الخميس، سبتمبر 21، 2023

لطمتان في وقت واحد!

 



كان من عجائب التوافق أن وقع النصر والتحرير في أفغانستان في نفس الوقت الذي شهد انهيار تجربة حركة النهضة في تونس، حيث جرى الانقلاب على راشد الغنوشي وإزاحته من المشهد، فكان ذلك بمثابة اللطمتين المتعاكستيْن في وقت واحد: انتصار طالبان، وانهيار الغنوشي!

لقد انتصر أولئك الذين يُوصمون بأنهم متشددون في الدين، لا يفهمون العالم ولا يحسنون التقدير، وانهار ذلك الذي قدَّم أكثر المحاولات التطويعية للإسلام لكي يوافق المزاج الغربي، فسعى جهده لتطويع الإسلام فكريا ليجعله مجرد نسخة حداثية غربية، وسعى جهده لتنفيذ كل التوصيات العملية السياسية التي تجعله حزبا سياسيا أليفا ولطيفا ملتزما إلى أقصى حد بالمواصفات التي تطمئن الغربيين وتؤكد لهم أنه حزب "معتدل"!

ولذلك عاشت البيئة النخبوية الثقافية الإسلامية في صدمة ارتباك لفترة من الزمن، ولا تزال آثارها باقية حتى لحظة كتابة هذه السطور، فأي محنة أشد من هذه يمكن أن يعيشها أولئك الذين عاشوا أعمارهم يُنَظِّرون لأن التشدد هو مشكلتنا الثقافية التي سببت هزيمتنا وتخلفنا! وعاشوا يرسمون لنا أن التقدم والتطور كامن في الاستفادة من الحداثة الغربية وفهم التجربة الغربية في الانتقال من التخلف إلى التفوق.

ثمة أسباب عديدة يمكن أن تفسر نجاح طالبان ومن ورائها الشعب الأفغاني في دحر الاحتلال الغربي، وتفسر نكسة الحركات الإسلامية في العالم العربي، ولكني أريد في هذه الأسطر أن أتوقف عند سببٍ واحدٍ أراه أحد الأسباب الرئيسية في تحقيق الفارق بين التجربتيْن: ذلك هو الإيمان بـ "الدولة"!

إنه ما من صانع قرارٍ غربي حاول أن يبحث أسباب فشلهم في أفغانستان، إلا وقد توقف عند الفشل في بناء "الدولة"، بل لقد كان عدم وجود "الدولة الحديثة" مخيفا للأمريكان قبل احتلالهم، ولذلك اقترح بول وولفوتيز قبل الاحتلال أن يبدؤوا باحتلال العراق، إذ فيها دولة حديثة وجيش نظامي، ومن ثَمَّ سيسهل تحقيق النصر الأمريكي، بينما أفغانستان التي لا فيها دولة حديثة ولا جيش نظامي سيصعب الانتصار عليها[1].

وفيما بعد احتلال أفغانستان، لخص زلماي خليل زاده مسؤوليته فيها بقوله "توسطت في نزاعات بين أمراء الحرب، وحثثتهم على التعاون مع الحكومة الوطنية، كما ساعدت القادة الأفغان على وضع حجر الأساس للمؤسسات الوطنية، مثل: الجيش الوطني الأفغاني"[2].

وتقول كونداليزا رايس، التي عملت مستشارة للأمن القومي ووزيرة للخارجية، عن الفرق المتنوعة التي عملت في أفغانستان: "مع أن هذه الفرق كانت متنوعة التركيب والنشاط إلا أن لها جميعا هدفا واحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية"[3].

ومثلها يقول روبرت جيتس، الذي تولى وزارة الدفاع الأمريكية بعد دونالد رامسفيلد، وكان قد تولى قديما رئاسة المخابرات المركزية الأمريكية: "كانت عشرات الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية منخرطة في محاولة مساعدة الأفغان على تأسيس حكومة فاعلة"[4]، ويقول أيضا: "إن هناك تركيزا كبيرا في إنشاء حكومة مركزية قوية في بلد لم يسبق له عمليا أن كانت فيه حكومة، وتركيزا بسيطا جدا في تحسين الحكم والأمن والخدمات على صعيد المحافظة والقضاء، بما في ذلك الاستفادة أكثر من زعماء العشائر الأفغانية المحلية ومجالسها"[5].

ولا يقتصر الأمر على الأمريكان وحدهم، ففي مذكرات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي صدرت قبل أقل من عام (صدرت في أكتوبر 2022م)، نرى نفس الأمر أيضا؛ فقد روى نتنياهو أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أراد إقناعه بالموافقة على مقترح للسلام، ولكن نتنياهو أصرَّ على أن يحتفظ بحق اقتحام المناطق الفلسطينية بقواته الأمنية والعسكرية "لاستئصال الخلايا الإرهابية"، ولما طمأنه كيري بأن الأمريكان سيدربون قوات الأمن الفلسطينية للقيام بهذه المهمة، لم يطمئن نتنياهو، فاقترح عليه كيري ترتيب زيارة سرية لأفغانستان ليطلع بنفسه على إنجاز الأمريكان في تدريب الجيش الأفغاني، فقال نتنياهو: "في اللحظة التي ستغادر فيها أفغانستان ستقضي طالبان على هذا الجيش"، يواصل نتنياهو: وهذا ما حدث فعلا في 2021، ما إن سحبت أمريكا آخر قواتها حتى تبخر الجيش الأفغاني خلال أيام[6]!

ولقد كرر نتنياهو أكثر من مرة، في مذكراته، أن القوات التي يدربها الاحتلال لا تتمتع بنفس الإيمان والتضحية العقائدية التي تتمتع بها المنظمات التي يسميها "إرهابية"، ومن هنا قرأ سيطرة طالبان على أفغانستان كنموذج متكرر لسيطرة حماس على غزة (2007م) وهزيمتها لقوات السلطة الفلسطينية، ولسيطرة حزب الله على لبنان (2000م) واستعصائه على قوات الجيش اللبناني[7].

الخلاصة المقصودة أن الشعب الأفغاني احتفظ بعافيته، ولم تستطع "الدولة الحديثة" أن تكسر المجتمع الأفغاني ولا أن تتغلغل فيه وتتغول عليه، ومن ثَمَّ بقي المجتمع قادرًا على مقاومة الاحتلال، واحتضان المقاومة، ونبذ السلطات العملية المرتبطة بالمحتلين! وأهم من ذلك أن الأجهزة التي بناها الاحتلال لم ينظر إليها الأفغان باعتبارها مكسبا ولا على أنها مؤسسات وطنية يجب الحفاظ عليها!

بينما العكس تماما هو ما وقع في عالمنا العربي، وقد ازدادت محنة العرب حين نشأت هذه "الدولة الحديثة" وجيوشها النظامية بأيدي الحكام المحليين، مع أنهم كانوا عمليا تحت نفوذ الأجانب المحتلين، ومن المؤسف أن الحركات الإسلامية في العالم العربي –مع وجود الغفلة وطول الزمن- اعتبرت أن هذه المؤسسات الدولتية هي من المكاسب الوطنية التي تتحتم المحافظة عليها.

لقد ارتكب الغنوشي كل تنازل ممكن بغية المحافظة على الدولة ومؤسساتها، وأبدى عبد الفتاح مورو احترامه الكبير للطاغية المجرم للحبيب بورقيبة –مع أن مورو من ضحايا التعذيب في عهده- لأنه بنى "مؤسسات الدولة التونسية"، وكان الرئيس مرسي رحمه الله حتى جلسة محاكمته الأخيرة يطلب جلسة خاصة يُفضي فيها إلى قضاته بما لديه من أسرار لأنه كان رئيس دولة ويملك ما يرى أنه يجب ألا يُذاع!! ثم مات في نفس هذه الجلسة!! لقد كان وفيا لمنطق الدولة –مع كل أسف- حتى مات مقتولا على يد هذه الدولة نفسها!!

لقد سمحت الحركات الإسلامية العربية لهذه الدولة ومؤسساتها أن تفترسهم، ولم تفكر حتى الآن في أن هذه "الدولة" إنما صُنِعت أساسا لا لخدمة الشعب، بل للسيطرة عليهم وتنظيم امتصاص أموالهم، ولم تكن هذه الدولة إفرازا طبيعيا لديننا ومجتمعنا، وإنما نزلت علينا عبر الاحتلال وصنائعه، فما من قصة احتلال ولا هيمنة أجنبية إلا وكان لها صراع عنيف كسرت فيه المجتمع، وجردته من سلاحه، وهيمنت على أوقافه، وسيطرت على أمواله!

إن قوة المجتمع الإسلامي كامنة في توزع القوة فيه، فجيشها لا يحتكر السلاح ويجرد الرعية منه، والسلطة لا تسيطر على أنشطة المجتمع وفعالياته العلمية والاقتصادية والاجتماعية، والتماسك القبلي والعشائري هو أحد أهم عوامل القوة الداخلية والخارجية وليس نقطة ضعف كما تنظر إليه الحداثة التي لا تريد إلا سلطة قوية شاملة ومواطنا فردًا متجردًا من كل قوة ومربوطا بها في كل خطوة!

النظام الإسلامي نظام يحرص على قوة المجتمع وقوة العلماء وقوة التلاحم القبلي، لأن مجتمعًا بهذا الأسلوب لا يمكن احتلاله ولا يمكن الطغيان عليه، ولو حدث، فإنه احتلال متعثر وزائل، وهو كذلك طغيان محدود ومتهدد.

والدولة التي تتوغل على المجتمع لا تكتسب قوَّتَها إلا على حساب قوته، وكلما اختُزِلت القوة في السلطة كان الجميع مهددًا، فإذا استبد بالسلطة طاغية لم يستطع أحد أن يقوم له، وإذا هَزَم أجنبي جيش الدولة الرسمي فقد انهارت البلد كلها ولم يعد فيها مقاومة.

ونحن في الذكرى الثانية لتحرر أفغانستان، نعيد ونكرر ونجدد التهنئة على ما كتبه الله لهم من النصر، ونعيد ونكرر ونجدد الأمل في أن تبقى أفغانستان مجتمعا قويا متماسكا متلاحما، متمسكا بالدين وحريصا عليه، مستعصيا على استبداد طاغية محلي أو على احتلال طاغية أجنبي.


نشر في مجلة الصمود، الناطق بلسان الإمارة الإسلامية في أفغانستان، سبتمبر 2023



[1] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص114.

[2] زلماي خليل زاده، السفير، ص7.

[3] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.

[4] روبرت جيتس، الواجب، ص248.

[5] روبرت جيتس، الواجب، ص238.

[6] Benjamin Netanyah, BIBI: My Story, p. 527.

[7] Benjamin Netanyah, BIBI: My Story, p. 527-8.

الجمعة، أغسطس 25، 2023

مذكرات جندي مصري - أحمد حجي

 


هذا كتاب لطيف مؤثر ..

 يوميات متفرقة لجندي مصري طبيب على جبهة قناة السويس قبيل حرب أكتوبر (1973 م)، كتبها بين عامي 1969 و 1972 .. قبل أن يلحق بالشهداء في 1972 م.

 يطرب المؤرخون لمثل هذه اليوميات التي تكشف لهم حياة الناس والبسطاء المغمورين تحت سطح الحياة السياسية التي تتكدس فيها أخبار الساسة والقادة، فمثل هذه الكتابات تلقي الضوء على الأعماق الإنسانية البعيدة للأحداث الكبيرة والقرارات السلطوية .. فبينما أنت تقرأ في كتاب التاريخ نبأ الجيوش والشعوب كأنها بيادق وأدوات، تقرأ في مثل هذه المذكرات واليوميات نبأ الإنسان الذي كان رابضا في الخنادق، فيم كان يفكر وماذا كان يأمل ومم كان يعاني.

 صاحبنا مؤلف هذا الكتاب كتبه وهو في الثلاثين من عمره، ولكن لغته وأسلوبه يكشفان عن قصاص ذي موهبة سينمائية، فهو يرسم المشهد بينما يحكي الحكاية، ويصور الأجواء والظلال والألوان قبل وأثناء رواية المضمون، ويربط بين عناصر القصة رباطا سهلا غير متكلف، فلا تنتهي اليومية إلا وقد أجاب عن السؤال الذي أثاره لديك في ثنايا السياق.

 وأغرب ما في قصة هذا الكتاب أنه منع من النشر، ولا أدري السبب، يقول الذين منعوه: لأنه يحتوي على أسرار عسكرية قد تفيد العدو، ويقول الرافضون لهذا المنع: بل لأن الكتاب يثير قضية الجنود الذين دفعوا الثمن ولم يحصلوا على أي تقدير، فيم ذهبت المكاسب إلى من لم يعاين الخطب ولم يعان أهوال الحرب!

 وفي الكتاب حقا صفحات من هذه المأساة، ولكنها لا تبرر منعه، فكم نشرت في مصر كتب أشد خطرا من هذا، ولهذا يبدو لي المبرر غير مقنع، ولعل ثمة ما لا أعرفه!

 لكني حين بحثت عن الكتاب عثرت على نسخة إلكترونية، منقولة -كما قال الذي رفعها- عن النسخة التي صدرت عن "مختارات الكرمة" .. وبينما أقرأ فيها، إذ عثرت على نص رائع أثار في نفسي بعض الذكريات، فهرعت لكي أضعه في ضمن بحث أكتبه، فاضطررت للبحث عن نسخة مطبوعة لكي أوثق منها هذا النص بالصفحة والرقم والطبعة (كما هي تقاليد البحث الأكاديمي)، فعثرت على النسخة التي أصدرتها دار الفكر، لكنني فوجئت أن النص الذي أريده غير موجود!!!

 وإذن، فثمة تلاعب بنص المذكرات جرى في دار الفكر التي مقرها القاهرة وباريس ..

 يتحدث هذا النص المفقود عن معلومة مثيرة للتأمل، وهي أن الناس (المقاومة الشعبية) انهمروا كالسيل لدعم الجيش والمقاتلين في العدوان الثلاثي 1956، بينما لم يحدث هذا منهم في عام 1967 بل "إن الملل مثل الكابوس دخل كل بيت وتربع فيه".

 ذكرتني هذه الفقرة بالمقارنة التي عقدها عدد من المؤرخين والمفكرين بين مقاومة الشعب المصري للحملة الفرنسية، وهي المقاومة الهادرة التي انخرط فيها الجميع، وبين المقاومة الضعيفة الخافتة التي واجهوا بها الاحتلال الإنجليزي .. كان السبب في ذلك هو الانكسار العظيم الذي تعرض له الشعب على يد الطاغية الجبار محمد علي باشا وخلفاؤه، لقد كسر الطغيان روح الشعب وجرده من عوامل القوة، حتى سلمه هدية للاحتلال الإنجليزي.

 ما الفارق بين 1956 وبين 1967 إلا هذه الفترة الناصرية السوداء الكئيبة التي أعيد فيها كسر الشعب وقهره وإذلاله وتحطيم عوامل قوته؟! إنه ليس إلا هذا .. ومن هاهنا اندفع الشعب لمقاومة العوان الثلاثي دفاعا عن وطنه الذي يشعر أنه قد استرده، ولكنه بعد 11 سنة من البطش كان في حال آخر!

 لم أتتبع بالمقارنة ما إن كان هذا الفصل وحده هو المحذوف أم ثمة غيره .. لعل باحثا ينهض لمثل هذه المقارنة.

 من أهم فوائد هذا الكتاب أنه يثبت -عبر القصص الإنسانية والتفاصيل الصغيرة- تلك القاعدة المهمة في علم النفس الاجتماعي، وهي من طبائع الناس، أن الموقف أقوى من الفرد، بمعنى: أن الإنسان أكثر انسياقا مع البيئة المحيطة به، وغالبا ما ينهزم طبع المرء ونزوعه الأصيل أمام التيار الجارف الذي يحيط به. (لمن أراد مناقشة ضافية لكلا هاتين النزعتين، أنصح بكتاب: علم النفس السياسي - ديفيد باتريك هوتون)

 وهذه القاعدة هي التي عبر عنها الأقدمون بقولهم: الناس على دين ملوكهم، والناس أتباع من غلب .. ولها في ديننا تطبيقات عديدة، ومنها: نهي القرآن عن مجالسة الذين يخوضون في آيات الله، وأمره بالهجرة إلى دار الإسلام، ومنها أيضا: نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإقامة في ديار الكفار، ونهيه عن العمل لدى الحكام الظالمين (لا سيما في الشرطة والعسكر وجباية المال)، ونهيه عن مصادقة أصحاب السوء ... إلخ!

 في هذا الكتاب نماذج عديدة عن الذين تولد فيهم الشجاعة إذا خاضوا القتال، وكيف ينقلب المرء من جبان إلى بطل، وكيف يصدر عنه في حال الشدة من المواهب والقدرات ما يندهش لها هو نفسه، وكيف يسترخص الإنسان نفسه وحياته لإنقاذ غيره، وكيف تشيع البطولة في الجمع الكبير إذا شعروا بالحاضنة الشعبية من ورائهم .. وغير هذا كثير.

 يقول: "مع تصاعد الموقف يتزايد الرجال الشجعان وتشتد حماستهم للقتال".

ويقول أيضا: "إن المقاتل على الجبهة يثق بأن حل مشاكل الوطن الداخلية والصراع ضد الاستعمار هو بالمزيد من القتال".

 وفي الكتاب مآسي يصعب أن تنساها، منها:

 هذا الجندي الذي أمسك بالصحيفة فإذا فيها نعي للمقدم الفلاني، فتسائل الجنود المساكين المتكدسون في عربتهم: يموت منا كثيرون فلماذا لا يهتم أحد، فيجيب أحدهم: لا يهتمون إلا بالكبار، فلا يجد الجندي الذي يمسك بالجريدة ما يفعله إلا أن يمزق الصحيفة ويلقيها إلى الطريق!!

 ومنها هذا الجندي الذي فقد منهم، فسجلوه هاربا، وكان عارا لنفسه ولكتيبته، ثم يكتشف بعد أسابيع أنه قد استشهد وهو ممسك بسلاحه .. كيف اكتشفوه؟ .. رأوا كلبا يبحث في الأرض بإصرار .. ولولا هذا الكلب لظل الجندي عارا على نفسه وأهله وكتيبته!!

 مشهد يجبرك على الخيال: ترى كم بطلا لم يجد كلبا ينقذ سيرته فصار مكتوبا في سجل الهاربين؟! وكم كلبا جبانا تسلطت عليه وسائل الإعلام حتى غسلت سمعته وصار من الأبطال الكبار؟!

 ومنها هذا الجندي الذي جاءته برقية تقول: "تعال فورا، مات أبوك"، فلم يكن معه ثمن تذكرة السفر، فتعلق بالقطار وربض على سطحه، وبينما هو متشبث بالقطار على هذه الحالة الخطرة، إذ مرق القطار من تحت كوبري القناطر، فصدمه الحديد فهشم رأسه، فمات من فوره!!

 هذا الجندي أيضا لم يكن ليعرف أنه مات، لولا أن الله شاء له أن تسقط قطرات دمه على ذراع صاحبنا مؤلف اليوميات، والذي كان يحب الجلوس إلى جوار النافذة، فمن ها هنا انتبهوا إلى هذا المسكين القتيل الذي كان يحارب في سبيل الوطن!! الوطن الذي لم يوفر له ثمن تذكرة يرجع بها ليدفن أباه!!

 ومنها هذه الكتيبة التي لم يكن يوجد لها إلا مدافع قريبة المدى، فكانوا مجبرين على البقاء قريبا من خطوط العدو، لتؤثر في العدو مدافعهم .. فلأجل هذا كانوا عرضة دائمة لغارات العدو وأسلحته العنيفة والمتقدمة، ولم يكن أمامهم غير الصمود .. أو بالاحرى: لم يكن أمامهم إلا أن يدفعوا من أرواحهم ثمن فساد الساسة والقادة وتقصيرهم في الحصول على السلاح! وهو ما كان!

 هذا الكتاب ليس مجرد ذكريات .. إنه صفحة متكررة من حديث مستمر إلى يومنا هذا ..

 إنه مجرد سطر في موسوعة الجنود الذين يضحون بأنفسهم تضحية لا ينتفعون بها هم ولا أهليهم .. لم تكن تلك قصة حرب أكتوبر فحسب، والتي أنجزها الأبطال وانتفع بأثمانها الخونة والفسدة والعملاء .. بل هي حتى الآن قصة أهل اليمن الذين اجتاحهم الحوثي ولا يزال الذين يقاتلونه يفعلون هذا بأيديهم بلا غطاء من رئيس ولا جيش، لقد كان رئيسهم عبد ربه منصور هادي!!! .. وهي قصة ليبيا التي كان ثوارها يقاتلون حفتر وكان غطاؤهم السياسي فايز السراج!!.. وهي قصة السودان التي يقاتل المتطوعون فيها قوات حميدتي بينما قرارهم السياسي والعسكري رهين بهذا الصنم المتهالك المسمى عبد الفتاح البرهان!!!

 وقل مثل هذا في مواطن عديدة نعرفها جميعا ..

 لا تزال القصة مستمرة، ولا تزال المعضلة مستمرة .. متى يستطيع الأبطال أن ينجحوا في السياسة والقيادة كما نجحوا في القتال؟ ومتى يعرفون أن عدو الداخل ليس إلا صنيعة العدو الخارجي وواجهته ووكيله؟!

 وحتى نجيب عن السؤال الإجابة الصحيحة .. فسنقرأ كثيرا من اليوميات على هذه الشاكلة!

الأحد، أغسطس 20، 2023

إمبراطوريات متخيلة - زينب أبو المجد


 



ثمة مشكلة جوهرية في مدرسة التاريخ الغربية عموما، تلك هي شغف المؤرخ بإنتاج نظرية تفسيرية، يؤرخون لهذا منذ فولتير الذي سمع شكوى معشوقته مدام دي شاتيليه من أن التاريخ المسرود هو حشد من الأحداث الصغيرة المتقطعة، لا يبدو مفهوما، ولا يقدم إفادة.. فابتدأ الفيلسوف الفرنسي نمطا من التاريخ يقول عنه: "يجب أن يُكتب التاريخ مفلسفا".

وكان فولتير -مع إدوارد جيبون وديفيد هيوم- أول من شرعوا في هذا النمط من التاريخ الذي هو ليس مجرد بحث وتنقيب وسرد، بل هو فوق ذلك ومعه تحليل وتفسير واستنباط.. وصار هدف المؤرخ من ذلك الوقت أن يخرج كتابه كقصة مكتملة الأركان والزوايا، يقرؤه القارئ كما يقرأ الرواية المؤلفة..

ومن هاهنا لم يعد المؤرخ يتكلف البحث في الوثائق والأرشيف ويستخرج المعلومات، بل عليه بعد ذلك أن يتكلف التحليل والتفسير، فعليه أن يغوص في أغوار النفس، وأن يزيد من معارفه في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والجغرافيا بل والمناخ والتربة.

يقول قائل: ما المشكلة في هذا؟

والجواب: المشكلة أن أندر الناس من يطيق هذا كله.. ومن هنا فإن سيادة هذا المنهج وانتشاره، بفعل انتشار الجامعات وأقسام التاريخ، ثم بفعل الهيمنة الغربية على العالم كله، لم يُخرج لنا مؤرخين على هذا النمط أبدا.. بل أخرج لنا كثيرا ممن يفشلون أن يبلغوا هذا!

تماما مثل الجامعات الكثيرة التي تدرس الفلسفة، ولا يخرج منها إلا قليل جدا من الفلاسفة الحقيقيين!

إن استخراج نظرية هو عمل عظيم يأتي عادة بعد بلوغ النضج العلمي، بعد سنين طويلة من الخبرة والمعرفة والتجربة، ولا يؤتاه بعد ذلك إلا أفذاذ الناس وأذكياؤهم.. لكن طالب التاريخ في عصرنا -لا سيما إن درس في جامعات غربية وشغف بطريقة الكبار منهم في استنباط نظرية- إن لم يكن مُطالبا بنظرية تفسيرية يتبعها أو يبتكرها، فهو شغوف بأن يستخرج من عند نفسه نظرية يفسر بها ويتبعها.. وهذه أزمة!

يشبه الأمر أن تُكَلِّف المراسل -الذي مهمته نقل الخبر- أن يكون محللا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون والجريمة، فهو عند كل خبر ينقله -من أول لقاءات الرئيس حتى الحادثة التي وقعت في مصنع- يجب أن يكون محيطا بالتفاصيل العلمية والفنية التي تُمَكِّنه من تقديم رواية متماسكة وافية عن الموضوع.. فانظر كم مراسلا يستطيع أن يفعل ذلك؟!

فإن كان هذا صعبا في المراسل الذي يحلل حدثا حاضرا، فكيف يكون في شأن المؤرخ الذي يحاول استعادة الماضي الغائب المغمور؟!!

هذا الكتاب من هذا النوع.. نقطة ضعفه القاتلة هو محاولة المؤلفة ابتكار نظرية تفسيرية، أسمتها "الإمبراطوريات المتخيلة".. لو أنها لم تأبه لهذا، لكان كتابها أفضل كثيرا كثيرا مما صار إليه.

لقد غطى هذا الضعفُ في النظرية المُتَكَلَّفة على المجهود القوي الذي بذلته المؤلفة في استخراج الأخبار من الوثائق والأرشيفات والسجلات القديمة.. وبدلا من أن يتوقف المرء بالإعجاب أمام ما استخرجته من تفاصيل، يجد نفسه مصطدما دائما بالتعسف المبذول لتطويع هذه المعلومات ومحاولة حشرها في سياق النظرية!

خلاصة فكرة الكتاب أن الصعيد المصري يمثل حالة تنكسر عليها مقولات المدارس التاريخية التي تجعل الإمبراطورية كيانا قويا ومهيمنا على أجزائه، تقول المؤلفة: الصعيد يثبت أن الإمبراطوريات التي حضرت إلى الصعيد كانت فاشلة، وأن وجودها لا يعدو أن يكون وجودا مُتَخَيَّلًا، فقد واجهت مقاومة كبيرة من أهل الصعيد، أخفقت معه في تثبيت نفسها فيه، كما أنها جلبت إلى الصعيد أحوالا من البؤس والفقر والدمار لا يتفق مع دعاوى هذه الإمبراطوريات التي تزعم فيها أنها تغير حياة الناس إلى الأحسن!

ووفقا لهذا المنظور: درست المؤلفة أحوال الصعيد تحت خمس إمبراطوريات قالت إنها كانت جميعا على هذا النمط:

(1) الإمبراطورية العثمانية

(2) الإمبراطورية الفرنسية (سنوات الحملة الفرنسية)

(3) إمبراطورية محمد علي وأولاده

(4) الإمبراطورية الإنجليزية (زمن الاحتلال الإنجليزي)

(5) الإمبراطورية الأمريكية (زمن السادات ومبارك)

وأخذت المؤلفة في تتبع أمرين في كل إمبراطورية؛ الأول: ما أحدثته هذه الإمبراطورية من الدمار والخراب والبؤس. والثاني: ثورات الصعيد ومقاومته لوجود هذه الإمبراطوريات.

يتمثل العيب الثاني الخطير لهذا الكتاب في الانحياز اليساري (الشيوعي) للمؤلفة، فقد أثَّر هذا الانحياز في اختيار وانتقاء أخبار المقاومة وأبطالها من بين الأرشيف الصعيدي الزاخر، ثم أثَّر في تفسير حركات المقاومة التي اندلعت في الصعيد..

كان الاختيار يأخذها دائما نحو: الطبقات الفقيرة والعُمَّال والمرأة (والعدو طبعا هم السلطة والأثرياء والوجهاء ورجال الدين).. ولا بأس إذا اجتهدت فأدرجت في عِداد المقاومين أصحاب الجرائم وقُطَّاع الطرق ممن عرفوا بالفلاتية ومطاريد الجبل.. ويجد المرء حرجا واضحا في عباراتها حين تذكر أمثال خُطّ الصعيد وعزت حنفي ونوفل ونحوهم.

وكان التفسير يأخذها دائما نحو أسباب الفقر والتهميش والنزعة الذكورية والدين الذي يُدَجِّن الناس لحساب الأغنياء والحكام.

ولهذا خرج الكتاب رواية يسارية ضعيفة لتاريخ الصعيد، فلم يستطتع أن يحقق بأدلة شبه كافية نظريته التي تقول بأن الحضور الإمبراطوري في الصعيد كان هشًّا ومتخيلا، ولا أن ثورات الصعيد كانت شيوعية!

وها هنا توضيح مهم يجب قوله: لست أعترض ابتداء على أن يوصف الفلاتية والمطاريد بالمُقاوِمين طالما خرجت الأدلة الكافية على هذا، بل هم في هجومهم على رجال السلطة وممثليها ومشاريعها يندرجون في أعمال المقاومة بغير شك.. وذلك لأكثر من سبب:

1. منها: أنه لا توجد ثورة شعبية ولا توجد حركة مقاومة نقية تلتزم بالقانون أو حتى بالدين، بل الثورة عمل شعبي لن يخلو أبدا من مساهمة "المجرمين" فيه، فهم من أبناء الشعب على كل حال، وكثيرا ما تكون مساهمتهم مفيدة وفاصلة، وكثيرا ما تكون مضرة ومربكة.. وهذا أمر لا مناص من ذكره كحقيقة اجتماعية، ولو كره الثوار المثاليون!

2. ومنها: أن هؤلاء الفلاتية والمطاريد إنما هم في كثير من الأحوال ضحايا لظلم السلطة وإجرامها، ولا يمكن إدانة المظلوم إذا انتهز فرصة ينتقم فيها من ظالمه وجلاده.. والقانون الأعور وحده -مثل الثائر المثالي الأعور الملتزم بالقانون الأعور- هو من يبصر خرق هؤلاء للقانون، ولا يُبصر الجريمة الكبرى، وهو أن نفس هذا القانون قد وُضِع لتقنين وشرعنة الظلم والإجرام.

ومع هذه الاعتبارات المذكورة، فإن الحديث عن هؤلاء المطاريد والفلاتية في سياق كونهم إفرازا صعيديا للمقاومة ضد وجود الإمبراطوريات، هو الأمر الذي يجب أن توجد عليه أدلة كافية قبل الإقدام عليه.. وهو الأمر الذي لم تستطعه المؤلفة! فهذا موضع النقد الذي أقصده هنا! فهي قد بذلت جهدا كبيرا لكي تجمع شتات أخبار هذه "المقاومة"، وتكلفت في العبارات، واقتصت اقتصاصا معيبا (يتبدى بوضوح لمن يراجع مصادرها وراءها) لكي تحتفظ بأكبر قدر من قصص هؤلاء الفلاتية والمطاريد، في سياق أنهم استهدفوا السلطة.

كذلك، فإن المؤلفة تأرجحت بين دعويَيْن متناقضتيْن، فهي تتحدث عن وجود متخيل للإمبراطوريات الخمسة (وهذا ما يُفهم منه أن المقاومة كانت أكبر من الهيمنة الإمبراطورية)، وتتحدث في الوقت نفسه عن أن هذه الإمبراطوريات قد جلبت معها الدمار والخراب والبؤس والفقر وأحالت حياة الناس إلى جحيم (وهو ما يُفهم منه أن الإمبراطوريات كانت مهيمنة فعلا وأنها متغلبة على المقاومة الصعيدية).

وظلت المؤلفة طوال الكتاب تردد هذا الكلام دون أن تنتبه للتناقض بينهما، إلى حد يثير الحيرة والدهشة، وتضيف إليهما إدانة الإمبراطوريات التي لم تحقق ما زعمته لنفسها من تحسين أحوال المواطن والفلاح والمرأة.. كأنها تدينه لفشله، ومتى كان المحتل صادقا في دعاواه؟!!!

ولكن المحتل -مهما كان كاذبا- فإن فشله وما سببه من بؤس وخراب ودمار هو دليل وجوده.. فوجوده هنا ليس متخيلا ولا متوهما!

تلك النظرة اليسارية القومية (الصعيدية) -إن صح التعبير- جعل المؤلفة تجمع بين الإمبراطوريات الخمسة في سياق واحد.. فالصعيد قاوم العثمانيين كما قاوم الفرنسيين كما قاوم الأسرة العلوية كما قاوم الإنجليز والأمريكان.. وهذا في واقع الحال غير صحيح، ولا يحتاج المرء أن يسعى في نقضه لشدة تهافته!

فالعثمانيون لم يحفلوا أصلا بالحضور المركزي في الصعيد، على عادتهم في سائر الولايات، فضلا عن أن الصعيد -ولا حتى الشمال- لم ير العثمانيين كمحتلين ولم يسع في مقاومتهم.. وذلك على خلاف الفرنسيين والإنجليز.. بل ولا يمكن القول أن الصعيد نظر إلى محمد علي وأسرته كمحتلين (مع أنهم فعلا أسوأ من الاحتلال.. لكن لا يمكن إطلاق هذه الدعوى)، وكذلك أيضا: الأمريكان!

لقد كان فصل الأمريكان هذا هو الفصل الأضعف في الكتاب! ولا زلت أستغرب أنها وضعته كأنما هو دليل على مقاومة صعيدية، أو على وجود متخيل للإمبراطورية.

توقعتُ، أن المؤلفة ستتوقف طويلا عند فصل "الجماعات الإسلامية" في الصعيد، كدليل بارز على المقاومة الصعيدية للحضور الأمريكي، لقد قام العديدون من اليساريين بتفسير هذه الحقبة تفسيرا يساريا اجتماعيا، وحاولوا حشر تجربة الجماعات الإسلامية في السياق الطبقي الاجتماعي.. ولكن المؤلفة لم تفعل، ولم تذكر شيئا عن هذا الفصل مع أنه أشد الفصول بروزا وحضورا في تمردات الصعيد، وهو أقربها إلى الواقع.. لم تفعل المؤلفة إلا أن قفزت فوق كل هذا وذهبت تذكر حضور الصعيد في مظاهرات ثورة يناير.. ومن عجيب ما فعلت أنها نقلت هذه الفعاليات عن موقع "قنا أون لاين" الذي هو موقع الإخوان المسلمين في قنا (لست أدري هل كانت تعرف هذا وتكتمه، أم أنها لا تعرفه).

ثمة الكثير من التفاصيل والمعلومات يمكن التوقف عندها في هذا الكتاب، وفيه غرائب ليست بالقليلة: لقد أرادت المؤلفة تحميل مسؤولية انتشار الطاعون في الصعيد للدولة العثمانية والمماليك!! وأن حضورهم في الصعيد هو الذي جلب الطاعون!! واتخذت هذا دليلا على الحضور الإمبراطوري المتخيل المسبب للدمار والبؤس والخراب!!

ومن الغرائب أن تستعمل الكلمة ذاتها مرة دليلا على زعمها، ومرة ترد عليها وتحسبها من توهمات قائلها

ومن الغرائب مرورها العابر على ملف الأقباط والتصاقهم بالإمبراطوريات القائمة في الصعيد، تذكر ذلك في أوجز عبارة ممكنة، وشغفها في توريط الفقهاء والعلماء المسلمين في هذا الالتصاق مع افتقاد الأدلة على ذلك.

وأمور أخرى سيكون الخوض فيها من التفصيل والتطويل غير المناسب لهذا المقام، ولعل الله ييسر فنفرد لذلك دراسة خاصة مطولة.

لا يزال تاريخ الصعيد، وتاريخ سائر المناطق المهمشة في عالمنا الإسلامي، بحاجة إلى مؤرخين أصلاء، ينظرون إلى الأمور بعين أهلها المسلمين، ويستطيعون استخراج النظريات التفسيرية الطبيعية لحركة التاريخ في المجتمعات المسلمة، وليس حشر حركتهم في نظريات غربية أو متكلفة. عرض أقل

الخميس، أغسطس 03، 2023

بعد 1000 يوم من المقاطعة، وقفات في أصل المعركة

 

دخلت الحملة المباركة، حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية، ألفيتها الثانية بعد أن جاوزت ألف يوم، ما انبعث لها إلا عوام المسلمين وبعض المستقلين من علمائهم ودعاتهم، وطفقوا يحافظون عليها طوال هذه المدة بغير دعم من نظام أو دولة أو حكومة أو حتى مؤسسة دينية رسمية!

بل على العكس، أوحت هذه الحملة إلى بعض أهل العلم والمشيخة أن يُحَوِّلوا هم مجهودها إلى نظام ومؤسسة، فمن رحم هذه الحملة الشعبية العفوية، وُلِدت فكرة "الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام ﷺ" بعد تمام العام من انطلاق الحملة، وهذه الهيئة العالمية قد صارت لها فعاليات ونشاطات، منها هذه المجلة التي بين يديك، مجلة "أنصار النبي ﷺ"، ومنها "أكاديمية أنصار النبي ﷺ"، ومنها مؤسسة البراق لدعوة الناطقين بغير اللغة العربية، فضلا عن العديد من الأنشطة الأخرى.

والآن وقد جاوزت هذه الحملة ألف يوم، ودخلت في ألفيتها الثانية نحتاج أن نتوقف عند بعض دورس وأمور، نتذكر بها أصل المعركة وسياقها.

يبدو السؤال الأهم والأول قائما: لماذا يبغض هؤلاء النبي ﷺ ولماذا يعادونه؟ ثم لماذا هم يعادونه بينما أتباعه اليوم ضعفاء مغلوبين وقد سيطر هؤلاء الأعداء على أرضهم ومواردهم بل صاغوا لهم حتى ثقافة الإعلام ومناهج التعليم وألزموهم بأنظمتهم الاقتصادية وأنماطهم الاجتماعية؟!

ثم يأتي السؤال الثاني المكافئ لهذا الأول: ولماذا تبدو هذه الأمة المغلوبة المستضعفة بعد طول الزمن ومع فارق القوة غير مستسلمة ولا قابلة بهذا الغالب؟! لقد كان الفصل الأول في معركة المقاطعة الحالية هو ذلك الفتى الشيشاني الذي انبعث ليقتل المدرس الفرنسي الذي أساء إلى النبي ﷺ، مع أنه في بلد العداء ومجرّدًا من كل قوة، لقد قام فعليا بعملية استشهادية قُتِل على إثرها.. في هذا الفتى تُختصر قصة الأمة التي تُقاوم بلا أي حساب لميزان القوى، وتكافح وتناطح من ليست لها بهم قوة، ولا تتراجع عن ذلك، كلما هلك قوم خرج آخرون!

 

(1)

من بديع ما أخرجته العقول البشرية، هذه الكلمة النورانية للإمام ابن القيم، وهو يقول: المعاصي على ثلاثة أنواع: شهوات وشبهات وشرك، فمن أسرف على نفسه في الشهوات وقع في الشبهات، ومن أسرف على نفسه في الشبهات وقع في الشرك. أ.ه

إنه ما من إنسان يُتبع نفسَه شهواتِها حتى يصل إلى حدٍّ يتشكك فيه في الدين نفسه، فإن الذي تعوّد على تلبية شهواته لا يرى في الدين إلا قيْدًا عليه، ويظل يتسرب إليه التشكك في أحكام الدين، حتى يروق له أن ينبذ الدين على الجملة، فينتقل بهذا من الشهوة إلى الشبهة إلى الشرك. وهو في رحلته هذه لا يبغض شيئا في هذه الدنيا أكثر من حَمَلة الدين، أولئك الذين تكون مجرد رؤيتهم نوعا من تنغيص الحياة عليه!

وهذا الإنسان في رحلته من الشهوة إلى الشرك يُنتج لنفسه الأفكار والمبررات والنظريات التي تجعل عمله هذا هو العمل الصحيح المقبول، وهو التصرف الطبيعي البديهي، بل هو التصرف الحضاري الراقي، فمن طبيعة الإنسان ألا يجمع في نفسه التناقض والتعاكس والتشاكس بين أفكاره وأعماله، فإن لم تنسجم أعماله مع قناعاته، لا بد أن تتغير قناعاته لتنسجم مع أعماله.

وفي كتابه المهم، "الاغتيال الاقتصادي للأمم" كشف جون بيركنز أن هؤلاء الرجال المهيمنين على سياسات العالم، لم يعودوا يسعون وراء اللذة والمصلحة فحسب، مع أنهم يملكون أنهار الأموال ويتحكمون في مقدرات الأمم، ولكنهم فوق ذلك طَوَّروا عقائد تجعل أعمالهم هذه هي الحق الوحيد، يقول: "بدأت أفهم أن معظم هؤلاء الرجال (قادة العالم وصانعي السياسة) يعتقدون أنهم يفعلون الصواب. كانوا مقتنعين مثل تشارلي أن الشيوعية والإرهاب قوى شريرة أكثر من اقتناعهم بردود الأفعال المتوقعة إزاء القرارات التي اتخذوها هم وأسلافهم، وأن عليهم واجبا نحو بلادهم ونحو أولادهم ونحو الله حتى يهدي العالم للاقتناع بمذهب الرأسمالية. وهم كذلك متشبثون بمبدأ البقاء للأصلح، وبدلا من الشعور بالامتنان والاستمتاع بالثروات الطائلة والتحول إلى طبقة متميزة وعدم المعاناة من النشأة في أكواخ من الكرتون - يعملون على ضمان توريث هذه الثروات لذريتهم".

وقد استطاعت الحضارة الغربية المعاصرة كسر سائر الأديان والحضارات، حتى القلاع الحضارية الشرقية مثل روسيا والصين واليابان والهند، قد اكتُسحت حضاريا، حتى صارت مدنها وعمرانها وأزياؤها ونظمها الاقتصادية نسخة من الحضارة الغربية، وصار الصراع بين هذه المراكز وبين الغرب صراعًا على حدود القوى والنفوذ والسيادة، لا صراعًا في أصل التصور لقضايا الإنسان وعلاقته بغيره وبالكون من حوله.

إن القيم الكبرى مثل حب الدنيا واتباع الشهوات واضطهاد الضعفاء والسعي إلى العلو في الأرض قد تواطأ عليها هؤلاء جميعا، ويلتمسون إلى تحقيقها ذات الوسائل التي اخترعتها وأنتجتها الحضارة الغربية الغالبة. وما بقي في هذه المراكز الحضارية من رواسب شرقية أو صوفية أو فلسفية أو روحانية إنما ينزوي في المعابد والجبال والبرامج الروحية التي يمارسها الناس لإطفاء أشواقهم الروحية في وقت الراحة والإجازة الذي تمنحهم إياه الآلة المادية الجبارة التي تدير حياتهم وتسيطر عليها.

لم يبقَ في العالم الآن من يُقَدِّم البديل الحضاري، ويهاجم أصل المبادئ التي أسست عليها الحضارة الغربية سوى الإسلام، فالإسلام يقف كصخرة عظيمة كأداء أمام انتشار القيم الأساسية لطغاة العصر، فالله وحده هو صاحب السيادة لا البشر، وهو الذي له حق التشريع ليس الذي غلب من البشر، وهو مصدر المعرفة والقيم لا من كتب الدستور أو سيطر على الإعلام والتعليم ومنافذ الثقافة،  وحب الدنيا –في الإسلام- هو رأس كل خطيئة، واتباع الشهوات هو علامة انحلال وفساد وليست علامة حرية ورقي، والتكاثر في البنيان والأموال ليس دليلا على الصواب بل قد يكون دليلا على الطغيان، وانفراد الإنسان بالتشريع وبأن يكون مصدر القيم والمعرفة هو شرك بالله وكفر به وجحد له! وهذا العالم ليس نهاية المطاف ولا هو آخر السبيل.

ومع ما فيه المسلمون من الهزيمة والاستضعاف فإن مبادئهم الدينية والروحية لم تكتفِ أبدا ولم تستسلم لأن تكون في الزوايا والتكايا والخلوات والجبال، بل سرعان ما تتحول إلى برامج عملية سياسية واقتصادية واجتماعية تكافح وتناضل في واقع الحياة، وضد هذه الآلة الغربية. وعلى نحو ما يقول علي عزت بيجوفيتش: ما من حركة إسلامية صادقة مع نفسها ودينها إلا وهي حركة سياسية!

إن الأخطر من هذه العقائد والأفكار "الخطيرة"، كما يراها الطغاة والمستكبرون الذين يمتصون أموال الشعوب ودماءها، أن هذه العقائد تبعث رجالها ليغيروا الحياة لا ليتكيفوا معها، وهي تلهبهم وتحفزهم على العمل مهما كانت موازين القوى، ولذلك لم ينقطع سيل من "الاستشهاديين" الذين يخوضون المعركة مهما كانت خسارتهم حتمية! وكيف يمكن الوقوف أمام رجل يرى في موته حياة أخرى سعيدة في جنات النعيم؟!!

إذا حاولتَ أن تتلبس عقلَ طاغية جبار، وتتقمص روحه ونفسه، فستجد نفسك في لحظة واحدة أمام عداوة مباشرة مع هذا الشخص الذي كان أصل هذا كله: مع محمد ﷺ.. نعم، هذا هو الرجل الذي أخرج هذه الكتائب المتتالية من المقاوِمين، أولئك الذين يتجددون ولا يموتون، يعملون ولا يفترون، وقد تصلبت رؤوسهم وانطوت قلوبهم على دين صلب لا يتزحزح ولا يتشقّقّ!

إن محمدا ﷺ لا يزال يؤرق كل من يريد استعباد الناس  وظلمهم، وكل من يريد التربح بالضغط على غرائزهم وإثارة شهواتهم، وكل من يريد سحب هذه الإنسانية من الكرامة التي وهبها الله إياها إلى الانحطاط المادي الذي يريده لها الشيطان وأتباعه.

 

(2)

لهذا كانت المعركة ضارية منذ لحظتها الأولى، منذ بُعِث محمد ﷺ نبيًّا، فإذا بأصحاب المصالح والشهوات والمنتفعين من استعباد الناس ينقلبون عليه في الحال، وبعدما كان "الصادق الأمين" جعلوه كاذبا وكاهنا وساحرا ومجنونا!

إن التعريف بالنبي ﷺ من واجبات المسلمين، ونعم، يوجد كثيرٌ من الناس يعادون النبي لأنهم لا يعرفونه فهم يجهلون حقيقته وشمائله، ولكن يجب أن نعرف في ذات الوقت أن أعرف الناس بالنبي ﷺ كذبوه لما ناقضتْ رسالتُه مصالحهم ومطامعهم وشهواتهم، فلا نتوقع –والحال هكذا- أن تكون مجرد معرفة النبي مفضية إلى اتباعه والإيمان به، لن يفعل هذا إلا أسوياء الناس وخيرهم ممن تعلو مبادئه على مصالحه، ويغلب ضميره على غرائزه.

ولهذا، فمثلما كان المسلمون –منذ عصر النبوة- مكلفين بإبلاغ الإسلام وتعريف الناس بنبيهم ﷺ، كانوا مكلفين كذلك بالدفاع عنه ونصرته وتأديب من يسيئ إليه ويعاديه، وكان لنا في صفوتنا الأولى من الصحابة الأسوة والمثل، فهذا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، قال للنبي ﷺ: "إن كنتَ آمرًا بقتل أبي، فمُرْني أنا بذلك، فما عرفت العرب أبرَّ بأبيه مني".

إن المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الفرنسية والهندية والسويدية، وغيرها، هي لا شكّ عمل عظيم، وقد يدخل في باب الجهاد، لا سيما لمن لا يملك سوى ذلك.. وهي عملٌ يُحيي الأمة وينبهها إلى عظمة نبيها وقدره وواجبها نحوه، كما ينبهها إلى عداوة المنحطين له وبغضهم إياه. وكل هذا مفيدٌ بل جليل الفائدة لأمة يُقصف وعيها ليل نهار، ويُراد لها أن تغفل وتضل.

ومهما كانت نتائج المقاطعة على هذه الدول، فالمعنى الأهم منها هو أن الأمة لا تزال حية، ولا يزال الذي يريد أن يبيع منتجاته عندها محتاجا إلى أن يحترم مقدساتها.

ولكن هذا كله يجب ألا ينسينا الحقيقة القائمة، وهي أن المقاطعة الاقتصادية وحدها هو فِعْل أمة مهزومة مستضعفة، فالواقع أن هذه المقاطعة لم تشارك فيها حتى حكومات الأنظمة والبلدان "الإسلامية"، بل إن بعض هذه الأنظمة والحكومات عَاكَسَ رغبة الأمة، فذهب يعقد الصفقات المليارية مع فرنسا! ويجدد علاقات الود مع الهند! فما أبلغ هذا المشهد الذي يتجسد فيه قول الله تعالى {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]، وقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 138، 139]

وإذا أردنا حقا أن نمتلك الأدوات الفعالة للدفاع عن نبينا ﷺ ونصرته، فلن نجد حلًّا إلا أن نتحرر ونقوى، ولن يكون هذا إلا إذا امتلكنا إرادتنا وصارت أنظمتنا وحكوماتنا من اختيارنا، نُنَصِّبُها بقرارنا وأمرنا، فحينئذ يحكمنا من هو مِنَّا، هذا الذي هو مِنَّا هو الذي ينتقض لا شعوريا إذا أسيئ للنبي ﷺ، وهو الذي يبحث قدر طاقته عما يفعل في الردِّ على ذلك.

وفيما قبل هذا التحرر، سيظل كل جهد في نصرة النبي ﷺ مشكورا، بداية من تغريدة ينشرها محب على شبكة التواصل يُعرِّف بها من لا يعرف، وانتهاء بتضحية الفتى الشيشاني بنفسه ليتهدد به وبأمثاله كل من يفكر في الإساءة! والله أعلم بكل امرئ وطاقته وقدرته، وعلى ذلك يحاسبه، ورسول الله ﷺ سيلقانا يوم القيامة وهو يعرف ماذا بذل كل منا لنصرته، فلن تنفع التغريدة ولا المقاطعة لمن قدر على أقوى منها.

لقد أنزل الله كلاما شديدًا فيمن يتخلى عن النبي ﷺ أو يتولى عنه أو يتكاسل أن يجاهد معه، وهذا الكلام الشديد جديرٌ بأن نُعَلِّقه في بيوتنا وعلى هواتفنا لنتأمله صبحا وعشيا، كي لا ننسى ولا نغفل أننا في معركة حقيقية، قائدنا فيها محمد ﷺ، قال تعالى:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 20 - 24]


نشر في مجلة أنصار النبي، أغسطس 2023

الاثنين، يوليو 03، 2023

الحج.. الفريضة التي أنشأت دولا وأشعلت مقاومة ومزجت بين المسلمين

 

من بين عشرات المؤتمرات التي حضرتها، لم أنتفع بواحدة منها كما انتفعت بمؤتمر "طرق الحج في إفريقيا" الذي انعقد في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم، قبل سبع سنوات، عام 2016م، فلقد قُدِّم في هذا المؤتمر نحوٌ من ستين ورقة علمية تبحث في هذا الموضوع، فوجدتني أمام بحر خضمٍّ من العلم الجديد النافع، وشعرتُ للمرة الأولى بالتأثير الفاصل الضخم لشعيرة الحج في حياة الأمة الإسلامية[1]، وكم تشوقت لحضور مؤتمر مماثل عن طرق الحج من آسيا ومن أوروبا، إذن لتمَّت الفائدة!

لقد كانت شعيرة الحج سببا في نشوء دول إسلامية عظيمة، وفي تطوير دول مسلمة متخلفة تعرَّف أمراؤها ووزراؤها في رحلتهم إلى الحج على طرائق وأساليب تُنَمِّي بلادهم، واصطحبوا معهم أحيانا رجالا يهتدون بعلمهم في الدين أو في الدنيا، وقد سلك المسلمون في طريقهم إلى الحج طُرُقًا، فإذ بهذه الطرق تنبت على ضفافها مراكز تجارية وسرعان ما تتحول إلى قرى ثم إلى مدن عامرة. وكم كان في بلاد المسلمين موارد لا تجد الأيدي العاملة، ومشروعات لا تجد من ينفذها، فجاء الحجاج المارون بها والذين قد احتاجوا إلى النفقة، فظلوا يعملون بها حتى يوفروا ويستكملوا أجرة الطريق إلى البيت الحرام، فتمَّت المشاريع بفضل هؤلاء الحجاج. وكم نشأت في طرق الحج من المبادلات التجارية، ثم من المصاهرات والأنساب ما تمازجت به الشعوب والقبائل وتضافرت وتعارفت، ما كان هذا كله ليحدث لولا الحج. وكم اصطحب المسلمون معهم من العلماء والدعاة ومن الشعراء والأدباء ومن التجار والخبراء ما تغيرت به أحوال بلدانهم في الدين والدنيا معًا.

إننا أمام مشهد حافل بالقصص الفارقة المؤثرة في تاريخ المسلمين، وكلما ازداد المرء علمًا بهذه القصص استشعر هذا الفضل العظيم لرحلة الحج على المسلمين.

في هذه السطور، سأذكر بعض شذرات منثورات من هذه القصص، أحاول بها فتح الباب للقارئ الكريم ليتأمل ويتدبر في فضل الحج على المسلمين، وخير القرّاء من سيُعْمِل ذهنَه وعقلَه في تطوير الاستفادة من رحلة الحج لخير المسلمين في دينهم ودنياهم في قابل الأيام.

 

(1)

كانت دولة المرابطين، تلك الدولة الإسلامية العظيمة، ثمرة من ثمرات الحج، ففي رحلته إلى الحج التقى يحيى بن إبراهيم الجدالي ببعض العلماء، فعرف أن قومَه في ضلالة، فاصطحب معه الفقيه المؤسس عبد الله بن ياسين، فكانت هذه بذرة دولة المرابطين.. هذه الدولة استطاعت توحيد المغرب الأقصى، ثم دافعت عن الأندلس وأجَّلت سقوطها لقرن على أقل تقدير، ونشرت الإسلام في غرب إفريقيا!.. ولو تصوَّرنا تاريخ المغرب بغير دولة المرابطين لوجدنا أنفسنا أمام صورة كئيبة للغاية لمسار التاريخ في ذلك الوقت!

وقريبا من هذا أيضا حالة دولة الموحدين المغربية، فقد أنشأها محمد بن تومرت بعد رحلته إلى المشرق، وكان منها رحلته إلى الحج، وهذه الدولة أيضا كان من مزاياها دفاعها عن الأندلس، وكانت أوسع مساحة من دولة المرابطين، ولها سهم في معاونة صلاح الدين يوم كان يحارب الصليبيين، إذ أمدَّته برجال وسلاح في البر والبحر!

 

(2)

قام الحجُّ بدور عظيم في إشعال حركات المقاومة ودعمها ضد الاحتلال الأجنبي، ومن أشهر ما يُذكر في ذلك ما تدفق على مصر إبان الحملة الفرنسية، إذ ما إن تسامع أبناء الحجاز بأن الفرنسيس احتلوا مصر حتى نزلت منهم جماعات لمحاربتهم إلى جوار إخوانهم المسلمين في مصر.

ومثلُ ذلك حصل أيضا في السودان أيام الحركة المهدية ضد الاحتلال الإنجليزي، إذ كان الحجاج هم من حملوا أخبار المهدي من السودان إلى الحجاز، فتدفق عليه الأنصار الذين قاتلوا الإنجليز ذلك القتال الباسل المشهور الذي هو من مفاخر هذه الأمة في ظل موازين قوى منهارة لصالح المحتل!

ولهذا ظلت السلطات الإنجليزية تراقب حجاج مستعمراتها، وتعمل جهدها على أن تحاصر ما يتسرب إليهم من أفكار المقاومة، سواءٌ بتعويق الحج نفسه، أو بوضع السياسات المختلفة لدى حكام مستعمراتها أو لدى صنائعها في نجد والحجاز لتحول دون ذلك.

ولأجل ذلك حضر الحجُّ في المنازعة بين السلطان عبد الحميد والاحتلال الأجنبي، وظهر ذلك بقوة في خط سكة حديد الحجاز، الذي أراد به عبد الحميد توثيق الصلات بين أنحاء السلطنة العثمانية في العراق والشام والحجاز وبين عاصمة الخلافة ومن ورائها ديار المسلمين في أوروبا كالبلقان ونحوها، بينما سعى الإنجليز جهدهم لتعويق هذا الخط، حتى تمكنوا من تعطيله على يد صنائعهم فيما بعد.

وظهر أيضا في رحلات الحج التي قام بها الولاة المسلمون، إذ كان عبد الحميد حريصا على الحفاوة بهم في الحجاز، ويرسل تعليماته إلى ولاة مكة والمدينة، فينشأ بينه وبين هذه الأنحاء صلاتٌ سياسية تُقَوِّي ما ضعف أو انقطع من الروابط الإسلامية، ومن أمثلة ذلك حجُّ سلاطين زنجبار، وما لقوه من الحفاوة بتوجيه من عبد الحميد، وهو الحج الذي كان بداية تواصل العلاقة بين زنجبار والدولة العثمانية، مما سخط له الإنجليز، وسبب لهم المشكلات في مستعمرتهم الإفريقية[2].

 

(3)

ذكر د. محمود مكي، من شيوخ المؤرخين السودانيين، خلاصة نفيسة لأبحاثه في تاريخ الإسلام في قارة إفريقيا، تلك هي أن المناطق التي مرَّت بها طرق الحج هي المناطق التي ازدهر فيها الإسلام وانتشر، والعكس صحيح، ولهذا فإن سكان غرب إفريقيا هم الأكثر حبا للعرب والإسلام، ومن هنا أيضا، فإن الاحتلال الأجنبي لما احتل القارة الإفريقية عمل على عرقلة الحج، فصار يضع العراقيل ويعطل الموانئ، مما تسبب في تراجع وتناقص انتشار الإسلام في بعض المناطق مثل جنوب السودان.

قلتُ (إلهامي): وهو الأمر الذي دفع المسلمون ثمنا فادحا له ببقاء جنوب السودان وقد غلبت عليه الوثنية، مما أدى مع المؤامرات وطول الزمان إلى انفصال جنوب السودان، ثم إلى المحاولات المعاصرة لتمزيق السودان نفسه كذلك.

ونحن نرى الحجَّ قد ربط بين المسلمين في المشرق والمغرب برباط وثيق، ففي أقصى المشرق في ماليزيا وإندونيسا، وكذلك في أقصى المغرب الإفريقي نرى أسماء البنات والشوارع وغيرها تحفل باسماء مثل: زمزم، صفا، مروة، كعبة، مكة.. هذا فضلا عن لقب "الحاجّ" الذي جعل لصاحبه رنينا محببا في الأسماع والقلوب، واختلط في بعض البيئات الإسلامية بمعنى العلم والسيادة والولاية.

وإذا استحضرنا أن الحج قديما لم يكن كما هو الآن، بالطائرات والباخرات والحجز المسبق الذي تنظمه السفارات ومكاتب السياحة ذات الترتيب المسبق والمواعيد الدقيقة، إذا استحضرنا هذا علمنا أن الحاج قد يستغرق الشهور والسنين، وقد يتعرض في الطريق للمعوقات كانقطاع الطريق ووقوع المرض ونفاد المال وآفات الصحاري والأدغال من السباع والحيوانات، لهذا كله قد يخرج الحاج من بيته ثم يتأخر في الطريق فلا يدرك الحج، فيبقى حيث وصل في مصر أو السودان أو العراق أو الشام سنة أخرى حتى يأتي موعد الحج، فيقضي هذا الوقت في العمل أو في طلب العلم أو في التجارة، وقد يتزوج ويطيب له المقام. لقد أثمر هذا كله تمازجا إسلاميا قويا بين الشعوب البعيدة، والتي ما كان لها أن تتعارف ولا أن تتصاهر لولا رحلة الحج.

وربما وصلت رحلة الحج إلى عشر سنين، وربما خرج الرجل وزوجته معه فاستكملا حياتهما معًا في رحلة الحج، ومن طريف ما يُذكر هنا ما رواه فيلبي من أنه رأى في الحج رجلا بدأ رحلته إلى الحج هو وزوجته ومعهما ولد واحد، فظل يمضي ويعمل –كغيره من أهل إفريقيا- في مزارع القطن بالسودان حتى يستكمل نفقة الرحلة، فلما انتهت رحلته إلى الحج كانت قد استغرقت 14 سنة، وصار له من الأولاد ستة!! بل ذكر فيلبي أنه رأى رجلا قضى في رحلة الحج سبعين عاما، وذلك أنه أخذ يقيم في كل حاضرة علمية فيتلقى العلم فيها زمنا حتى وصل إلى مكة[3]!! وهذا إن لم يكن من مبالغات فيلبي، فإنه ربما يكون خلطا من الرجل نفسه، إذ كان طاعنا في السن وقتها.

ومن اللطائف التي استفدتها من د. ربيع الحاج، في هذا المؤتمر، أن الموانئ التي أقامها الإسلام في السواحل الشرقية لإفريقيا كانت تنعم بالأمن والأمان، إذ تعايش فيها الحجاج من أهل البلاد بأخوة الإسلام، على عكس الموانئ التي أنشأها الاحتلال الأجنبي فيما بعد، والتي قامت أساسا للتجارة وامتصاص موارد البلاد، فقد كانت تعجّ بالمشكلات والاضطرابات!

 

(4)

بعض الطرق ما كانت لتنشأ ولا لتتمهد لولا الحج، من أصعبها وأشهرها ذلك الطريق الصخري الذي شقَّه الشيخ الملك عجيب المنجلك إلى سواكن، وحجَّ منه بالفعل، فزار مكة والمدينة وأوقف بها أوقافا كثيرة على الحرمين، في ذلك المؤتمر سمعتُ اسم الشيخ عجيب لأول مرة، ثم تبيَّن أنه كان من الملوك العلماء العادلين، ألَّف عنه د. صلاح محيي الدين كتابه "الشيخ عجيب والدولة الإسلامية في سنار".

وبعض الممالك ما كانت لتتطور لولا الحج، ومن أشهر ما يُذكر في ذلك أن سلطان مملكة كانم وبرنو الإفريقية (في وسط إفريقيا الآن بين تشاد والنيجر ونيجيريا) الذي أدى الحج عاد إلى مملكته بالأسلحة النارية، فكان للسلطنة في وقته مهابة ومكانة وسمعة كبيرة، واستقدم الأتراك واستعملهم في صناعة السلاح ومصانع البارود.

وبعض العلوم ما كانت لتنتقل لولا الحج، وهذا حديث طويل جدا جدا جدا، وإذا شئنا أن نضرب مثلا في انتشار العلم عبر طريق الحج، فسنجد مثالا ناصعا في رحلة الحج للشيخ العلامة الكبير محمد الأمين الشنقيطي، صاحب تفسير "أضواء البيان"، فقد سَجَّل الشيخ رحلته إلى الحج، فقَيَّد فيها ما طُرح عليه من الأسئلة في البلاد التي مرَّ بها، وكان السائلون من قضاة البلاد وأعيانها، والقارئ لهذه الرحلة يجدها قد احتشدت وتكدست بما فيها من العلوم في العقيدة والكلام والفقه والأصول والتفسير والحديث والأدب والشعر، فوق ما فيها بالتبعية من المعرفة بالبلدان والأعيان والأحوال الاقتصادية والاجتماعية لهذه النواحي.. وسائر هذه البلدان هي التي مرَّ بها الشيخ في طريقه إلى الحج.

وكنتُ قد قدمتُ في هذا المؤتمر ورقة عن تاريخ مصر والتطور الذي حصل فيها بين رحلتيْ اثنين من المستشرقين: جوزيف بيتس وريتشارد بيرتون، فلقد كان من بركات هذه الفريضة أنها احتفظت لنا بمشاهد من تواريخ بلادنا ضمن رحلات الحج التي سجلها الرحالة الزائرون، ونرى فيما بين الرحلتيْن كيف انحطت أحوال مصر وصارت مطمعا للأجانب في عهد أسرة محمد علي، على غير ما هو شائع في التاريخ المصري المعاصر[4].

وهكذا تظل رحلة الحج تواصل عطاءها في التقريب بين المسلمين، وتمتين ما بينهم، وتغذية المعارف والعلوم، وتوثيق الصلات والعلاقات، والتعاون على البر والتقوى، ومن يدري: لعل فرج أمتنا وخروجها من نكبتها المعاصرة تكون بذرته التقاء رجليْن أو ثلاثة في رحلة الحج هذا العام، أو العام الماضي أو العام المقبل.. يدبر الله الأمر ويصرف المقادير، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

نشر في مجلة أنصار النبي، يوليو 2023



[1] وقد نُشِرتْ أوراق هذا المؤتمر في كتاب من أربعة أجزاء، وكان الكتاب منشورا على موقع الجامعة حتى وقت قريب، قبل أن تبتلى السودان ببلواها الأخيرة التي أفسدت كل شيء، ومن ضمن ما فسد: موقع الجامعة، وما عليه من المواد!

[2] صالح محروس محمد، "رحلات حجاج شرق إفريقيا وأثرها في القرنين التاسع عشر والعشرين"، ضمن: مؤتمر طرق الحج في إفريقيا، 2/18، 19.

[3] فيلبي، حاج في الجزيرة العربية، ط1 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2001م)، ص38، 39.

[4] لمطالعة الورقة، ينظر: محمد إلهامي، في أروقة التاريخ، الجزء الأول.