الأحد، سبتمبر 15، 2019

نحو موسوعة "من غُمِط حقهم ونُسِيَ ذكرهم"


لا أحسب أحدا يكثر القراءة في التاريخ والتراث إلا ويطوف برأسه فكرة إخراج كتاب أو سلسلة عن عظماء يلقاهم بين السطور ويعرف أسماءهم لأول مرة، ثم يدهش وهو يرى جليل آثارهم أو ثناء الأئمة الكبار عليهم.

فمن ذلك على سبيل المثال الإمام محمد بن نصر المروزي، هذا الاسم الذي يكاد يكون مجهولا للعامة والخاصة في عصرنا هذا قال فيه ابن حزم: "أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن، وأضبطهم لها، وأذكرهم لمعانيها، وأدراهم بصحتها، وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه. (ثم) قال: وما نعلم هذه الصفة -بعد الصحابة- أتم منها في محمد بن نصر المروزي، فلو قال قائل: ليس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر لما أبعد عن الصدق". وعقب الذهبي على هذه الكلمة الهائلة بالقول "هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزم لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيف لابن نصر" (سير أعلام النبلاء 14/40 ط الرسالة). 

هذا وابن حزم إمام ضخم واسع المعرفة غزير العلم موسوعي التآليف، مشهور بدقته وضبطه، معروف بشدته وصرامته وحدَّته بل وقسوة أحكامه التي جعلت كثيرين ينقدونه عليها، فمثل هذا القول منه قول كبير. 

ثم هذا الذهبي، وهو علامة من علامات الإنصاف التاريخي وقدوة في اعتدال أحكامه، قد يتوقع المرء أن يعقب على هذه المقالة بما يخفضها، إلا أنه يعقب عليها بما يؤكدها! ثم نقول هذا مجرد مثال.

وقد بدأ هذا الأمر عندي قبل أكثر من عشر سنوات، وعزمت مع صديق على إخراج سلسلة عن "العظماء المجهولين في التاريخ الإسلامي"، وصدر الكتاب الأول منها عن قائد الأسطول العثماني وعالم الجغرافيا البحرية (الكارتوغرافيا) محيي الدين بيري ريس والذي يكاد يكون مجهولا تماما في العالم العربي رغم معاركه البحرية في السويس وخليج عدن والخليج العربي مع البرتغاليين، أي أنه من أهم الأبطال التاريخيين الذين دافعوا عن سواحل العرب أن تكون برتغالية كما صارت سواحل أمريكا اللاتينية! غير أن ما جرى من الأحداث في مصر عطَّل استمرار السلسلة.

وقبل محيي الدين بيري ريس عمُّه كمال ريس الذي قاد الأسطول العثماني في البحر المتوسط، والذي يُعتبر أبرز شخصية بحرية في ذلك العصر، حتى إن المؤرخ الشهير جوزيف فون هامر –وهو صاحب أوسع كتاب تاريخي عن الدولة العثمانية وإلى وقت طويل بعده- يعتبر أن كمال ريس هو تجسيد الرعب الذي كان يغزو قلوب الأساطيل المسيحية في البحر المتوسط، ولقد كان كمال ريس صاحب يدٍ عليا في إنقاذ الأندلسيين وفي دعم ثوراتهم التي كانت بعد سقوط غرناطة، ولذلك فإن شذرات أخباره تلتمس في تاريخ الموريسكيين أكثر من أن تلتمس في تاريخ العثمانيين، على الأقل باللغة العربية.

وقبل نحو سبع سنين، وبينما أعدّ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" (3 مجلدات) سجلت على هامش الأوراق العديد من الأسماء التي تغري بمزيد من البحث عنها، من تلك الأسماء جعفر بن حنظلة البهراني، وهو رجل سياسة وحرب معا، وذكر اسمه في قيادات الجيوش لأكثر من ربع قرن مع الأمويين والعباسيين (119 – 146هـ)، وكان من الكفاءة السياسية بحيث أنه كان واليا في دولة بني أمية ثم مستشارا مقربا من أبي جعفر المنصور في صدر دولة بني العباس، ولعله لذلك لم يتوهج اسمه كما توهجت أسماء المنصور وأبي مسلم الخراساني، فهو من عينة الأكفاء الذين لا تستغني عنهم السلطة وإن وجدتهم في أروقة قصور أعدائها. وكان لجعفر نصائحه السديدة للمنصور في الثورات التي اشتعلت ضده كثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم بل هو الذي أشار بخطط مواجهة هاتين الثورتين، وتوقع مركز اندلاعها في البصرة قبل أن تحدث!

وفي ذلك الكتاب أيضا –أعني: رحلة الخلافة العباسية- لفت نظري اسم القائد البحري المسلم "غلام زرافة"، وبالبحث والتنقيب خلف سيرته، واستخراجها بعد اعتصار شذرات الأخبار القليلة عنه، نرى أن هذا البحار الكبير هو نفسه المعروف في مصادر تاريخية أخرى باسم "رشيق الوردامي" وهو نفسه المعروف في التواريخ الأوروبية باسم ليو الطرابلسي، وترجع شهرته إلى أن له غزوتين بحريتين كبيرتين هاجم فيهما مدينة أنطالية (التي تقع في تركيا الآن) ومدينة سالونيك (التي تقع في اليونان الآن) وكانت هذه الأخيرة ثاني أحصن المدن البيزنطية بعد القسطنطينية، وكان فتحها عملا مدويا في تاريخ القرون الوسطى، ويمثل ما يشبه المعجزة الحربية، ويعود الفضل في استخراج سيرته وبنائها للمؤرخين الكبيرين: محمد عبد الله عنان وعمر عبد السلام تدمري، وقد وصفه الأول بأنه "أعظم بحار في ذلك العصر، وأعظم بحار مسلم على الإطلاق" وأفرد له مبحثا في كتابه «مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام»، والمؤرخ عنان من كبار المؤرخين وممن لا يعرف عنه المبالغة!

أحسب أنه لو أطلقت مؤسسة علمية مؤتمرا بحثيا سنويا عن هؤلاء الكبار المجهولين الذين كان لهم أثر من علم أو حكمة أو سياسة أو حرب أو غير ذلك من المواهب، لاجتمع لها عدد ضخم من الأوارق البحثية، فليس ثمة مهتم بالتاريخ إلا وفي أرشيف أوراقه بحوث مكتملة أو شبه مكتملة أو بذور بحوث عن شخصية تلفت الأنظار على حافة نهر تاريخنا الثري الكبير، ومثل هذه البحوث لو لم يستخرجها مؤتمر أو عمل موسوعي فالأغلب أنها ستموت مع أصحابها، كما أن بعض الشذرات عند البعض ستكملها شذرات أخرى عند البعض الآخر، فقد ينتج عن هذا اكتشافات مدهشة في تاريخنا.

ومن قرأ مقدمة شيخ العربية محمود شاكر لكتاب المتنبي عرف شيئا من هذا، فقد استنتج شاكر بتذوق شعر المتنبي أنه كان يحب خولة أخت سيف الدولة لكنه ظل يتحرق بحثا عن دليل آخر غير التذوق، وقد حصل أكثر من موقف وجد له أحدهم دليلا إلا أنه لم يجد الفرصة التي يفضي كل منهم بما عرفه لصاحبه، فمات الجميع وضاعت الأدلة!

فهل نطمع في مؤتمر سنوي لمؤسسة من المؤسسات العلمية العديدة في عالمنا الإسلامي لإحياء سير المجهولين الكبار؟! أم هل يحدونا الأمل لكي تحمل واحدة منها عبء إخراج هذه الموسوعة الطريفة الظريفة المدهشة عن المجهولين؟!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق