الأربعاء، يوليو 03، 2024

عام هجري جديد.. بلا خلافة للمسلمين!

 


محمد إلهامي

يكتب هذا المقال بينما يتابع الناس المناظرة الرئاسية الأولى بين المرشحيْن للرئاسة الأمريكية: جو بايدن ودونالد ترمب، فقد توجهت الأنظار وتعلقت القلوب بالشاشات، ثم اندلعت واشتعلت بعد ذلك التحليلات، وصار كل قوم ينظرون ويبحثون أي الرئيسيْن أنفع لهم إذا فاز! وليس هذا بمستغرب، فإنها انتخابات: الخلافة الأمريكية العالمية!

إن هذا الخليفة الجديد، الذي سيسكن دار الخلافة الصليبية (البيت الأبيض)، يملك أن يفعل الكثير في سائر أنحاء العالم، ولولا ذلك ما رفع به أحدٌ رأسا، مثلما لا ينتبه أحدٌ لانتخابات أخرى تجري في شرق الأرض أو في غربها!

حتى نحن، نحن المسلمين المستضعفين المذبوحين في كل مكان، نتجادل ونتناقش حول أيهما أنفع لنا، أو بالأحرى: أيهما أقل ضررا لنا، فكلاهما يتفقان على ذبحنا واستباحتنا ويتنافسون فيما بينهم على السبيل الأمثل لانتهاكنا واستنزافنا ونهب أموالنا ومواردنا وسلب ديننا ودنيانا!

لماذا وكيف يحدث هذا؟ ولماذا صرنا وصاروا إلى ما نحن فيه وما هم فيه؟!

قبل أن نأخذ في الإجابة عن هذا.. دعنا نتذكر أمورًا حصلت عندنا نحن، في أرضنا وديارنا، ولكن غفلت عنها القلوب وزاغت عنها الأبصار!

ثم نسأل: لماذا اتجهت أنظارنا وأنظار الناس إلى ما خلف المحيط البعيد؟ ثم غفلت عما هو في الجوار القريب؟!

فإذا عرفنا لماذا؟ وما هو السبيل؟ فسنستغرب أن الحل كان أقرب إلى أيدينا مما تصورنا!

(1)

من أخطر ما وقع في هذا الشهر الماضي وأقبحه وأبشعه، ما حصل في يوم (5 يونيو 2024م) حيث اقتحمت طوائف من اليهود الصهاينة المسجدَ الأقصى يحتفلون بذكرى الاستيلاء عليه، ومن بين ما اقترفوه من الجرائم: هذا السباب وهذه الشتائم التي سالت بها أفواههم القبيحة تجاه نبينا الأعظم المكرم ﷺ.

وأقبحُ منه أن الأمر مرَّ مرور الكرام، فلم يثر هذا حمية أحدٍ ولا حفيظته، لا من الحكام والمسؤولين والأنظمة، ولا من المؤسسات الدينية الرسمية، ولا حتى من وسائل الإعلام الكبيرة في العالم الإسلامي، فصار الأمر خبرًا عاديا، كأنما لم يُمَسَّ إمام المسلمين وزعيمهم وقدوتهم ومصدر شرفهم ﷺ؟!

ويجري هذا كله في ظل حرب غزة التي يشنها نفس أولئك اليهود الصهاينة على المسلمين، تلك المذبحة الكبرى التي كشفت أن الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي أحسنها ضعيف عاجز، والعديد منها بين كافر وزنديق وخائن.. فلقد امتدت أيادي هذه الأنظمة لدعم الصهاينة وفتح طرق برية وبحرية في بلادهم –لم تكن مفتوحة من قبل- لإيصال البضائع والمنتجات إليهم!

وذلك في ذات الوقت الذي انقبضت فيه أيديهم عن المسلمين المقتولين المذبوحين في غزة، فقد اتفقوا على حصارهم، وشدد النظام المصري إغلاق المعبر الوحيد الذي يمكن أن ينقذهم من المذبحة، بل زاد في عاره وفضيحته بأن صار يأخذ من الهاربين والجرحى –بعد الإذن الإسرائيلي- أموالا طائلة يستصفي بها بقية ما فقده الهاربون من المحرقة! ثم اتفق مع الإسرائيليين فسمح لهم باحتلال الجهة الأخرى من معبر رفح راضيا أن تخرق اتفاقية السلام طالما كان هذا لصالح الصهاينة، وقد كان قبل ذلك يقتل الفلسطيني إذا جاوز الحدود دفاعا عن صنم "الأمن القومي المصري"! فأما إذا كان الإسرائيلي هو آكل الصنم فلا بأس!

فمن لم يكن له معبرٌ مع غزة، فقد بحث لنفسه عن دورٍ يخدم به الصهاينة، فقبل أيام من كتابة هذا المقال كشف أن النظام المغربي، وهو البعيد جدا عن غزة وإسرائيل، قام بتزويد السفن التي تحمل الأسلحة للصهاينة بالوقود اللازم لها، من بعد ما رفضت إسبانيا أن تفعل ذلك، وبعدها بيوم واحد كُشِف عن طائرات مغربية تسير في رحلات لتهبط في المطارات العسكرية الإسرائيلية!.. وذلك نوعٌ من الإخلاص والمبادرة لا تفسير له إلا الخيانة وعداوة الله والولاء لليهود والصليبيين!

وجميع أولئك مثلما اتفقوا على دعم الصهاينة وحرب المسلمين، فقد اتفقوا أيضا على كبت الناس في بلادهم، فكلٌ منهم حاصر شعبه ألا يتكلم أو ينطق أو يتظاهر نصرة لإخوانه في غزة!

وقد بلغت الغرائب والعجائب والمدهشات حدَّها الأقصى حين ترى الصهاينة، ينشرون بأنفسهم صورا لهم وهم يدوسون راية الإسلام "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ولا يهتز لذلك نظام يزعم لنفسه الإسلام، ولا يهتز لذلك منافقوه ومحاموه، فكأنما هؤلاء يخدمون الصهاينة إيمانا واحتسابا، فإن أدنى المصلحة ألا يتعمد الصهاينة إحراج حلفائهم وعملائهم!! بل قد رأيت من منافقي هذه الأنظمة من يقول: إنهم لا يدوسون علم السعودية بل هذا علم حماس!!!!

فتأمل في هذا الوضيع الوقح الزنديق، كيف فرغ قلبه من الحمية لله ورسوله ودينه، وامتلأ بالحمية لحاكمه، فهو ينتفض لينفي أن هذه الإهانة تعلقت بـ "الدولة السعودية"! ولا يهمه بعد ذلك أن الإهانة لحقت باسم الله ورسوله وراية الإسلام!!

ترى.. هل بقيت غرائب وعجائب ومدهشات وإهانات وخزي وذل وعار أكثر من هذا الذي نحن فيه؟!!

 (2)

لئن كان المشهد في غزة مروعا وهائلا، ففي السودان مشهد لا يقل عنه بل لعله يزيد في الروع والأهوال، ولئن كان أهل غزة قد ابْتُلوا في جيرانهم من الأنظمة العربية التي تعاديهم كالصهاينة بل أشد عداوة فإن أهل السودان قد ابتلوا بنفس هؤلاء الجيران ثم ابتلوا فوق ذلك بقيادات ضعيفة عاجزة، بل وبعضها خائن، لا تستطيع أن تصد العدو ولا أن تترك غيرها ليصده!!

ولئن كانت غزة قد انتزعت حريتها من يد الصهاينة، ثم من يد خونة فتح والسلطة الفلسطينية، فامتلكت قرارها وحفرت في الصخر حتى صارت تواجه أعتى قوة عسكرية في المنطقة، فإن الناس في السودان امتلكوا البلد لثلاثين عاما ثم هم الآن يبذلونها ويفرطون فيها تفريطا هو واحدٌ من أغرب مشاهد التاريخ!! فما يُعرف في التاريخ قومٌ حكموا بلدا لثلاثة عقود ثم أزيحوا منها بهذه البساطة والسهولة! ثم رضوا أن يدخلوا السجون وأن تنهب أموالهم وتنهار البلد منهم وهم ينتظرون انتخابات نزيهة!! يعتقدون أنها ستأتي يوما ما، ويعتقدون أنهم سيُتركون ليفوزوا بها مرة أخرى!!

وبينما هم ينتظرون إذ دبر حميدتي انقلابا كاد ينجح تماما لتبدأ عملية تصفية وإبادة كاسحة للإسلاميين في السودان، ولما شاء الله وقدَّر وتفضل وأنعم أن هذا الانقلاب لم ينجح ولم يتم كما كان مقدرا له، انحاز أولئك خلف واحد لا يخرج عن حالين: الضعف والعجز أو الخيانة والعمالة، وهو عبد الفتاح البرهان، وهذا رجل إن كان حسن النية لم يكن البقاء خلفه إلا مسيرا نحو النهاية، فكيف إن كان يضمر الشر والسوء؟!

وهذه النتيجة التي نحياها الآن: انفراط عقد السودان وتمزقه على الحقيقة، وما نزل بأهله الطيبين من المذابح والجوع والتشريد والاعتداء على الأعراض وإهانة وجوه القبائل وأشياخها. ولا يزال قومنا يحسنون الظن أن يكون البرهان هو الحل، وهو ضلع ضليع وأصل أصيل في هذه الأزمة!

إن هذا البلد العظيم الثري بالموارد يتعرض لواحدة من أشد الأزمات وأصعبها في تاريخه كله، وأكثر المسلمين لا يشعر بما يحصل، وأكثر من يعرفون لم يفهموا ماذا يحصل فيه ولا كيف ينبغي أن يكون السبيل!

(3)

فإذا مددنا أبصارنا إلى المسلمين على أطراف عالمنا الإسلامي فسنتفاجأ بمصيبتيْن قريبتيْن في بلديْن حبيبيْن آخريْن: طاجيكستان وأراكان..

إن الشيوعية التي انتهت من العالم كله لم تزل باقية في جمهوريات آسيا الوسطى، أو ما يسمى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وهي البلاد التي يعرفها المسلمون عبر تاريخهم باسم: بلاد ما وراء النهر!

وهذا الطغيان الذي يعم عالمنا العربي له نظير وقرين في هذه البلاد المسلمة، إذ ما يزال حكامها من بقية زمن الشيوعية، فعداوة الدين عندهم دين! ومطاردة الإسلام لديهم عقيدة! وإن قراءة تاريخ الإسلام في هذه المناطق، وكيف أنهم بقوا حتى الآن مسلمين لهو واحدة من معجزات هذا الدين ومن عجائب تاريخ المؤمنين!

وطاجيكستان على وجه التحديد هي أكثر تلك البلاد في نزعة التدين وفي كثرة العلماء وطلبة العلم منها، وإذا أردنا تقريب الصورة لقلنا: هي بالنسبة إلى غيرها من هذه البلاد كمصر والسعودية في العالم العربي. غير أن الطاغية الذي يحكمها –وهو لا يختلف كثيرا عن طغاة مصر والسعودية- يعمل على إنهاء الدين من بلاده، يزعم أنه: ثقافة أجنبية جاءت إلى الطاجيك من العرب ومن الأتراك، وقد وضع لنفسه مهمة أن يطارد كل ثقافة أجنبية!!

لو كان هذا الطاغية صادقا في "الوطنية" وفي الانتماء إلى "الثقافة المحلية" لكان حاله غير هذا الحال، غير أنك تراه يلبس الثياب الغربية، وحكمه مترع بالنظم الغربية، وهو يضع ولاءه السياسي إلى جوار بوتين، ولا يرى في ذلك كله أنها ثقافة أجنبية جاءته من الروس أو من الروم!!

ولا يمكن إيجاز ما يحدث هناك في سطور، فالأمر عنيف رعيب، وأشد منه أن الذين هربوا بدينهم منه لا يستطيعون الكلام ولا يجدون لأنفسهم ملجأ يتمكنون معه أن يشرحوا ويفصحوا عن عملية ذبح الإسلام التي تجري على قدم وساق في طاجيكستان، والتي كانت آخر فصولها: منع الحجاب ومطاردة المحجبات، ومنع الأطفال من الاحتفال بأعياد المسلمين! وقد تفضل علينا الشيخ أحمد محيي الدين الطاجيكي بكتابة مقال في هذا العدد من المجلة يشرح فيه هذا الفصل الأخير من الحرب على الإسلام.

فإذا ذهبنا إلى الشرق والجنوب، فإن ثمة قضية تحدث الآن من مذابح المسلمين لا تكاد تُعرف ولا يُسمع بها أصلا.. وهي قضية المسلمين الروهينجا في إقليم أراكان، وهم المسلمون في بورما أو ميانمار. فهؤلاء المسلمين المساكين ربما كانوا يعيشون الآن آخر فصول حياتهم وتاريخهم في بلادهم، من بعد ما اشتعلت حربٌ تجري على أرضهم بين أقلية بوذية لها جيشٌ متمرد وبين الجيش البورمي النظامي! وقد نتج عن هذه الحرب في بعض التقديرات مائة ألف مسلم مُهَجَّر وبلغت التقديرات في بعضها مائتي ألف مسلم، وهذا فضلا عن الأمواج السابقة من الهجرة في الأعوام الماضية والتي ترتب عليها غرق الكثيرين وموت الكثيرين بفعل الأمراض والظروف الصعبة في ملجئهم: بنجلاديش!

وقد زاد الحالَ سوءًا أن الثلة المتعلمة والنشطة من شباب الروهينجا، والذين كانوا يحركون القضية قد اعتقلهم ابن سلمان في السعودية، بلا ذنب ولا تهمة ولا تحقيق، وحُكِم عليهم بالسجن بين عشر سنوات وعشرين سنة! مع التضييق عليهم في منح الإقامة مع أن بعضهم يقيم في هذه البلاد منذ زمن بعيد، ولعل الأكثرين لا يعرفون أن الشيخ القارئ محمد أيوب إنما هو من الروهينجا المسلمين.

وأيضا سيجد القارئ في هذا العدد من المجلة مقالا تفضل به علينا الشيخ عبد الله الأركاني، يحاول أن يوجز فيها هذه القضية المأساوية.

 

(4)

قد بلغ الأمر غايته ومداه وأقصاه.. وإن أي مسلم ينطوي قلبه على حب الله ورسوله مطالب بالتفكير وبالعمل للتخلص من هذا الذل وهذا العار؛ كلٌّ على قدر ما يطيق وعلى قدر ما يستطيع..

ونحن الآن نعيش في ظلال ذكرى الهجرة.. ذكرى إقامة الدولة الإسلامية.. أخطر لحظة في تاريخ الإسلام.. لحظة مولد الأمة الإسلامية وتأسيس الدولة الإسلامية!

إن كل مصائبنا ونكباتنا ومذابحنا إنما هي فرع عن النكبة العظمى: نكبة سقوط الخلافة الإسلامية، وانهيار الدولة الإسلامية.. لقد صرنا بعد ذلك أيتاما على موائد اللئام، كل قومٍ في هذه الأرض انفردوا بقسم من المسلمين يسمونهم سوء العذاب، يذبحون أبنائهم، ويغتصبون نساءهم، وينهبون أموالهم، ويستعبدونهم في بلادهم!!

إن معضلات المسلمين كثيرة ومتنوعة ومتشابكة ومتعددة، ولكن حلها الجذري واضح للغاية: إقامة الدولة الإسلامية الجامعة، واستعادة الخلافة الإسلامية.. هذا هو ما فعله النبي ﷺ عندما هاجر من مكة إلى المدينة، وعلى بقاء هذه الدولة قاتل أبو بكر، وعلى توسيعها قاتل عمر وعثمان، وعلى وحدتها قاتل علي. وما زال خلفاء المسلمين الصالحين يعملون منذ معاوية وحتى عبد الحميد الثاني على تمكينها ورسوخها والمحافظة عليها، كل بما قدر وما استطاع!

لقد اتجهت أنظار الناس إلى المناظرة الرئاسية لا لشيء إلا لأن الأمريكان أصحاب دولة قوية، وعلى حسب قوة الدولة ونفوذها يتعلق الناس بما يحصل فيها من تغيرات!

بينما غفلت أنظار الناس عن الروهينجا وعن الطاجيك وعن السودان لأنهم أشلاء أمة ممزقة ومبعثرة! ولولا ذلك لم تزغ عنهم الأبصار!

ونحن في هذه الأيام لم نغادر ذكرى الحج، ولا انفلتنا من آثار هذه العبادة العظيمة، ثم ها نحن نقبل على ذكرى الهجرة الشريفة لنعب من دروسها العميقة.. إن انهارت دولة المسلمين فالحج يذكرهم بأنهم أمة واحدة، رب واحد ورسول واحد ودين واحد وعبادة واحدة. والناس حين يزورون مكة والمدينة يطالعون بأعينهم آثار نبيهم وجهاده في سبيل الدعوة والدولة، فيستحضرون في مكة أيام جهاده للدعوة والبحث عن أرض للدولة، ويستحضرون في المدينة جهاده للدعوة ذات الدولة، فلقد كانت المدينة المنورة عاصمة الإسلام ومقر الحكم والجماعة والنظام!

ما من أيام نحن أسوأ حالا فيها من هذه الأيام، وإن ذكرى الهجرة لا يشعر بمعناها كما ينبغي أن يشعر بها المسلم في هذه الأزمان، أزمان سقوط الدولة وانفراط عقد المسلمين!

إنها مهمة ضخمة أمام العلماء والدعاة وكل المسلمين، أن يحرصوا في كل مناسبة وفي كل محفل وفي كل ذكرى أن يبحثوا وأن يستخلصوا، ثم أن يعملوا ويحثوا ويحفزوا:

1. كيف تستفيد الأمة من عبادة الحج في تقوية أواصرها وتمتين علاقاتها وكسر الحدود التي صنعت بينها ومحاولات النصرة لأطرافها المذبوحة والمضطهدة.. لا سيما إن كان الاضطهاد في الدين.

2. كيف تستفيد الأمة من عبادة الحج، حيث المشاهد الشريفة وآثار النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- في الارتباط بالنبي وسنته وسيرته، ومزيد من التعلق به، وما يثمره هذا من الانفعال والغضب تجاه من يسبه ويؤذيه، وهو الغضب الذي لا بد أن يترجم إلى عمل في نصرته والتنكيل من يتناول جنابه الشريف.

3. كيف تستفيد الأمة من حدث الهجرة الذي يؤسس لقيام الدولة الإسلامية.. ومدى ضرورة قيام الدولة الإسلامية وأثره الفارق في حياة المسلمين، وكيف أن المسلمين اليوم هم في أمس الحاجة إلى وجود دولة إسلامية حقيقية قوية.. بل هم لا يحتاجون أي شيء على الإطلاق قدر حاجتهم إلى وجود هذه الدولة وقيامها.. كيف نستفيد من حدث الهجرة في التركيز على هذا الأمر.

4. كيف قامت الدولة الإسلامية بعد بيعتين مع الأنصار، سبقتهما رحلات بحث وعرض ومفاوضة مع قبائل العرب.. ثم قامت هذه الدولة بعد ذلك على سيوف المسلمين وسواعدهم مثلما قامت أيضا على معاهدات واتفاقيات.. وهذا كله يلفت الأنظار إلى أن جهاد النفس والسلاح هو صنو جهاد السياسة والتفاوض والاتفاق.. ترى ماذا ينبغي أن يقول أهل العلم وأهل الفكر والقلم لإخوانهم المجاهدين في غزة وفي غيرها في هذا الباب؟!

5. التذكير الدائم المستمر بشدة عداوة اليهود للنبي ﷺ.. ثم الحث والتحريض الدائم المستمر للمسلمين على العمل الفعال المستمر الدائب الدائم الصبور في تعقب الذين يسيئون للنبي ﷺ والتنكيل بهم ومعاقبتهم على قدر الوسع والطاقة وبأقصى ما يمكن عمله.

عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده!

نشر في مجلة أنصار النبي 
ﷺ - يوليو 2024م

الأربعاء، يونيو 05، 2024

{فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}

 

بينما نُعِدُّ لهذا العدد الجديد، أخبرت أستاذنا الفنان الكبير د. علاء اللقطة الذي يصمم لنا غلاف المجلة، بأن العدد سيحوم حول معانى الحج وغزة.. فما لبث أن جاءنا بهذا الغلاف البديع الذي حوَّل مسار مقالي هذا تماما.

كنت أخطط لأن أكتب حول هذه المعاني:

1. إن أولى ما ينبغي الكلام فيه الآن هو: كيف ينبغي أن تستثمر الأمة موسم الحج في نصرة غزة، بداية من الدعاء ومرورا بالمقاطعة والحث على النصرة وتحريض المؤمنين، وانتهاء بالمشاركة بالمال والسلاح في هذا الجهاد الشريف.

2. ما أقرب الحج من الجهاد، وما أقرب الجهاد من الحج، وقد جاء الاقتران بينهما في عدد من أحاديث النبي ﷺ، كقوله ﷺ حين سُئل عن أفضل الأعمال: "إيمان بالله ورسوله، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور"[1]. وكقوله ﷺ جوابا لسؤال عائشة رضي الله عنها: نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال ﷺ: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور"[2]. ولهذا فقد أتبع بعض العلماء الحديث عن الحج بالحديث عن الجهاد، كما فعل الإمام النووي في أشهر كتبه: رياض الصالحين. ففي كلا الأمرين: الحج والجهاد، يخرج المسلم من حظ الدنيا ويترك الأهل والولد والديار، ويتعرض للصعاب والمشقات، وتفرض عليه العبادة الزهد في الدنيا من ملبس ومأكل ومشرب، ويقترب بنفسه وبقلبه من يوم القيامة والدار الآخرة. وفي كلا الأمرين: يرى المسلم نفسه متبعا لخطوات نبيه ﷺ وخطوات الصدر الأول: إما في المكان كما هو حال الحاج، أو في الهدي والطريقة والسبيل كما هو في الجهاد.

3. إن نصرة غزة الآن وبذل المال والجهد لها مُقدَّم على الحج، لا سيما إن كان حج النافلة، فإن الحج فريضة فردية لازمة ونصرة غزة فريضة يتعدى نفعها للأمة، وإن الحج فريضة على التراخي بينما النصرة الآن واجب الوقت الذي لا يحتمل التراخي. فمن كان يرجو ثواب الله حقا لا حظ نفسه، فإن رضا الله في نصرة عباده.

4. إن الأنظمة والحكومات التي تُصَعِّب طريق الحج وتقيم دونه الحواجز هي ذاتها التي تقطع الطريق على نصرة غزة وتقيم دون الجهاد فيها كل الموانع والحواجز. ومن الغريب المثير للتأمل والتفكر أنهم يفتحون البلاد للسياحة ويسهلون زيارتها بغرض الترفيه والرقص والطرب ومطالعة آثار الكافرين، ثم هم أنفسهم يعاقبون ويتشددون في تعقب من يزور بيت الله الحرام ومسجد نبيه ﷺ ويحيطون ذلك بجملة من التصريحات التي تصد عن سبيل الله وعن بيته! فكل نظام يحاول أن يستصفي من أموال الحجاج ما استطاع، وهم يعرفون أن في هذه الأمة من الفقراء والضعفاء من يقضي عمره كله يجمع الأموال ليحج إلى بيت الله الحرام.. إن هؤلاء الذين يصدون عن المسجدين هم أنفسهم الذين فرطوا وخانوا المسجد الثالث، ويقفون الآن يدا واحدة مع الصهاينة في تهديده وتهويده وقتل المجاهدين المدافعين عنه!

هذا ما كنت أنوي الكتابة فيه، حتى جاءني هذا الغلاف الذي ترونه لهذا العدد.. فدارت رأسي حقا، وأنا أتأمل وجها جديدا من الشبه والقرب لم أنتبه إليه:

1. هذه الخيام التي ينزلها الحجاج، ما أقرب مشهدها بالخيام التي يأوي إليها النازحون المشردون الذين أفلتوا من نيران العدو الصهيوني وجحيمه!

2. وهذا الاغتراب عن البيوت والديار، ما أقرب الشبه فيه بين حاجٍّ وبين لاجئ، كلاهما قد فارق أهله، واستبدل بهم أهلا وجيرانا آخرين!

3. وما أقرب القائمين في هذه الخيام ممن يعظون أهلها عن المناسك والعبادة بالذكر، بالقائمين في خيام النازحين يعظونهم في الصبر والثبات والاستبشار بنعيم الجنة وبالثواب العظيم الذي كتبه الله للمجاهدين وأهلهم الصابرين الثابتين.

هذه مشاهد القرب.. ولكن، كما قيل: ما أقرب ما بينهما وما أبعده!

فهذه الخيام ما أقربها في الشبه، ولكن ما أبعد ما بين الخيمتيْن من وسائل الراحة، وما أبعد ما يشعره النازلون فيها من الأمن ومن الخوف، وما أبعد الأمل الذي يرفرف على خيام الحجاج من الكرب الذي يخيم على خيام اللاجئين!

ما أبعد ما بين خيمة الحاج فيما مُهِّد لها من الطرق ومن الخدمة وما بين خيمة اللاجئ التي يعاني فيها من الحصول على الطعام القليل، والماء الشحيح، وضرورات الحياة البسيطة التي يحتاجها كل كائن حي!

ثم يأتي بعض أولئك فيفتخر بما يقدم للحجيج من وسائل الراحة من بعد ما استصفى أموالها من الحجيج ومن المتصدقين والمتطوعين لخدمة ضيوف الرحمن، وهو نفسه الذي يساهم بأموال المسلمين الذين غلب عليهم في ذبح المجاهدين هناك وفتح الطرق البرية والجوية والبحرية لدعم الصهاينة وإسنادهم! فكأنما فيهم نزل قول الله تعالى {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 19، 20].

وبين المشهدين المتشابهيْن والمتباعديْن، اختار صاحبنا الفنان أن يكتب قوله تعالى {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]. فيا لحسن هذا الاختيار!!

كأنما استدار الزمان على هيئته مرة أخرى، وتقلبت صفحات اليوم ليشبه آخرها أولها:

ففي ذلك الزمن البعيد نادى بها إبراهيم يسأل الله أن ينقذ زوجه وابنه المحرومين المحتاجين في أرض الجدب والصحراء، فما أشبه ذلك بحرمان المحاصرين الذين أغلقت عليهم المنافذ والمعابر حتى صار الطعام والشراب أثمن ما يحتاجون إليه! ما أشبه الكرب الذي كانت فيه هاجر وابنها الرضيع إسماعيل بالكرب الذي فيه الآن أهل غزة، لا نصير ولا ظهير ولا أنيس ولا رفيق، كم في غزة الآن من امرأة تشبه أمنا هاجر، تضرب الأرض وتأكلها الحيرة بحثا عن شيء تطعمه ابنها الصغير الذي يوشك أن يموت من الجوع؟!

وقد استجاب الله دعوة إبراهيم، فهذه الخيام الكثيرة التي نراها في الحج هي دليل الإجابة لذلك النداء القديم البعيد، فلقد أقبلت الأفئدة تهوي إلى البيت العتيق، ومنها ستصدح الحناجر بالدعاء للمجاهدين والنازحين في غزة، وعسى الله أن يقر أعيننا فيستجيب! ونرى المواكب تسير إلى غزة ومنها إلى المسجد الأقصى، تلبي وتكبر وتتلو آيات الفتح المبين!

وتأمل –أخي القارئ- في أن إبراهيم عليه السلام حين دعا ربه لم يبدأ بطلب الطعام والشراب، بل بدأ بطلب الأنس والرفقة والصحبة، طلب أن تهوي إليهم الأفئدة.. أن تذهب إليهم القلوب، ثم أردف بطلب الرزق من الطعام والشراب، قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37]. فلما أجابه الله تعالى أخرج لهم الرزق، ماء زمزم، ثم جاء لهم بالناس!

لكن الوقفة هنا هي في قول إبراهيم عليه السلام {أفئدة}..

وقد ذكر المفسرون أن "أفئدة" يمكن أن تكون جمعا لكلمة "وفود"، أو تكون جمعا لكلمة "فؤاد".. فالمعنى قد يكون: اجعل وفودا من الناس تحنّ إليهم، وقد يكون: اجعل قلوبا من الناس تحنّ إليهم.

ولا يتعارض المعنيان! فلربما حنَّت القلوب وعجزت الأجساد كما هو حال من لم يستطع أن يحج ومن لم يستطع أن يغيث غزة في كربها، فعجزت الوفود عن الوفود! ولربما قست القلوب فلم تحنّ ولم تهوي فذلك هو الكفر والجحود والإعراض عن أمر الله بالحج، وذلك هو الخيانة والخذلان والإعراض عن أمر الله بنصرة المسلمين المستضعفين المكروبين.

ولهذا استعاذ نبينا ﷺ، وعلَّمنا أن نستعيذ في كل صباح ومساء، من العجز والكسل.. فالعجز هو وجود الإراد وافتقاد القدرة، والكسل هو وجود القدرة وافتقاد الإرادة!

نعم، المعركة معركة قلوب في المقام الأول، ثم هي معركة قدرة في المقام الثاني.. وبهما يكون الظفر، وقد قال الشاعر الذي وجد القدرة ولم يجد العزيمة:

وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا .. إذا لم يكن فوق الكرام كرام

وقال الآخر الذي وجد العزيمة وفاتته القدرة:

لا تلم كفِّي إذا السيف نبا .. صح مني العزم، والدهر أبى

ولئن كان حجاج بيت الله الحرام قد أكرمهم الله بالقدرة والهمة، فها هي الأمة كلها تقف عاجزة أمام إخوانهم في غزة، بل كثير من قلوب غير المسلمين تحركت لأجل غزة وما استطاعت أن تغيثها حتى الآن بما ينفع!

وهذا هو المشهد:

قومٌ يملكون أن يفعلوا ولكنهم قلوب قاسية لا تلين ولا تحن، هي قلوب الأعداء المجرمين من الصهاينة، وقلوب من يساندهم من الغربيين والأمريكان، ثم قلوب من يخدمهم من أنظمة الخيانة والعمالة.. قلوبٌ لا تؤثر فيها الدماء ولا الدموع ولا الأشلاء.. قلوب من الصفوان الصلد الصلب! قلوبٌ وصفها الله تعالى بقوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].

وقومٌ لا يملكون أن يفعلوا مهما تقطعت قلوبهم وتمزقت أحشاؤهم وضاقت عليهم نفوسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ومنهم من تعرض في سبيل نصرة غزة بالكلمة والتغريدة ورفع العلم والهتاف إلى السجن والتنكيل والحرمان من شهادته الجامعية ومن العمل... إلخ! بل منهم من قُتِل كما وقع قبل يومين من كتابة هذا المقال عن الجنود المصريين الذين أطلقوا النار على قوة إسرائيلية عند معبر رفح، فنشبت معركة استشهد فيها جنديان.

لقد شرع الله هذه العبادات الجامعة لمقصديْن كبيريْن: تطهير القلب والشعور بوحدة الأمة. فالمرء المسلم حين يصلي فيعرف أنه في نفس هذا الوقت يصلي المسلمون مثله حول العالم، وحين يصوم في رمضان فيعرف أنهم يصومون مثله في نفس هذا الشهر حول العالم، ثم هو حين يحج يرى إخوانه وقد جاؤوا إلى هذه البقعة ذاتها من كل فج عميق! في كل عبادة من هذه يتقارب المسلمون؛ بداية من أهل الحي الواحد الذين تجمعهم الصلوات الخمس، وحتى أهل المعمورة كلها حين يجمعهم البيت الحرام.

وليس يمكن أن يوجد مسلم يلتزم بدينه ثم هو لا يشعر بإخوانه المسلمين حول العالم، فكيف إذا كانت مآسي المسلمين قد أيقظت من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من فطرة ولو كان كافرا؟!!

إذا لم تهوي أفئدة المسلمين الآن إلى غزة وإلى السودان وإلى المسلمين في الهند وفي بورما وفي تركستان، فأين ستهوي وأين ستذهب؟!

وإذا هوت الأفئدة والتقت الوفود، فهل يعقل أو يقبل أن يمضي هذا الاجتماع وينفض كأن لم يكن؟!

ما كان هكذا حج المسلمين منذ زمان نبيهم ﷺ، بل كان الحج هو مؤتمر المسلمين الأكبر، وهو مشهدهم الأعظم، وهو ملتقاهم الأضخم، فمن أكرمه الله بالحج فلا يفوت هذه الفرصة في نصرة إخوانه المكروبين، ومن لم يكن من أهل الحج في هذا العالم فليعلم أن واجبا أعظم من الحج في انتظاره: وهو واجب نصرة المسلمين المستضعفين المظلومين! وكل امرئ أعلم بما يستطيع!

فإذا صدقت الأفئدة، التي هي القلوب، ظهر هذا في العمل، كما قيل: من صحّ منه العزم أُرْشِد للحيل، وهو مأخوذ من قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ومن قول نبينا ﷺ: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"[3]

كذلك إذا صدقت الأفئدة، التي هي الوفود، ظهر ذلك في الظفر، وقد قال تعالى {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174، 175].


نشر في مجلة "أنصار النبي ﷺ"، يونيو 2024


[1] البخاري ومسلم.

[2] البخاري.

[3] البخاري ومسلم.

الجمعة، مايو 03، 2024

رحيل فارس من أنصار النبي ﷺ: عبد المجيد الزنداني

 

رحيل فارس من أنصار النبي ﷺ: عبد المجيد الزنداني

محمد إلهامي

بصدور هذا العدد، يتم لهذه المجلة عامان وتدخل إن شاء الله عامها الثالث، نافذة من نوافذ "الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ"، تلك الهيئة التي انبثقت من رحم الحملة الشعبية العفوية العالمية التي انطلقت لمقاطعة المنتجات الفرنسية اعتراضا على الإساءات التي تبنتها الحكومة الفرنسية لنبينا الأعظم ﷺ.

ومنذ ذلك الوقت وحتى لحظة كتابة هذه السطور تبدو مهمة نصرة النبي ﷺ عظيمة ومتضخمة وتحتاج إلى أضعاف أضعاف الجهود والطاقات المتاحة والممكنة، بل إننا مع مرور الأيام نرى أننا نفقد عددا من الأعمدة القوية التي تقوم بنصرة النبي ﷺ، وكان آخر من فقدناه من هؤلاء: شيخ اليمن وعلمها الكبير: عبد المجيد الزنداني!

ولقد قيل في الشيخ الزنداني الكثير والكثير، وفاضت بذكره ومدحه والثناء عليه الألسنة والأقلام. غير أني أحب أن أشير إلى جانب لم أر أنه قد ذُكِر على وجهه، وذلك من حقِّ واحدٍ من جنودِ –بل من قادةِ- كتيبةِ أنصار النبي ﷺ.

كان الشيخ الزنداني واحدا من رواد باب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وباب الإعجاز العلمي هذا لم يُفتح ويكثر الكلام فيه كجانب مستقل إلا في هذا القرن الماضي، والسبب وراء ذلك أن الهجمة الغربية الحضارية التي اجتاحت أمتنا واحتلت ديارنا وأوطاننا إنما جاءتنا مسربلة ومتوَّجَةً بثوب العلم وتاج العلم وشعار العلم.. فكلمة "العلم" في عموم القرن العشرين لم يكن وقعها في الأسماع والضمائر مثلما نستشعرها الآن، بل هي في ذلك الزمن كانت تعني: مواجهة الدين.. لقد كان لها في ذلك الوقت معنى ومفهوم يقترب من المعنى والمفهوم الذي تصنعه في أذهاننا الآن كلمة "الإلحاد".

كلمة "العلم" في ذلك الزمن كانت توضع في مواجهة الدين، فمن كان يقول: أنا أصدق العلم، أو: أنا أؤمن بالعلم. أو: أنا أتبع العلم.. إلخ! من كان يقول مثل هذا إنما كان يعني في ثنايا هذه العبارة أنه ينفر من الدين، ينفر من الخرافة، ينفر من الجهل، ينفر من الأساطير والترهات.. وكلمة "المنهج العلمي" في ذلك الوقت إنما كانت مضادة لكلمة: منهج الدين وأحكام الدين.

إنه أمر لا يتصوره أبناء هذا العصر، لأن أولئك قد نشؤوا بعد أن خاض آباؤهم وأجدادهم هذه المعركة الشرسة العنيفة العاتية، وانتصروا فيها، فكسروا وأزالوا الوهم القائل بأن العلم في مواجهة الدين، أو أن العلم فوق الدين وسابقٌ عليه.

ومن أراد أن يعيش أجواء هذه المعركة فليرجع إلى كتابات الرواد المسلمين منذ مطلع القرن العشرين وحتى مطلع الثمانينات والتسعينات منه.. ولعل بعض أبناء هذا الجيل يتذكرون كلمة وردت في فيلم "الإرهابي" حين قال الممثل إبراهيم يسري: "الناس طلعت القمر واحنا لسه بنفكر ندخل الحمام بالرجل اليمين ولا الشمال".. هذه العبارة هي من رواسب المعركة وبقاياها وفضلاتها الأخيرة، وإنما كتبها الكاتب الشيوعي لينين الرملي الذي كتب هذا الفيلم.

ومن قرأ مقدمة كتاب العقاد "عبقرية محمد" رأى العقاد يذكر الموقف الذي حرَّكه لكتابة هذا الكتاب، وذلك أن شابا كان يجالسهم في المقهى كان يرى نفسه مثقفا، أو بتعبير العقاد كان "متحذلقا يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة".. وحيث كان الفتى كذلك فلقد تفوه بسبِّ النبي ﷺ، واستنكر الشاب أن يكون النبي ﷺ بطلا كما وصفه الكاتب الإنجليزي الكبير توماس كارلايل!!

والقصد: أن المسلمين عاشوا دهرا اجتاحتهم فيه الحضارة الغربية التي تغلف نفسها بغلاف العلم وشعاره ودثاره، حتى كان أكثر المفتونين بها يرون العلم كفرا، والكفر علما.. ويرون الدين جهلا وخرافة، ويرون أن الخرافة والجهل دينٌ، وعليه فلا بد من الانخلاع من هذا الدين ليتمّ لنا التقدم والتنور ودخول ركب الحضارة!!

وإذن، انتصر أسلافنا رحمهم الله على هذه الموجة العنيفة حتى كسروها، وخرج جيل لا يرى تضادا بين العلم والدين، ولا يرى نفسه مضطرا لأن يكفر ويلحد إذا أراد أن يتعلم أو أن يتقدم.

ما علاقة هذا كله بالشيخ عبد المجيد الزنداني؟!

الشيخ الزنداني كان واحدا من كتيبة المهمات الخاصة، من قوات النخبة، في هذه المعركة.. هذه القوات الخاصة حملت على عاتقها مهمة شديدة الخطورة والقوة في ذلك الوقت، وهي مهمة: إثبات أن الدين قد سبق العلم، وإثبات أن العلم جندي من جنود الدين، وإثبات أن ما يتباهى به الغربيون ويفتخرون به إنما قد جاء ديننا ببعضه قبل أن يخطر على بالهم اكتشافه أو اختراعه.. أولئك هم الذين فتحوا باب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

أعرف في حياتي القصيرة هذه من كان على وشك الكفر والإلحاد، ولم يُثَبِّته على الدين إلا ما قرأه وما سمعه في باب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة! ولهذا فكم أنقذت هذه الكتيبة من نفوس وعقول ووضعتها على طريق الجنة بعد أن انتشلتها من السقوط في هاوية الجحيم.

وكأي ظاهرة ناجحة ومؤثرة وعجيبة، دخل عليها من أفسد فيها، وقد جاء هذا الفساد من قومٍ يسارعون إلى تلقف الخبر العلمي وإن لم يثبت ولم يصح، ثم يتكلفون له تأويلا وتفسيرا في القرآن والسنة، بعضهم يحسب أنه بذلك يخدم الدين، وبعضهم يفعل ذلك عمدا لتلويث هذا الباب العظيم: باب الإعجاز العلمي.. وقد رأيت بنفسي في منتديات الملحدين والمنصرين من يخترعون الحكايات في باب الإعجاز العلمي، ثم يتواصون بنشرها، ليتلقفها الساذجون والمغفلون، ثم يتضاحكون ويصيحون: هؤلاء هم من يتحدثون عن الإعجاز العلمي.. غرضهم من هذا كله أن يُلَوِّثوا هذا الباب العظيم وأن يصرفوا الناس عنه، فكم دخل في الإسلام من هذا الباب!

لكن الذي يعنينا الآن على وجه خاص هو: متى وكيف صارت ظاهرة الإعجاز العلمي ظاهرة ناجحة ومؤثرة وتجذب الناس إلى الدين؟.. الجواب: هذه هي الثمرة العظيمة، وهذه هي المهمة الخطيرة الجليلة، التي قامت بها هذه الكتيبة.. والتي كان الشيخ الزنداني واحدا من أفرادها.

ربما لا يعرف الكثيرون أن أصل دراسة الشيخ الزنداني هي: الصيدلة، ولقد التحق بكلية الصيدلة جامعة القاهرة في مطلع الستينات، لكن اشتعال الثورة في اليمن وانشغاله بها قطع عليه دراسته. لكن الشيخ لما اهتم بهذا الباب وصار يجمع له العلماء وينفق له المال ويؤسس له المؤسسات عاد إليه من جديد.

ويجب أن نقول وأن نفهم: إن أي حركة رائدة تفتح بابا جديدا، وترد طريقا مجهولة، وتمهد سبيلا صعبا فلا بد أن تعاني من بعض الأخطاء والعثرات.. ثم يأتي اللاحقون الذين ساروا على الطريق المعبدة والسبيل الممهدة فيستدركون ويصححون، ويظل للأوائل فضل السبق والريادة والكشف والتوجيه، لا يخدش بعض ما وقعوا فيه من فضلهم شيئا. ويبقى للأواخر فضل التحرير والتحقيق والتنقيح والتصنيف والتبويب والتنظيم، وفضل الزيادة على ما أشار إليه الأولون.

فلئن كانت الكتيبة الأولى قد افتتحت بابا عظيما كسرت به شوكة الملحدين المتزينين بثوب العلم، فهذا هو فضلها الكبير، وبذلك فقد أفسحت المجال لمن يجيئون بعدهم ليكملوا عملهم ويزيدوه دقة وضبطا وكمالا.. وهؤلاء الآخرون إنما هم في عملهم ثمرة لجهد الأولين وفرعا من دوحتهم.

على أن نصرة الشيخ الزنداني للنبي ﷺ لا تقف عند هذا الحد.. ولئن وقفت عنده لكان مشكورا مأجورا إن شاء الله..

وإنما انطلق الشيخ الزنداني بالهمة العالية التي عُرف بها ليكون مجاهدا بنفسه وماله وما يستطيع.. فما من قارئ في تاريخ المسلمين في هذا القرن العشرين إلا ورأى للزنداني أيادي بيضاء داخل اليمن وخارجها.

فأما داخل اليمن فإن أول ما يهجم على الخاطر هو هذا الصرح العلمي الدعوي الفاخر: جامعة الإيمان. تلك الجامعة التي بعثت ذِكْر كثير من العلماء المنسيين في الزوايا والحارات والقرى والبوادي المجهولة، فما إن كان الشيخ الزنداني يسمع بأحدهم حتى يجتذبه إلى جامعة الإيمان، فمنها ينتشر علمه في العالمين.

لقد كانت جامعة الإيمان اسما متألقا في أوساط طلاب العلم، حتى كان يظن من لا يعرف أن هذه الجامعة عريقة عتيقة قديمة، مثلها مثل: الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب ونحو ذلك.. فتأمل واعجب لرجل صنع معهدا في القرن العشرين يحسب الذين يرون ثمرته ويسمعون عنه أنه من عمل الأولين الأقدمين!!

وفي اليمن استقبل الشيخ الزنداني في رحابه بل في بيته أناسا كانوا قد فروا من الظالمين، وخرجوا من ديارهم هاربين بدينهم، فوجدوا في ظلال الشيخ أمنا وسعة من بعد العنت والضيق، وهذا أمرٌ لا يتسع له هذا المقام.

وفي اليمن جاهد الشيخ بنفسه، وكان من زعماء الجهاد الذي كسر الشيوعيين في اليمن وأخرجهم منها مدحورين، وكان من حراس الشريعة والدين.. أقول هذا، ومع يجب أن أقول أيضا: ولكن التجربة لم تكتمل، بل لم تثمر ثمرتها التي كانت قريبة ومرجوة، وأسأل الله تعالى أن يهيئ من أولاد الشيخ وتلاميذه من يكون أمينا دقيقا متقصيا متحريا فيكتب هذه التجربة ويؤرخ لها ليتعلم منها المسلمون.. وإلا فكيف للشيخ وهو علم كبير من أعلام اليمن أن يقضي آخر أيامه غريبا طريدا وقد كان ملء السمع والبصر، ولم يخرجه منها إلا من كان مغمورا مدحورا منبوذا لا يُعرف ولا يُرى ولا يُؤبه له!!

وأما خارج اليمن فقد كان الشيخ من النافرين بنفسه وماله لمواطن الجهاد، لا سيما أفغانستان حين كانت تقاتل الاتحاد السوفيتي –القوة العالمية الثانية في زمانها- وله هناك أيام مشهودة، وأمور يعرفها أهل ذلك البلد وأهل ذلك الوقت.. وكذا عمله في دعم جهاد فلسطين ومجاهديها، له في ذلك سهم كبير ونصيب جليل.

ولقد شهدتُ الشيخ في آخر حياته، حين جاء واستقر به المقام في اسطنبول، ورأيته وقد بلغ منه الكبر، فيصعب عليه المشي ويثقل عليه الكلام، وهو مع ذلك متماسكٌ متصلب مستجمع لقواه، حتى لقد وقف في مسيرة لنصرة النبي ﷺ، فكان إذا جيئ له بمقعد يقول: أستحيي أن أقعد في هذا الموطن! وقد ظل واقفا على ما هو فيه من التعب.. وذلك موقفٌ ينبئك عن همته الثائرة ونفسه الفائرة، وعن الشباب المديد الذي ذهب في سبيل الله!

ومثلما هي سنة الله التي لا تتخلف في عباده الصالحين، ما إن توفي الشيخ الزنداني حتى قامت أصوات أهل الفضل تنعيه وتمدحه وتدعو له وتترحم عليه وتتذكر مآثره، فكنت ترى في جنازته ومجلس عزائه وفي صفحات الانترنت: أهل العلم وحملته، وأهل الجهاد ورافعي رايته، والعاملون لدين الله في كل سبيل.

وفي ذات الوقت قامت أصوات أهل الرجس والزور تقدح وتشتم وتشمت، وقد اجتمع في ذلك عبيد الحكام المجرمين ممن كرهوا جهاده، وبقايا الشيوعيين ممن كُسر أسلافهم بجهاده، والعلمانيون الذين كرهوا ما أحدثه عمله من الإيمان وتجنيد العلم في سبيل الدين، والمبتدعون الذين كرهوا جامعة الإيمان وثمراتها.

وقد صدق القائل:

إذا رضيت عني كرام عشيرتي .. فلا زال غضبانا علي لئامها

نشر في مجلة "أنصار النبي ﷺ"، مايو 2024

الاثنين، أبريل 08، 2024

لماذا سميت سورة البقرة بهذا الاسم؟

 

من أعجب ما يأخذ النظر والفكر أن تُسَمَّى سورة البقرة بهذا الاسم!

ذلك أن هذه السورة هي أطول سور القرآن الكريم، تشغل ما يقرب الجزئين ونصف الجزء من الثلاثين جزءا التي هي كل القرآن الكريم، ثم هي حافلة بآيات القصص والأخبار، وحافلة بآيات الأحكام والشرائع، وحافلة بآيات الوعظ والترغيب والترهيب..

فلماذا من بين كل هذا المشهد الحافل، سُمِّيت باسم: البقرة؟

 

(1)

خلاصة قصة البقرة المذكورة في السورة الكريمة أن رجلا من بني إسرائيل قتل آخر، فأصبحوا وقد عرفوا القتيل وجهلوا قاتله، فذهبوا إلى نبيهم وزعيمهم موسى –عليه السلام- ليسأل الله أن يدلهم عليه، ثم عاد موسى يقول لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

فاستغربوا الطلب وقالوا: أتتخذنا هزوا؟!

قال موسى: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (أي: المستهزئين)، والمعنى: أن هذا أمرٌ من الله لهم، والله مطلع عليهم وعالِمٌ بأنهم الآن ينشغلون بأمر القاتل.

فلما ظهر لهم أن هذا أمرٌ من الله أبلغهم به رسوله، طفقوا يسألون عن البقرة!

قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟

فسأل موسى ربه ثم عاد إليهم يقول: إنه يقول إنها بقرة لا فارضٌ ولا بكر، أي: لا هي مُسِنَّة ولا هي صغيرة، وإنما وسط بين ذلك. فافعلوا ما تُؤْمَرون.

فعادوا يقولون ويسألون: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟

فعاد إليهم موسى يخبرهم قول ربهم: إنها بقرة صفراء، بل شديدة الصفار (فاقعٌ لونها)، وفوق لونها الأصفر فهي حسنة الشكل (تسُرُّ الناظرين).

ومع هذا فقد عادوا يسألون مرة أخرى سؤال الذي يتحير لكثرة ما عنده من الاختيارات: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، إن البقر تشابه علينا. فكانوا هذه المرة يسألون: هل هي سائمة أم عاملة؟

فجاءهم الجواب من ربهم على لسان موسى عليه السلام: إنها بقرة لا عاملة، فهي لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، وهي خالية من العيوب، وخالية من أي لون غير الأصفر.

وقد وردت تفاصيل كثيرة في كتب التفسير تصف بحثهم عن هذه البقرة، نتجاوزها الآن اختصارا، إلا أنهم وجدوها في النهاية، وغالى صاحبها في ثمنها كثيرا، فاشتروها وذبحوها!

فأمرهم الله تعالى أن يضربوا هذا القتيل بجزء منها، قيل: بلسانها أو بذيلها، فلما ضربوه، قام من موته فقال: قتلني فلان وفلان.

فكان هذا درسا عمليا لبني إسرائيل على قدرة الله تعالى وإحيائه الموتى.

هذه خلاصة القصة، ولمن شاء التوسع، فعليه بكتب التفسير.. ولكن السؤال الذي يهمنا الآن: لماذا سُمِّيت هذه السورة الطويلة الحافلة باسم البقرة، البقرة التي هي بطل هذه القصة؟!

 

(2)

من قرأ سورة البقرة وأطال النظر فيها، وجد أنها رغم هذا الطول والتنوع والاحتشاد بالآيات تكاد تكون على قسميْن؛ القسم الأول: أخبار بني إسرائيل. والقسم الثاني: تشريعات إسلامية! وأما ما قبل هذين القسمين أو ما بعدها فآيات قليلة للغاية.

فأما القسم الأول، وهو أخبار بني إسرائيل، فهو يذكر إعراضهم عن رسالة نبينا محمد ﷺ، ويعيد تذكيرهم بما كان منهم في حق موسى عليه السلام من إتعابه وإرهاقه، ومن استعصائهم عليه، واتخاذهم العجل بعد أن نجاهم الله من فرعون، وقائمة طويلة طويلة من عصيانهم واتباعهم الباطل، وصلت إلى حد القول الصريح {سمعنا وعصينا}، وهو القسم الذي يستمر حتى مطلع الجزء الثاني.

وأما القسم الثاني، وهو التشريعات، فآيات كثيرة في تحويل القبلة والحج والمباح من الطعام والمعاملات وأحكام في الصيام والوصية والزواج والطلاق والخلع والخمر والجهاد والحج والنفقة والربا والدَّيْن والرهن، تستمر من مطلع الجزء الثاني حتى نهاية السورة.

ويتداخل القسمان بطريقة القرآن العجيبة التي لا تشعر معها بالانتقال من خلال قصة تحويل القبلة، فلقد كان هذا الحدث هو الباب الذي انتهت إليه وخُتِمت به أباطيل بني إسرائيل وأساليبهم في الصد عن دعوة الإسلام، وكان هو نفسه الباب الذي ابتدأ به الحديث عن الأحكام الخاصة بأمة المسلمين.

فإن القارئ يدخل إلى قصة تحويل القبلة وهو يظن نفسه ما يزال في أخبار بني إسرائيل وأساليبهم في التكذيب والنكران، فما يخرج منها إلا وقد ابتدأ في رحلة تلقي الأحكام.

ولقد بدا هذان القسمان واضحيْن لكثير من العلماء الذين تناولوا سورة البقرة، ودارت عبارتهم حول معنى الربط بين هذيْن القسميْن، وكيف أن هذه السورة:

1.    قد قُسِمَتْ بين أمة الدعوة (بني إسرائيل) وأمة الإجابة (أمة الإسلام).

2.    وأنها سورة نزع الخلافة من بني إسرائيل (وهذا قسمها الأول) وتكليف المسلمين بها (وهذا قسمها الثاني).

3.    وأنها سورة بناء المجتمع المسلم على نحو النهي والأمر: النهي عن أن يكونوا مثل بني إسرائيل، والأمر بإطاعة ما نزل إليهم من التشريعات[1].

وبهذا التوضيح لموضوع سورة البقرة نكون قد اقتربنا خطوة مما نريد فهمه، وهو: لماذا من بين سائر هذه المواضيع سُمِّيت السورة على وجه التحديد باسم: البقرة؟

 

(3)

سورة البقرة هي أول سورة نزلت بالمدينة، واستمر نزولها طوال الفترة المدنية، فهي التي رافقت الجماعة المسلمة الأولى وهم يعايشون اليهود، وأخذت في تشييد بنائهم التشريعي حتى آخره، حيث نزل تحريم الربا في آخر الفترة المدنية، وفي نهاية الآيات التي نزلت تحرم الربا نزلت آخر آية من القرآن الكريم وهي قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

وقد سمعت من بعض مشايخنا أن الجزء الأول من هذه السورة إنما هو بيان لأعداء الأمة الإسلامية، فهو التنبيه الرباني لعباده على الفئات التي ستنابذهم العداء وستقف في طريقهم.

ولهذا، فبعد مقدمة قصيرة للغاية عن صفات المؤمنين، تأخذ الآيات في وصف الأعداء الأربعة على هذا الترتيب: الكافرون، المنافقون، الشيطان، اليهود.

ومن العجيب المثير للتأمل أن يكون الوصف على هذا النحو:

1.    تكون البداية بالكافرين، وكان نصيبهم آيتيْن فحسب {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7].

2.    ثم يأتي الحديث عن المنافقين، فإذا به يستغرق اثني عشرة آية!

3.    ثم يأتي الحديث عن الشيطان الذي أغوى أبينا آدم وأزله عن الجنة فتستغرق القصة كلها تسع آيات!

4.    ثم يأتي الحديث عن اليهود فيستغرق أكثر من مائة آية!!

فكأن الخطر الذي يمثله اليهود على أمة الإسلام ودعوته أشد من خطر بقية الأعداء الثلاثة: الكفار والمنافقين والشيطان!

 

(4)

والآن، إذا حاولنا أن نربط كل هذا الكلام بعضه ببعض، لوجدنا أن قصة البقرة هي القصة الجامعة لكل موضوع سورة البقرة، فكأنها قلبُ السورة، إذ نرى أن المعاني الكامنة فيها هي المعاني التي تنتشر في بقية السورة، كأنما هي قلب تنبعث منه الشرايين والأوردة! فما من معنى في هذه السورة الطويلة الحاشدة إلا وهو كامن في قصة البقرة!

وتعال تأمل معي:

إن في قصة البقرة تحذير من الله ونهي لعباده المسلمين أن يجادلوا في الأحكام النازلة إليهم كما فعل بنو إسرائيل في الأمر الذي جاءهم مع أن فيه مصلحتهم وفيه كشف سر القاتل الذي يبحثون عنه.. فهذه القصة هي أنسب القصص التي يجب أن يفهمها قومٌ يُعدّهم الله تعالى للرسالة الخاتمة، ويتهيؤون لكثير من الأحكام التي ستنزل عليهم.

فهذه السورة الحافلة بالأحكام والتشريعات في قسمها الثاني تناسب قوما يقولون: سمعنا وأطعنا.. قوما يعرفون أنه لا ينبغي لهم أن يجادلوا في أحكام الله وأوامره ونواهيه كما فعل أصحاب البقرة.. قوما يعرفون أن جدالهم وكثرة سؤالهم يشدد الأمر عليهم ويزيده عسرا، وقد قال رسول الله ﷺ: "لو ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم". فمن بعد ما كان المطلوب ذبح بقرة، أي بقرة، ظلوا يسألون ويتمحكون حتى صار المطلوب منهم ذبح بقرة لا مسنة ولا صغيرة، صفراء فاقعة اللون، حسنة المنظر، لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، لا عيب فيها ولا يشوب لونها شائبة!!

وفي قصة البقرة تنبيه للمسلمين إلى هذه الطباع الخبيثة لبني إسرائيل، وما تنطوي عليه قلوبهم من عصيان الله وإرهاق نبيهم، ولقد سمعت بعض مشايخنا يقول: تأملوا، كيف يفاوض هؤلاء القوم؟!! إنهم يفاوضون في بقرة! ويفاوضون ربهم في علاه! ووسيط التفاوض نبيهم الذي خلصهم وأنقذهم من العذاب: موسى! ويفاوضون على أمر نزل إليهم فيه مصلحتهم!.. فتأمل كيف يمكن أن يفعلوا مع غيرهم من البشر، فيما هو أجل من البقرة، مع وسيط تفاوض لا يبلغ شسع نعل موسى عليه السلام؟!

وهذا الفهم لنفسية اليهود هو ضروري لقومٍ سيحملون الرسالة الخاتمة، ويتحملون عبء الدعوة.. ضروري من جهتيْن على الأقل:

1.    من جهة أن يتجنبوا هذه الطباع ويحاربونها في أنفسهم فيعظمون ربهم ولا يرهقون نبيهم ولا يتكلفون في الدين ولا يسألون عما لم يُبْد لهم، فبذلك يبقى فيهم شرف الرسالة فلا ينزع منهم كما نُزِع من بني إسرائيل.

2.    ومن جهة أن يعرفوا عدوهم وطباعه وطرائقه في التمحل والتكلف والمناورة، فيتأهبون لذلك.

وإن في قصة البقرة معجزةٌ تؤكد أصل الإيمان الكبير: وهو الإيمان بالبعث واليوم الآخر، وذلك حين أحيا الله القتيل أمام أعينهم، فنطق وتكلم بمن قتله، ثم عاد إلى موته. وقد أحياه الله لهذه الغاية، {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].

والإيمان باليوم الآخر، والحياة بعد الموت، هو الأصل الذي فرَّق بين المؤمنين والكافرين، فإن كثيرا من الكافرين يؤمنون بوجود الله، ويؤمنون بأنه خلق السموات والأرض، بل وبأنه خلق الناس.. فما كان أهل قريش يكفرون بوجود الله، ولكنهم لا يريدون الإيمان باليوم الآخر.

والسر في أن الكفار ينكرون اليوم الآخر ويرفضونه، ليس أنه متعذر عقلا، فإن الخلق من العدم، والإنشاء من النطفة، أصعب بكثير من الإحياء بعد الموت.. ولكن سر إنكار اليوم الآخر في الحقيقة هو الرغبة في الحياة بلا تكاليف ولا تشريعات ولا مرجعية.. فاليوم الآخر هو يوم الحساب، وهو يوم الجزاء، وهو يوم الثواب والعقاب.. فمن آمن به، وجد نفسه مضطرا من فوره إلى معرفة ربه، ومعرفة ما يأمر به وما ينهى عنه، ووجد نفسه مضطرا إلى الطاعة والتسليم والاتباع!

فمن أراد الحياة وفق هواه وشهواته ومصالحه ومطامعه، كان أشد شيء يزعجه ويؤرقه وينغص عليه نفسه هو: الإيمان باليوم الآخر.

إن أكثر الكفار مستعدين للإيمان بإله لا أثر له في الحياة، لا أوامر له، لا نواهي له، لن يثيب ولن يعاقب ولن يجازي، ولن يبحث عن أحد أطاعه أو عن أحد عصاه، والموت نهاية كل حي.. إن مجرد الإيمان بوجود الإله أمر يتقبله الكفار ويتعايشون معه بلا مشكلات!

لكن الصراع الضخم الكبير الذي يملأ هذه الحياة هو الصراع حول الإله الذي له تعاليم وتكاليف، الصراع حول الإله الذي سيبعث الناس بعد الموت فيجازيهم؛ فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.. هنا يصطدم الحق بالباطل في هذه الحياة وعلى هذه الأرض، وهنا تكون المعركة العظمى: لمن السيادة والمرجعية؟ من الذي يملك أن يقول: هذا حق وهذا باطل؟ من الذي له حق السمع والطاعة؟ ما الذي نفعله وما الذي نتجنبه؟

كل هذه المعركة خلاصتها تكمن في هذه الجملة الواحدة: الإيمان باليوم الآخر.. وأكثر الذين لا يؤمنون بالله، إنما هم في حقيقتهم وأعماق فكرهم لا يؤمنون به فرارا من الإيمان باليوم الآخر.

لقد افترق المؤمنون والكفار حول الإيمان باليوم الآخر مطلقا.. آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون.

وافترق المؤمنون وأهل الكتاب حول الإيمان باليوم الآخر أيضا، ولكن على جهة التفصيل، فقد زعم اليهود أنهم إن عوقبوا فلن يعاقبوا بالنار إلا أياما معدودة {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، فلهذا استخفوا بالدين وبالتعاليم وبالشرائع، وكتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله، وارتكبوا قائمة طويلة من الجرائم.

ولهذا كان على المؤمنين أن يؤمنوا باليوم الآخر على هذا النحو: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81، 82]، وذلك أنهم يتهيؤون لتلقي التعاليم والتشريعات الكثيرة التي لا بد لهم من تنفيذها كما أنزلها الله إليهم، فليس بين الله وبين أحد نسب ولا صلة ولا قربى ولا محاباة!

 

(5)

من أجل هذا، كان لا بد للمؤمنين حملة الرسالة الخاتمة من الانتباه الدائم إلى هذه القصة، قصة البقرة، القصة التي جمعت سائر أقطار هذه السورة الطويلة الحافلة، القصة التي نبهتهم إلى عدوهم الخطير، وأخبرتهم بتاريخ الأمة التي نُزِع منها شرف الرسالة، وأعدتهم لطريقة التعامل مع التشريعات النازلة إليهم.

نسأل الله تعالى أن يفقهنا وإياكم في كتابه وسننه.

نشر في مجلة "أنصار النبي"، إبريل 2024



[1] للتوسع في بيان سورة البقرة وموضوعها واجتهاد العلماء والمفسرين فيه، ينظر: تفسير المنار لرشيد رضا، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، وتفسير القرآن الكريم لمحمود شلتوت، والنبأ العظيم لمحمد عبد الله دراز، ودراسات قرآنية لمحمد قطب.