الأحد، سبتمبر 15، 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (18) بداية الانشقاق بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في أسيوط


مذكرات الشيخ رفاعي طه (18)

من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

بداية الانشقاق بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في أسيوط

·        لم يعترف الإخوان بنتيجة الانتخابات، فاستمر الأمير الذي عزلناه أميرا على شبابهم
·        شخصيتان اختلفتا مع الإخوان في السجن كان لهما الأثر الكبير على موقف أسامة حافظ من الإخوان
·        كانت للإخوان خطة نتيجة اتفاق مع نظام السادات لتهدئة الشباب، لكنهم لم يكونوا بالحصافة الكافية لتنفيذها، فصادموا الشباب بدلا من احتوائهم، ففشلوا!

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لقراءة الحلقات السابقة:

وهنا يجب أن أقول للحق وللأمانة التاريخية، أن هؤلاء الشباب الذين أسسوا فيما بعد "الجماعة الإسلامية المصرية" لم يكونوا حتى ذلك الوقت معرضين ولا مستنكفين تماما أن ينضموا للإخوان المسلمين، فمنهم كثير كانوا يحملون هذا الاستعداد، وأنا من بين هؤلاء، لم يكن لدي أي مانع أن أنضوي تحت لواء الإخوان المسلمين، وكنت أرى أن خلافنا مع الإخوان إنما هو خلاف في قضايا بسيطة، وأنهم هم الجماعة الأكبر والأقدم والأعرق، وأنهم أكثر خبرة، وأنهم علماء ونحن شباب، ويحسن بنا أن نتبعهم. ومع هذا فقد كنت أسير مع المجموع، مجموع الشباب الذين أسسوا العمل الإسلامي في الجامعة، وأرى أن وجودي بينهم هو التزام أخلاقي لا يليق خرقه، لم أفعل مثلما فعل محيي الدين عيسى وأبو العلا ماضي إذ تركوا هذا المجموع المؤسس وانضموا للإخوان المسلمين، كان الانضمام للإخوان ميل عندي وهوى في نفسي.

وبهذا يتبين لك أن هذا الطيف من الشباب لم يكن له موقف واحد من الإخوان، منهم من ترك هذا الجمع الشبابي وانضم للإخوان، ومنهم من كان هذا هواه في نفسه لكنه لم يفعل، ومنهم من لم يكن لينضم للإخوان أبدا، ومن هذا القسم الأخير كان أسامة حافظ.

وقد ذكرت آنفا أن أسامة كان متأثرا بصديقه عبد المتعال، المعيد في كلية الهندسة، والذي كان يحمل موقفا غاية في السلبية تجاه الإخوان، إذ كان قد سُجِن معهم سابقا ولعله كان منهم فوقع بينهم في السجن ما أحدث بينهما نفورا كبيرا، وكان عبد المتعال هذا صديقا مقربا من أسامة حافظ، وعنه أخذ أسامة هذا الموقف من الإخوان، وكان عبد المتعال أسنَّ منا، وكان ذا شهرة على مستوى أسيوط.

وقد تضافر مع تأثير عبد المتعال تأثير آخر، وهو تأثير الشيخ السويفي، وكان شيخا كبيرا في السن وفي العلم معا، وكان مشهورا في وقته كذلك إذ هو أحد الدعاة المعروفين في أسيوط، وكان مسجونا قديما مع الإخوان واختلف معهم داخل السجن فخرج مغاضبا لهم ونافرا منهم وله عليهم مؤاخذات شرعية أيضا، وقصته في الخلاف مع الإخوان قصة مؤلمة ورواها لي بنفسه، نسأل الله أن يرحمنا وإياه ويغفر لنا له ويجمعنا به في الجنة، لقد كان شديد النقد لكل التيارات الإسلامية الموجودة على الساحة ولا يكاد يسلم من لسانه أحد.

فمن هاهنا بُنِي موقف أسامة حافظ السلبي من الإخوان، ولأنه الشيخ أسامة حافظ شخصية محورية وزعامة بين شباب الجامعة فقد استطاع أن يقلب موقف مجموع الشباب ضد الإخوان، وبغض النظر عن حادثة أسامة السيد في ذاتها، أو لنقل: إن حادثة أسامة السيد كانت هي التي فجرت المخزون الرابض في النفوس. كان الأمر أشبه بالحاجز النفسي لكنه ليس حاجزا من الهوى بل هو حاجز مبني أو ملتبس بالمؤاخذات الشرعية على الإخوان.

أتصور لو كانت جماعة الإخوان أكثر حصافة في هذه المرحلة لكانت قد تمكنت من احتوائنا، الواقع أيضا أنهم أخفقوا في هذا، إن أحد أهم عناصر فشل جماعة الإخوان في هذه المرحلة أنهم فشلوا في احتواء شباب الجامعات المصرية، كان لديهم اتفاق مع النظام في هذه المرحلة أن يعملوا على تهدئة الطلاب وأن يكبحوا اندفاعتهم في وجه السادات والنظام، ولذلك فقد عملوا على هذا إلا أنهم نفذوه بطريقة استفزازية وغير احترافية، فبدلا من أن يستوعب الحالة صار يصادمها، كذلك فإن أمن الدولة في تلك المرحلة وحتى السياسيين بمن فيهم السادات لم يكونوا يدركون نفسية أبناء الحركة الإسلامية بصفة عامة، أو المخلصين منهم على وجه الخصوص، وفي تقديري أن المخلصين هم الذين يسهل احتواؤهم شرط ألا تصادمهم، فلو استمر السادات أكثر في مسرحية "العلم والإيمان" التي ابتدأها، واهتم بإتقان أدائها، لكان قد وجد له كثيرا من الشباب يحبونه ويدافعون عنه، ويقفون وراءه، ذلك أن الشباب يحتاج الإسلام.. يحتاج الدين، فهذا الشباب يرى زعيما يتكلم عن الدين والإسلام، لكن ينقصه أن يعمل كذا أو يعمل كذا.. لو أن السادات زاد في تمثيل هذا الدور لكان بإمكانه أن يحتوي هذه الطاقة الشبابية.

لكن اللغة الصدامية لا تصلح مع الشباب، فإذا أردت احتواء شاب لا يمكن أن يكون بداية هذا أن تصادمه، بل أن تعطيه قدره، وتثني عليه، فيكون هذا أول سبيل احتوائه.

أعود إلى خطبة تنحي أسامة السيد، تلك التي أدركتها من يوم المعسكر، وقد ذكرت أنها كانت عاطفية مؤثرة، وكان يلوم ويعاتب، ويقول بأن عزله هذا غير شرعي وغير صحيح، وأنه لم يزل الأمير الشرعي للجماعة الإسلامية في الجامعة، وهذا العزل وهذه الانتخابات كلها خطأ، وقال: وأنا أشكوكم إلى الله عز وجل، وسنلتقي بين يديه يوم القيامة... إلى آخر هذا الكلام.

ذهبت إليه زائرا في بيته، وسألته: ما الذي حصل يا شيخ أسامة؟

فشرع يقصّ علي قصة الخلاف من وجهة نظره، وأن المسألة قديمة في أصلها وليست حقيقتها ما يقال من أنه يعود إلى قيادة الإخوان، وأن شباب الجماعة الإسلامية لم يكونوا يرونه مؤهلا أصلا ليكون أميرهم منذ اليوم الأول، وأنه وباعتباره الأمير الذي أوكل إليه الأمر له الحق في تقدير ما الذي ينبغي أن يعود فيه للإخوان الكبار، وأن الخلاف معه على هذا ثم عزله بناء على ذلك أمر غير شرعي ولا يجوز.

قلت له: أنت تعرف يا أخ أسامة أن الإخوة الشباب الإسلامي في الجامعة ليسوا كلهم من الإخوان المسلمين، ومن ثم كان المفترض أن تتعامل مع الناس وفق هذا الاعتبار، فتفرق بين الذين لا ينتمون للإخوان والذين ينتمون إليهم، فإذا أردت أن تدخلني إلى الإخوان فاعرض عليّ الأمر بشكل طبيعي عادي: تعرفني بالإخوان وتعرض علي أن أعمل معهم جنديا بينهم، فإما أن أقبل وإما أن أرفض، فإذا قبلنا صرنا جميعا في الإخوان وإلا بقينا خارج الجماعة وروعي هذا في التعامل، لا أن يكون السبيل هو إدخالنا بنوع من المراوغة والخديعة ضمن الإخوان، وجعلنا تابعين لهم سواء رضينا عن هذا أو لم نرض!

على كل حال تركت المقابلة عندي انطباعا حسنا عن شخصه، وأشفقت عليه مما رأيت من حزنه وغضبه، وقلت له: سواء أكنت أمير الجماعة أو لم تكن فنحن وإياك ننصر الحق والدين والإسلام، وجماعة الإخوان جماعة مقدرة لها اعتبارها، وأنت أخونا وإن كنا أكبر منك سنا، ولك أن تطلب منا ما تشاء ونحن تحت أمرك، وأنا شخصيًّا سأتواصل معك كثيرا، ولا تؤاخذ إخوانك وسامحهم، فإنهم إذا أخطؤوا فإنما ذلك عن اجتهاد، فلنتسامح ولنتغافر.. وظللت أقول كلاما من هذا القبيل.

كانت زيارتي هذه وكلامي له أمر صدق ليس من قبيل المجاملة أو المداهنة أو حتى المراوغة السياسية، أبدا، إنما يلازمني في هذا الجانب الأخلاقي والإنساني في مثل هذه الأمور، فلقد بكيت لدى سماعي خطبته وتأثرت حقا، ثم كنت في زيارته هذه متأثرا به حقا وشفوقا عليه ومحبا له. هذا وأنا في نفس الوقت من أنصار الشيخ أسامة حافظ، ومن أشد المؤيدين لموقف عزل أسامة السيد، ومن المقتنعين تماما بأن العمل الإسلامي في الجامعة يجب أن يدار من داخلها لا من خارجها، وأن الجامعة يجب أن تكون مستقلة، وكان أول من رفع شعار "الجامعة تدار من داخلها" هو أسامة حافظ.

نستطيع أن نؤرخ بهذا المعسكر الذي عزل فيه أسامة السيد لحالة الانشقاق والانفصال بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية، هنا ظهر بوضوح أن ثمة كيانيْن إسلامييْن من الشباب في الجامعة، والفارق بينهما واضح.

لم يُسَلِّم الإخوان بأمر عزل أسامة السيد وتنصيب ناجح إبراهيم أميرا، فاستمر أسامة السيد أميرا للشباب الإسلامي التابع للإخوان المسلمين بجامعة أسيوط، وصار ناجح إبراهيم أميرا لشباب الجماعة الإسلامية في أسيوط، غير أننا (شباب الجماعة الإسلامية) كنا الأكثر عددا وانتشارا وتأثيرا، فلم يكن الانشقاق معبرا عن نصفين أو فريقين متكافئين، بل لم تزل الجماعة الإسلامية هي صاحبة الصوت الإسلامي في الجامعة، والأمير هو ناجح إبراهيم قولا واحدا، لكن الذي صار معروفا أن شباب الجماعة الإسلامية شيء وشباب الإخوان شيء آخر، لا هؤلاء يتبعون لأولئك ولا أولئك يتبعون لهؤلاء.

مثلا، لم يكن للإخوان من أمراء الكليات إلا أسامة السيد أمير كلية الطب، وأحمد كمال أمير كلية العلوم والبقية معنا، اثنان فقط في كل جامعة أسيوط! ولذلك منعناهم من الحديث أو إصدار بيانات باسم الجماعة الإسلامية، إذ كانت هذه البيانات تعبر عنا نحن.

وهذا التمايز لم يكن أيضا يعبر عن كيانيْن لكل منهما فكر مخالف للآخر، فلم نكن نحن في الجماعة الإسلامية نحمل فكرا مناقضا للإخوان، إنما هو تمايز يعرف به أن "الجماعة الإسلامية" ليسوا من الإخوان المسلمين.

حاولت فيما بعد القيام بخطوة توفق وتقرب بين الجانبين، واقترح أسامة حافظ أن نقسم معسكرا عاما نجمع فيه كل إخوة الجامعة من كان منهم من الإخوان أو من كان منهم خارج الإخوان، كأنه معسكر تصالحي، ثم اختاروني لمسؤولية هذا المعسكر على اعتباري الشخصية التصالحية التي تربط بين الضفتين!

حضر الشباب من الكيانين: الإخوان والجماعة الإسلامية، وكان المعسكر سبع مجموعات، وحضره أسامة السيد ومعه أخ آخر اسمه أحمد زياد، وتولى كلا منهما مسؤولية مجموعة، وكان مجلس شورى المعسكر يتكون من أمراء المجموعات السبعة، وبهذا كان أسامة السيد وأحمد زياد ضمن هذا المجلس، وذكرت لهم في اجتماع مجلس الشورى أنه يجب أن نعمل في الجامعة كيد واحدة، وألا تفرق بيننا الانتماءات، هذا إخوان وهذا جماعة إسلامية، واخترنا موضوعات المعسكر للتأليف بين الكيانيْن: الإخوان والجماعة الإسلامية، كما اخترناها بحيث نبتعد تماما عن ذكر الخلاف أو ذكر الجماعتين لا بخير ولا بشر، فنقتصر على الموضوعات الشرعية والمعاني الروحية والأخلاقية، وخططنا ليأتي نصف الدعاة الذي سيحاضرون في المعسكر من الإخوان ونصفهم الآخر من خارج الإخوان.

لكن ومع ذلك فقد وقع المحظور..

وهذا ما نتناوله إن شاء الله في الحلقة القادمة.

نشر في مجلة كلمة حق 

نحو موسوعة "من غُمِط حقهم ونُسِيَ ذكرهم"


لا أحسب أحدا يكثر القراءة في التاريخ والتراث إلا ويطوف برأسه فكرة إخراج كتاب أو سلسلة عن عظماء يلقاهم بين السطور ويعرف أسماءهم لأول مرة، ثم يدهش وهو يرى جليل آثارهم أو ثناء الأئمة الكبار عليهم.

فمن ذلك على سبيل المثال الإمام محمد بن نصر المروزي، هذا الاسم الذي يكاد يكون مجهولا للعامة والخاصة في عصرنا هذا قال فيه ابن حزم: "أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن، وأضبطهم لها، وأذكرهم لمعانيها، وأدراهم بصحتها، وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه. (ثم) قال: وما نعلم هذه الصفة -بعد الصحابة- أتم منها في محمد بن نصر المروزي، فلو قال قائل: ليس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر لما أبعد عن الصدق". وعقب الذهبي على هذه الكلمة الهائلة بالقول "هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزم لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيف لابن نصر" (سير أعلام النبلاء 14/40 ط الرسالة). 

هذا وابن حزم إمام ضخم واسع المعرفة غزير العلم موسوعي التآليف، مشهور بدقته وضبطه، معروف بشدته وصرامته وحدَّته بل وقسوة أحكامه التي جعلت كثيرين ينقدونه عليها، فمثل هذا القول منه قول كبير. 

ثم هذا الذهبي، وهو علامة من علامات الإنصاف التاريخي وقدوة في اعتدال أحكامه، قد يتوقع المرء أن يعقب على هذه المقالة بما يخفضها، إلا أنه يعقب عليها بما يؤكدها! ثم نقول هذا مجرد مثال.

وقد بدأ هذا الأمر عندي قبل أكثر من عشر سنوات، وعزمت مع صديق على إخراج سلسلة عن "العظماء المجهولين في التاريخ الإسلامي"، وصدر الكتاب الأول منها عن قائد الأسطول العثماني وعالم الجغرافيا البحرية (الكارتوغرافيا) محيي الدين بيري ريس والذي يكاد يكون مجهولا تماما في العالم العربي رغم معاركه البحرية في السويس وخليج عدن والخليج العربي مع البرتغاليين، أي أنه من أهم الأبطال التاريخيين الذين دافعوا عن سواحل العرب أن تكون برتغالية كما صارت سواحل أمريكا اللاتينية! غير أن ما جرى من الأحداث في مصر عطَّل استمرار السلسلة.

وقبل محيي الدين بيري ريس عمُّه كمال ريس الذي قاد الأسطول العثماني في البحر المتوسط، والذي يُعتبر أبرز شخصية بحرية في ذلك العصر، حتى إن المؤرخ الشهير جوزيف فون هامر –وهو صاحب أوسع كتاب تاريخي عن الدولة العثمانية وإلى وقت طويل بعده- يعتبر أن كمال ريس هو تجسيد الرعب الذي كان يغزو قلوب الأساطيل المسيحية في البحر المتوسط، ولقد كان كمال ريس صاحب يدٍ عليا في إنقاذ الأندلسيين وفي دعم ثوراتهم التي كانت بعد سقوط غرناطة، ولذلك فإن شذرات أخباره تلتمس في تاريخ الموريسكيين أكثر من أن تلتمس في تاريخ العثمانيين، على الأقل باللغة العربية.

وقبل نحو سبع سنين، وبينما أعدّ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" (3 مجلدات) سجلت على هامش الأوراق العديد من الأسماء التي تغري بمزيد من البحث عنها، من تلك الأسماء جعفر بن حنظلة البهراني، وهو رجل سياسة وحرب معا، وذكر اسمه في قيادات الجيوش لأكثر من ربع قرن مع الأمويين والعباسيين (119 – 146هـ)، وكان من الكفاءة السياسية بحيث أنه كان واليا في دولة بني أمية ثم مستشارا مقربا من أبي جعفر المنصور في صدر دولة بني العباس، ولعله لذلك لم يتوهج اسمه كما توهجت أسماء المنصور وأبي مسلم الخراساني، فهو من عينة الأكفاء الذين لا تستغني عنهم السلطة وإن وجدتهم في أروقة قصور أعدائها. وكان لجعفر نصائحه السديدة للمنصور في الثورات التي اشتعلت ضده كثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم بل هو الذي أشار بخطط مواجهة هاتين الثورتين، وتوقع مركز اندلاعها في البصرة قبل أن تحدث!

وفي ذلك الكتاب أيضا –أعني: رحلة الخلافة العباسية- لفت نظري اسم القائد البحري المسلم "غلام زرافة"، وبالبحث والتنقيب خلف سيرته، واستخراجها بعد اعتصار شذرات الأخبار القليلة عنه، نرى أن هذا البحار الكبير هو نفسه المعروف في مصادر تاريخية أخرى باسم "رشيق الوردامي" وهو نفسه المعروف في التواريخ الأوروبية باسم ليو الطرابلسي، وترجع شهرته إلى أن له غزوتين بحريتين كبيرتين هاجم فيهما مدينة أنطالية (التي تقع في تركيا الآن) ومدينة سالونيك (التي تقع في اليونان الآن) وكانت هذه الأخيرة ثاني أحصن المدن البيزنطية بعد القسطنطينية، وكان فتحها عملا مدويا في تاريخ القرون الوسطى، ويمثل ما يشبه المعجزة الحربية، ويعود الفضل في استخراج سيرته وبنائها للمؤرخين الكبيرين: محمد عبد الله عنان وعمر عبد السلام تدمري، وقد وصفه الأول بأنه "أعظم بحار في ذلك العصر، وأعظم بحار مسلم على الإطلاق" وأفرد له مبحثا في كتابه «مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام»، والمؤرخ عنان من كبار المؤرخين وممن لا يعرف عنه المبالغة!

أحسب أنه لو أطلقت مؤسسة علمية مؤتمرا بحثيا سنويا عن هؤلاء الكبار المجهولين الذين كان لهم أثر من علم أو حكمة أو سياسة أو حرب أو غير ذلك من المواهب، لاجتمع لها عدد ضخم من الأوارق البحثية، فليس ثمة مهتم بالتاريخ إلا وفي أرشيف أوراقه بحوث مكتملة أو شبه مكتملة أو بذور بحوث عن شخصية تلفت الأنظار على حافة نهر تاريخنا الثري الكبير، ومثل هذه البحوث لو لم يستخرجها مؤتمر أو عمل موسوعي فالأغلب أنها ستموت مع أصحابها، كما أن بعض الشذرات عند البعض ستكملها شذرات أخرى عند البعض الآخر، فقد ينتج عن هذا اكتشافات مدهشة في تاريخنا.

ومن قرأ مقدمة شيخ العربية محمود شاكر لكتاب المتنبي عرف شيئا من هذا، فقد استنتج شاكر بتذوق شعر المتنبي أنه كان يحب خولة أخت سيف الدولة لكنه ظل يتحرق بحثا عن دليل آخر غير التذوق، وقد حصل أكثر من موقف وجد له أحدهم دليلا إلا أنه لم يجد الفرصة التي يفضي كل منهم بما عرفه لصاحبه، فمات الجميع وضاعت الأدلة!

فهل نطمع في مؤتمر سنوي لمؤسسة من المؤسسات العلمية العديدة في عالمنا الإسلامي لإحياء سير المجهولين الكبار؟! أم هل يحدونا الأمل لكي تحمل واحدة منها عبء إخراج هذه الموسوعة الطريفة الظريفة المدهشة عن المجهولين؟!



السبت، سبتمبر 07، 2019

حوار عن التاريخ وإشكالياته، وواقع الأمة - مع مجلة "حضارة"



ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٣‏ أشخاص‏، و‏‏‏حشد‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏‏

نشر هذا الشهر العدد 22 من مجلة "حضارة" التي تصدر في عمّان، وفيه حوار لي عن التاريخ وإشكالياته وعن واقع الأمة.. أرجو أن يكون مفيدا

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏محمد إلهامي‏‏، و‏‏يبتسم‏، و‏‏نص‏‏‏‏


1. من يكتب التاريخ؟ المنتصر أم المنكسر؟

التاريخ هو رواية إنسانية للوقائع، وهذه الرواية تنتج متأثرة بالبيئة والواقع وعلاقات القوى المسيطرة عليه، وهذا معنى "التاريخ يكتبة المنتصر" لأن السلطة حريصة دائما على إنتاج المعرفة والأفكار، ومن هذا الحرص: إنتاج روايتها للتاريخ التي تدعم شرعيتها وأفكارها وقيمها وغاياتها. لذلك فكلما ابتعدت الفترة المدروسة عن تسجيلها كلما كانت كتابتها أفضل لخفوت تأثير القوى المسيطرة والكشف عن روايات ووثائق أرادت لها السلطة أو شبكات القوى أن تختفي، ولهذا ترى مدارس تاريخية أخرى أن التاريخ ينتصر على السلطة في نهاية الأمر، لأنه يمكن دائما استخلاص التاريخ الذي شاءت السلطة تغيبه. وتشكلت منذ نحو القرن مدارس تاريخية تهتم بكتابة التاريخ من وجهة نظر المغلوبين، وتحرص على التاريخ الشفوي، وعلى تتبع روايات المُهَمَّشين.

2. مع انتشار وسائل التواصل والمنصات الإعلامية هل يستطيع الخاسر كتابة التاريخ؟

بقدر ما بقيت وسائل التواصل وسيلة شعبية حرة مفتوحة بقدر ما أمكن للمغلوبين أن يسجلوا عليها روايتهم للتاريخ، لكن للأسف ليس هذا هو الواقع دائما، فوسائل التواصل نفسها هي من أدوات هيمنة الغالب، ونحن في هذا العالم المعاصر لدينا غالب عالمي وهو القوى الغربية وفي ذروتها الأمريكية، وهذا فضلا عن الغالب المحلي الإقليمي الذي وصل إلى السلطة عموما بدعم وإسناد هذا الغالب العالمي. ومن هنا فإن شبكات التواصل جزء من المنظومة العالمية الخاضعة لقوانينها فهي تمارس مكافحة "الإرهاب" وتستعمل للقضاء على "التطرف"، وتفسير هذه الألفاظ هو بطبيعة الحال من احتكار الطرف القوي الغالب، ولهذا تعمل وسائل التواصل نفسها كأداة في تتبع وإغلاق الصفحات والحسابات التي تنشر ما لا يتفق مع "القوانين" التي وضعها هذا الغالب.

ومن جهة أخرى، فإن وسائل التواصل أيضا تهتم بجني الأرباح، ومن هنا فإن قوة المركز المالي مؤثرة في القدرة على نشر الرسالة الإعلامية عبر وسائل التواصل، فمن يملكون الأموال يستطيعون أن ينشروا رسالتهم بقوة وانتشار أكبر بكثير ممن لا يملكون هذه الأموال، بل يمكنهم تنظيم الحملات التبليغية على خصومهم من خلال توظيف عاملين لمراقبة ومتابعة ومهاجمة أولئك الخصوم على وسائل التواصل الاجتماعي. وبهذا الشكل لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة محايدة أو حرة أو متاحة للجميع بنفس القدر، وصارت رواية الغالب المنتصر ذي القوة والمال أكثر رواجا عليها أيضا.

3. ما المنهجية المعتمدة في دراسة التاريخ؟ ما المقدمات الواجب استيعابها قبل البدء بالسرديات التاريخية؟

ربما يستغرب الكثيرون إذا قلنا بأن ما وضعه علماء الحديث من القواعد هو أقوى وأمتن ما يمكن أن يوضع في التحقيق التاريخي، فهم تتبعوا كل رواية من حيث سندها ومتنها، ثم تتبعوا كل سند من حيث اتصاله وانقطاعه، ومن حيث حفظ وإتقان رجاله، وتتبعوا كل متن من حيث اتفاقه واختلافه مع الروايات الأخرى، ووصلوا إلى مستوى من الدقة في حفظ السنة ما قيل عنه بحق أنه لو طُبِّق على التاريخ الإنساني لم يبق ثمة تاريخ!

إلا أن قواعد هذا العلم وأصوله ترسم المنهج العام لقراءة التاريخ، مع تساهل في مسائل السند واتصاله ورجاله، ويمكن فهم التاريخ كأقرب ما هو إلى الواقع إن تتبعنا روايات المؤرخين وفهمناها ضمن موقعهم من الحدث قربا وبعدا في الزمان والمكان، وضمن موقفهم واتجاهاتهم الفكرية التي يفسرون بها الأحداث، وضمن قيمتهم من الصدق والأمانة والدقة. ويسبق هذا كله الدأب في جمع الروايات التاريخية من مصادرها ومظانها المتعددة، فكل ما يتعلق بالحدث قد يضيف إليه بعدا في فهمه وتفسيره لم يكن متاحا بدونه.      

4. هناك تفسير مادي للتاريخ ويقابله تفسير إسلامي للتاريخ؟ هل يمكننا الولوج الى منطقة محايدة أو ما تسمى بالموضوعية في قراءة التاريخ؟

هذا سؤال مهم، لأنه يخلط بين أمرين يجب الفصل بينهما:

الموضوعية شيء، وتفسير التاريخ شيء آخر، الموضوعية هي محاولة تكوين الصورة التاريخية نفسها والوصول لأقرب وصف ممكن من حقيقة ما حدث في الواقع، بحيث تكون وسائل تكوين هذه الصورة وسائل علمية منهجية لا يتدخل الهوى والانحياز في بنائها.

أما التفسير فشيء آخر، التفسير هو رؤية المؤرخ لمعاني ودلالات ودوافع وآثار هذا الحدث التاريخي، هذا التفسير هو عمل إنساني كامل، لا يمكن فصله عن أفكار المؤرخ وانحيازاته ورؤاه، وطالما أن المؤرخ يقوم بعمله البنائي بشكل منهجي سليم فلا يمكن لومه على التفسير الذي وصل إليه مهما كان مختلطا بأفكاره وانحيازاته.

لكن المعضلة الحقيقية التي تبرز عمليا هو أن المؤرخين يروون التاريخ وقد اختلط فيه بناء الصورة التاريخية بتفسيراتهم وانحيازاتهم، وهذا هو ميدان الفحص والدراسة، بمعنى أن عمل المؤرخين جميعا هو محاولة الفصل بين الحدث التاريخي وبين تفسير المؤرخ له، ومحاولة اختبار مدى صحة ودقية وقيمة هذا التفسير.

ولكي نضرب مثالا يتضح به المقال، لنفترض أن لدينا معركة وقعت بين طرفين، فمجال الموضوعية هنا أن نصل إلى أفضل وصف لهذه المعركة كما حدثت، وهذا عمل علمي منهجي يكاد أن يكون محايدا. أما مجال التفسير فهو أن يُنظَر في الدوافع التي أدت لنشوب هذه المعركة، هنا سينحاز المؤرخ إلى أفكاره، فتجد أن الماركسي يبحث ويفسر في الصراع الطبقي والدافع الاقتصادي بين الطرفين بينما يبحث المؤرخ القومي في صراع الأجناس العليا والدنيا، بينما يبحث المؤرخ الديني في الدوافع الدينية التي أشعلت الصراع بينهما.. فهذا هو التفسير الذي هو جزء من الفلسفة ومن التصور العام الذي يعتنقه المؤرخ.

التاريخ ليس سائلا إلى الحد الذي تصلح له كل التفاسير بطبيعة الحال، وتظل هناك تفاسير خاطئة ومتكلفة ومتعسفة كما هناك تفاسير صحيحة وقوية.. لكن القصد الذي أريد بيانه هنا هو الفصل بين مسألة الموضوعية ومسألة التفسير.

نحن كمسلمون حين نعتنق التفسير الإسلامي للتاريخ فلا يعني هذا مساسا بالموضوعية، بل الموضوعية من الواجبات على المؤرخ المسلم لأنها من ضرورات التزامه بالمنهج الإسلامي في البحث والتفسير، فأول خطوات التفسير الصحيح الذي هو نفسه التفسير الإسلامي عندنا أن نصل إلى حقائق المعلومات، وقد وصف الله هذا المنهج في قوله تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). ففي هذه الآية نركز على قوله تعالى (ما كان حديثا يُفترى) أي أن الصحة والدقة في وقائع التاريخ هي التي يؤخذ منها العبرة والعظة، فالموضوعية في البحث والنظر وتكوين الصورة التاريخية من أصول المنهج الإسلامي في فهم وتفسير التاريخ.  

5. السؤال التقليدي هل التاريخ يعيد نفسه؟ كيف تنظر الى هذه المقولة وهل التاريخ يعيد الأحداث أم الأشخاص أم كليهما معًا؟

نعم، وهذه المقولة موجودة في كتاب ربنا في قوله تعالى (ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا)، فلقد أخبرنا الله أن له سننا مضطردة في الكون، وهذا هو نفسه معنى التكرار والإعادة، ولو أن التاريخ مجرد نهر يجري لا يتشابه لما كان منه استفادة، ولكن حيث أُمِرْنا بالنظر فيه والاعتبار منه فقد دلَّ هذا على أنه يتكرر ويتشابه.

وأجد من السذاجة والتفاهة هنا أن نقضي وقتا في نفي أن الذي يتكرر هي الأشخاص والأحداث بحذافيرها، فالمعلوم أن الميت لا يعود للحياة من الأشخاص أو الأحداث، إنما الذي يتكرر هو هذه السنن نفسها.. ولهذا فمن أدق وألطف ما في الرواية القرآنية والنبوية للتاريخ أنه لا يتوقف عند التفاصيل الصغيرة، لن تعرف اسم كلب أصحاب الكهف ولا الزمن الدقيق للسنوات التي قضوها، ولا التحديد الدقيق لمكان الكهف ولا اسم الملك الجبار... إلخ! وهذه إشارات إلى أن المهم من التاريخ هو فهم السنن لا حفظ ولا تكويم الأسماء والتواريخ والتفاصيل الصغيرة.

السنن هي التي تتكرر، ولهذا فالتاريخ صورة لما نحب وما نكره، وهو تمهيد لنا لاختياراتنا القادمة، بحلوها ومرها، مآسيها ومفاخرها، والجهل بالتاريخ شبيه بفقدان الذاكرة، والفارق بين أمة تهتم بالتاريخ وأمة لا تهتم به هو أضعاف أضعاف الفارق بين سليم الذاكرة وفاقدها.

6. يقال إن التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله يلقي عليهم نظرة ويمر...  برأيك هل أنصف التاريخ أبطاله وضحاياه، أم أنه غير معني بالطرفين.

الحديث عن التاريخ كأنه شخصية عاقلة لها إرادة وتدبير هو من التأثر بالرؤية الغربية التي تهوى أحيانا أن تعبر عن الحياة كلعبة عبثية كبرى، مثل هذه الرؤية هي التي يُمكن أن يصدر عنها مثل هذه الأقوال أو التصويرات الدرامية!

التاريخ هو سيرة البشر، بتفاعلاتهم المتعددة، والأبطال والضحايا هم على السواء سائرون إلى ربهم وهو يحاسبهم، فغمسة واحدة في الجنة كفيلة بإذهاب ألم الضحية إن كان من أهل الجنة، وغمسة واحدة في النار كفيلة بإذهاب نعيم البطل إن كان من أهل النار. وليس من اللازم أن ينصف التاريخ الأبطال أو الضحايا، قد يحدث هذا وقد لا يحدث.. لأن الإنصاف والعدل أمر خارج التاريخ وخارج البشر، هو أمر موكول إلى الله تعالى ومؤجل إلى يوم القيامة.

لكن المهم هنا والذي ربما يقصد السؤال إليه، هو أن التاريخ فوق قدرة البشر على صناعته وتغييره وتزويره، إذ مهما بلغ إنسان من القوة والطغيان والنفوذ فإن آخر ما يستطيع فعله هو فرض روايته التاريخية لمدة ما، فإذا انتهى ثم انتهت دولته وسطوته انبعث من يعيد بناء تاريخه من جديد. ضرب الله مثلا بفرعون كأطغى البشر، وهو مع ذلك يُلْعن صبحا وعشيا. وقبل أيام قليلة أزيل تمثال كريستوفر كولومبوس من نيويورك بعد تصاعد المطالبات بذلك لكونه لم يكن مكتشفا وإنما سفاحا في سلوكه مع السكان الأصليين لأمريكا، وهي لحظة فارقة لإزالة التعظيم المتعلق بكولومبوس على المستوى الشعبي من بعد ما زال هذا التعظيم قديما على المستوى البحثي الأكاديمي. إلا أن الذي ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن أحدا لا يملك إنصاف ضحايا كولومبوس الآن، بل ولا كانت إزالة تمثاله تمثل العدالة تجاهه، تبقى هذه الأمور –كما قلنا- موكولة إلى الله ومؤجلة إلى يوم القيامة.

7. كقارئ للتاريخ ماذا تعني لك بغداد تاريخا وحاضرا؟

بغداد لها رنين لذيذ في قلب كل مسلم، بل في قلب كل إنسان يحب الإنسانية والعلم والثقافة والحضارة، حتى على مستوى اللغة، ارتداد الدال في كلمة بغداد له قوة وجمال لغوي محبوب، وأحلى من ذلك اسمها التي سماها به المسلمون "دار السلام".

وكنت حين كتبتُ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" أتعايش مع بغداد أحيانا حتى أعبر الزمان وأتصورني أسير في دروبها، وأشهد مجالس العلم والشعر والأدب في ساحات المساجد والبيوت والمدارس، وحين طرق سمعي بيتا القاضي عبد الوهاب:

بغداد دار لأهل المال طيبة .. وللمساكين دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها .. كأنني مصحف في بيت زنديق

أقول: حين سمعت هذين البيتيْن لم يلفت نظري هذا التشبيه العجيب الذي شدَّ أهل اللغة بقدر ما لفت نظري ما كانت بغداد تحياه من الرفاهية والطيب حتى إن الفقير فيها كالمصحف في بيت الزنديق، أي هو شيء شاذ وغريب عن الصورة.

وكنت أشعر بالأنس لا سيما حين سمعت قول الشافعي، وهو صاحب أسفار، بأنه لم ينزل بلدا إلا ورأى نفسه غريبا إلا بغداد فإنه حين ينزلها يأنس إليها فتكون داره.

يضيق الكلام عن بغداد في الكتب والمجلدات، فكيف يمكن جمع ذلك في إجابة سؤال، وحين أحاول تقريب هذه الصورة لبعض الناس أقول لهم: إن بغداد كانت في زمانها عاصمة المال والتجارة والثقافة والسياسة والعمارة، فكأنها الآن مجموع واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وروما، فما انفردت به كل عاصمة في عصرنا كان مجتمعا في بغداد في عصرها.

8. كيف تنظر لاحتلال بغداد عام 2003 في سلسلة الهجمات التي استهدفتها على مر الدهور؟

إذا استوعبنا الصراع الحضاري الطويل بين الحق والباطل، سنعرف ببساطة أن بغداد تمثل ثأرا في نفوس كل من يبغض الإسلام. هذه المدينة حكمت العالم الإسلامي شرقا وغربا، كانت تعبيرا عن عز الإسلام وقوته، إليها حضر السفراء خاضعون، ومنها خرجت الجيوش، كما خرجت منها المخترعات والعجائب، يكفي أن نقول كدليل على خود مكانتها أنها التي تكون فيها ثلاثة من مذاهب المسلمين الفقهية الأربعة المتبوعة: الحنفي والشافعي والحنبلي، وفيها تكونت مذاهب المتكلمين الكبرى، وكانت محافلها العلمية مصنعا لمدارس وروائع الأدب التي لا تزال حية.

مثل هذه المدينة كانت مطمعا لأعداء الإسلام من الروم البيزنطيين قبل ألف سنة وحتى ورثتهم الأمريكان اليوم، وهي حتى الآن معقد استراتيجي عظيم بين العرب وبقية المسلمين في شرق العالم الإسلامي، وتقع على رأس جزيرة العرب فهي مدخل الحرمين الشريفين، وهي التي اجتمع فيها الحسنيان: النفط والماء!

فمع أنها تعرضت للضعف في القرون الأخيرة إلا أنها لا تزال من أهم حواضر المسلمين، ولذلك لم يخفت فيها طمع أعداء هذه الأمة منذ أن وُجِدت بغداد وحتى الآن.

9. ما المنهجية المعتمدة لديكم في قراءة التاريخ الحديث والمعاصر؟

المعضلة الأساسية في التاريخ الحديث والمعاصر للأمة الإسلامية أن مادته الأساسية المفصلة لا تزال بيد الأعداء، وأعني بها الوثائق وتقارير السفارات الأجنبية، كما أن أكثر وسائل إنتاجه كالمدارس والجامعات ووسائل الإعلام كانت تحتكرها السلطة الغالبة التي هي إما غربية وإما استبداد تابع للغرب ومتأثر به، لذلك تكاد تندر للغاية الكتابات التي تنطلق من أصالة الهوية مع احتراف وتمكن البحث العلمي. لأن أداة السلطة في إنتاج المعرفة وقدرتها كانت تستبعد الرواية المعارضة كما تستبعد أصحابها.

لذلك فبقدر ما ينبغي الاطلاع الواسع على المادة الأساسية لتاريخنا الحديث والمعاصر –والموجودة في وثائق وتقارير غربية- بقدر ما ينبغي الاحتراز من المفاهيم والتفاسير والرؤى المهيمنة على هذه المادة، والمهيمنة بطبيعة الحال على المدارس التاريخية التي نشأت في الجامعات والمراكز البحثية المعاصرة، لأنها فرع عن صورة الدولة والسلطة المُنشِئة لها والمُصَدِّرة لخطابها.

وتظل الكتابة التاريخية غير ممكنة بدون التحرر السياسي من الاحتلال الأجنبي ومن سلطة الاستبداد المُوَجِّهة، ليس فقط من جهة المخاطرة بكتابة تاريخ ضد توجهات السلطة، بل من جهة توفر المواد الأساسية لكتابة هذا التاريخ. 

10. قد يوصف العظماء بأنهم مسكونون بالتاريخ، وهناك من يعيب على المهتمين بالتاريخ بأن مستقبلهم ماض! كيف ترى ذلك؟

يكاد ألا يكون من عظيم في عالم الناس إلا وله اطلاع ومعرفة بالتاريخ، مهما كان المجال الذي يشتغل به إبداعيا ابتكاريا، ولست أعرف ممن قد يوصف بالعظمة من كان يهمل التاريخ أو يحتقر المهتمين به، الأمر متعلق –كما سبق- بأن التاريخ للأمة كالذاكرة للفرد، والفرد يعاب بكثرة النسيان ويمدح بقوة الذاكرة، وليس يقال لقوي الذاكرة: منشغل بالماضي، كما لا يوصف كثير النسيان بأنه مهتم بالمستقبل. والعارفون بتاريخ العلوم عادة ما يكونون أكثر فهما واستيعابا لطبيعة وتطور هذا العلم والمناطق المحتاجة لاكتشاف فيه ومجالات تطبيقه.

11. وثق التاريخ نشوء الحضارات؟ هل يوثق التاريخ التوحش والاستعباد والنهب والسلب؟

نعم بطبيعة الحال، التاريخ كما قلنا هو سيرة البشر، وهو ليس انتقائيا ولا محابيا، وبقدر ما توفرت القدرة على تسجيله بقدر ما بقيت تفاصيل الأحداث تُروى جيلا بعد جيل.

والتاريخ –بهذا الشكل- مزعج للغاية لدى أولئك الذين ارتكبوا هذه الجرائم، وبعض أولئك يُحاول إنتاج النظريات التي تجعل تزوير التاريخ واجبا وطنيا كما تجعل محاولة كشف حقائقه خيانة وعملا مجرما.

ومن قرأ كتابا مثل "موت الغرب" الذي ألفه السياسي الأمريكي مارك بوكانان سيجد فصلا بعنوان "الحرب على الماضي"، يتحدث فيه بوضوح عن أن كشف التاريخ الحقيقي للأمريكان كمستعمرين وسفاحين يؤدي لضعف الهوية والانتماء الوطني لدى الأجيال الجديدة، ويبدي انزعاجه من المحاولات الحثيثة للمؤرخين لكشف الأمور التي طالما استقر في الوجدان الأمريكي أنها حقائق بطولية ملحمية جميلة.

على أن المرء يؤمن بأن ما وضعه الله في البشر من رغبة المعرفة ورغبة الوصول إلى الحقيقة أقوى من دعاوى تزوير وإنتاج التاريخ على وفق ما يهواه المجرم الغالب المتمكن.

12. حواضر العرب والمسلمين بغداد ودمشق والقاهرة كيف تراها اليوم؟

ما المسؤول بأعلم من السائل، إننا نحيا حقا أياما عصيبة، فحواضر الإسلام الكبرى كلها تحت الاحتلال، الاحتلال الأجنبي المباشر أو الاحتلال بالوكالة، مما يجعل الأمة الإسلامية في حالة أشبه ما تكون بالمشلول، فهذه الحواضر بالنسبة للأمة كالمراكز الدماغية بالنسبة للجسد، وليس يمكن حقا تحرير بيت المقدس أو العودة للمكانة القوية العالمية دون أن تتحرر هذه العواصم وتنهض: مكة ودمشق وبغداد والقاهرة، بل إن تحرر عاصمة واحدة من هذه تساوي نقلة ووثبة في حال الأمة، فإذا أضيفت لها أخرى تمكنتا من تحرير الثالثة والرابعة.

نحن بحق نعيش محنة كبرى، ونسأل الله أن تكون هذه آخر درجات المحن، لتكون أيامنا القادمة أيام الفرج والخروج منها، فإن الأمة الآن كالأيتام على موائد اللئام وكالفريسة تؤكل من كل جانب، حتى لم يعد بعضها يشعر ببعض.

13. هناك من يقول إن بغداد ضاعت كما ضاعت الأندلس كيف ترد على هذا القول؟

هذا خاطر صعب ومفزع ينزعج المرء من مجرد تصوره، لكن أول ما ينبغي محاربته هو انتشار مثل هذه القناعة التي تؤدي بطبيعتها للضياع والاستسلام.

فإن الأندلس ذاتها لم تضع إلا بوجود هذه النفسية، تلك التي بدأت مع قول شاعر الأندلس بعد سقوط طليطلة:

يا أهل أندلس شدوا رحالكمُ .. فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى .. ثوب الجزيرة منسولا من الوسط

وعاشت الأندلس بعد قوله هذا أربعة قرون، ولو استمع له الناس فشدوا رحالهم لم تعش بعد قوله هذا يوما!.. وحتى حين بدا سقوط غرناطة انقسم العلماء حينها إلى رأيين، رأي يرى البقاء والدفاع والمواجهة وعبَّر عنهم أحمد بن أبي جمعة الوهراني في فتواه لأهل الأندلس بالبقاء مع الصبر والتمسك بالدين، ورأي يرى وجوب الخروج من الأندلس وعبر عنهم الونشريسي في فتواه "أسنى المتاجر فيمن غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر" وقد انتصر هذا الرأي الأخير، وكتابه مشتهر أكثر من كتاب الأول.

الضياع ليس حتمية تاريخية لا لبغداد ولا حتى للأندلس، بل الأمر منوط بالمجاهدين والمكافحين والمخلصين، ومن أغرب ما أتذكره في هذا السياق أن مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني حاول أن يتوسط في قضية المغرب لدى ألمانيا –التي كانت تربطه بها علاقات جيدة في وقته- لتساعد المغاربة ضد الاحتلال الفرنسي، ولما رأى من الألمان نكوصا حاول تحذيرهم بأن هذا قد يدفع المغاربة للتواصل مع الاتحاد السوفيتي بحثا عن استقلالهم، وهنا فوجئ الشيخ الحسيني –وفاجأنا لما حكى هذا- بأن مستشار الخارجية الألمانية قال له: نحن لا نخشى من الاتحاد السوفيتي (وهو حينئذ قوة عظمى وعدو لهم في الحرب العالمية الثانية) وإنما نخشى أن يتحد المغاربة مرة أخرى فيكررون سيرة الأندلس! فلك أن تتخيل كيف كان العرب وهم أصفار ممزقون في ميزان القوى الدولية أكثر إرعابا لأوروبا من الاتحاد السوفيتي، ومنه تعرف: أنهم ما زالوا حتى الآن يخشون أن تعود الأندلس!! فكيف نتحدث عن ضياع بغداد؟!!

نشر في مجلة "حضارة"، العدد 22، يوليو 2019

الخميس، سبتمبر 05، 2019

في اصطناع الرجال


هذه الافتتاحية ثلاثة أجزاء؛ الأول: قصة من قلب التاريخ عن شخصية لفتت النظر رغم قلة الأخبار المتوفرة عنها، لكن ذكرني بها أمور سأسردها في الجزء الثاني، وفي الجزء الثالث تعقيب على بعض ما ورد للمجلة من رسائل وتعليقات نحسب أنها مهمة.

[1]

قبل نحو سبع سنين، وبينما أعدّ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" (3 مجلدات) سجلت على هامش الأوراق العديد من الأسماء التي تغري بمزيد من البحث عنها، فمن تلك الأسماء جعفر بن حنظلة البهراني، وهذا رجلُ سياسة وحرب، واجتماع السياسة والحرب في الرجال قليل، إلا أنه كان في صدر دولة بني العباس فلم يتوهج نجمه بين أهل الثورة الناجحة وأهل الدولة في شروق شمسها، وكيف برجل عاش في زمن أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال وقحطبة بن شبيب الطائي؟! فأولئك كانوا وسيظلون من عظماء الساسة والخلفاء عبر كل التاريخ الإنساني، وإن نقدنا عليهم أمورا وكرهنا منهم أخرى.

وفي شذرات الأخبار القليلة التي جاء فيها اسم جعفر بن حنظلة البهراني نرى رجلا حكيما وافر العقل سديد الرأي، بل هو من الكفاءات السياسية التي عملت مع الأمويين ثم مع العباسيين، فهو إذن من عينة أولئك الرجال الأكفاء الذين لا تستغني عنهم السلطة وإن وجدتهم في أروقة قصور أعدائها الذين خلعتهم بعد ثورة كبيرة ساحقة. فإذا لم نكن نعرف عنه غير هذا لكان يكفينا أن نبصر فيها كفاءته النادرة!

أول ما نعرفه من أخبار جعفر أنه كان من قيادات الجيوش التي فتحت وسط آسيا ومناطق الشعوب التركية، في زمن الأمويين، إذ ينقل الطبري قيادته لكتيبة حمص في جيش أسد القسري (والي خراسان) ثم قيادته لكتائب المتطوعين في ذات هذه الحرب في عام (119هـ)، ثم تولى جعفرٌ خراسان أربعة أشهر في فترة انتقالية بين وفاة واليها أسد القسري وإلى أن واليها الجديد والأخير في دولة بني أمية نصر بن سيار (120هـ)، وقاد غزوة ضد الروم (139هـ)، وقاد غزوة أخرى (146هـ)، وهاتين في زمن العباسيين. ولكن جاء وصف شارد عند الطبري بأن جعفرًا هذا هو "أعلم الناس بالحرب، وأنه شهد مع مروان حروبه"، وأغلب الظن أن مروان المقصود هنا هو مروان بن محمد، وحروبه هذه إنما يقصد بها حروبه في أرمينية حيث كان مروان واليا قبل أن يلي الخلافة. ولو ثبت هذا فإن جعفرا كان متمرسا بالحروب وكان بين جبهتي الترك والأرمن في خراسان وما وراء النهر وفي جبال أرمينية!

وتفيد مجمل أخباره مع المنصور أنه كان من المقربين إليه في الأمور الخطيرة، فحين قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني كان صاحبنا جعفر بن حنظلة البهراني من أول من علموا بالخبر ودخلوا عليه بعد قتله، فقال للمنصور: "عدّ خلافتك مذ اليوم"، وكان الأمر كما قال، إذ لم يستتب أمر المنصور ولا استقرت الدولة لبني العباس إلا بعد ذهاب أبي مسلم الذي كان أخطر مركز نفوذ يستطيع أن يتحدى الخليفة نفسه، ولو لم يستطع المنصور الخلاص من أبي مسلم لضرب الانقسام الدولة الإسلامية والخلافة العباسية منذ أيامها الأولى.

وقد اشتعلت ضد المنصور ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، وهي واحدة من الثورات العلوية ضد العباسيين، وكان التخطيط أن تعلن الثورة في المدينة على يد محمد، وفي البصرة على يد إبراهيم في نفس الليلة فيقع الارتباك والتشتت لدى المنصور، إلا أن خلافا في التقدير جعل محمدا يثور قبل الموعد المتفق عليه، وجاءت ثورته في ليلة كان إبراهيم فيها مريضا بالبصرة، فأعلنت الثورة من المدينة وحدها، وكان هذا من جملة أسباب إخفاقها. لكن الذي يهمنا هنا هو أن صاحبنا جعفر بن حنظلة البهراني تظهر له ثلاثة أخبار في هذه الثورة:

أولها أنه بمجرد ظهور محمد في المدينة نصح المنصور أن يوجه الجيش إلى البصرة ويهتم بها الاهتمام الأكبر، لكن أبا جعفر أعرض عن هذا الرأي، فلما فوجئ بثورة إبراهيم تشتعل في البصرة وتتمدد تمددا خطيرا يكاد أن يصل إلى الكوفة استدعى جعفر بن حنظلة البهراني وسأله كيف استطاع أن يتوقع هذا؟ فقال جعفر مقالته التي تدل على خبرته بالبلدان وطبائع أهلها ووزنها الجيوسياسي (بالمصطلح المعاصر)، قال: "لأن محمدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة". وتذكر رواية أخرى أن المنصور سأله حين وصله خبر ثورة محمد فقال له: "يا جعفر، قد ظهر محمد، فما عندك؟ قال: وأين ظهر؟ قال: بالمدينة، قال: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى، فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا، ففعل"، وكانت هذه هي أساس الخطة التي اتبعها المنصور في مواجهة ثورة محمد.

وثانيها: أنه خرج في قادة إخماد هذه الثورة، وهذا دليل كفاءة وثقة من المنصور فيه، فقد اجتمع له الحرب والرأي.

وثالثها: أنه لما عاد بخبر هزيمة إبراهيم بن الحسن وإخماد الثورة، كان الناس يدخلون على المنصور فيهنئونه بهذا النصر، ويأخذون في سب محمد وإبراهيم كما يفعل أعوان السلطان على عادتهم، فلما دخل جعفر على المنصور قال مقالته التي تنم عن شرف العربي ورفعة أخلاقه حتى في حال الخصومة، قال: "أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك"، فَسُرَّ بذلك أبو جعفر وقال: أبا خالد مرحباً وأهلاً ها هنا (أي أجلسه قريبا منه)، فعلم الناس أنه قد سرته مقالته فقالوا مثل قوله. وهذا درسٌ في أخلاق السياسة حتى مع الحرب والخصومة نحتاج أن نتذكره في زمن صار الخلاف فيه مبيحا للطعن في الأعراض وانتهاك الحرمات والتفنن في الكذب والتحقير.

ويروي البيهقي في "المحاسن والمساوئ" أن صاحبنا جعفرًا كان صاحب النصيحة الشهيرة عن المقارنة بين عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك ومصائر أولادهما، وأنه نصحها للمنصور قائلا: "يا أمير المؤمنين أدركت عمر بن عبد العزيز سنتين، لم يتخذ مالاً ولم ينشيء عيناً، ولم يستخرج أرضاً، ولم يضع لبنة على لبنة، ولا أُحصي كم من ولده تحمل الحمالات، وحمل على الخيل، وولي هشام بن عبد الملك ثماني عشرة سنة ما منها سنة إلا وهو ينشيء فيها عيوناً ويتخذ فيها أموالاً ويقطع لولده القطائع، ولا أعرف اليوم من ولده رجلاً يشبع".

هذه أخبارٌ تعد على أصابع اليد الواحدة عن رجل واحد، إلا أنها تدل على مبلغ كفاءته في الحرب والسياسة معا، وليس المقصود من هذا المقال إلا لفت الانتباه إلى ضخامة عدد المجهولين وأخبارهم في تراثنا، وأن أخبار كثير منهم مطمورة مغمورة تحتاج من يستخرجها.

[2]

ما سبق كانت هي القصة.. فما سبب إيرادها هنا؟

السبب كان تقريرا قرأته قبل مدة يبحث في إنتاج المراكز البحثية الغربية عن سبل الانتصار على حركات الجهاد والمقاومة الإسلامية، وقد رصد هذا التقرير اتجاها عاما في المراكز الغربية يتلخص في: ضرورة الفصل بين هذه الحركات وبين حواضنها الشعبية، إذ ستظل هذه الحركات دائمة التجدد مهما أبيد بعضها وأخمد بعضها طالما أن الإسلام يمثل عقيدة قتالية تعتنقه الشعوب المسلمة، وهو ما سيوفر دائما مددا من المجاهدين والمقاتلين إما لرفد الحركات القائمة أو لإنبات حركات جديدة. [راجع: https://goo.gl/Fc4nZS]

ومن ثَمَّ فلا بد من نشر وترويج نسخة جديدة من الإسلام في هذه المجتمعات المسلمة، ومن ضرورات هذه النسخة أن ينطق بها مسلمون مخلصون، إذ لو نطق بها الغربيون أو حتى العلماء الرسميون التابعون للسلطة فلن يمنحها هذا المصداقية اللازمة لانتشارها في المجتمعات الإسلامية.. وهكذا فلا بد من البحث عن البديل المناسب الذي لا بد أن يكون من داخل المجتمعات المسلمة، ويمثل نمطا طبيعيا فيها ليجري دعمه والترويج له بدون فجاجة ليسود خطابه المنافر لحركات الجهاد والمقاومة فتنقطع الأمة عن إمداد هذه الحركات فيسهل إخمادها وإبادتها بلا رجعة.

بحسب التقرير تنحصر هذه البدائل في أربعة رئيسية، لكل طيف من المراكز البحثية الغربية واحدا تميل إليه، وهم: الإسلام الرسمي التابع للسلطة، الطرق الصوفية، السلفية الدعوية (العلمية)، الحركات السياسية (الإخوان المسلمون).
يعرف الباحثون الغربيون الذين اقترحوا هذه البدائل أن كلا منها قد يتحول إلى خطر بنفسه إذا جرى دعمه، وربما يشب عن الطوق، فحتى الأزهر الذي يمثل السلطة الرسمية يُخشى منه دعمه أن تتجدد زعاماته المشيخية ودوره التاريخي القديم في مكافحة الاحتلال، وكذا الطرق الصوفية التي لها تاريخ عريق في الجهاد لا سيما في الشمال الإفريقي والعراق وتركيا والجناح الشرقي للعالم الإسلامي، وكذا السلفية العلمية التي تحتضن أصولها الفصل الواضح بين المسلمين وغيرهم وبين دار الإسلام ودار الكفر والتي تعد أضعف الاتجاهات الإسلامية في تقبل الحداثة، وكذلك الإخوان المسلمون الذين يمثلون خطرا قويا وهم الذين أفرزا حركة مثل حماس ورجلا مثل أردوغان وكادوا أن يحققوا تحولا خطيرا بمصر!

المضحك المبكي أن ما يعرفه هؤلاء الباحثون ويحذرون منه لا يعرفه أبناء التيار الإسلامي نفسه الذين يسود بينهم سوء الظن بعضهم في بعض، وتختزن عقول كل طائفة منهم قائمة طويلة من جنايات وإساءات وخيانات وأخطاء وجرائم الطائفة الأخرى!!

الواقع أن هذه الخنادق والفوارق الواسعة من التباغض وسوء الظن هو الذي دفع أولئك الغربيين (الذين يكرهوننا جميع ويحاربوننا جميعا) لأن يتوقعوا أن يكون بعض الإسلاميون بديلا عن بعضهم الآخر، بل وأن يكونوا ذراعا لضرب البعض الآخر، ويبدأ عملهم في التفريق والتوظيف، بينما هم يطمحون إلى غاية تدمير الجميع ونشر الكفر التام بين المسلمين.

نحن نعلم بيقين، ومن واقع ما عايشناه وشاهدناه، أن في كل هذه البدائل أناس مخلصون للإسلام إخلاصا لا سبيل للشك فيه، مجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم، باذلون له من أوقاتهم وأعمارهم ودموعهم ودمائهم، بل في كل أولئك أناس مستجابو الدعوة يُستعان بهم في الشدائد، فضلا عن أن في كل أولئك كفاءات علمية وشرعية ودعوية وإدارية وسياسية وعسكرية وغير ذلك.

فلماذا ينبغي أن يكون بعض أولئك بديلا لبعضهم الآخر، ولا يكن بعضهم لبعض مكملا وسادًّا للفجوات والثغور والاحتياجات الملحة؟

نعم بين هذه الأطياف من المشكلات الفكرية والتاريخية بل والاختلافات العقدية ما هو معروف، وليس مطلوبا الآن التفتيش في هذه الأمور، بل المطلوب هو التعاون في ظل هذه النوازل الكاسحة التي تريد استئصال الإسلام كله.

لئن وُجِد في الكفار الأصليين من يعرف الفوارق بين الاتجاهات الإسلامية إلى الحد الذي يريد فيه ويعمل على توظيف بعضهم ضد بعض، أفلا ينبغي أن يكون في العاملين للإسلام من المنصفين وأهل العدل والحلم والروِّية من يستثمر في العلاقة مع الأطياف الأخرى لسد النقص وملء الاحتياج وجبر الكسر؟!

فإذا لم يكن هذا موجودا ولا محتملا فأضعف الإيمان أن تكون العلاقة بين الإسلاميين بالقدر الذي يتعطل معها توظيف بعضهم ضد بعض، لئن لم يكونوا معنا ولم يكونوا إلى جوارنا فليكونوا محايدين ولا يكونوا في المعسكر الآخر!

ويجدر أن نتعلم هذا أول ما نتعمله من نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم- فقد جعل الوليد بن الوليد يراسل أخاه خالدا ويعده ويمنيه بأن رسول الله يعرف له حقه وما مثل خالد يجهل الإسلام، هذا وخالد هو صاحب الهزيمة القوية في أحد والتهديد الخطير في الحديبية. بل وفي اللحظة الأخيرة أعطى رسول الله لأبي سفيان شيئا لنفسه لأنه رجل يحب الفخر فذهب هذا مفتخرا ينادي "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وأبو سفيان قبل هذه اللحظة رأس العداوة للإسلام وللنبي.. والمواقف كثيرة وليس يجهلها الإسلاميون ففي كل منهم علماء وفقهاء وشرعيونز

ثم لنتعلمه من تاريخنا، وهذه القصة التي سقتها عن جعفر بن حنظلة البهراني مجرد واحدة من كثير، بل إن قصص العفو عن الخصوم واصطناعهم لهي حديث طويل تزخر به كتب التاريخ وكتب آداب المجالس وكتب الحلم والأمثال.

فإن لم يسعف هذا فلنتعلمه من أعدائنا، ولعمري إن العكوف على مذكرات الساسة البريطانيين وحدها، لتأتينا بثروة هائلة من حسن سياستهم في تدبير شأن القبائل ومعرفة الحق لرؤوسها، واصطناعهم لشيوخها ورجالها، مهما كانت بينهم وبين الإنجليز معارك طاحنة، وبهذه السياسة التي مهما كرهناها منهم فلا نملك إلا الإعجاب بها وبأنها وفرت عليهم أنهارا من دماء وبحارا من أموال وصنعت لهم نفوذا لا زلنا نصارعه ونكابده. وقد فعلوا هذا كثيرا بعد انتصارهم وتمكنهم، وبه كسبوا أوضاعا جديدة وانتزعوا فتيل ثورات كان يمكنها أن تطيح بهم وتسبب لهم إزعاجا شديدا. ولو أن لي من الأمر شيئا لخصصت مركزا بحثيا ينفق عليه من أموال الإسلاميين لتحليل مذكرات الساسة الأجانب فحسب في مراحل تاريخنا المختلفة فإن فيها دروسا عظيمة عظيمة، وما على الرجل أن يتعلم من عدوه إذا أحسن عدوه الإنجاز!

[3]

بقي أمرٌ أخير يحملنا على ذكره بعض التعليقات التي جاءتنا على بعض المقالات التي نشرت في المجلة، والتي ترى أن المجلة تتخذ موقفا معينا من فصيل في ثورة الشام المباركة، وقد جاءتنا تعليقات متعاكسة، فبعضها يرى أننا نأخذ موقفا مادحا من فصيل ما وبعضها يرى أننا نأخذ موقفا قادحا من الفصيل نفسه.

ولتوضيح هذا الأمر، نقول:

1.    قولا واحدا وقاطعا ليس للمجلة موقف أو انحياز لأحد الفصائل أو الفرق أو الجماعات لا في داخل الشام ولا في خارجه، ويشهد الله أن المجلة فكرة ذاتية من العبد الفقير، ومن معه من الأصدقاء ممن يقومون بشأن المجلة لا ينتمون لحزب ولا لجماعة ولا لطائفة.

2.    المجلة تفتح أبوابها لاستقبال المقالات من الجميع، وتجري مراجعة المقال على قاعدة: هل هو نافع أم لا؟ فإذا ترجح ذلك نُشِر وإن لم نوافق على كل ما فيه، ونحن حريصون –كما ذكرنا ذلك مرارا- أن تكون مادة المجلة نافعة للعاملين.. فليست تهتم لا بالثناء على أحد ولا بالقدح في أحد.. وإن كان المدح والقدح يجريان بالضرورة في نقاش أية قضية، فكيف بمناقشة القضايا العويصة في زمن الاستضعاف وفي خضم الفتن التي تجعل الحليم حيرانا؟!

3.    والمعنى المباشر لما سبق أن المجلة تستقبل المقالات من أفراد تختلف آراؤهم وتوجهاتهم، وكل هذا مرحب به، بل نحن حريصون عليه.. لكننا في ذات الوقت نحرص أيضا ألا تكون المجلة سجالات بين أطراف مختلفة، وألا تتحول إلى مجرد ساحة فكرية لتبادل الردود والاتهامات. فالأصل الذي يقاس عليه كما نكرر: هل المقال نافع أم لا؟

4.    وكل الأمور التقديرية عرضة للصواب والخطأ، فإنما نحن بشر، ولربما أخطأنا التقدير فنشرنا ما حقه الحجب، أو حجبنا ما حقه النشر، وإنما هذا مبلغ اجتهادنا.. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.