليهودية في التاريخ الإسلامي فرع عن مسألة أهل الذمة بشكل عام، وهي المسألة المحاطة بنصوص الوحي وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بشأنها ما لا يمكن أن يوجد في قانون حماية أقليات لا في ذلك العصر ولا حتى في عصرنا هذا، وأهم من مجرد وجود النص أن يكون هذا النص نصا دينيا مقدسا، يطبقه المسلم وهو يتعبد لله به لا لمجرد تنفيذ قانون السلطة الذي لا يتمتع بالقدسية الدينية في ضمير من ينفذه مما يفتح الباب واسعا للتلاعب واستغلال الثغرات، ونحن في عصرنا هذا نرى ما يحدث للمسلمين في بلاد تُسوِّق لنفسها على أنها دولة مؤسسات وقانون راسخ وقضاء مستقل!

من هنا، كان القانون الإسلامي ذا خصوصية، حتى إنه يمكن إجمال تاريخ أهل الذمة كله تحت ظل الإسلام في قول المؤرخ والمستشرق الفرنسي إدوارد بروي:

"قلما عرف التاريخ، والحق يُقال، فتوحات كان لها، في المدى القريب، على الأهلين مثل هذا النزر الصغير من الاضطراب يحدثه الفتح العربي لهذه الأقطار. فمن لم يكن عربيا من الأهلين لم يشعر بأي اضطهاد قط. فاليهود والنصارى الذين هم أيضا من أهل الكتاب، حُقَّ لهم أن يتمتعوا بالتساهل وأن لا يُضاموا، والمطلوب من هؤلاء السكان أن يُظهروا الولاء للإسلام ويعترفوا بسيادته وسلطانه، وأن يؤدوا له الرسوم المترتبة على أهل الذمة تأديتها، والامتناع عن كل دعوة دينية لهم لدى المسلمين. وفي نطاق هذه التحفظات التي لم تكن لتؤثر كثيرا على الحياة العادية، تمتع الذميون بكافة حرياتهم"[1].

إلا أن عددا من الباحثين رأى أن اليهود تمتعوا بوضع خاص بين أهل الذمة طوال التاريخ الإسلامي، منهم المؤرخ الأمريكي اليهودي سالو و. بارون، الذي يوصف بأنه "أعظم مؤرخ يهودي في القرن العشرين"، الذي يقول: "في الحقيقة يبدو أن هنالك نوعا من الود لطبيعة اليهود في حضارة الإسلام. وبالرغم من تصنيفهم ضمن فئة الذميين غير المحببة، فواقع الأمر هو أن المراكز الأكثر ازدهارا للمجتمعات اليهودية، منذ نشوء الخلافة حتى إلغاء أحياء اليهود في أوروبا، قد تواجدت في البلاد الإسلامية: في العراق أثناء الحكم العباسي، وفي إسبانيا خلال فترة سيطرة البربر، وبعد ذلك في الإمبراطورية العثمانية"[2]. وهذه العبارة وحدها من مؤرخ كهذا كافية كدليل في موضوعنا هذا.

ولما انقلبت أحوال الأمة وأحوال اليهود، انقلب الحال، ورأينا منهم فعل من لم يرع فضلا ولا وفَّى جميلا، ولم نستغرب فقد قال الله تعالى (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)، وكيف نستغرب أن ينقض العهد معنا من نقض العهد مع الله، وكيف نرجو ودادا ممن قتلوا الأنبياء إن جاءوهم بما لا تهوى أنفسهم؟!

ولو عاد بنا الزمان لعدنا إلى سيرتنا الأولى ذاتها ولم نعاملهم بأخلاقهم، فإننا في الأولى وفي القادمة نرعى أمر ربنا ونحفظ وصية نبينا، فلا نندم على ما فعلنا ولا نعزم على تغيير ما قدمنا.. وذلك أيضا فارق بين من كان الإسلام منطلقه وبين من اتخذ له منطلقا آخر من قانون أو سياسة أو انتقام.

بقيت كلمة في شأن المستشرقين الذين تناولوا هذا الموضوع:

لقد أنصف بعض المستشرقين –كجوستاف لوبون وزيجريد هونكه وتوماس أرنولد- إذ عرضوا لتاريخ التعامل الإسلامي مع اليهود، بينما الغالبية استكبرت عن قول الحق واضحا فعرضت للموضوع بعبارات يكثر فيها الاستدراك والاستثناء والالتفاف والمناورة، ومع هذا عجز أغلب هؤلاء عن أن يكتموا حقيقة التاريخ فانتزعنا من كلامهم هذه الفقرات السابقة، ولا ننكر أن بعضا آخرين –كجوستاف جرونيباوم- بلغ من الإنكار والتلاعب بالصياغة ما عجزنا نحن معه على أن نأخذ شيئا واضحا صريحا، فلو أن المقام مقام مناظرة واحتجاج لكانت لنا وقفات تعليق وتعقيب وكشف للتناقض والمناورة والتلاعب، لكنه مقام استشهاد بالصريح من كلامهم، ولهذا أخذنا ممن أنصف وممن حاول الالتفاف والمخادعة، وتركنا الآخرين لمقام آخر إن شاء الله تعالى.



[1] إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "موسوعة تاريخ الحضارات العام"، بإشراف: موريس كروزيه، مرجع سابق، 3/116. باختصار.
[2] نقلا عن: هاملتون جب وهارولد باون، المجتمع الإسلامي والغرب، مرجع سابق، 2/310.