السبت، أغسطس 08، 2020

حوار مع موقع تبيان: اشتباك التاريخ والواقع

 بسم الله الرحمن الرحيم

"من وعى التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عمره"، فيجب علينا النظر في تاريخ الأمة أو تواريخ الأمم السابقة لنخرج منها بخلاصات لمشاكلنا الحالية.

يشرفنا في تبيان أن نرحب بالأستاذ محمد إلهامي في هذا الحديث الماتع حول التاريخ ودروسه وكيف نأخذ العبر منه لفهم الواقع.

 

تبيان 1: ما هي الوسائل العملية أو الخطوات المُعينة على معرفة وإدراك التاريخ الحقيقي للأمة الإسلامية بعيدا عن عقبات التزييف أو التشويه؟ وكيف يمكن الاستفادة من المصادر المختلفة رغم توجهاتها التي قد تؤثر في الخلاصات التاريخية. وهل من أسماء تنصح بها لمؤرخين ومصادر تاريخية؟

 

ما شاء الله، البداية ثقيلة كمدفع ضخم، ويصعب في الواقع إعطاء إجابة مكتملة على هذا السؤال الواسع. سأحاول اختصار الأمر فأقول:

التاريخ هو مجموعة من الأحداث المتتابعة والمتراكمة، كثير منها مجهول، والمعلوم منها هي الأحداث الكبرى الفارقة، أو تلك الأحداث التي أتيح لها أن تسجل في وثائق أو نقوش أو ما شابه. هذه الأحداث في ذاتها لا تكشف عن معنى ولا تؤدي إلى قصة، إنها مثل قراءة قاموس لغوي أو معجم أو دليل الهاتف القديم -وهو كتاب ضخم يتذكره جيل ما قبل عصر الانترنت- لكن هذه الأحداث تكتسب المعنى وتُكَوِّن القصة على يد المؤرخ أو الراوي.

وهذا أمر يشمل سائر العلوم، بما فيها العلوم البحتة.. فالمكتشفات العلمية يمكن تشبيهها بنقاط ضوء في مساحة معتمة، فيأتي العالِم فيحاول أن يفهم من خلال هذه المكتشفات القانون الذي يفسرها ويربطها، فيبدأ في تكوين نظرية، ثم يبدأ في اختبارها وتجريبها حتى يستقر على صوابها أو تعديلها أو خطئها.

إن عملية الربط والتأمل والتفسير واستخلاص النظرية هي عملية إنسانية، مُحَمَّلة بكل انحيازات الإنسان ورؤاه وتصوراته وطريقة تفكيره، فيمكن ببساطة أن توضع نفس المعطيات أمام عدد من العلماء، فيختلفون في استخلاص نتائجها تبعا لاختلافهم.

لكن عملية الربط والتأمل والتفسير تكون أكثر عمقا وتعقيدا وتأثيرا في العلوم الإنسانية، وذلك أن العلوم البحتة يمكن إخضاع الكثير من فروضها للتجربة في المعمل، ففي المعمل يمكن عزل بعض العوامل لتحديد العامل المؤثر، أو لتحديد نسبة كل عامل من التأثير في النتيجة النهائية. بينما هذا غير ممكن في العلوم الإنسانية؛ فنحن لا يمكننا -مثلا- إعادة التاريخ وتجريب القرارات والخيارات الأخرى لنرى كيف ستكون النتائج.

وبهذا يعتمد تفسير التاريخ وتصور قوانينه، وكذا سائر العلوم الإنسانية، على الإنسان المؤرخ.. فالحدث الواحد يحتمل الكثير من التفاسير، ولكن المؤرخ يفسره في ضوء خبرته وتصوراته وثقافته وميوله الفكرية.

وأبسط مثال يمكن أن نضربه هنا هو نشوب معركة ما، فإنك تجد المؤرخ الماركسي يحاول تحليلها في ضوء الصراع المادي الاقتصادي، بينما يفسرها المؤرخ القومي في ضوء الفروق القومية والعرقية، بينما يفسرها المؤرخ الديني من خلال الخلاف الديني. وسيجد الجميع من بين الحوادث ما يمكنه أن يتعلق بالجانب الذي يميل إليه، فيسعى في تضخيمه والتركيز عليه.

التاريخ هو رواية إنسانية لأحداث إنسانية، ولا يمكن أن يفلت المؤرخ من نفسه، فكل رواية تاريخية إنما هي مصبوغة برؤية صاحبها ومواقفه وانحيازاته، مهما اجتهد ومهما ادعى أنه مؤرخ موضوعي محايد.

كل هذه المقدمة الطويلة أريد بها الوصول إلى واقع راسخ، وهو أن التاريخ لا يُقرأ بمعزل عن تصور ورؤية وفلسفة حاكمة، مثله مثل سائر العلوم الإنسانية.

من هنا عملت المدارس التاريخية على وضع قواعد ومناهج علمية تهدف بالأساس إلى التخلص من صبغة المؤرخ التي وضعها على الرواية التاريخية -قاصدا أو غير قاصد- وذلك من خلال معرفة: ميول المؤرخ واتجاهه الفكري، ومدى ارتباط مصالحه أو تعارضها مع الحدث أو الشخص الذي يؤرخ له، ومدى قربه أو بعده من زمان الحدث ومكانه، ومقارنة روايته برواية آخرين لنفس الحدث إن أمكن.

وقد تميزت المدرسة التاريخية الإسلامية بأنها الوحيدة التي اعتمدت على منهجين متوازيين لنقد الرواية التاريخية، وهما: نقد السند ونقد المتن. فسائر المدارس التاريخية الأخرى تركز على نقد المتن (وهو ما يسمى النقد الداخلي للنص) بمقارنته بغيره ومقارنته بنصوص زمانه لمعرفة ما إن كان نصا أصيلا من تلك الحقبة أو نصا منحولا لها. وأما المسلمون فقد دفعتهم عنايتهم بالحديث النبوي وسيرة النبي وخلفائه الراشدين إلى ابتداع علوم ضخمة نشأت لحفظ الحديث فأنشأت حولها علوما في معرفة الرجال الرواة، وفهرسة رواياتهم، وتسجيل حياتهم ووفياتهم وشيوخهم وتلاميذهم وقدرهم من العلم والدقة ومن الأمانة والتقوى. وبهذا كان التاريخ الإسلامي أصح تاريخ لأمة من الأمم بلا جدال.

وقد ساهم المحدثون في نقد المتن أيضا، ولهم في هذا إبداع خاص، وهذا غير ما ساهم به الأصوليون والفقهاء الذين يتخصصون أساسا في جانب المتن، لأنهم يوازنون بين المتون ويقارنون بينها لاستخلاص الحكم الفقهي أو لاستخلاص الأصول التي بنيت عليها الأحكام.

والقارئ المبتدئ يصعب عليه أن ينقد الرواية التاريخية ويكتشف زيفها، وإنما تتأتى له هذه الخبرة مع الممارسة وطول التجربة، فليس أمامه -كما هو الحال في شأن سائر العلوم- إلا أن يبدأ بإرشاد وتوجيه ممن يثق في علمه ودينه، ومع التقدم والاجتهاد تتكون شخصيته ويكتسب الخبرة التي يتمكن بها من إنتاج تحقيقاته التاريخية الأصيلة التي يبني بها فوق من سبقوه، ويمهد بها لمن يلحقوه.

وأما ترشيح أسماء أو مصادر تاريخية فلعلنا نتناول طرفا منه في الإجابات القادمة إن شاء الله.

 

تبيان 2: ما هو الحد الأدنى الذي على المسلم الإحاطة به في دراسة التاريخ؟ ما هي القضايا الأساسية التي يجب أن يلم بها أو الشخصيات والأحداث لفهم الواقع الذي نعيشه واستشراف المستقبل؟

ذكرنا أنه لا بد في قراءة التاريخ من رؤية تفسر أحداثه وتجمعها في سياق مفهوم، رؤية تتحدد بها العوامل الأكثر أهمية وتأثيرا والعوامل الأقل منها في الأهمية والتأثير، رؤية تحدد معاييرنا في الصواب والخطأ وفي الحق والباطل، وتحدد ترتيب الأولويات والمهمات.

نحن المسلمين نستمد هذه الرؤية وهذا التصور من ديننا، من القرآن والسنة، إن طريقة القرآن في رواية القصص التاريخية للأنبياء والأقوام السابقين وسيرة النبي تغرس في المسلم هذا التصور وتعينه على حسن قراءة الحدث التاريخي وسننه وتحديد معايير الصواب والخطأ وترتيب الأولويات. ثم تأتي القراءة في السيرة النبوية (وهي فرع من السنة النبوية) التي هي التطبيق العملي للإسلام في ذروته العليا لتزيدنا وضوحا وتفصيلا من هذه الرؤية الإسلامية وهذا التصور الإسلامي. ثم تأتي سيرة الخلفاء الراشدين لتعطينا الصورة المثلي للتطبيق الإسلامي في حال عدم وجود نبي، فنفهم منهم كيف يجب أن يحكم المسلمون أنفسهم حكما إسلاميا، ولهذا أوصى النبي باتباع سنة الخلفاء الراشدين والعضّ عليها بالنواجذ، فهي -بهذا- جزء متمم للسيرة النبوية، وتطبيق بشري مثالي للإسلام.

من هنا فإن أولى الأولويات وأوجب الواجبات لدى المسلم في باب التاريخ هو فهم ما في القرآن وتعلم السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين. ومن استطاع أن يتضلع من هذه الأمور ويستوعبها ويهضمها ويفهمها حق الفهم فقد استقام له التصور الإسلامي كله، واستقامت معاييره في الصواب والخطأ، وانتظمت أولوياته في التفكير والتفسير والتحليل والتعليل، وكان بهذا قادرا على قراءة بقية العصور وبقية الأحقاب وفهمها وتقييمها، وكان بهذا قادرا تحديد المسافة بين واقعنا المعاصر وبين المثال الذي نطمح إليه.

وهذا يستلزم مجهودا كبيرا ومستمرا، كما يقتضي تعلمه على يد شيخ خبير -وما أندرهم- فعلى الذي يحتسب نفسه لهذه المهمة أن يصدق الله في همته وهمّه كي يصدقه الله في التوفيق والسداد.

 

تبيان 3: ما مدى حاجتنا كمسلمين لإعادة قراءة تاريخية لحركات مقاومة الاستعمار ورموزها خارج توظيفها القومي والوطني ؟

أحب أن أبدي أولا إعجابي بهذا السؤال وتقديري لصاحبه، فلقد مسَّ أمرا خطيرا وقضية عظمى..

هذه المشكلة، أعني مشكلة توظيف رموز مقاومة الاحتلال في صورة وطنية أو قومية ضيقة، هي فرع من مشكلة الفلسفة والرؤية والتصور الذي يحكم قراءة التاريخ كما ذكرناه سابقا.

سنضرب الآن مثلا خياليا، لنتصور أن احتلالا أجنبيا نزل إلى مصر وقسَّمها إلى خمس دول، كما هو موجود في بعض المخططات فعلا وإن بعض سياسة عبد الفتاح السيسي تبدو وكأنها تمهد لهذا، على أن هذا موضوع آخر.. لنبق في المثال: لنتصور احتلالا أجنبيا نزل إلى مصر وبينما هو يسيطر عليها هب لمقاومته رجال من أنحائها فقاوموا فخطبوا وكتبوا وقاتلوا وأنشؤوا التنظيمات السرية ونفذوا في الأجنبي وعملائه عمليات تفجير واغتيال.

لكن الاحتلال الأجنبي نجح في قهرهم وهزيمتهم، ثم نجح في خطته، وصارت مصر خمس دول جديدة.. هذه الدول الجديدة التي أنشأها الاحتلال ووضع لها رؤساءها وأعطاها استقلالا شكليا ستبدأ في كتابة تاريخها للمقاومة والاستقلال. فتكتب دولة الإسكندرية تاريخ الرمز الوطني السكندري، وتكتب دولة الصعيد تاريخ الرمز الوطني الصعيدي، وتكتب دولة الدلتا تاريخ الرمز الوطني الدلتاوي.. وينسجون القصص والحكايات حول حب كل مقاوم لوطنه، وتضحيته فداء له!

سيخرج جيلٌ "وطني" بل متعصب لدولته الصغيرة، يتصور أطفال وشباب الإسكندرية أن فلانا كان يضحي من أجل دولة الإسكندرية ومن أجل الشعب السكندري، ويتصور أطفال وشباب الصعيد أن فلانا كان يضحي من أجل دولة الصعيد والشعب الصعيدي… وهكذا!

بينما هذه الرؤية لم تكن موجودة أصلا في ذهن الذين قاوموا الاحتلال، والكلمة التي قالها السكندري في حب الإسكندرية لم تكن تعني الوطنية السكندرية بل كانت تعني حبه لمنبته أو حبه لأهله ولكنه إنما كان يقاتل في سبيل تحرير مصر كلها، وكذلك الكلمة التي قالها الصعيدي في حب الصعيد لم تكن تعبيرا عن وطنية صعيدية… وهكذا!

انتهى المثال.. لنعود الآن إلى الحقيقة!

الحقيقة أن الاحتلال الأجنبي حين نزل إلى بلادنا، وهبَّ الناس لمقاومته فإنهم لم يكونوا يفكرون أبدا بهذا المنطق الوطني الصغير، لقد قاتل الحملة الفرنسية على مصر شوام وحجازيون ومغاربة بل ومن إندونيسيا قاوم طلاب الأزهر، والذي قتل كليبر إنما هو من حلب التي هي الآن في الشمال السوري!!

وقبل أيام جاءنا خبر استعادة الجزائر رفات عدد من مقاومي الاحتلال الفرنسي وفوجئ المصريون بأن بينهم قائد مصري من دمياط.. هذه المفاجأة نفسها هي دليل على رسوخ القسمة الوطنية القطرية، ففي ذلك الزمن لم يكن يتساءل أحد: لماذا يقاتل دمياطي في الجزائر؟!

وهكذا جرى الحال، سنجد أن قادة المقاومة المصرية للاحتلال الإنجليزي كانوا شديدي الارتباط بالخلافة العثمانية، وكانوا يقفون بكل القوة والإصرار ضد انفصال مصر عن الدولة العثمانية، وأحمد عرابي في مذكراته يصرح بهذا، ومثله مصطفى كامل، ومثله محمد فريد (بل إن محمد فريد ألف تاريخا كبيرا عن الدولة العثمانية)، وعزيز المصري، وغيرهم.

بل إن مصطفى كامل كان يدفع باتجاه التنازل عن ثلث سيناء للدولة العثمانية في الحادثة المعروفة بأزمة طابا 1906، وما ذلك إلا لكي ينتزعها من الإنجليز. ولكننا لم نعرف هذا إلا حين فتشنا في الكتب بعد أن كبرنا، لم يخبرونا بهذا في المدرسة، لم يخبرونا بهذا لأنهم كانوا يريدون لنا أن نفهم مصطفى كامل كزعيم وطني متعصب للجنس المصري وفقط! ولم نعرف شيئا أبدا عن العاطفة الإسلامية الحارة لديه ولا عن علاقته الوثيقة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني.

الخلاصة: يجب أن نعرف أن التاريخ الذي درسناه في الدول القطرية هو تاريخ مزيف بطبيعته، لأنه يحاول بالتاريخ ترسيخ الوهم والتقسيم، وهو أمرٌ لم يكن موجودا وقتها أصلا. تماما مثلما يحاولون إيهامنا بأن الدولة العثمانية كانت احتلالا للديار العربية، ويتجرأ بعضهم أكثر فيتحدث عن الاحتلال العربي لمصر على يد عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب.. ويبلغ هذا السفه ذروته حين تسمع كاتبا مثل عادل حمودة يستغرب: لماذا علينا كمصريين أن ندافع عن محمد (صلى الله عليه وسلم) ضد الإساءة إليه، فهذا -عنده- عملٌ يجب أن تقوم به السعودية!!

إذا فهم المرء التصور والرؤية التي ينطلق منها كاتب التاريخ سيفهم بوضوح ما الذي جرى تجاهله، وما الذي جرى التركيز عليه.

وبعد الفهم سنحتاج لمجهود ضخم في استخراج التاريخ الحقيقي المطمور المغمور لأبطال المقاومة هؤلاء ليعاد قراءته القراءة الصحيحة المتسقة مع طبيعة العصر ومع انتماء هؤلاء المقاومين لأمتهم ودينهم.

 

تبيان 4: ما مدى تقدم الدورة التاريخية الحالية، وهل هناك بوادر قريبة المدى لعودة التكتلات في الغرب على أساس المسيحية، بعد استنفاذ المنظومة القيمية العلمانية لرصيدها في البقاء، وهل لهذا دور في استنهاض البعد الديني الصريح في الصراع بين الغرب وبلاد المسلمين؟

أنا ممن يقولون بأن المسيحية لم تختفِ من السياسة الأوروبية حتى مع الهيمنة العلمانية، بل ظلت المسيحية هي الهوية الكامنة والظاهرة وإن تخلى الغربيون عن ممارسة شعائرها وطقوسها وإن عبَّروا عن ازدرائها والتنصل من التزاماتها. وهذا خلاف طويل بين المؤرخين والمفكرين والمحللين ليس هذا مقام التفصيل فيه. إلا أنه لا يمكننا أن نفسر انتشار حملات التنصير برفقة حملات الاستعمار دون استدعاء هذه الهوية! وكان محمد أسد (ليوبولد فايس) قد ذكر في كتابه الشهير "الطريق إلى الإسلام" أن أوروبا لم تتعرف على نفسها كمجموع إلا في ظل الحروب الصليبية، فالحروب الصليبية هي المكون الأساسي في الشعور الأوروبي العام، وأن طريقة تفكير الأوروبيين اليوم إنما هي وليدة انفعالات ومشاعر أنشأتها الحروب الصليبية.

نعم، فقد البابا جزءا كبيرا من نفوذه الروحي، وفقدت الكنيسة قدرا عظيما من نفوذها السياسي، وهُزِمت المسيحية أمام العلمانية على مستوى العبادات والشعائر والسلوك الشخصي حتى اضطر بعض رجالها أن يشرعن الزواج المدني وأن يشرعن زواج الشواذ، ولم يستطع الرهبان -بطبيعة الحال- مقاومة موجات الإباحية العاتية فصارت لهم فضائح جنسية متكررة. ونستطيع أن نزيد أمورا أخرى!

لكن إذا نظرنا في السياسة الغربية الداخلية والخارجية بإجمال فلن نجد حيادا تجاه الأديان، بل لا تزال المسيحية هي الدين الأثير، ولا تزال الكنائس تتمتع بأنهار من الأموال والذهب والنشاطات الواسعة البعيدة، ولا يزال الفاتيكان حجر أساس في السياسة الدولية، وفي بلادنا هنا فإن الأقليات المسيحية كانت أحظى الأقليات بالحنان والدفء والاهتمام الغربي، ورغم الدخول الغربي في الحقبة العلمانية منذ أكثر من قرنين فلا تزال الروح الصليبية ظاهرة حاضرة، فالأعلام الأوروبية زاخرة بالصليب والبرتوكولات الملكية والرئاسية حافلة بمراسم وتقاليد وأشكال صليبية، وحين دخل الجنرال ألنبي القدس نشرت الصحف الإنجليزية عنوانا يقول "الآن انتهت الحروب الصليبية" ورسمت إحداها كاريكاتيرا لريتشارد قلب الأسد وقد قرّت عينه باحتلال القدس، وحرص غورو قائد جيش الجمهورية الفرنسية "العلمانية" أن يركل قلب صلاح الدين في دمشق قائلا "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، ووقفت أوروبا وماطلت ضد دخول تركيا -يوم أن كانت علمانية مخلصة للعلمانية- إلى الاتحاد الأوروبي، وكاد بندكت السادس عشر ينجح في أن يضع ضمن بنود ميثاق الاتحاد الأوروبي ميثاقا عن الهوية الصليبية لأوروبا، وتخبرنا كونداليزا رايس في مذكراتها أنه حتى عهد جورج بوش الابن كانت المنظومة المدفعية الأمريكية الرئيسية الموجهة للسوفيت تسمى crusader "صليبية"، وجميعنا يذكر ما قاله بوش الابن عن حربه المرتقبة على الإسلام "إنها حملة صليبية جديدة"! ثم استدركها مستشاروه وقالوا "إنها فلتة لسان"، وإني لأصدقهم في أنها فلتة لسان، ولكنها كما قيل "فلتات اللسان تخبر عن مكنونات الصدور".

الخلاصة أن أوروبا لم تتخل عن الهوية المسيحية الصليبية كي تستدعيها من جديد، لقد كانت دائما حاضرة حتى وإن تخفت أحيانا تحت زخارف علمانية عصرية ومقولات مادية عقلانية. وما كان ممكنا أصلا أن تتخلى أوروبا عن المسيحية فإنها هوية عميقة دفينة، ونحن العرب -على سبيل المثال- لا نملك أن نتخلى عن الهوية الإسلامية، ولو فتشت في القيم الحاكمة والمهيمنة على مجمل الشعوب العربية بل حتى على مجمل النخب المتعلمنة لوجدتها تستمد جذورها من القيم الإسلامية، فحتى الملحدين العرب لا يتحولون إلى عدميين عبثيين كما هو المفترض في النتيجة النظرية المنطقية للإلحاد!

صحيح أن الإسلام أرسخ جذورا في شعوبه من أي دين آخر، إلا أن المسيحية راسخة في الغرب رسوخا عظيما كذلك، وسيستمر هذا إلى يوم القيامة، ففي الحديث عن ملحمة آخر الزمان أن الروم يرفعون الصليب تحت ثمانين راية.

 

تبيان 5: أجيال التسعينات لديهم وعي كاف بالقضية الفلسطينية وبخبث دعوات التطبيع مع إسرائيل، كانت نشأتهم مساعدة في ذلك التربية عكس أجيال الألفية، شريحة كبيرة منهم لا تدري ما هو الاحتلال وما هي القضية الفلسطينية. ما السبب في ذلك من وجهة نظر الأستاذ محمد إلهامي؟ وما التصرفات اللازمة لإعادة نشأة الجيل الجديد على الاهتمام بأحوال القضية الفلسطينية؟

السبب في ذلك أنهم آخر الأجيال التي شاهدت رواية عربية تناصر فلسطين وتعتبر إسرائيل عدوا وتعيش على أمجاد الحروب معها، صحيحٌ أن الأنظمة العربية كانت هي الحراسة الحقيقية والأسباب المباشرة لقيام إسرائيل، ولكن التمثيلية كانت تتطلب أن يقوموا بهذا الدور وهم يهتفون ضد إسرائيل. ولذا فبينما هم يسلمون لها الأرض ويدمرون الجيوش يصرخون ضدها في وسائل الإعلام ومناهج التعليم.

من هنا فقد تشربت الأجيال هذه المعاني التي كانت ضرورية لعملية الخداع ولتسهيل القيام بالخيانة.

ثم جاءت مرحلة جديدة بعد أن صارت إسرائيل أمرا واقعا، وصار السلام معها خيارا استراتيجيا، فهاجر إليه العرب جميعا، أو كما قال أحمد مطر "لم يرجع الثور ولكن.. ذهبت وراءه الحظيرة"! وتدحرج الذاهبون بداية بالمغرب ومصر ثم الأردن ثم الإمارات، ثم جاء عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية بمبادرة استسلام عامة حمل عليها الدول العربية وسماها مبادرة السلام العربية وأقرتها القمة العربية في بيروت قبل أقل من عشرين سنة.

والآن دخلنا في مرحلة جديدة، حيث صارت إسرائيل سيدة العرب، وصار السيسي محتاجا لها في انقلابه وفي تثبيت شرعيته ومكانه، وكذا صار محمد بن سلمان محتاجا لها في تثبيت مكانه من بين أمراء الجيل الثالث للأسرة السعودية، وأما الإمارات فقد صارت ولاية صهيونية تتطوع وتجتهد في خدمة إسرائيل، وكانت هي أسبق الدول الخليجية لتعذيب المجاهدين في سجونها للحصول منهم على معلومات، بل إن خبراء صهاينة كانوا يتولون تعذيب فلسطينيين قبض عليهم في الإمارات، وذلك في الإمارات نفسها منذ مطلع التسعينات من القرن العشرين.

كل هذا المسار كان يتطلب خطابا آخر يُلقى على أسماع الجماهير العربية، خطاب السلام والوئام والحب والمودة، خطاب التطبيع مع إسرائيل. ولست أنسى هنا يوما كان في ظل انتفاضة الأقصى عام 2000 أو في مطلع 2001 كتبه لبيب السباعي وكان على رأس مؤسسة الأهرام المصرية، حيث تعجب واستغرب من خروج مظاهرات تلاميذ المدارس الابتدائية في مصر تعاطفا مع انتفاضة الأقصى، ومن يقرأ مقاله يكاد يتخيله وهو يضرب كفا بكف ويقول: كيف لهؤلاء الذين تلقوا خطاب السلام مع إسرائيل أن يخرجوا في هذه المظاهرات، من أين يأتيهم الخطاب الآخر الذي يعادي إسرائيل؟!

حسنا، هذا الواقع، فما الحل؟!

الحل الجذري الذي لا أرى غيره هو التركيز على خيانة هذه الأنظمة، على إسقاطها، على فضحها وتعريتها دائما، كل ما سوى ذلك سيأتي تباعا.. لقد كان خطاب الوقوف مع الأنظمة في مواجهة إسرائيل خطابا تخديريا إن لم يكن خطابا مُغَفَّلًا وساذجا. وإن السهم الذي يطلق في قلب نظام عربي هو كمائة سهم في قلب إسرائيل. إسرائيل لم تنشأ ولم تتمكن ولم تتسيد إلا بفعل هذه الأنظمة الخائنة.

إن كثيرين لم ينتبهوا لدور السعودية الخطير في دعم إسرائيل إلا لما قالها ترمب في 2018 "لولا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة"، بينما يمتد شأن هذا الدعم منذ عبد العزيز نفسه، حتى في فترة الملك فيصل التي بدت الأكثر إسلامية كان رجل المخابرات السعودية كمال أدهم أحد أضلاع الدعم السعودي لإسرائيل، وأما الآن فقد دخلت السعودية رسميا في اتفاقية الأمن بشرائها جزيرتي تيران وصنافير ووقعت على الاتفاق الأمني الملحق بكامب ديفيد.

وإنما أضرب المثل بالسعودية لأنها آخر الدول التي كانت الجماهير الإسلامية تظن أنها داعمة لإسرائيل، ولقد كان الجهاديون بل الموغلون منهم في التكفير يتوقفون في تكفير النظام السعودي (كما روى أبو محمد المقدسي عن سيد إمام، وكان سيد إمام قاضي جماعة الجهاد ومنظرها وهو من الغلاة جدا في التكفير حتى إنه ليكفر كل من ذهب إلى الانتخابات، ومع ذلك كان يتوقف في تكفير النظام السعودي، وهو ما جعل المقدسي يؤلف كتابه "الكواشف الجلية").. فانظر كيف كان الخداع عظيما، وكيف كان الانخداع كبيرا، هذا الذي لا يتورع عن تكفير عموم المسلمين كان يتوقف في النظام السعودي!!

فالخلاصة أن تعرية هذه الأنظمة وفضحها ومقاومتها والسعي في إسقاطها هو الحل الأكبر بل هو الحل الوحيد، وسائر ما سوى ذلك يأتي تبعا.

 

تبيان 6: الحراك السلمي واللعب في المساحات المسموحة، وتاريخ من الحركات الإصلاحية وحركات المقاومة في بلادنا الإسلامية لم تثمر في إحداث التغيير المطلوب، فكيف تستشرف مستقبل هذه الحركات والتيارات الإسلامية؟

كانت الحركات الإسلامية هي الطليعة التي أفرزتها الأمة لمقاومة الاحتلال والطغيان والتغريب، وقد كانت هذه الحركات ولا زالت السد الأقوى تجاه سقوط الأمة فكريا ونفسيا ومعنويا بعد سقوطها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وسائر هذه الحركات قدمت ثمارا عظيمة وحققت نتائج مبهرة بالقياس إلى فارق الإمكانيات الضخم، كما كانت لها إخفاقاتها بطبيعة الحال.

وكنتُ قد أشرت في مقال سابق إلى ما تحتاجه الحركات الإسلامية لكي تتنتصر، ولكن المهم في شأن المستقبل أن نعرف أمرا يتعلق بالماضي، ذلك هو أن الحركات التغييرية تنتصر حين تتحول إلى دولة، وأن هذا لا يتأتى إلا أن تكون هذه الحركة على مستوى اللحظة وعلى قدر المهمة، سواء كان طريقها إلى النجاح جهاديا عسكريا أو سياسيا أو مزيجا بينهما، فكل حركة أدرى بواقعها التفصيلي وبوسائل تصحيحه والنجاح فيه.

وفي واقعنا المعاصر الآن فإن الحملة العالمية الجديدة تستهدف الاستئصال والإبادة، ولا تسمح بمساحة حركة مقبولة للجماعات الإسلامية في جوار الأنظمة، بل هي الآن تضع الكل في سلة واحدة، ولا تراهن إلا على الحركات والجماعات التي تفرض أصولها الفكرية عليها الطاعة التامة للأنظمة مثل المداخلة والصوفية وربما بعض الجماعات العلمية الغارقة في تفاصيل علمية وفروعية وسجالية. لقد اختفت الآن المساحة التي حاولت مراكز البحث الغربية اللعب عليها بتكوين "شبكات الإسلام المعتدل" تبحث عن إسلاميين يقدمون نسخة سياسية متوافقة مع النظام الغربي، لم يعد هذا مطروحا الآن، والخيار الوحيد هو جماعات لخدمة الأنظمة بتقديم نسخة دينية تشرعن بالدين سياسة الأنظمة أو تهجر السياسة بالكلية.

لهذا فإن التحديالقادم المفروض على الحركة الإسلامية هو في صلبه تحدٍّ جهادي، لمقاومة الإبادة والاستئصال، فالأنظمة التي رأت في ثورات الربيع العربي خطورة زوالها ولا تزال حتى الآن تعاني من ذلك، لم تعد تفكر في التسامح مع الحركات الإسلامية.

ويجب أن نعترف هنا أن سياسة الأنظمة العربية -ومن ورائها النظام الدولي- في امتصاص الموجة الثانية من الربيع العربي كانت سياسة خبيثة وناجعة، فالآن إذا نظرت إلى العراق ولبنان والسودان والجزائر وجدت حراك الشارع قد انتهى إلى الصفر أو إلى نتائج سلبية على الشعب، لقد جرى تطويع هذا الحراك بكفاءة ليعود النظام القديم بوجه جديد دون أية مكاسب شعبية.

ولهذا، فما لم تكن الحركات الإسلامية في قادم الأيام قادرة على خوض معركة مقاومة، ممزوجة بالسياسة وحسن التدبير، فلا يُتَوَقَّع لها أن تنجح. وما لم تكن الحركات الإسلامية ساعية في إعداد نفسها لامتلاك القوة وأدواتها والتدبير لتهيئة كوادر تحسن إنشاء العلاقات ودخول المساومات واكتساب الأموال واختراق النظم السياسية، فلا يُتَوَقَّع لها أن تنجح.

إن خبرة القرنين الماضيين خبرة عظيمة، لكن أكثر الحركات الإسلامية لا تهتم بقراءة هذه التجارب، وكذلك خبرة الواقع المتجددة خبرة عظيمة لكن تحتاج لمن يقرؤها بعين تسترشد لا بعين تدافع عن الحزب والجماعة.

وفي ظني أنه بغير هذه الخبرة فلن تكون الحركة الإسلامية على مستوى التحدي ولا على مستوى اللحظة التاريخية، وهذا هو شرط الإنجاز والنجاح.

 

تبيان 7: في ظلال السيرة النبوية، كيف كانت طريقته صلى الله عليه وسلم للتغيير، كيف أسس الرسول صلى الله عليه وسلم دولته؟

هذا السؤال مما تُكتب فيه الكتب ذات المجلدات الكثيرة، وقد حاولت اختصاره من قبل في هذا المقال وأرجو أن يرجع القارئ إليه. لكني أنتهز الفرصة هنا لأقول إن التغيير دائما يأتي من الأعلى لا من الأسفل، من القيادة والسلطة لا من الشعب والعامة. وإن سيرة حركات التغيير هي سيرة قوم ذوو إيمان بفكرة سعوا لامتلاك القوة والشوكة ثم صادموا بها النظام الحاكم حتى أسقطوه فدانت لهم الشعوب فطبقوا فكرتهم!

هذه سيرة التغيير الناجح سواء أكانت الفكرة في نفسها حقا أم باطلا..

وأما سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فهي ذروة الحق، وهي أيضا ذروة النجاح في تجربة بشرية، ولهذا اختراه مايكل هارت كأعظم شخصية في التاريخ الإنساني، ذلك أن نجاحه الديني والدنيوي لم يستطعه أحد من قبله، فهو الوحيد -صلى الله عليه وسلم- الذي أسس في حياته دينا عظيما ودولة عظيمة.

وما إن نزل الوحي على النبي وأُمر بالبلاغ حتى نهض إلى تكوين "فريق العمل" أو "السابقون الأولون" الذين انتقاهم واختارهم بعناية وأفضى لهم بأمر الدين فآمنوا واتبعوه، وقد بذل جهده الكبير في محاولة إسلام زعماء قريش إذ هم سادة مكة التي هي عاصمة العرب، فإذا أسلموا أسلم العرب من ورائهم، فلما صدوا عنه ذهب إلى الطائف وهي العاصمة الثانية للعرب، فلما صدوه صار يطوف على القبائل يطلب الحماية والنصرة، أي: يطلب إنشاء دولة، حتى لقي الأنصار فكانوا أهل الشوكة والدولة، وبهم حارب قريشا حتى فتح مكة فدانت له العرب.

فكرة، ثم قائد موهوب يحملها، ثم فريق عمل قوي، ثم أنصار ودولة، ثم سيطرة على العاصمة الأهم.. تلك هي خلاصة رحلة التغيير التي تخوضها أية حركة.

 

تبيان 8: في ضوء دراستك للتاريخ ما هي سنن الانتقال من الذل إلى المجد، أو ما التصور لملامح طريق إعادة الإسلام إلى واقع الحياة؟

لا يختلف الجواب هنا كثيرا عن جواب السؤال السابق، لكن الله تبارك وتعالى قصَّ علينا قصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، وتلك قصة نموذجية في الانتقال من الذل إلى المجد.. كنتُ قد كتبت هذا في مقال سابق أيضا أرجو العودة إليه.

وأحب أن أضيف إلى هذا المقال السابق نقطة مهمة، تتعلق بالقيادة والقائد، تلك هي أن القائد الجدير بالقيادة ليس دائما قادرا على انتزاع القيادة لنفسه، قد يكون فساد النظام والتقاليد أقوى منه، وقد تكون الخدمة العظمى التي يؤديها الواحد منا لهذه الأمة أنه يفسح الطريق للموهوبين، وأن يدفع بكل موهوب إلى مكانه الذي هو جدير به.

وقد تكرر في تاريخنا وتواريخ غيرنا قصص الأبطال الكبار الذين غيروا مجرى التاريخ، وما حملهم إلى موقع القيادة إلا أمر هو خارجٌ عنهم ولم يكن بسعيهم.. وهذه بعض النماذج هنا.


تبيان 9: إذا أراد الله شيئا هيأ أسبابه، كيف نوفق بين هذه المقولة لابن الأثير وبين دورنا للأخذ بالأسباب لإحداث التغيير؟ وهل ترى الأحداث الراهنة كتهيئة لأسباب التغيير في المنطقة وتمهيدًا لها؟

كان ابن القيم رحمه الله، يرد على القدريين بمثالٍ رائع، يقول فيما معناه: إن الله قدَّر العطش وخلق الماء، فمن أصابه العطش أخذ بالأسباب فذهب إلى الماء، فشرب فزال عنه العطش، فهو يأخذ بالأسباب، ولكن هذا كله جرى بقدر الله.

لقد حجب الله أقداره عن الناس، وإنما تتمثل أقداره في سعيهم، فهم مظهر قدرته إلا أن كلا منهم سعى إلى ذلك بنفسه وباختياره، فمن سعى وحقق وأدرك غايته أو بعضها فإنما كان هذا بأخذه بالأسباب، وكان هو وسعيه والأسباب من قدر الله. ومن تكاسل وأبطأ وتبطل فأخفق وأساء وخاب فقد كان كسله وتبطله وتركه للأسباب وخيبته من قدر الله.

لسنا نعرف قدر الله المكتوب في علم الغيب إلا بعد أن يتحقق في الواقع، ولا يخرج شيء عن علم الله ولا عن قدرته، كيف وهو الذي خلق الناس ويعلم بواطنهم وظواهرهم ويعلم ما كان وما يكون وما سيكون.

ذلك هو معنى: إذا أراد الله شيئا هيأ له أسبابه.

وهذا المعنى لا ينافي ولا يعارض أن نأخذ نحن بالأسباب لنبلغ ما نريد ونرغب، فإن نحن صدقنا في السعي والأخذ بالأسباب والتعلق بالله وحققنا ما نريد وما نرغب فإنما هذا كله من تهيئة الله الأسباب لما يريد. وإن نحن أخفقنا ولم نبلغ ما نريد فإنما هو بتقصيرنا في الأخذ بالأسباب أو بقصورنا عما نطلب ونرغب أو لحكمة شاءها الله تعالى، وكان هذا كله من تهيئة الله الأسباب لما يريد.

والجدل في مسائل الأقدار وفي ما هو من علم الغيب وفيما يتعلق بذات الله لم يبزغ ويكثر إلا في عهود البطالة والترف، حيث يكثر الجدل ويقل العمل، بينما إن نظرنا إلى سيرة النبي وصحابته وجدناهم كما قيل: آخذ بالأسباب وكأنه لا قدر، ثم أرتقب القدر وكأنه لا أسباب.

فما علينا إلا أن نسعى ونعمل ونبذل الجهد ما استطعنا، فإما بلغنا الغاية، وإما كنا تمهيدا لمن سيبلغها بعدنا، وفي النهاية فإن كل امرئ سيحاسب على نفسه وعمله فردا، فكم من أناس سيدخلون الجنة دون أن يبلغوا النصر، وكم من ناس سيدخلون النار وقد عاشوا في زمن النصر. الأمر متعلق بعمل الإنسان في نفسه وحياته، وقد وزَّع الله الأفهام والقدرات والمواهب كما وزَّع الأرزاق، فالناس يتفاوتون، والحمد لله الذي اختص نفسه بالحساب، فهو الأعلم والأرحم بكل عبد من عباده، وهو الأعلم بما يطيقه كل واحد من العمل ومن الفهم أيضا.

 

تبيان 10: هل ترى أن الأمة تفتقد القائد الفذ الذي يحركها؟ أم أن هناك الكثير من المؤهلين لشغل دور القيادة لكن الأمة لم تتحرك بعد لتظهر هذه القيادات؟

 

يصعب أن أتصور خلو أمة تبلغ مليارا وسبعمائة مليون من المؤهلين للقيادة، من المستحيل أن يكون هذا العدد الضخم من الناس خاليا من قادة مؤهلين. الأقرب للتصور أن الوضع العام الذي تعيشه الأمة وما يسيطر عليها من التقاليد والأنظمة والأعراف الفاسدة هو ما يجعلها تكبت هؤلاء وتحرمهم من صعود المكان اللائق بهم.

وقد أشرت في إجابة سابقة إلى مثل هذا، ولعل هذه فرصة لبعض تفصيل:

إن الملأ من بني إسرائيل الذين طردهم العماليق وأخرجوهم من الأرض المقدسة وانتزعوا منهم مقدساتهم، إن هؤلاء الملأ كانوا يحتوون في داخلهم القائد المخلص، ويحتوون الجنود الذين سيحققون النصر.. لكنهم لم يهتدوا إليه! بل لما قال لهم نبيهم إن الله قد اختار لكم هذا القائد انزعجوا واستغربوا وقالوا (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال).. هذا هو الشاهد!.. لقد كان بينهم القائد الجدير بالقيادة إلا أنهم لم يفكروا فيه ولم يكونوا ليفكروا فيه لفساد أفكارهم ونظرتهم وتصورهم للأمور، ولأن هذا الفساد في التصور كان فاشيا وطاغيا لم يستطع طالوت نفسه أن ينتزع بنفسه موقع القيادة مع أنه جدير بها. كان القوم محتاجين لمن ينبههم إلى هذا القائد، وكان القائد محتاجا لمن يرفعه إلى موقع القيادة.. فلما حصل هذا، استطاع هذا القائد بثلاثمائة رجل منهم فقط أن يحقق النصر ويسترجع المقدسات ويطرد العماليق من الأرض المقدسة، ويكون هو المؤسس لأزهى عصور بني إسرائيل على الإطلاق.

نحن أقرب شبها في قصتنا الحالية إلى هذا الحال، قادة لا يجدون من يرفعهم إلى مكان القيادة، وأنظمة عتيقة بالية وتصورات فاسدة تسيطر على الأذهان والأفكار فتصرف القيادة إلى غير الجديرين بها، والنتيجة: أمة مستضعفة على كثرتها وقوتها ومخزونها الرهيب من طاقة الإيمان والفداء.

لهذا فإن من أوجب الواجبات التي يجب السعي إليها هو تمكين كل ذي موهبة من المكان الذي هو جدير به، وتذليل السبل له، ودعمه بكل ما يمكن أن يحتاجه لينجح: بالعلم وبالمال وبالعلاقات وبالتعريف به وبالحماية وبتثبيط الخصم عنه… وهكذا!

وكل إنسان أعلم وأعرف بنفسه وبما يستطيع أن يفعل لنفسه ولمن يعرفهم ممن هم حوله.

 

تبيان 11: كنت أشرت في أحد مقالاتك سابقًا بأن إعادة نشر “الوعي بالنظام الإسلامي” في بناء المجتمع هو واجب الوقت، فكيف توضح ذلك في ضوء محاربة الدولة القومية الحديثة للنظام الإجتماعي الإسلامي وتفكيكه منذ نشأتها وباستمرار حتى حربها الأخيرة على مؤسسات مثل الأزهر الشريف في مصر؟

نشر الوعي بالنظام الإسلامي هو أول مراحل مقاومة هذه الدولة القومية الحديثة، من أهم جذور المشكلة المعاصرة أن الناس لا تعرف ما هو الإسلام ولا ما هو نظامه، الناس لا يتخيلون كيف كان المسلمون يعيشون قبل وجود هذه الدولة، يبدو الناس الآن كالذي وُلِد في سجن فهو لم يعرف سوى السجن، يرى قيوده انضباطا ويرى تحكمه نظاما ويرى سيطرته إدارة ويرى زنزانته وطنا ويرى أسواره منتهى الدنيا.. هذا الذي وُلِد ونشأ وعاش في السجن يصعب إقناعه بأن وراء هذه الأسوار دنيا فسيحة لا قيود فيها ولا زنازين ولا تحكم ولا سيطرة.. وحتى لو أقنعناه، فإنه سيخاف من هذه الفوضى، من هذا الفراغ، من هذا المجهول، من هذه السعة الفسيحة، لقد سكن السجنُ روحَه وشكَّل عقله وكوَّن قناعاته، ورسم له أحلامه وحدد له خيالاته.

هذا حالنا في هذه الدولة الحديثة.. إن حياة المجتمع الإسلامي قبل الدولة الحديثة تكاد تكون مجهولة تماما، بل الواقع أنها مجهولة حتى في أوساط كثير من المتخصصين في التاريخ الإسلامي، ذلك أن هؤلاء لم يحاولوا توسيع خيالهم ليتجاوز الدولة الحديثة فصاروا يفهمون نصوص التاريخ ضمن خيالاتهم وأفكارهم المحكومة بالدولة الحديثة والتي صنعتها الدولة الحديثة.

من هنا فإن الغربيين أحسن تصورا لحالة المجتمع الإسلامي قبل الحداثة من كثير من المسلمين، وأحسن تصورا لتناقض الإسلام مع الدولة الحديثة المعاصرة من كثير من دعاة المسلمين وعلمائهم. يعود ذلك لأسباب أهمها في رأيي سببان:

- الأول: أن الحرية التي يعيشونها في بلادهم تجعلهم يبصرون عيوب نظام الدولة الحديثة، ويدركون هيمنتها الكامنة الخفية على كل شيء، بينما شعوبنا لأنها تعيش في استبداد شنيع فإن مجرد وصولهم لما فيه الغربيون من الحرية يعد حلما لامعا وخيالا متألقا، فكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يدركوا عيوب نظام هو بالنسبة لهم حلما بعيد المنال؟!

- الثاني: أن الغربيين -وأقصد هنا علماءهم وباحثيهم ذوي الرصانة والدقة- يدرسون الإسلام منذ قرن ونصف على الأقل وهم في حالة من التمكن والتفوق والقوة تجعلهم لا يشعرون بالتهديد منه، فهم يدرسونه كما يدرسون تمثالا في متحف، كأنما هو حضارة شبه ميتة لا يُخشى منها، لذلك ينصفون ويعدلون، فلا خشية من الميت. وبعضهم يرى أن في الإسلام من المزايا ما تحتاجه الحضارة الغربية لتحسين مستواها الحضاري والأخلاقي. ولم يكن ممكنا أن يخرج هذا الإنصاف في أزمنة التهديد الإسلامي، فتلك أزمنة التشويه والتفزيع.

الشاهد من هذا أنه، على الأقل فيما رأيت وفيما أعلم، أجد عن المستشرقين والباحثين الغربيين فهما أوضح وأفضل لواقع المجتمع الإسلامي قبل الدولة الحديثة، أفضل من المسلمين بمن فيهم العلماء والدعاة مع الأسف الشديد.

ثم أرجع لأؤكد وأقول: إن نشر هذا الوعي بالنظام الإسلامي وبصورة المجتمع الإسلامي قبل الحداثة هو الخطوة الأولى في مقاومة هذه الدولة الحديثة، إنه تعريف بنور الإسلام لمن لم يذق سوى ظلمات الجاهلية، وقد تخوَّف عمر رضي الله عنه من اللحظة التي ينشأ فيها جيل إسلامي لا يعرف الجاهلية فلا يدرك عظمة الإسلام ونعمته، فكيف يا ترى تكون المصيبة حين ينشأ جيل مسلم في الجاهلية ولا يعرف الإسلام؟! ثم يظن أن الإسلام ليس إلا مجرد تحسينات وتعديلات في هذا النظام الجاهلي؟!

في كل الأحوال على العلماء والدعاة والباحثين مهمة كبرى في تجلية نظام الإسلام والترويج له والدفاع عنه، وفي الدفع بكل القوة لتحقيقه عند كل فرصة وباقتناص كل ثغرة.. وقد حاولت جهدي -وهو جهد المقل- في الكتابة والإشارة إلى هذا الموضوع.. فعل المستزيد يتفضل فيطالع هذه الروابط (سأكتفي بسبعة فقط، وسيجد في مدونتي وفي صفحات حسابي أمورا أخرى في هذا الصدد) :

فيديو: كيف بنىالإسلام نظامه الاجتماعي والسياسي؟

فيديو: المستبدفي تاريخ الإسلام صلاحياته أقل من الحاكم الديمقراطي المعاصر

فيديو: أحاديثطاعة الأمراء لن يفهمها المتأثرون بالثقافة الغربية

مقال: طبقاتالاستبداد ومقاومة الأمة

مقال: أخصرالمختصر في النظام السياسي الإسلامي

مقال: صناعة مجتمع الجسد الواحد: الجزء الأول - الجزء الثاني

كتاب: منهجالإسلام في بناء المجتمع

 

تبيان 12: إن الله لا يصلح عمل المفسدين، والظلم مؤذن بخراب العمران، كيف نوفق بين ذلك والتجارب الإقتصادية الناجحة والنهضة التي أحدثها طغاة ومستبدون مثل محمد علي والنهضة التي أحدثها في مصر حتى لقب بمؤسس مصر الحديثة؟

هذا سؤال مركب يحتاج إلى تقسيم ليحصل البيان والتوضيح:

أولا: ما معنى "إن الله لا يصلح عمل المفسدين"؟

ذكر المفسرون عند هذه الآية عددا من المعاني، منها أن الله تعالى "لا يجعلهم بأعمالهم الفاسدة صالحين، أو لا يجعل أعمالهم الفاسدة صالحة"، وقال بعضهم: لا يُصلح أي: لا يرضى بعمل المفسدين.

وبعض العلماء حمل المعنى على أن هذا في العاقبة، فالله لا يصلح عمل المفسدين كما أنه لا يهدي كيد الخائنين، فالخيانة تنكشف والحقيقة تظهر، فكونه جل وعلا "لا يهدي كيد الخائنين" إنما ذُكرت في قصة يوسف عليه السلام عند براءته مع أنه لبث في السجن بضع سنين. فالمعنى أنه لا بد لعمل المفسدين أن يبطل ويظهر فساده وإن علا الفساد وتمكَّن زمنا، فالله لا يُثبت هذا العمل ولا يديمه كما في قوله تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).

وبعض العلماء حمل المعنى على أنه في الآخرة، فالله لا يصلح عمل المفسدين كما أنه لا يضيع أجر المحسنين، فإن هذا يكون في الآخرة يقينا ويكون في الدنيا أحيانا، ومعناه أن الله يجعل عملهم لا ينفعهم، كما في قوله تعالى (ليجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم).

ويلوح لي من هذه الآية، من تأمل سياقها، أنها وردت في حال المواجهة بين موسى والسحرة (قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله، إن الله لا يصلح عمل المفسدين)، وهذا السياق يتضح به المعنى: أن الباطل حين يواجهه الحق فإن الله ينصر أهل الحق، وهو معنى متكرر في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)، وكما في قوله تعالى (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب).

فطالما حصلت المواجهة والمقاومة والمقاتلة والمدافعة فإن الله تعالى لا يُمَكِّن للكافرين، فإذا حصل التمكين للكافرين فإنما حصل بقعود أهل الحق عن القيام بالواجب في مدافعتهم ففقدوا بذلك معية الله، وجرت عليهم سننه الكونية في نصر من اجتهد وأخذ بالأسباب ولو كان كافرا. وهذا المعنى كان ينبه عليه عمر وهو يوصي جيوش الفتح، وكان المسلمون إذا تأخر عليهم فتح حصن أرسل إليهم يخوفهم ذنوبهم وينبههم إلى ما قد أحدثوه من المعاصي مما تسبب في تأخر الفتح عليهم.

ويشهد لهذا المعنى قول مقاتل في تفسيرها "إن الله لا يعطي أهل الكفر والمعاصي الظَّفَر"، ومقاتلٌ هو من كبار مفسري التابعين ومقامه أشهر من أن يعرف!

ومع هذا كله، فلو حملنا الآية على ظاهرها من أن الله لا يصلح عمل المفسدين وتدبيرهم وخططهم لرأينا مصداق هذا كثيرا، فقد كانت بعض المؤتمرات التنصيرية في مطلع القرن العشرين تعدّ العدة لتنصير العالم الإسلامي كله ووضعوا لذلك خطة تنتهي بنهاية القرن، وها قد فشلوا. بل انتقلوا بعد عقود إلى فكرة صناعة أو دعم تيارات إسلامية "معتدلة" ثم إلى فكرة دعم الطرق الصوفية.. إنه تاريخ من تحطم الأحلام على صخرة الواقع، تاريخ من الإخفاق.

كذلك وضع مؤسسوا إسرائيل خططهم منذ 1897 ليقيموها بعد خمسين سنة 1947 ونجحوا، ثم ليجعلوها تتمدد بين النيل والفرات بعد خمسين أخرى 1997 ففشلوا. وجاء شارون الرهيب -الذي يمكن أن نختصر سيرة إسرائيل كلها في سيرته- ليبني بنفسه جدارا عازلا ليحمي قومه من مواكب الاستشهاديين في الضفة الغربية، فانظر كيف لبطل إسرائيل الكبير ومحاربها العنيد العتيد أن يخط بنفسه حدودا تحبس التوسع الإسرائيلي.

والباحثون في الجانب الأمني يرون هذا واضحا في كثير من الدراسات الأمنية التي تتحدث عن فشل القوى العظمى في تحقيق أهدافها، ومؤخرا كانت الواشنطن بوست تنشر تحقيقا طويلا من جلسات مطولة مع قادة الحرب في أفغانستان عن أسباب الفشل في هذه الحرب، وهناك العديد من الكتب والدراسات التي تخصصت في رصد العمليات الفاشلة والتاريخ الفاشل لأجهزة المخابرات العظمى التي تمتلك من الإمكانيات ما لا يُتَوَقَّع معه حصول كل هذا الفشل.

وكثيرا ما ترى في مذكرات صناع القرار -تصريحا أو تلميحا- إلقائهم بمسؤولية الفشل على رفاقهم في الإدارة، وتظهر إلى العلن المشاكسات بين المسؤول السياسي والمسؤول الأمني والمسؤول العسكري، وغير ذلك مما يدل بوضوح على أن أعمالهم لا تسير كما خططوا لها، وإذا كان هؤلاء بكل ما لديهم من إمكانيات هائلة يخفقون كل هذا الإخفاق، فمن يا ترى الذي أفسد عملهم؟!.. إنه الله، لا إله إلا هو، رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم.

ثانيا: ما معنى "الظلم مؤذن بخراب العمران"؟

هذه الكلمة لابن خلدون، وكان تعبيره دقيقا حين قال بأنه "مؤذن" أي أن الظلم مؤشر على خراب العمران، ونذير له، وهو يؤدي إليه.. فليس وقوع الظلم يعني أن العمران يخرب من وقته، بل السنة أن الظلم يفسد من النفوس ومن السلوك ما تبدأ معه متسلسلة تنتهي بخراب العمران. وهذا المعنى مضطرد من قبل ابن خلدون ومن بعده، وإنما استنبطه ابن خلدون لأنه متشرب للإسلام، ومن تشرب الإسلام قرأ ذلك المعنى في حديث رسول الله "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"، وقد ذكر ابن تيمية أن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ويهلك الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.

ثالثا: كيف تتفق هذه المعاني مع النهضة الاقتصادية والعمرانية التي تحدث على أيدي الطغاة وفي البلاد الشديدة الديكتاتورية؟

لقد كان ابن خلدون عبقريا حين استدرك في نفس "مقدمته" تحت عنوان "الظلم مؤذن بخراب العمران" أن هذا الخراب قد لا يظهر في البلاد الواسعة العمران الكثيرة الثمار ذات الثراء والأموال، نعم يؤثر الظلم فيها أثره ويعمل فيها عمله وينقص منها، ولكن اتساع البلد وكثرة العمارة ووفور الخيرات يُبَطِّئ من ظهور الخراب زمنا، فيتجاور الأمران: الظلم والعمران زمنا بحسب بقية الظروف والسنن التي تعمل في الناس. وربما بقيت العمارة تقاوم أثر الظلم حتى ينتهي النظام الظالم ويأتي غيره، فيتجدد به العمران والعدل قبل أن يظهر الخراب.

وهو فصلٌ جميل في المقدمة ينبغي قراءته بعناية.

رابعا: هل كانت تجربة محمد علي باشا في مصر تجربة نهضوية ناجحة؟

هذا سؤال لم ندرس إجابته في المدارس على وجه العناية والتفصيل، بل لقنونا إجابته كأنها ثابت لا يقبل الشك، وأنها كانت تجربة عظيمة..

يحتاج الأمر كثيرا من التفصيل، سنتجاوزه الآن، ونقول اختصارا: لو أننا نظرنا إلى النجاح بمعيار الإسلام فسنجد في تجربة محمد علي إنشاء حكم طغياني استعبادي تسلطي مستبد شديد التوحش، حتى قال المؤرخ الإنجليزي المشهور ستانلي لين بول إن أشد عصور المماليك ظلما تبدو بالمقارنة إليه كالنعيم. هذا فضلا عما جرى فيه من تنحية الإسلام وحرب المسلمين في السودان والجزيرة والشام وما وقع في كل ذلك من مذابح في غاية الشناعة، ورفع قدر النصارى واليهود على المسلمين، وقدر الأجانب على الأهالي، ومطاردة الأوقاف، وضرب القوانين الشرعية والتمكين للقوانين الوضعية، وفتح البلاد للأجانب، وتأسيس الجيش على النمط العلماني الحديث… إلى آخر ذلك كله مما يطول فيه الكلام، ومما يجعل التقييم الإسلامي لهذه الفترة أبعد ما يكون عن معنى "النجاح".

أما لو نظرنا بالمعيار المادي العلماني فإن النجاح الذي ينسب لمحمد علي في حفر الترع وإنشاء السدود وتأسيس الجيش القوي والإدارة المنضطبة وسائر ما يقال.. هذا النجاح لم يلبث كله أن تحطم وانتهى وكتبت شهادة وفاته في معاهدة لندن 1840م، حيث أغلق محمد علي بنفسه الترسانة البحرية وسرح الجيش من بعد ما كان 160 ألفا فلم يبق منه إلا 18 ألفا فقط، وكل نظام محمد علي لم يبق منه إلا القدرة التسلطية التحكمية الاستبدادية على الشعب، وهي القدرة التي جعلت مصر مرتعا للأجانب، كما ظهر هذا بوضوح في عهد ابن محمد علي سعيد باشا ثم حفيده الخديوي إسماعيل. إن ما جرى في هذه الفترة فوق الخيال حقا، لقد كانت الدولة المصرية خادما مطيعا للمصلحة الأجنبية، كانت الدولة المصرية بما لها من القوة والنفوذ تسخر المصريين ليعملوا في مشاريع الأجانب، ويتولى مناصبها الإدارية الحساسة أجانب بما في ذلك قادة الجيش، شقت مصر قناة السويس لتخدم المصالح الفرنسية والبريطانية، مهدت الطرق ليسهل للأجانب نقل محاصيل القطن إلى أوروبا لتعود ثيابا من مصانع أوروبا بأضعاف ثمنها. لا يتسع الوقت للوصف والتطويل.. لكن دولة محمد علي كانت دولة في خدمة المصالح الغربية تماما، دولة أفقرت الشعب وأثرت الأجانب، أكلت الفلاحين لتُسَمِّن بهم المحتلين.

فحتى بالمعيار المادي لا يمكن اعتبار دولة محمد علي تجربة ناجحة.

 

تبيان 13:هل تفتح تركيا النار على نفسها، فالصراع الدائر في سوريا والعراق، وصدامها التاريخي والمتجدد مع الروس، ومع الأنظمة العربية القائمة، أخيرًا تحويل آيا صوفيا لمسجد والغضب المعلن والمتزايد من الغرب، والصراع المشتعل في ليبيا، كيف ترى مستقبل تركيا كوريثة للدولة العثمانية ومع تطلعاتها لدور أكبر في المنطقة؟

يضع المسلمون جميعا أيديهم على قلوبهم خوفا على تركيا وإشفاقا عليها، أحيانا نقول: تبدو كأنها تفتح النار على نفسها وتخوض معركة أكبر منها مع القوى العظمى التي تفوقها مئات المرات في العتاد والسلاح، وأحيانا نقول: لعل هذا هو الطبيعي ولعل ما نحن فيه من الفشل والإخفاق يجعل هواجسنا ومخاوفنا متضخمة!

لن نستطيع بحال أن ننفلت من تأثير هزائمنا ونحن نقيم عمل الآخرين، هل أردوغان جسور شجاع إلى درجة التهور لكي يفعل هذا كله؟ أم أنه سياسي حكيم ضابط لنفسه وخطوته وعارف بها ومستعد لها ولكننا نراه كمتهور لأننا ننظر بعين المهزوم؟

على كل حال، تقييم السياسة على وجه التفصيل أمرٌ لن يحسنه إلا من كان في موقع السياسي، ذلك أن ما لديه من جملة المعلومات والموازنات الداخلية والخارجية مما لا يحيط به إلا القلة ممن هم في دوائر صنع القرار. ولكن التقييم الإجمالي يمكن أن يحسنه المراقب المتابع من بعيد.

لئن سألتني عن موقفي من بعيد، فلكم اندهشت من جسارته واندفاعته، أقصد أردوغان، هذا مع أني محسوب في قومنا على المتهورين المتحمسين المفتقدين للعقل والحكمة، وإني لأراه قائدا وزعيما مسلما مخلصا، أحسبه كذلك، ولو كان مجرد رجل يعمل لمصلحة بلده بالمعنى السياسي البرجماتي الضيق، فلقد كانت بلده في غناء عن كثير من المعارك التي أدخلها فيها. وإعادة آيا صوفيا إلى جامع دليل ساطع، فآيا صوفيا هو أكثر مكان كان يجلب الأموال لتركيا من بين كل متاحفها (وأنا شخصيا عجزت عن دخوله قبل أن يكون جامعا لارتفاع ثمن التذكرة)، فها هو يحوله إلى جامع ويفقد بهذا موردا ماليا كبيرا.. فهل هذا تفكير رئيس يقدم المنفعة العاجلة والمنفعة المادية على القيم الإسلامية؟.. ولا تنس أن مطلب إعادة آيا صوفيا إلى جامع لم يكن مطلبا جماهيريا مُلِحًّا لنقول إنه كانت تحت ضغط ما، أبدا.. بل هو الذي تدرج في فتحه فأمر برفع الآذان فيه قبل سنوات، ثم فتحه لصلاة الفجر قبل سنوات أيضا، ثم هاهو يعيده مسجدا.

وانظر إلى موقفه من قضية الانقلاب في مصر وقضية وفاة مرسي، أو إلى موقفه من قضية المسلمين التركستان الأويغور والمسلمين في بورما.. ما الذي يعود عليه من النفع جراء اتخاذه لهذه المواقف؟!.. بل أتذكر أني كنت في محاضرة خاصة يلقيها الزعيم الماليزي المعروف أنور إبراهيم، فكان مما ذكره الرجل أن أردوغان له مواقف إنسانية لا تتعلق بالسياسة، وحكى أنه -أي أنور- حين سُجِن في ماليزيا وفقد موقعه السياسي وكل نفوذه ولم يكن معروفا متى سيخرج من سجنه، كان أردوغان يتابع بنفسه حال زوجته وأبنائه. يقول أنور إبراهيم: هذا موقف أخلاقي إنساني يتجاوز فيه كل المصلحة والحسابات السياسية.

إن قدر تركيا -لموقعها الجغرافي وميراثها التاريخي- يجعلها في قلب العالم، مثلها في هذا مثل مصر والعراق والشام.. ومثل هذه الدول إما أن تكون دولة عظمى، وإما أن تكون مسرحا لصراع الأقوياء.. ولا بديل ثالث.. مثل هذه الدولة لا تملك أن تنعزل ولا تملك أن تنكفئ على نفسها ولا تملك أن تشاهد ما يحدث حولها من بعيد!

الموقع الجغرافي يعطيها تفوقا ومزية حال قوتها، ويكون نكبة عليها ونقطة ضعفها حال تراجعها، والميراث التاريخي يجعلها عضوا في نادي الحضارات الكبرى لحظة قوتها، ويجعلها فريسة تنهشها الحضارات المنتصرة لحظة ضعفها.

تلك أقدار منطقتنا، ومنها تركيا.

يتعلق مستقبل تركيا بما بعد أردوغان، لئن استطاع أن يورثها لمن يحمل الراية بعده، فنستطيع القول إن المستقبل يسير للأحسن، فإن أخفق في هذا، فالله أعلم بالمصير!

 

تبيان 14: في بضع خطوات عملية موجزة كيف يمكننا أن ننشئ أطفالنا على معرفة وإدراك التاريخ الإسلامي، فضلًا عن الانتماء الحقيقي والاعتزاز والفخر بذلك التاريخ العظيم، والعمل على دربه، في ظل منظومة التعليم والثقافة المهيمنة التي تشكل أطفالنا اليوم؟

- لن يغرس الانتماء لهذا الدين والفخر به والاعتزاز بتاريخه بمجرد المعرفة العقلية التي تُلَقَّن للطفل، بل هذه المشاعر تغرس فيه بما يراه في أبيه وأمه وشيخه ومعلمه ومن يقتدي بهم. وهو يصل من خلال إشراقة الوجوه والتماع الملامح ودموع العيون وحماسة الشعور ورجفة الشفاه واضطراب الصوت وما سوى ذلك مما يتلقاه من القدوة العملية.

- يجب أن تكون المادة التي يتلقاها الطفل منذ صغره متعلقة بقصص الأنبياء وسيرة النبي وصحابته وحياة الأبطال والمجاهدين، فيتكوّن حسه وخياله وشعوره من هذه المادة النافعة لا من خلال القصص الخرافية والأساطير.. ولدينا في هذا العصر الكثير من وسائل التوصيل الحديثة كأفلام الكارتون والمواد المرئية والمسموعة والمصورة المخصصة للأطفال، فيمكن الاستعانة بكل ذلك.

- انتقاء المعلم والشيخ الأمين والحريص على الطفل، وكذا انتقاء المدرسة التي تغرس فيه الأخلاق والقيم ويشيع فيها الجو الديني.. فإن هذا الغرس الأول هو الغرس الأهم.

وعلى الوالدين أن يكونا حريصين على متابعة الأفكار التي يتلقاها الطفل، لا سيما إن كانوا في بلاد غير إسلامية أو في أجواء عائلية ومدرسية غير متدينة، إذ عليهما في هذه الحال مجهود مضاعف في مراقبة ما يتسرب للطفل ومكافحته والرد عليه حتى يطمئنا إلى سلامة تصورات الطفل في هذه المرحلة.

- ثم لزوم الدعاء، والتصدق سرا بنية إصلاح الأولاد، فإنه لا غناء عن توفيق الله، وهذه الحقبة من الزمن قد كثرت فيها الشهوات والشبهات، وكثرت وسائل إيصالها للجمهور. وقد كان من دأب السلف الصالح أن يزيدوا في الطاعات ويخصصون بعضها رجاء صلاح الولد.

 

تبيان 15: كلمة أخيرة يود أن يوجهها محمد إلهامي للقراء وجمهور تبيان؟

جمهور تبيان هو من الجمهور الذي يحمل الرسالة ويفكر في مصلحة الأمة، وأهم ما يُقال للواحد من هذا الجمهور أنه يجب عليه ألا ينسى نفسه، لا بد أن يكون له ورد من الطاعة والعبادة، عبادة السر وصدقة السر وقيام الليل والذكر، ولا بد أن يكون له ورد من القراءة في الكتب الروحية: كتب الزهد والرقائق، فهذه أمور لا غناء عنها.

نحن في عصر تزداد فيه سطوة الشبهات والشهوات، والشبهات تعالج بالبناء الفكري المتين لكن الشهوات لا تعالج إلا بالبناء الروحي العميق، بل نقول: إن كثيرا من الشبهات لا تعالج إلا باجتماع الفكر والروح.

الإنسان عقل ونفس وجسد، لكلٍّ منهم غذاؤه، وإذا تضخم العقل بالفكر ومتابعة الجديد من الكتب والمناظرات والدروس العلمية ثم ضمرت الروح فستكون النتيجة إضافة مستشرق جديد للساحة الفكرية، لا إضافة مسلم جديد لساحة المعركة المضطرمة المحمومة.. وحاجة الأمة إلى مسلم مجاهد يرمي بسهم أعظم لا ريب من حاجتها إلى مستشرق متمكن يدبج البحوث العلمية الدقيقة.

إن أخطر ما يشيع في ساحة العاملين قلة تزودهم من كتب الزهد والرقائق، ومن عبادات السر، مع أنها روحهم وروح أعمالهم ومنبع تزويدهم بالطاقة الفاعلة ومأوى ترويحهم وتصبيرهم، ومنزل السكينة عليهم.. لهذا أجد أن أهم ما يجب قوله لقارئ هذا الحوار من جمهور تبيان أن يكون له نصيب وافر من هذا المنهل: ليتخذ له كتابا مثل مدراج السالكين أو قوت القلوب أو إحياء علوم الدين، فإن صعبت عليه الكتب القديمة فعليه بكتب خالد أبو شادي ومجدي الهلالي فهي أيسر وأقرب.

ثم أرجو من كل قارئ -إن كان لا يزال معنا إلى هذا السطر- ألا ينساني من دعائه، فإني أحتاج إلى ذلك جدا لا سيما في هذه الأيام.. فلعله لا يبخل علي بدعوة صادقة!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

سعدنا بهذا اللقاء الشيق، شكرا جزيلا لتلبيتك دعوتنا، وفقك الله ونفع بك.

 

 نشر في موقع تبيان

الخميس، أغسطس 06، 2020

لماذا لا أؤيد عمل المرأة!

 

كنتُ أتصور أن الإسلام لا يحبذ عمل المرأة حفاظا عليها وعلى عفتها وبراءة نفسها أن تخالط الرجال وتصادم صعوبات الحياة وخشونتها!

بعد أن تزوجت وأنجبتُ، رأيت أمورا أخرى، إن حجم ما تقوم به المرأة في رعاية الزوج والأبناء هو أمرٌ لا يستطيعه الرجال بحال، وهو أمرٌ لا يستقيم معه أن تكون المرأة عاملة، فهذه التي تعمل هي بالقطع وبلا ريب ستقصر في شأن بيتها وزوجها وأولادها!

وأشقى الناس وأولاهم بالتعاطف والشفقة امرأة متزوجة ذات أولاد وتعمل!! ولا تقصر في عملها ولا بيتها.. ينبغي أن تكون هذه المرأة إنسانا خارقا أشبه بالأساطير!!!

وكنتُ -قبل الزواج والإنجاب- أشفق على المرأة التي تعمل لما هي مضطرة إليه من هذه المشقة، فصرتُ بعد هذا أشفق عليها وعلى أبنائها وعلى زوجها جميعًا..

ورغم مرور أكثر من عشرين سنة على خروجي من ديار الصعيد، ومشاهدتي أحوال النساء في الوجه البحري والقاهرة، ثم في دول الخليج، ثم في بعض بلاد أوروبا وآسيا.. رغم هذا كله، فلا يزال مشهد امرأة تجر حقيبة ثقيلة يزعجني ويعكر مزاج يومي.

ثم ما يلبث أن يشوقني هذا المشهد إلى ذلك الزمن الذي عشته في الصعيد حيث لم يكن ذلك ممكنا، ولو فُرِض أن اضطرت امرأة لحمل شيء ثقيل فإنه يهرع من حولها من الرجال ليحملوه عنها، ويرون ذلك واجبا عليهم بل فضيحة في حقهم أن تسير امرأة في جوارهم تعاني من حمل شيء ثقيل عنها.. فإن فُرِضَ أنهم غفلوا عنها فإن ترى من حقها أن تأمر أقرب الرجال إليها أن يحملوا عنها، وما يملك الرجل المأمور أن يتخلف!!

هذا غير ما أتذكره من أخبار مجتمعاتنا المسلمة في عصور ما قبل الحداثة من أخبار التكافل والتعاضد والتناصر، حيث يرى فتيان الحي أنهم مسؤولون عن بناته كمسؤوليتهم عن أخواتهم، وأمهات الحي أمهات للجميع، تأمر الواحدة منها الفتى -سواء عرفته أم لم تعرفه- أن يحمل عنها ما تحمل أو ترسله في شأن لها يشتريه أو يوصله.. وكم سمعنا وقرأنا في كتبنا -بل وفي كتب المستشرقين وعلماء الاجتماع الغربيين إذ درسوا بلادنا- عن قصص المرأة التي يغيب عنها زوجها فما عليها إلا أن تعجن عجينها ثم تضعه خلف الباب، فإذا رآه أحدٌ من المارّين عرف أن صاحب الدار غائب فكان واجبا عليه أن يحمل العجين لبيته فيخبزه ثم يرجعه إلى بيتها خبزا!

أين هذه المقامات الرفيعة النبيلة من حالٍ يسمونه الآن حضارة ورقيا تعمل فيه المرأة قبل العاشرة أحيانا، نادلة في مقهى وعاملة في مصنع وخادمة في بيت أجنبي، في ظل مجتمع تعاقدي وقح، لا يرى فيها إلا عاملا قليل الكلفة ويحب أن تكون -فوق ذلك- "حسنة المظهر"!!.. وما ذلك إلا لكي تغريه أو يغري بها زبائنه!

إحدى مشكلاتنا العويصة حقا أننا لا نعرف كيف عاش المسلمون قبل تلك الحداثة، فعرفنا حال الجاهلية ولم نعرف طعم المجتمع المسلم..

فهل معنى هذا أن المرأة في تاريخنا المسلم لم تكن تعمل؟!

أبدا.. ربما عملت، كان هذا هو الاستثناء، تحت الضرورة والاضطرار، أو في مهن احتاجها المجتمع وقامت بها النساء، وهي حتى حين تعمل فقد كانت محاطة بقيم وأخلاق وأعراف تجعلها في عملها هذا مصانة موفورة مقدَّمة عند الازدحام يُوطَّأ لها المقام وتُسْتَثني -لكونها امرأة- من النظام!

أتفهم تماما أن كثيرا من الظروف المعاصرة ضغطت على كثير من البيوت فاضطرت النساء إلى العمل، نعم، قد بُلينا منذ أكثر من قرن بأفكار يسارية ترى في المرأة التي تسكن بيتها قوة عمل معطلة وتريد أن تدفع بها لزيادة الإنتاج ومراكمة الثروة وتحقيقا للهدف الأسمى (العمل) كما هو ضمن المنظومة اليسارية الاقتصادية.. ومعها وبعدها بُلينا بأفكار ليبرالية ترى في خروج المرأة سوقا عظيما ينفتح لمراكمة الثروة، ويفتح معه مجالات هائلة لتدوير الأموال.

تلك قصة طويلة مريرة وبائسة، ولا يتسع لها المقام، ويكفي أن ترى أن الليبرالية تأنف من عمل المرأة -تطبخ وتنظف وتغسل وتكوي- في بيت زوجها وترى ذلك من التخلف والرجعية، بينما ترى قيامها بنفس العمل في بيت جارها تحقيقا للذات وزيادة في الدخل.. فلو وُجِدت امرأتان جارتان في بيت واحد فإن النظام الليبرالي يحب لكل منهما أن تعمل في بيت الأخرى لتحصيل مرتب، ويأنف من أن تعمل كل واحدة منهما في بيتها لتوفر نفس المرتب!!!

الحضارة الليبرالية الغربية المعاصرة هي في حقيقتها حضارة تعذيب للإنسانية، أخرجت المرأة من بيتها لتعمل، لتعمل في ظروف عصيبة، لكي تحقق متطلبات هي في معظمها غير مهمة، بل هي وليدة سوق الدعاية والإعلان والإغراءات العظيمة التي تُنشئ في النفس الحاجات والشهوات. ولما خرجت المرأة صار مطلوبا منها أن تحقق مظهر المرأة الغربية المتأنقة المتزينة فصارت المرأة في بلادنا تحت عبء التقليد والتجميل والتزين لتحقيق مواصفات النجمة التي تراها في نفس الإعلام.

ولما صنعت المرأة كل هذا تعذب الرجل.. تعذب بها في الشارع إذ صارت كل امرأة فتنة، وقد ينزل الرجل من بيته وما في ذهنه حبة خردل من شهوة، فإذا بامرأة عابرة تقلب رأسه وخاطره وجسده جميعا! .. ثم تعذب الرجل بنزولها حين فقدها في البيت زوجة وأما لأولاده تحت ضغط حاجتها للخروج!

وبهذا صارت المرأة معذَّبة ومُعذِّبة معا..

نعم، أنا من قوم أحب لكل امرأة أن تقر في بيتها، ويسعى عليها بحاجتها الرجل المسؤول عنها، فإذا خرجت لحاجة أو لاضطرار أو لعمل فلا يكون ذلك إلا على الوجه الذي خرجت به أمهات المؤمنين وزوجات الصحابة والتابعين.

الأربعاء، أغسطس 05، 2020

الرحالات الحجازية: عالم من المتعة


من يقرؤون في بلادنا قلة، وهذا أمر مؤسف.. غير أن الأشد أسفا من ذلك أن هذه القلة القارئة ينصرف معظمها نحو قراءة الروايات والقصص والمواد الخفيفة اللطيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لا.. بل الحق أنها تضر ولا تنفع، وأنها تؤذي ولا تُصلح!


والإكثار من قراءة الروايات يشبه الإكثار من الاستماع إلى المسلسلات والأفلام، وأكبر الضرر أن تكون مادّة العقل وأفكاره ورؤاه وتصوراته مبنية على قصص خيالية حبكتها عقول المؤلفين، بينما حقيقة الحياة أكثر تركيبا وتعقيدا وعمقا. إن هذا الحال يشبه كثيرا أن يكون كل غذاء الجسم من المأكولات السريعة: حلوة الطعم حافلة بالمقبلات ولكنها مضرة بالجسم.

ربما كان الكثير من الشباب معذورا، لم يجد من يوجهه إلى المعرفة الثقيلة الرصينة النافعة، وربما كان العذر في أن هذه المعرفة النافعة لم تُكتب بأساليب سهلة مبسطة مشوقة تمتع القارئين، فظلت حكرا على المتخصيين فيها وعلى من يتصبر لها ويتجلد أمامها حتى يفهمها فيذوق لذتها.

وأكثر ما أشعر بهذا المأزق حين يتكاثر في بريدي سؤال متكرر: ماذا نقرأ في التاريخ؟ وكيف نتخلص من عقدة أن ما نقرأه سرعان ما ننساه؟!

هذا مع أن التاريخ مَبْنَيٌّ على القصص والحكايات، حتى لقد أوصى بعض العلماء طالبَ العلم أن يتعلم التاريخ "خاصةً وقت راحته وسآمته من تعلم غيره من العلوم، فإن هذا العلم سهل جداً، ومَنْشَط ومُنْتَزَه ولذة، لا ينبغي لأحد أن يخلو منه"[1]، فيجتمع في مطالعة كتب التاريخ "ترويح للخواطر وعِبَرٌ لأولى البصائر"[2]. وقد تكرر في كلامهم أن علم التاريخ "يستمتع بسماعه العالم والجاهل، ويستعذب موقعه الحمق والعاقل، ويأنس بمكانه وينزع إليه الخاصىِ والعامي، ويميل إلى رواياته العربي والعجمي"[3].

لقد جُبِل الإنسان على حب القصة، وعلى الشغف بالسرد، حتى لو أنه يعرف نهاية القصة فإنه لا يزال يستمع إليها معجبا بها، وبهذه الفطرة سمعنا قصص الطفولة من آبائنا وأمهاتنا عشرات المرات ولم نكن نشعر بالملل.

فلماذا إذن يستثقل الشباب في زماننا قراءة التاريخ ويستخفون قراءة القصة؟!

لهذا أسباب عديدة بعضها يتصل بمناهج التاريخ المعاصرة التي اهتمت بالتحليل والتعليل والتفسير واتخذت لنفسها من المناهج والأساليب الأكاديمية ما أبعدها عن الجمهور، وبعضها يتصل بأساليب تدريس التاريخ في مدارسنا، وبعضها يتصل كذلك بالضعف العام للهمم والركون إلى السهل في عالمٍ تسيطر عليه حضارة اللذة والسرعة وسرعة تقلب المزاج وحب الراحة!

كنتُ أجيب السائلين بأن عليهم أن يتركوا الروايات ويقرؤوا كتب المذكرات الشخصية وأدب الرحلات وحتى أدب السجون، ففيها يتحقق جانب المتعة بالسرد والوصف إلى جانب كونها حقيقية وليست خيالا ابتدعه عقل مؤلف! فتكون قراءتها اطلاعا على حقيقة العالم وعلى العالم الحقيقي، ويكتسب القارئ فيها ثقافة ووعيا بما يجري في دنيا الناس وما يؤثر عليه في دنياه وفي أخراه أيضا.

وهذه السطور هي تعريف بكتاب عظيم اجتمع فيه العلم والمتعة، الدين والدنيا، النفع واللذة، ذلك هو كتاب "الرحلات الحجازية" للشيخ الدكتور محمد موسى الشريف.

مؤلف هذا الكتاب عُرِف بغزارة الإنتاج، وقائمة كتبه طويلة متعددة منها ما بلغ عددا من المجلدات ومنها الكتيبات الصغيرة.. وقد حدثني –حفظه الله- أنه صار يتعمد أن يخرج كتبا صغيرة لأن همم القراءة قد ضعفت، وهو لا يحب أن يظل العلم حكرا على المتخصيين والقلة من ذوي الهمة.

وقد دفعته هذه الرغبة فيما يبدو لتلخيص وتهذيب عدد من الموسوعات الكبرى العلمية، لتكون أيسر على القارئين، ككتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي والذي بلغت به بعض الطبعات خمسين مجلدا وهو سجل حافل للشخصيات الكبيرة في التاريخ الإسلامي لسبعة قرون، حيث اختصره د. موسى الشريف إلى أربعة مجلدات بعنوان "نزهة الفضلاء"، ومثل ذلك كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي وهو سفر ضخم في التراجم اختصره إلى مجلدين بعنوان "الأخبار العليّات"، ومثلهما كتاب "رياض النفوس" وهو تراجم لأعلام المغرب الإسلامي اختصره في مجلد واحد. ثم أتمَّ مسيرة التراجم بكتاب آخر اختصره من تسعة عشر كتابا في التراجم لأعلام الإسلام بين القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الهجري، وسماه "المختار المصون من أعلام القرون" في ثلاث مجلدات.

لكن الكتاب الذي نحن بصدده مُخْتَصَرٌ من بين نحو الثلاثين مجلدا، فقد نهضت همة الشيخ إلى جمع أربعة وعشرين كتابا كتبها أصحابها عن رحلتهم إلى الحج، ثم اختصر ذلك في كتاب واحد، فخرج الكتاب في ثلاث مجلدات كأنه خلاصة الخلاصة ورحيق الرحيق، وسمَّاه "المختار من الرحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النبوية"!!

وقد اتسعت دائرة الجمع، فشملت القدامى كابن جبير وابن رشيد الفهري وابن بطوطة كما شملت المتأخرين كشكيب أرسلان ورشيد رضا وعلي طنطاوي ومحمد حسين هيكل. كما شملت كذلك كتب المستشرقين الغربيين الذين تنكروا كمسلمين ليشاهدوا الحج ويكتبوا عنه، مثل فارتيما وجوزيف بتس وريتشارد بيرتون.

فاجتمعت في هذا الكتاب أنواع من المعارف واللطائف وزوايا النظر لاتساع الزمان وتعدد الرجال، فلكل زمان أهله وأفكاره وقضاياه، ولكل مؤلف رؤاه وقضاياه وما يلفت نظره وما يعتمل في نفسه، حتى الأساليب اللغوية الأدبية قد تنوعت في هذا الكتاب بين القديم والحديث، المشرقي والمغربي، الأصيل والمترجم.

كأنه صورة بانورامية مصغرة وشاملة لرحلة الحج عبر عشرة قرون، تمر فيها على أحوال مكة والمدينة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وعلى طرق الحج وأحوالها وأوضاعها وما يكتنف الحاج فيها من المشاق وما وُضِع له فيها من التسهيلات، ومواقف الحكومات من الحج ما بين المنع والتضييق أو الفسح والتشويق، وطبيعة التنظيم لقافلة الحج والقائمين عليها وتدابيرهم في الحماية والحراسة ونحو ذلك، وأحوال المطوفين في مكة والمُزَوّرين (أي الذين يرشدون الزائرين) في المدينة وتعاملهم مع المسلمين ممن لا يعرفون العربية وما يقع بينهم وبين الحجاج من تراحم أو ضده، وما يقع في الحج من التعارف والتآلف واللقاء بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وما يقع للحجاج عند مغادرة بلادهم من التوديع وعند العودة إليها من الحفاوة.

وكأنه بستان متنوع من الخواطر والنظرات الإيمانية التي جالت في صدور أصحابها وهم في الديار المقدسة، وبستان متنوع من صور الشوق العظيم الذي يغمر قلوب المسلمين، فمنهم من حجَّ فارتوت أشواقه وتجددت، ومنهم من لم يدرك ولكن قَلَمًا لأحد هؤلاء الرحالة سجَّل هذه الأشواق.

وظهر في هذه الرحلات آثارٌ علميةٌ واجتماعيةٌ يصعب أن تُدرك بوضوح في مصادر التأريخ التقليدية، كذلك الذي يقع بين الحجاج وبين المدن على طريق الحج من الإقامة والزواج والتعليم والتجارة، وما يتعرض له الحجاج من المغامرات مع قطاع الطريق أحيانا ومع غيرهم من قوافل الحج أحيانا أخرى، وما شاع في بعض الأزمنة والأمكنة من العادات والتقاليد الدينية والدنيوية، وما يترنم به الحجاج من الأناشيد والأهازيج، وما أصدره بعض العلماء من فتاوى لإسقاط فرض الحج حين يبلغهم ما في الطريق من الصعوبات والمخاوف، وكيف استقبل الناس هذه الفتاوى فمنهم من غلبه الشوق ومنهم من غلبه الخوف.

ولا تخلو هذه الرحلات من فوائد قوية في الأحوال السياسية لبلاد المسلمين، لا سيما ما تعلق منها بأمراء مكة والمدينة وأعيانهما، وأوضاع الخلافة الإسلامية لا سيما في العصر المملوكي والعثماني، وما كان يلقاه الحجاج من الرعاية أو الإهمال، وكيف أدارت السلطة شأن الحجاج بداية من تمهيد السبل والحماية من قطاع الطرق وتنفيذ الحجر الصحي ومتابعة شؤونهم في التنقل والإقامة ورفع المظالم، وذلك المشروع الكبير الذي تعلقت به قلوب المسلمين في عهد السلطان عبد الحميد: سكة حديد الحجاز!

ومن عادة المؤلف حفظه الله، أنه يضع في نهاية الكتاب فهرسا للفوائد، يضع فيه ما هو جدير بالنظر والمطالعة من المعارف اللطائف والغرائب والمواعظ وما يثير التأمل، وهذا الفهرس هو من بدائع ما يفعل المؤلف، ومن يبدأ بقراءته يزداد شوقا لمطالعة الكتاب. وقد صرَّح في كتابه "رحلتي مع القراءة" بقوله:

"لما تعمقت في القراءة رأيت أن أضع علامة على المواضع المهمة في الكتاب حتى أعود إليها فيما بعد، وقد أفادتني هذه الطريقة فيما بعد، فقد كنت إذا أردت الرجوع إلى كتاب قرأته من قبل فإني أقلَّب صفحاته لأعرف المواضع المهمة فيه. وربما وضعت بعض التعليقات داخل الكتاب على ما أجده جيداً أو مستهجناً مما أقرؤه. وربما وضعت في صدر الكتاب بعد فراغي من قراءته رأيي فيه وفي مصنفه بكلمات موجزة قليلات. ثم إني انتهيت في القراءة إلى وضع فهرسة خاصة لفوائد كل كتاب أقرأه غالباً، وذلك الفهرست -فهرست الفوائد- هو العمل الأرضى عندي في باب القراءة؛ وذلك لأن الفهرست يعد خلاصة ما في الكتاب".

وللمؤلف أيضا كتابان آخران يتعلقان بأمر الحج، أولهما كتاب "المقالات النفيسة في الحج إلى الأماكن الشريفة" وهو قريبٌ من فكرة كتاب "الرحلات الحجازية" إلا أنه عن المقالات لا عن الرحلات، وفيه جمع المؤلف عشرات من عيون المقالات التي كتبها أئمة وعلماء ودعاة وأدباء في شأن الحج ومعانيه وفقهه وآثاره في النفس والمجتمع وما يوصى به للحاج في نفسه أو ما يُرفع للحكام والأمراء من النصائح في باب الحج، وقد استخرج هذه المقالات من المجلات والجرائد وكثيرٌ منها هو في حكم الضائع لأنه لم يُجمع ضمن كتب أخرى لصاحبه. فهذا الكتاب بستان آخر في عالم الحج والحجيج، وشعاع نور بديع تشاركت في نسجه ورسمه أقلامٌ أصيلة رصينة.

وثانيهما هو كتاب "الشوق والحنين إلى الحرمين"، وهو مستخلص من كتاب "الرحلات الحجازية"، إذ أفرد المؤلف أخبار الشوق والحنين لدى الحجاج وما يتصل بها في ذلك الكتاب الصغير، وحسنًا فَعَل، إذ هو أرجى أن ينتشر ويُقرأ ويتحقق منه معنى التشويق والتحفيز إلى الحرمين الشريفين.

والخلاصة المقصودة أن كتاب "الرحلات الحجازية" هو نموذج بديع وعظيم للكتب التي ننصح أن ينصرف إليها الشباب عن غيرها من الروايات الأدبية والخيالية، فلا بد للمرء أن يكون حريصا على عقله كما هو حريص على جسمه، بل غذاء العقل أهم وأولى من غذاء الجسم، لا سيما وكثيرٌ من غذاء العقل النافع هو أيضا غذاء ممتع ولذيذ.

نشر في مجلة المجتمع الكويتية، أغسطس 2020


[1] ابن حزم، رسائل ابن حزم، 4/73؛ ابن الجوزي، شذور العقود في تاريخ العهود، تحقيق: د. أحمد عبد الكريم نجيب، ط1 (د. م: مركز نجيبويه، 2007م)، ص33، 34.
[2] ابن الأكفاني، إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، نشر: طاهر بن صالح الجزائري، (بدون بيانات نشر)، ص18؛ وانظر: مسكويه، تجارب الأمم، 1/49.
[3] المسعودي، مروج الذهب، 2/53.