الأحد، مايو 07، 2023

عن موقف العلماء من الانتخابات التركية!

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

كتبت قبل يومين أدعو إلى أن يصدر العلماء ومجالسهم العلمية والفقهية بيانا في شأن الانتخابات التركية لدعم السيد الرئيس رجب طيب أردوغان، وأن هذا هو من قضايا الأمة العامة التي لا يليق بهم أن يتخلفوا عنها..

وخلال هذين اليومين جرت نقاشات بيني وبين بعض السادة العلماء والفضلاء، وبعضهم أرسل لي يستدرك أو يعترض أو يبدي تحفظا، وقد قدّرتُ أن بعض الكلام الذي أجبت بعضهم به قد يكون من النفع نشره.. فها هو بَسْطٌ لما كنتُ أجملته في المنشور السابق.

نقول، وبالله التوفيق..

نحن الآن في معركة، ومعركة شرسة وفاصلة ومؤثرة، ومن الطبيعي في المعارك أن تستخدم كافة ما بيدك من الأدوات، وأن تقدم جانب الجسارة على جانب التحفظ والحذر.

وهذا نراه من أعدائنا أيضا مع أنهم غير متضررين من أردوغان كتضررنا نحن لو فازت المعارضة.. وما تزال وسائل الإعلام والمجلات الغربية تكتب بصراحة في التنفير من أردوغان والهجوم عليه.. ومع أن مؤيدي أردوغان يستثمرون هذا ويقولون: انظروا إلى التدخل الخارجي، انظروا إلى الهجوم الغربي، انظروا إلى عمالة المعارضة.. مع هذا فإن الصحف والمجلات الغربية ووسائل إعلامهم مستمرة ولا يعرقل الوسيلة منها ما أثارته من غضب ولا من إحراج للمعارضة.. ومن جانب المعارضة فهي تسكت إزاء هذا العمل الذي يحرجها، إن لم تكن ترحب به، ويقول قائلهم: انظروا ماذا فعل أردوغان وكيف خسَّرنا العالم وكيف تتناوله وسائل الإعلام.

القصد أنه لا أحد يتحفظ في البذل عند المعارك، حتى لو كان هذا البذل مسببا بعض إحراج لحلفائه لأنه يرجو بهذا البذل أن يأتيهم بالمكسب الذي هو أفضل من الإحراج.. فإذا فازت المعارضة فلن يضرها الإحراج، وإذا خسرت لن يكون هذا الإحراج إلا سببا واحدا ضمن جملة أسباب أكبر..

وكذلك نحن، إذا فاز أردوغان فلن يضره الإحراج وأن يقال دعمه العلماء المسلمون، لكن إذا خسر فسندفع جميعا ما هو أعظم بكثير جدا جدا من الإحراج.. وساعتها سيتمنى كل من تحفظ وتحسس أن لو بذل ما استطاع وليكن ما يكون، وساعتئذ، سيعرف أن الإحراج ما هو إلا تخوف ضئيل ما كان ينبغي له أن يقدره.

والرأي -كما أراه- أن على العلماء أن يكتبوا البيانات الجماعية والفردية والفتاوى الجماعية والفردية وأن ينزلوا بثقلهم في هذا المضمار.. وساعتها سيخرج فعلا من يدين ويستنكر ويعتبر أن هذا تدخلا خارجيا وأن هذا خيانة للعلمانية.. ولكن ساعتها أيضا سيخرج مؤيدو أردوغان وحلفاؤه ليقولوا: انظروا إلى زعيمنا صار زعيما للأمة كلها.. كيف تتركون رجلا يؤيده العلماء والصالحون وتنتخبون هذا الكافر الذي يطأ بحذائه سجادة الصلاة؟.. انظروا إلى العلماء الذين يعرفون الله والدين كيف أنهم جميعا يختارون أردوغان .... وهكذا.

السؤال الأهم: هل هذه البيانات ستكون فعلا في مصلحة أردوغان؟ أليس من الممكن أن تأتي بنتيجة عسكية وأن تثير حساسية الأتراك القومية ويعتبرونها تدخلا في شؤونهم، فتؤدي للانفضاض عنه؟

الجواب عن هذا أنه ما من أحد حتى هذه اللحظة يستطيع أن يقول بشكل حاسم بل ولا بالظن الراجح والغالب أن صدور بيان عن علماء مسلمين في تأييد أردوغان قد يؤدي إلى هذه النتيجة.. هذا أمر انطباعي بحت، ولذلك تجد في القادة الأتراك أنفسهم من يؤيد بقوة ومن يعارض بقوة ومن يتشكك ومن يحاول أن يتوسط.. فأرجو أن نزيل هذا الانطباع من أذهاننا.. وعلى حد علمي فإن علم الاجتماع لم يصل بعد إلى الجزم بأن تصرفا واحدا بعينه يؤثر على نتيجة انتخابات في بلد ما.. سائر ما يقال في هذا توقعات وتحليلات صحافية وإعلامية، وأكثرها منطلق من الهوى ومغرض وليس مبنيا على تحليل إحصائي أو تجارب ميدانية.

نتيجة الانتخابات تتأثر بجملة من العوامل النفسية والشخصية والاقتصادية والاجتماعية الضيقة والاجتماعية الواسعة والمصالح الذاتية، والشعوب شرائح متعددة ومتداخلة ومتراكبة بشكل معقد.. وبيان العلماء المسلمين في دعم أردوغان ستتلقاه شرائح بالحفاوة وشرائح أخرى بالعداوة وشرائح أخرى باللامبالاة وشرائح أخرى لن يصل إليها البيان أصلا.. وحتى الشرائح التي ستتلقاه سيختلف موقفها منه، وستدور حوارات بينهم رفضا وقبولا، على الواقع وفي مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام، وسينتقل بعضهم من الرفض إلى القبول ومن القبول إلى الرفض... إلخ!.. ولا يمكن بأي طريقة علمية حساب مآلات البيان ولا الجزم بأنها سلبية.

ولهذا فإن التخوف من إصدار البيان أراه مبنيا على انطباعات أكثر منها حقائق، ولا أحسبه يرقى حتى إلى درجة الظن الراجح.

وها هنا أمر مهم آخر.. إن في صدور البيان مصالح أخرى مهمة..

1. مصلحة للإسلام بإثبات أنه ليس دينا علمانيا معتزلا لشأن السياسة ومعاركها، حتى لو أن هذا الشأن وهذه المعارك تؤثر مباشرة على المسلمين.. فكل الناس تعرف أن الإسلام يتأثر بهذه النتجة سلبا وإيجابا.. والمسلمون يتأثرون.. فلو أن العلماء أحجموا عن بيان حكم الإسلام في المعركة الحالية المباشرة المؤثرة عليهم، فهذا منهم اعتزال في غير محله، وإحجام في موضع إقدام، وفيه انتصار عملي للعلمانية إذ صار المشايخ يتحسسون من الخوض في معركة سياسية حتى وهي تؤثر عليهم وعلى الدين وعلى المسلمين.

بمعنى: لو كانت المصحلة أن نعزز ونرسخ ونثبت أن الإسلام دين واقعي له في الواقع حكم، وكانت المفسدة أن هذا قد يحرج بعض أصحابنا وحلفائنا، وقد يثير بعض أعدائنا ومبغضينا.. فتقدير هذه المصلحة أعظم وأكبر من تلك المفسدة، فكيف ونحن لا نستطيع الجزم بأنها مفسدة؟

2. لو صدر البيان وفاز أردوغان فأقل الأحوال أن مصلحة فوزه تحققت، وقد يتذكر هو هذه الوقفة وهذا الجميل فيكون منه في حق العلماء ما هو أكبر وأكثر.. ولو لم يصدر البيان وفاز كمال كليتشدار أوغلو فلن يكون إحجام العلماء عن إصداره مخففا لغلوائه في اجتثاثهم، ولن يتذكر لهم أنهم أحجموا! ولن يتورع عن إغلاق ما نوى من المؤسسات والجمعيات وطرد ما ثوى من العلماء والصالحين والمهاجرين.. هو لا يخفي أنه سيغير بعض القوانين بل وبعض مواد الدستور التي ستوفر له الغطاء لهذا كله.

فمصلحة العلماء أنفسهم، ومصلحة مؤسساتهم العلمية، ومصلحة مشاريعهم التربوية تقف أمام تهديد مباشر، تحملهم وتلزمهم بخوضه بكل القوة.

3. المصلحة المهمة الأخرى التي أحسب أنها منسية، هي تثبيت وتعزيز وتأكيد أن العلماء مستقلون في النظر والموقف، وأنهم لا يخضعون لأحد رغبا ولا رهبا، وأنهم يقولون ما اعتقدوا واجب بيانه إذا دعت الحاجة ويقدمون على ذلك، وأن مجالسهم ومجامعهم الفقهية والعلمية ليست محصورة في سقف دولة أو قُطر أو نظام.. بل هم علماء المسلمين، وهم يفتون للمسلمين، ويفكرون للمسلمين، لا يحجبهم عن ذلك تقسيمات وطنية حددها الأجانب ورسخها وكلاء الأجانب من بعدهم.. بل هذه المجالس العلمية والمجامع الفقهية الأصل فيها أنها متجاوزة لهذه التقسيمات وأنها من وسائل مقاومتها.

فلا ينبغي، والحال هكذا، أن يحجم علماء العالم الإسلامي عن البيان والفتوى في أمر يخص المسلمين في بلد بعينه.. حتى وإن كان هذا يغضب بعض أولئك الموجودين في هذا البلد..

(ولو افترضنا أن هؤلاء الغاضبين كثير، وأنه لا يحركهم نحو رفض أردوغان إلا بيانات العلماء، فإن أمام هؤلاء الغاضبين تدخل خارجي آخر لدعم المعارضة.. فلو كانوا بالفعل مخلصين لشعاراتهم الوطنية الضيقة، فقد استوى الجانبان أمامهم في أن الخارج يدعمهما.. فلن نخسر أولئك الغاضبين لهذا السبب.. وإن لم يكونوا مخلصين لشعاراتهم الوطنية -وهذا أرجح وأغلب- وتحسسوا من دعم العلماء والمسلمين لأردوغان وحده، فأولئك ما عليهم من سبيل، ولا لنا من سبيل إلى مودتهم).

ولهذا أجدني غير مقتنع ولا منجذب للاقتراح القائل، فليصدر العلماء المجنسون فقط بيانا، لا.. إننا بهذا نثبت أن العلماء لم يكن لهم حق الكلام في شأن المسلمين إلا لما أعطتهم الدولة الوطنية الحديثة هذا الحق.. وليس هذا بحق، بل هم مكلفون بهذا الأمر من قبل الله، وهم ورثة الأنبياء، وهم القائلون بما يرونه الحق سواء أكانوا أتراكا أم غير أتراك.

4. مصلحة العلماء الشخصية المباشرة.. وهذه لن أطيل فيها، لأني أعرف أن أكثر العلماء متجردون من مصلحتهم الشخصية.. ولكن هذه المصلحة لن يشعر بها حق الشعور إلا من كانت تركيا مأواه وملجأه الوحيد.. فأما من يتمتعون بإقامة آمنة في مكان آخر فسيخفت عندهم هذا الشعور (وهذا أمر طبيعي، لست هنا أدينه، وإنما أشير إليه).. على أن الزلزلة التي ستحدث بخسارة أردوغان ستنعكس على كل المسلمين حتى في مناطق أمنهم! فإن أردوغان يحفظ الأمن على كثير من المسلمين وعلماءهم حتى خارج تركيا، ومواقفه من سوريا وقطر وليبيا معروفة.

وأرجو ألا ينسى أحد كيف تأثر المسلمون جميعا بالانقلاب على مرسي في مصر.. فلم يكن مجرد معركة وطنية داخلية!

وأكاد أجزم أن لو استقبل العلماء ما استدبروا، وعلموا هذا المصير من قبل أن يروه، لكانوا قد أمطرونا بالفتاوى الفردية والجماعية التي تحرم الانقلاب العسكري وتجرمه وتنهى عنه، والتي تجيز مقاومته ومكافحته بكل وسيلة.. فها هي مصر من بعد ما كانت فتحا على المنطقة كلها صارت نكبة.. ولولا انقلاب مصر لم يحصل ما حصل في السودان ولا غزة ولا ليبيا ولا تونس ولا قطر.. ولو أن أحدهم قال: ما كان ليبقى بشار فإنه لم يبعد، وها هو بشار الآن يعود إلى جامعة الدول العربية منتصرا..

يكفي أن نتخيل بقاء مرسي الآن وتكوين محور قوي مع تركيا ومع قطر والسودان وليبيا وتونس، (وهذا أقل الأحوال) لنرى كيف كانت ستنقلب خريطة القوة في المنطقة، وكيف كان سيكون الأمر بالنسبة لغزة، بل بالنسبة للعلماء أنفسهم.. حتى العلماء الأسرى الآن في بلاد الحرمين وفي غيرها، ما كان لأحد أن يفجر ويفعل بهم ما فُعِل لو كانت خريطة السياسة والقوة في المنطقة يمسك بزمامها مرسي في مصر وأردوغان في تركيا.

والكلام في هذا الشأن كثير.. أحسب أن هذا فيه الكفاية.

والله المستعان، وصلى اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


الاثنين، أبريل 24، 2023

من فضل الله الذي تم علينا في رمضان

يسَّر الله تعالى، بفضله وكرمه وجميل عطائه، إنتاج برنامجين في شهر رمضان الماضي.. ولقد لقيت فيهما من تيسير الله ما لا أحسن وصفه.. فلله المنة والفضل الجزيل.


(1)

أولهما: برنامج "قصة الفتنة الكبرى" التي تتناول ما وقع من الخلاف والقتال بين الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم أجمعين، منذ بداية التمرد على عثمان رضي الله عنه، وحتى استشهاد علي رضي الله عنه.. وقد استفزني إلى سرعة إخراج هذا البرنامج ما أعلنته قناة MBC عن بث مسلسل "معاوية"، وهو ما ردَّت عليه جهات شيعية في العراق ولندن ببث فيلمين عن "أبي لؤلؤة المجوسي" -لعنه الله- وعن السيدة عائشة -رضي الله عنها-.. ثم قضى الله وقدَّر وأوقف بث هذه جميعا.

لقد يسر الله في هذا البرنامج كل شيء، جرى تصويره في أربعة أيام متتالية، بإمكانيات بسيطة، وكنت حينها ما أزال أعاني من أثر الأنفلونزا، ثم تطوّع بالمونتاج له أخ فاضل قدير، ترك ما بيده من عمله وشأنه ليتوفر عليه، وجرى تيسير عجيب في انتقاء كلمات لنشيد التتر ثم تلحينه وتسجيله صوتيا، وكان هذا التتر كله إهداء من قناة التناصح التي رحبت إدارتها بالبرنامج بحفاوة كبيرة، ثم جرى بثه على بعض القنوات الفضائية مثل: مكملين (مصرية) والتناصح (ليبية) والأنيس (جزائرية)، فضلا عن منصات يوتيوب مثل القناة المتميزة "شؤون إسلامية".

وتم فضل الله تعالى بأن لقي البرنامج ما لم يلقه شيء قبله من القبول، وكان أعظم ما أدهشني أن بعض العلماء والباحثين المتخصصين في الفتنة والذين تتلمذت على كتاباتهم، كانوا يتابعونه يوميا، ويمدونني بالملاحظات والتعقيبات بعد كل حلقة، ويثنون عليه ثناء ما خطر ببالي أن يكون أبدا!! والحمد لله أن أغلب هذه الملاحظات كانت في أمور دقيقة جدا وتخصصية -مثل ضبط الألفاظ وأسماء الرواة- لا تؤثر على المادة أو الأفكار.. وانتفعت بذلك أيما انتفاع، وهو ما سأستفيد منه حين يخرج كتابي عن الفتنة إن شاء الله.

وهنا أعيد الشكر والثناء لكافة من أرسلوا إلي تعليقاتهم على منصات التواصل الاجتماعي أو على بريدي أو على وسائل التواصل المختلفة، وأعتذر لهم أني لم أستطع التفاعل مع هذه الرسائل والتعليقات، ولكني قرأت كثيرا منها.. وإذا يسر الله تعالى في الأيام القادمة، فقد نفرد بعض الحلقات أو الجلسات لمتابعة ما ورد من أسئلة وتعقيبات.. فلا تنسونا من صالح دعائكم بعلو الهمة والبركة في الوقت، وأن يرزقنا الله وإياكم الإخلاص في القول والعمل.

وبالأمس، تفضل علي أخي "مصطفى الشرقاوي" بكرم جديد.. وقد تطوع قبل ذلك بأنه يعيد مونتاج الحلقة لضبط بعض الفنيات الدقيقة المتعلقة بالصوت قبل أن يبثها عنده، أسأل الله أن يجزيه عن ذلك.. ثم أتم فضله هذا بأن صنع ملفا واحدا للحلقات كلها (31 حلقة) لتكون في فيديو واحد بمدة 12 ساعة.

رابط السلسلة: https://cutt.ly/I5hPcro

رابط السلسلة في حلقة واحدة: https://youtu.be/QWCvPVya7fk

 

(2)

وثانيهما: برنامج "في أروقة رمضان"

فلئن كان البرنامج الأول صعبا وثقيلا، فهذا برنامج طريف لطيف، كنا نتوقف في كل يوم من رمضان عند حدث وافق حصوله ذكرى هذا اليوم.. فكان كالحديقة أو المتحف، يوما مع ابن خلدون ويوما مع المقريزي ويوما مع المنصور بن أبي عامر ويوما مع ابن ماجه ويوما مع أسامة بن منقذ ويوما مع علي بن أبي طالب ثم مع ابنه الحسن بن علي..

ويوما مع فتح مكة وفتح الأندلس وفتح الإسكندرية وفتح حارم ومعركة البويب وإنقاذ بغداد من الدولة البويهية..

ولم يخل الأمر من أحداث مريرة ومؤلمة قصدنا به أن ننظر في العبرة والعظة منها كالحديث عن الباطنية والقرامطة والمغول وفتنة بابك وثورة إبراهيم بن المهدي العباسي!

وهذه أيضا ثلاثين حلقة جرى تصويرها في سبعة أيام، صحبت فيها الفريق المتميز لقناة "الرافدين" العراقية، والذين لقيت منهم انضباطا واحتراما وحفاوة فوق ما كان منهم من التميز الفني وحسن المتابعة، فالشكر لهم جميعا من المدير العام إلى المدير التنفيذي إلى فريق التصوير والمونتاج.

رابط البرنامج: https://cutt.ly/R5hDHIe


(3)

ثم تفضلت قناة التناصح مرة ثالثة فأعادت -في رمضان أيضا- عرض البرنامج الأخير الذي كان عندهم، هو برنامج "ويبقى الأثر - الموسم الثاني".. وفيه تناولنا مذكرات بعض الساسة والزعماء والأدباء، توقفا عابرا، نلتقط منها بعض المواقف المهمة التي تنير لنا بعض الإفادات التاريخية الثمينة، استفادة من خلاصات مسيرتهم الحافلة!

وسائر هذه الحلقات تجدونها على قناتي على يوتيوب ( youtube.com/melhamy ) أو على منصات هذه القنوات المشار إليها.

أكتب هذا المنشور اعترافا بفضل الله ومنته أولا.. ثم شكرا لكل من ساعد وبذل شيئا في إتمام هذه الأعمال، ومنهم من لا أعرفه ومن لا أستطيع أن أوفيه، ثم شكرا وامتنانا لكل من تابع ووفر من وقته ليستمع وينتفع، ولكل من نفعني بتعليق أو ملاحظة أو دعاء..

وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على الخير المجتمعين في طاعة الله، ثم في جنته ومستقر رحمته ودار كرامته!

الخميس، أبريل 20، 2023

معركة الإسلام في تركيا

  

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..

لا يخفى على مهمومٍ بأحوال الأمة الإسلامية، أنها مقبلة على معركة كبيرة وفاصلة، وهي: الانتخابات التركية في مايو 2023م، وتلك معركة لا يهتم لها المسلمون وحدهم، بل يهتم لها كذلك الغرب والأنظمة العربية، وجميع هؤلاء يعرف ويعلم حجم الفارق الضخم والتأثير العظيم والمدى الخطير بين فوز أردوغان بها وبين فوز كمال كليتشيدار أوغلو، زعيم المعارضة العلمانية.. ولأنهم يعملون، فهم يعملون كذلك!

وبداية، وقبل الدخول في الموضوع، فإن ثمة أمرًا أرى أن العرب في بلادنا لا يعرفونه ويغفلون عنه، وإني أهتم بذكره هنا لأن العرب هم جمهوري الذي يقرؤون ما أكتب.. يحسب الأكثرون أن تركيا تمثل ملجأ للعرب الفارين من بلادهم، سواءٌ فرُّوا من القتل والسجن، أو فرُّوا من الفقر والحاجة.. وهذا جزء من الصورة. من كان في تركيا هنا يعرف أن تركيا صارت ملجأً للمسلمين جميعا! لا للعرب وحدهم!

فهنا في تركيا ترى شعوب الترك والأوزبك والطاجيك والشيشان والقوقاز والتركستان والروهينجا، بل ترى كذلك الذين فَرُّوا من أوروبا وأمريكا بعد أن تبين لهم استحالة المحافظة على دينهم هناك، أو تعرض أولادهم لخطر الاختطاف الذي تمارسه الدول الغربية لأبناء المسلمين إذا هم علموهم دينهم أو حثوا بناتهم على الحفاظ على شرفهن.. فتلك الأمور هي من التهم والجرائم واضطهاد الأطفال عند الحكومات الغربية، وبها ينتزعون الأطفال من أسرهم، وهذا موضوع مأساوي شنيع بشع لا تتسع له هذه السطور.

وإلى فترة قريبة كانت مصر وأرض الحرمين والشام من البلاد التي يهاجر إليها هؤلاء المضطهدون من شعوب آسيا المسلمة من الترك والقوقاز والأوزبك والطاجيك وغيرهم، حتى جاءنا زمان السيسي وابن سلمان وبشار، فإذا بهم جميعا يتقربون من الصين بتسليم المسلمين والمسلمات إليهن، ففرغ الأزهر من شطر كبير من طلابه الآسيويين، لا سيما التركستان، وأما النشطاء الروهينجا فهم الآن في سجون ابن سلمان، ولم يبق طالب علم من أهل القوقاز في الشام إلا وخرج بنفسه إذا لم يُسَلَّم إلى بوتين.. فهؤلاء جميعا تراهم الآن في تركيا!!

ويعلم جميع الناس، أن تركيا لم تصر ملجآ لهؤلاء العرب والمسلمين إلا لأنها تحت قيادة أردوغان، وأنه لو زال عن هذه القيادة غدا لصار هؤلاء جميعا في مهب الريح.. وفيهم العلماء والفضلاء والصالحون وأهل الدين، فضلا عن النساء والأطفال والعجائز!

ولا يخفى على متابع هذا الغزل المتبادل بين المعارضة التركية وبين أنظمة دول آسيا الوسطى وغيرها، ولا نواياهم في إخراج هؤلاء اللاجئين وتسليمهم إلى بلدانهم!

وزيادة في حماية هؤلاء، فقد منح أردوغان لكثير منهم إقامات استثنائية أو طويلة أو دائمة، ومنح كثيرا منهم أيضا الجنسية التركية. ومع أنه أبدى مرونة أو خضوعا (والتوقف عند اللفظ لا يهمني الآن) في إعادة علاقاته مع أنظمة الشر العربية ودولة الكيان الصهيوني، فإنه في ذات الوقت أبدى تصلبا تامًّا وعنادًا حديدًا في مسألة تسليم اللاجئين إليه، مع أن نظام السيسي –كمثال- وضع هذا البند على رأس مطالبه، وأَخَّر من أجله كل ملفات البلد المهمة كغاز المتوسط والوضع في ليبيا، فكان ذلك دليلا آخر على أن هذا السيسي عدو الله ليس إلا رئيس عصابة مجنون بنفسه! ليس له في حب الوطن أدنى نصيب.

والقَصْدُ: أنه لو لم يكن من فضل لأردوغان إلا أنه صيَّر بلده ملجآ للمظلومين لكان ذلك الفضل كافيا في إيجاب دعمه والوقوف من خلفه، كذلك: فلو لم يكن من خطرٍ يترتب على خسارته إلا تشرد هؤلاء الملايين وتعرضهم للطرد والإذلال وخطر السجن والموت وعودة القادرين منهم إلى أوروبا إلى حيث يفقدون دينهم وأبناءهم، لو لم يكن من خطر إلا هذا، لكان هذا كافيًا في تحريم التخلي عن هذه المعركة لكل قادر، فضلا عن تحريم دعم هذه المعارضة ولو بأقل القليل!

ووالله، لو كان أردوغان على هذا الحال ليس إلا رئيسا كافرا لدولة أوروبية، يفعل هذا انطلاقا من شعور إنساني فحسب، لكان المسلمون هم أجدر الناس أن يدعموه ويقفوا من خلفه ويحرصوا على فوزه وبقائه، بل لو قيل: من يحارب معه؟ لكانوا هم أولى الناس بذلك وأسبقهم إليه.. فكيف وهذا الاحتضان للاجئين ليس إلا حسنة من حسناته؟!

ولا أقصد بحسناته هنا الإنجاز الاقتصادي فحسب، وهو إنجاز ضخم هائل يستحق وحده أن يكون سببا كافيا لدعمه ولكن لست أخوض فيه لأن الكلام فيه كثير، بل حتى إنجازه في نشر الإسلام في بلده، ومن كان على مشارف الأربعين –مثلي- فقد شهد بنفسه كيف تحولت المسلسلات التركية من العشق الممنوع والعلاقات المحرمة إلى بطولات أرطغرل وعثمان وألب أرسلان وعبد الحميد الثاني... وغيرها. ولما قدمنا إلى تركيا سمعنا ممن كانوا يقيمون بها قديما ما لا يكاد يصدق عن أحوال هذا البلد الأخلاقية والمعيشية وازدراء أهل الدين فيها.. وهذه أمور لا يُحسن تصورها ولا تصويرها مثلُ الذين عاشوها.. إن أردوغان –في نظر العلمانيين الأتراك وفي نظر الغرب- أعاد فتح تركيا وأدخلها في الإسلام من جديد! وهذه العبارة وإن لم تكن دقيقة إلا أنها توضح لك حجم التحول الذي يرصده الأعداء!

وهو ذاته هذا التحول الذي سترتد إليه تركيا لو فقدت رجلا مثل هذا، وجاء بعده من كانوا قبله! هل تصدق عزيزي القارئ أن المعارضة العلمانية نفسها التي كانت تقنن نزع الحجاب وتطرد المحجبات من المستشفيات لا تترك الآن ملصقا ولا مظهر دعاية لها إلا ووضعت عليه صورة المحجبة؟!!

سيقول السفهاء من الناس ما يحمله على الدفاع عن أردوغان إلا أنه لاجئ في بلده أو حتى مستفيدٌ منه، فلو شئت والله أن أدفع عن نفسي لفعلت، ولكنهم أتفه من أن أضيع معهم وقتا. ولقد قال سفهاء الناس مثل هذا يوم كنتُ أدافع عن مرسي وكانوا يتوقفون في الدفاع عنه (إما لأنهم ثوريون جدا لا يقبلون بخدش نقاء الثورة، أو أهل دين جدا لا يقبلون بأقل من حكم الشريعة)، فأدَّاهم هذا الغلو –في الثورية وفي الدين- إلى أن يكونوا حميرا يركبها السيسي حتى ضاع الدين وضاعت الثورة على الجملة، وصار بعض أولئك كلابا أحذية ينافقون السيسي ويبررون له، وصار أحسنهم حالا طريدا مثلنا، فمن كان ذا نفس سوية أقرّ بالخطأ والندم (وقت أن لم ينفع الندم) ومن كان ذا نفس خبيثة لفَّق لنفسه الأعذار والمبررات!!

ولقد كنا وقتها نحدثهم ونجادلهم بالتاريخ، فنقول انظروا من البديل، وتذكروا عصر عبد الناصر.. فالآن نجادلهم بالواقع ونقول: انظروا من البديل، وتذكروا مرسي والسيسي.. فمن كانت له عند أردوغان مظلمة أو مثلبة أو منقصة فليعلم أن منافس أردوغان وبديله ليس واحدا من الخلفاء الراشدين!!

وفي الأتراك هنا، كما عندنا في العالم العربي، سفهاء من السلفيين والمتصوفين الذين يقولون أيضا إن الديمقراطية كفر وإن أردوغان عميل للصهاينة والأمريكان، ولا يفطن هؤلاء أنفسهم إلى أنهم لا يستطيعون أن يقولوا هذا ولا أن يختاروا ولا أن يتعلموا لولا هذا الفضل الذي جاءهم به أردوغان نفسه.. وكم في الناس من مطموس البصيرة، يورد نفسه الحتوف راغبا راضيا..

ولكن الطريف هنا، أن هؤلاء بدؤوا يظهرون في البرامج التركية، تريد المعارضة بهم أن تصرف أهل التدين عن انتخاب أردوغان لأنه لا يحكم وفقا للدين والشريعة، أو أن تصرفهم عن الانتخاب بالكلية ولينتظروا في كهوفهم حتى يأتيهم من جديد نظام البيعة الشريعة المعقودة من أهل الحل والعقد!!

تماما مثلما فتحت الفضائيات وقنوات التليفزيون المصري في عهد مرسي مساحات للتكفيريين ليقولوا عبر هذه الشاشات: الانتخابات كفر، وكل من شارك فيها كافر.. وفتحوا الباب كذلك لرؤوس المنافقين من المداخلة وحزب برهامي ليقولوا بأن مرسي لا يطبق الشريعة، والعلماني الصريح خير من العلماني المتخفي مرسي.. فجاءهم العلماني العسكري الصريح فجعلهم حيث يستحقون، من لم يكن جارية في بلاط السيسي كان كلبا في حراسته ينبح على من خالفه!

لست فقيها ولا مفتيا، ولكني لا أعرف فقيها ولا مفتيا له من الاطلاع على الواقع نصيب إلا وهو يؤكد على ضرورة دعم أردوغان.. ومما لا يعرفه كثيرون أيضا أن ما لقيه جماعة العلماء من حفاوة وإكرام في هذا البلد ما كانوا يحلمون بشيء منه في بلادهم التي أخرجتهم.. ولا يخلو الأمر من أخطاء.

وفي حدود ما أعرف من الدين، فلا أحسب أن أحدا من المسلمين يمكنه أن يساهم في هذه المعركة بسهم فيسعه أن يتخلى أو يمتنع، وفي مقدمة هؤلاء أولئك الذين حصلوا على الجنسية التركية وصار لهم حق الانتخاب، وكذلك الإعلاميين والكُتَّاب وأهل اللسان والبيان ممن يستمع لهم الناس ويملكون أن يؤثروا فيهم، ومثلهم الإعلاميون الجدد مثل اليوتيوبرز والتيكتوكرز وغيرهم ممن يجمعهم اسم "المؤثرين" (الانفلونسيرز)، فعليهم كذلك هذه المسؤولية الواجبة التي يُسألون فيها أمام الله، فما القضية نصرة حاكم ولا رئيس، بل هي قضية مصير للمسلمين.

وهل ننسى ما كان في واقعنا قريبا، هل ننسى كيف كانت ليلة محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا (15 يوليو 2016م)، يوم أن تعلقت قلوب الجميع بالمشهد التركي، فقام كل عدو لهذا الدين ولهذه الأمة فرحا مسرورا يرجو نجاح الانقلاب، ثم ردَّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. وقام كل مسلم صالح ناصح يرجو أن يفشل هذا الانقلاب فمنهم من نزل بنفسه ومنهم من لم يجد غير الدعاء يبذله!!

نعم، إن المشاعر تُنسى! ولو أن المرء يتذكر هذه الليلة ويتوقع ماذا كان سيكون تأثيرها على المسلمين، لوجد أن السواد التام يعم ديار المسلمين كلها!

وقد طال المقال ولم نقل شيئا عن مواقف الرجل السياسية الخارجية، فليس أول ذلك منعه اجتياح قطر سنة 2017، ولا آخرها إداناته للإساءة إلى النبي ولما يحدث في الأقصى.. ومواقف أخرى طويلة وكثيرة.. ربما ينتقدها البعض الآن ويرى أنها ليست كافية، ولكنه ينسى أن إذا كان غير هذا الرجل في هذا المكان، لكانت هذه المواقف أحلام لا تراود حتى الخيال!

ها نحن نودع شهر رمضان، ولقد رأيت من نفسي ومن غيري حرصهم على الدعاء له في أوقات الإجابة، وأكثر هؤلاء الذين يدعون ويتضرعون لم تمسهم من الرجل منفعة ولا مصلحة، وإنما كانوا مثل جدهم عبد الله بن عمر، يفرح للغيث إذا نزل في أي أرض للمسلمين. وإني لأشهد أن هذا الرجل في هذا الزمن هو من نعم الله الكبرى على أمة المسلمين أجمعين.

الثلاثاء، أبريل 04، 2023

هل يمكن أن يصدر القرآن عن كاذب؟.. نظرة نفسية!

 

جاء نبينا ﷺ بكثير من المعجزات الحسية والمادية، ومع ذلك ظلت معجزته الكبرى والخالدة هي هذا الكتاب: القرآن الكريم..

ومع أن هذا الموضوع طالما كُتِب فيه، إلا أنه بدا لي أمورٌ فيه لم أرها فيما قرأتُ، وإن كنت موقناً أني مسبوقٌ إليها، لكني لجهلي وقلة بضاعتي لم أقع عليها، أو لعلي قرأت ونسيت فبقيت المعاني في نفسي وذهب عني موردها.

 لقد تعددت وجوه إعجاز القرآن الكريم، أي: تعددت الطرق التي يثبت بها أن هذا القرآن هو كلمة الله!

ومن وجوه الإعجاز تعامل النبي ﷺ نفسه مع القرآن، وتعامل القرآن مع النبي ﷺ، أقصد بذلك هذا الأمر النفسي والنزعة النفسية والطبع الإنساني، فإن التأمل في هذا يقطع بأن القرآن كلام الله، وليس كلاماً من عند محمد.. ترى هل يمكن أن يقال عن ذلك "إعجاز نفسي؟!".. الله أعلم! وليس من مقصدي ابتكار الاصطلاحات.. ولكن النظر يحمل على سؤال علماء النفس والخبراء بالطبائع عن الأمر من هذا الباب.. الباب النفسي!

 إن وقفة واحدة، من منظور النفس وطبائعها، مع آيات القرآن تقطع بأن محمداً لا يمكن أن يكون قد أَلَّف القرآن أو جاء به من عند نفسه، ليؤيد بذلك دعواه (الكاذبة) في أنه نبي من عند الله..

 وبداية السؤال تقول: إن هذا الذي يزعم أنه نبيٌّ، لماذا يفعل ذلك؟

إنه ليس أحد زعم لنفسه النبوة إلا وقد ابتغى بذلك أن يكون زعيماً وقائداً وسيداً في قومه، وهذا الرجل الذي يريد ذلك إنما يندفع إليه تحت ضغط نزعة نفسه المترعة بالتعاظم والعجب واستحقاقه الرئاسة.

(1)

 مثل هذه النفس حين تزعم لنفسها النبوة فإنها تُقَرِّب ما بينها وبين الإله، لتأخذ من قداسة الإله ما يرفعها فوق البشر، وتمنح لنفسها من العصمة ما لا يزعمه لنفسه البشر.. فأما محمد ﷺ فعلى العكس من ذلك..

 فمع أن القرآن والسنة كلامٌ نطق به النبي ﷺ في قومه، إلا أنه كان حريصاً وواضحاً في التفريق بينهما، وأن الكلام الأول هو كلام الله بلفظه ومعناه، وأنه يتحداهم به، ويكرر عليهم التحدي أن يأتوا بكلام مثله.. وأما الكلام الثاني فهو ألفاظه هو -وإن كانت معانيه وحياً- وهذا قسم هو لا يتحداهم به، ولا يستغرب عليهم إذا أتوْا بمثله!

 ولا يقع الشك عند من له أدنى معرفة باللغة العربية أن الأسلوبين مختلفان، والفارق بينهما واضح! كذلك لم يقع الشك لدى من حاولوا حفظ القرآن والسنة في أن حفظ القرآن أسهل كثيراً كثيراً من حفظ الحديث!

 فلئن كان محمدٌ ﷺ يطيق أن يأتي بالكلام الأبلغ، والأيسر في الحفظ والتذكر، وإذا كان محمد ﷺ يطيق أن يصدر عنه أسلوبان مختلفان في الكلام والبيان.. فلماذا لم يجعل كل كلامه قرآناً ينسبه إلى الله ويتحداهم به؟!

 لماذا قبل أن يجعل كلامه الأبلغ المعجز كلاماً لله، وجعل كلامه هو في الدرجة الأدنى، حيث لا يتحداهم به، ولا يستغرب عليهم أن يأتوا بمثله؟!

 لقد ظل القرآن يكرر من الألفاظ والمعاني ما يُثَبِّت به منزلة محمد ﷺ:

 1.    فهو بشر لم يجاوز هذه المرتبة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110]

2.    وهو يتلقى الوحي ولا يخترعه: ﴿أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: 110]، ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]

3.    وهو لا يملك تبديل شيء فيه ولا تغييره: ﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: 15]

4.    ومثله في هذا مثل الأنبياء السابقين: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 9]

5.    وأنه لا يعلم الغيب: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: 9]، ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 20]

6.    وأنه كان في غفلة عن هذا كله طوال عمره السابق: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 16]

7.    وأنه لا يملك إعطاء الثواب، ولا يملك كذلك إنزال العقاب. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 46، 47]، وكذلك ﴿لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [الأنعام: 50]

8.    ولا يملك حتى إجراء المعجزات التي تجري على يده ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 109]، ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50].

9.    ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188].

10.          وهو نفسه مُخاطب بهذا الوحي ويخاف إذا عصى ربه أن ينزل به العذاب: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120]، ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾ [الرعد: 37]. 

(2)

كذلك، فمثل هذه النفس الممتلئة بحب الزعامة والصدارة والرئاسة، والتي تتصدر لدعوى النبوة، لا تقبل أن تسجل على نفسها خطاباً لأتباعه فيه ما حفل به القرآن الكريم.. لقد جاء في القرآن أنواع من الخطاب للنبي ﷺ لا يمكن معها الشكُّ في أن هذا من كلام النبي نفسه!

1.    فقد جاء في القرآن العتاب للنبي ﷺ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم: 1]، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس: 1 - 3].

2.    وجاء فيه التخطئة له ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال: 67]، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 105 - 107].

3.    وجاء فيه الامتنان عليه بتعليمه ما كان يجهله، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ﴾ [هود: 49].. وجاء فيه الامتنان عليه بتنبيهه إلى ما كان في غفلة عنه ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3].

4.    وجاء فيه نسخ وإزالة أمور كان قد فعلها النبي بنفسه، فنزل في التبني: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5]، ونزل في المؤاخاة والتوارث بها ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75].

5.    وجاء فيه الكشف عما يكتمه ويستحيي منه: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37]، ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب: 53].

6.    وجاء فيه الأمر الشديد له، والنهي الشديد كذلك ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا﴾ [هود: 112]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1]، ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [آل عمران: 60]، ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ [السجدة: 23]، ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 108]، ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [يونس: 95].

7.    وجاء فيه القطع والجزم بأن الأمر ليس على ما يهوى، ففي أشد لحظة مرت عليه حيث أصابه قومه وأدموه، قال: "كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟"، فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: 128]. ويوم رأى عمه الحبيب ممثلا بجثمانه فأقسم على الثأر له بسبعين نزل قول الله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: 126]

8.    بل وجاء فيه الوعيد له: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 74، 75]، وكذلك ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44 - 47]

9.    وانقطع عنه في مرات احتاج إليه فيها، حتى عرف ذلك المشركون يوما فقالوا: إن ربَّ محمد قد قلاه، فنزل القرآن بسورة الضحى ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 3]. وانقطع كذلك عندما اتهم المنافقون أم المؤمنين عائشة في حادث الإفك، وهذا أخطر موقف يتعرض له رجل زعيم في قومه، وانقطع فيه الوحي شهرًا، فلو كان ﷺ يكذب في موقف واحد في حياته لاصطنع قرآناً في هذا الموقف! وحاشاه ﷺ!

10.          وتحدث القرآن عن زوجات النبي ﷺ حديثاً طويلاً، ما كان للعربي في ذلك الوقت مع شدة الغيرة العربية، ثم ما كان لنفسية الزعيم المتطلع للسيادة والرئاسة أن تقبله فضلاً عن أن تخترعه وتؤلفه: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: 30]، ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: 32، 33]، ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم: 3]. 

(3)

وتكاد كل صفحة في المصحف يُستخرج منها شيء كهذا في خطاب الله لنبيه، يثبت به أن هذا الكلام ما كان ليكون أبداً، كلام رجل كتبه بنفسه، ليؤيد به دعواه في النبوة!

ومن الآيات ما لا يوضع تحت عنوان مما سبق، لكن التأمل فيها يقطع أنها لا يمكن أن تصدر عن رجل يكذب، إذ هي خطاب لا يؤلفه أحد يخاطب به نفسه، فمنها:

 ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94].. فما من كاذب يزعم لنفسه النبوة والوحي، يلقي على نفسه هذه الشبهة، أو يضع نفسه تحت هذا الاحتمال!

 ومنها: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 106، 107].. فما من كاذب يزعم لنفسه النبوة يوجّه إلى نفسه هذا الكلام!

 ومنها: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ [يوسف: 110].. فما من كاذب يزعم لنفسه النبوة، يريد بذلك السيادة، يصوِّر نفسه في هذه اللحظة من الضعف والوصول إلى حافة اليأس!

 وثمة أمور أخرى تدخل أيضاً في هذا الباب، ولكن نتركها لمن يتوسع فيها.. مثل: لئن كان محمد ﷺ زعم النبوة لنفسه رغبة في السيادة والزعامة، فلماذا اهتم بالطبقات والفئات التي لا يرجى منها كثير نفع في هذا المشروع الطموح، بينما تثير قضاياها مزيداً من المشكلات؟!

لماذا كل هذا الكلام عن النساء وحقوقهن في الميراث والمهور والزواج والطلاق، في مجتمع قد استقر فيه الأمر على امتهان المرأة.. إن إثارة هذا الموضوع، ووضع هذه الأحكام لا يأتي إلا بالصعوبات والعراقيل في مشروع الزعامة والسيادة المأمول!

وذات هذا الكلام يقال عن فئة العبيد والموالي، فإنهم في ذلك المجتمع لم يكونوا ركناً يلجأ إليه في حال الضعف، أو قوة يستعان بها في حال الاستعانة! وما تأتي إثارة موضوعهم ولا إعطائهم حقوقهم ولا الحث على تحريرهم إلا بالمزيد من النافرين!

بل أشد من هذا الكلام يقال عن تعاليم النبي في معاملة الحيوان والنبات.. إن الثروة الهائلة في نصوص النبي للرفق بالحيوان ورعاية النبات لا محل لها من الإعراب إن كان النبي رجلاً زعم لنفسه النبوة لكي يتوصل بذلك إلى السيادة والزعامة والرئاسة!

وكذلك لهجة التحدي التي تحداها النبي لبني إسرائيل، وهم أهل علم وكتاب وفيهم بقية آثار النبوات السابقة، فمثلما تحدى العرب أهل الفصاحة بأنهم عاجزين عن مشابهة القرآن، فقد تحدى أهل الكتاب بأنه يكشف لهم ما يخبؤونه من الأحكام أو من قصصهم مع أنبيائهم، أو قصص عقوباتهم كالذين سخط الله عليهم فجعلهم قردة وخنازير.. إلخ!

 إن لهجة التحدي الحافلة التي ينطق بها القرآن، والتي تحرج الخصم إحراجا هائلا، وتضربه في أعمق ما يتميز به.. تلك اللهجة هي مخاطرة لا يقدم عليها كاذب يزعم لنفسه غير الحقيقة!!

فهل يبقى بعد ذلك شكٌّ في أن النبي ﷺ هو رجل الصدق، وأن القرآن هو كلام الله حقا؟! وأنه المعجزة الخالدة!

الجمعة، مارس 03، 2023

الزلازل الإيمانية

 

شاء الله تعالى وقدَّر، وهو الحكيم اللطيف، أن نشهد زلزالا في الأرض في ذات الوقت الذي نعيش فيه ذكرى زلزال في النفوس والقلوب، وكلاهما من الزلازل الإيمانية! فإن المرء لو سلم له دينه فذهب إلى الله بقلب سليم فقد نجا، وأما إذا تزلزل إيمانه في قلبه، فدخلته الشبهة والشك فتلك هي الكارثة العظمى، وهذا هو الخسران المبين.

(1)

بعث الله هذا الزلزال الذي أصاب تركيا وسوريا، فكان آية عظيمة شاهدة على قوة الله وقدرته، وجبروته وسطوته، وشاهدة على ضعف الإنسان وضآلته، وبساطته وقلة حيلته! وتأمل في المدن العامرة، وما حوته من البنايات العريقة والعتيقة، والبنايات الحديثة والأنيقة، كيف تنهار وتصير خرابا في خمسين ثانية فحسب!!

وأبلغ ما في هذا الزلزال أن الإنسان لا يملك أن يفعل إزاءه شيئا، وذلك العجز هو عجزٌ شامل! يسأل معه الإنسان إذا دهمته الكارثة: أين المفر؟!

لأول مرة أنتبه إلى بعض المعاني في آيات القرآن الكريم..

يقول تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور؟! * أم أمنتم في السماء أن يرسل عليكم حاصبا؟! فستعلمون كيف نذير!}

كنت أرى في هذه الآية طلاقة القدرة الإلهية، فإذا بي أقرأ فيها الآن، إضافة إلى ذلك، عجز هذا البشري، فإنه عاجز أمام أنواع العذاب! فأيما عذاب جاءه أصابه، لا مفرّ ولا محيص ولا مهرب!

ويقول تعالى: {وإذا مسكم الضرّ في البحر، ضلّ من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم. وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر؟ أو يرسل عليكم حاصبا؟ ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه (البحر) تارة أخرى، فيرسل عليكم قاصفا من الريح، فيغرقكم بما كفرتم؟!}

كنت أرى في هذه الآية انقشاع وهم الإنسان وعودة العقل والوعي له حين يحل الخطر، فإذا بي أقرأ فيها الآن، إضافة إلى ذلك، فقدان هذا الإنسان السيطرة على نفسه، فهو يتضرع في البحر، ولكنه لا يأمن على نفسه أن يُخسف به البر، بل هو قد يعود بنفسه إلى البحر مرة أخرى من بعد ما كاد يهلك، لا يعود بمحض رغبته، بل يعيده الله إليه! فهو المجبور المقهور وإن كان يظن نفسه مختارا ومريدا!

ويقول تعالى: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون؟ * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون؟ * أفأمنوا مكر الله؟! فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}

كنت أرى في هذه الآية غرور الإنسان وغفلته وتوهمه أنه في أمان، فإذا بي بعد هذا الزلزال أرى فيها إضافة إلى ذلك معنى آخر، هو معنى العجز التام.. فسواءٌ جاء بأس الله بالليل وهو نائم، أو جاء بأس الله بالضحى وهو يلعب، فلا يملك له دفعا ولا صرفا!

ومثل ذلك قوله تعالى: {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض؟ أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون؟ * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين؟ * أو يأخذهم على تخوف، فإن ربكم لرؤوف رحيم}

فهو هالك سواءٌ أجاء الخسف أم جاء عذاب آخر أم جاء يوم القيامة!

وهو هالك سواءٌ أجاءه العذاب وقت يقظته وصحوته وتمكنه وأعماله، أو جاءه وقت حذره وترقبه واستعداده..

هو هالك في كل الأحوال، لأنه أضعف من أن يصنع لنفسه شيئا، حتى لو كان يعلم متى يقع هذا البأس، وأين يقع؟!

يبعث الله الزلازل آيةً من آياته، يضل بها كثيرا ويهدي بها كثيرا.. يزداد بها بعض الناس إيمانا، ويزداد بها بعض الناس كفرا وفجورا وعصيانا.. تنزل ببعض الناس فتوقظهم وتهديهم إلى طريق الله، وتنزل بآخرين فتشككهم بالله وتعبث بإيمانهم!

زلزالٌ في الأرض يناظره زلزال في القلوب، وكما تصمد المباني الراسخة لزلزال الأرض يصمد الإيمان الراسخ لزلزال القلب، وينهار الإيمان الهش كما تنهار المباني الهشة!

وهكذا.. لكل وجهة هو موليها!

(2)

نعم، لكل وجهة هو موليها..

نزلت هذه الآية، في زلزال آخر، زلزال من زلازل الإيمان.. وذلك عند حادث تحويل القبلة!

سمع حذيفة ابن اليمان رجلا يقول: لو أني أدركت رسول الله لجاهدت وفعلت، فقال له: انظر ما تقول يا ابن أخي، ثم تلا عليه موقفا عصيبا عاشه مع النبي في الخندق، يقول النبي: من يأتنا بخبر القوم جعله الله معي في الجنة؟ فلم يقم أحد، ثم كررها فلم يقم أحد، ثم كررها ثالثة فلم يقم أحد، حتى قال النبي: قم يا حذيفة.

هذا مثال من المواقف العصيبة التي عبر عنها القرآن بالزلزال الشديد! موقف غزوة الأحزاب، وفيها يقول تعالى {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}.

إن الصحابة لم يبلغوا هذه المرتبة العليا إلا بما اجتازوه من المحن الهائلة، ومن هذه المحن: محنة تحويل القبلة، فإنها والله أمر كبير وشديد، ونحن نرى كثيرا من المسلمين بل من المنتسبين إلى الدعوة والعلم يتساقطون أمام شبهات ضعيفة، وينهزمون نفسيا أمام حملات إعلامية، فكيف بنا لو عشنا في زمن النبي فقيل لنا: لقد تحولت القبلة، كنا نصلي الظهر إلى بيت المقدس، ومنذ الآن سنصلي إلى الكعبة؟!!

كيف يفعل الناس في ظل حملة إعلامية ثلاثية:

1.    يقول المنافقون: ما يدري محمد أين يتجه ولا إلى أي جهة يصلي! فإن كان الذي مضى حقا فهو الآن على باطل، وإن كان الذي مضى باطلا فكيف كان نبيا؟!

2.    ويقول اليهود بالأمس: يتبع قبلتنا ولا يتبع ملتنا. ثم يقولون اليوم: فارق قبلة الأنبياء قبله فكيف يكون نبيا؟!

3.    ويقول المشركون: عرف الحق فعاد إلى قبلتنا، وغدا يعود إلى ملتنا!

محنة أي محنة، وقد ذكر الله في كتابه هذا فقال {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}

نعم، هي كبيرة، ومن تأمل في الموقف واستحضره وعاش أجواءه عرف أنه ابتلاء وزلزلة للصف المسلم، ولقد شاء الله أن يكون هذا الابتلاء والمسلمون مقبلون على مرحلة الجهاد.. المرحلة التي قال الله فيها {فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت}.

قد عافانا الله أن لم نكن مع رسول الله، فمن يدري ماذا كنا سنكون؟ هل كنا سنكون مع الذين هدى الله ممن تجذر الإيمان فيهم؟ أم مع الذين تعمل الشبهات في زلزلة إيمانهم ويقينهم في الحق الذي جاء به رسول الله؟!

لقد مهَّد لنا هؤلاء الصحابة طريق الإيمان، وواجهوا بأنفسهم أعتى عثراته وصعوباته، لقد ضربوا المثال العظيم في انخلاعهم التام من عاداتهم وتقاليدهم ونظام آبائهم وأجدادهم، بل ومحاربتهم إياهم في سبيل هذا الدين! فكان الواحد منهم يقرأ في كتاب الله عذاب أبيه وأخيه، لا يداخله اعتراضٌ ولا سخط! لقد عبر هؤلاء الصحابة ابتلاء الإيمان الكبير، وجاهدوا في سبيل الله أنواع الجهاد كلها: جهاد النفس وعاداتها وأثقالها وشهواتها ونزقها، وعبروا الشبهات، وجهاد المنافقين وما يثيرونه من شبهات وتخذيل وتثبيط وفتن، وجهاد الكفار بالقتال والسلاح.

(3)

ومن سار على الدرب فلا بد أنه يلاقي شيئا مثل هذا، فإن درب الأنبياء والصالحين يقيم به قطاع الطرق والشياطين {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا، شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه، وليقترفوا ما هم مقترفون}

إن الأعداء يقيمون في طريق الأنبياء، وإن مهمتهم أن يقتنصوا السالكين أتباع الأنبياء، يتعاونون فيما بينهم على إثارة الشبهات عند كل موقف وكل نازلة، يريدون بذلك زلزلة الإيمان في نفوس الناس، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، أي الشبهة المزخرفة المتزينة التي تبدو جميلة ومنطقية ومقنعة، بينما هي تنطوي على السم الزعاف القتّال.

وهذه الشبهة تعمل بقوة وتؤتي غرضها إذا أصابت قلوبا منقطعة عن الآخرة، فهذه القلوب تتشرب هذه الشبهة، فترضاها وتطمئن إليها، ثم تمضي بعد ذلك في طريق الضلال.

وذلك ما يفسر لنا، كيف تكون الحادثة الواحدة نفسها فرقانا بين الناس، تزيد بعضهم إيمانا، وتزيد بعضهم كفرا.. إن تفسير ذلك كامن في هذا القلب، وفي الإيمان الكامن فيه، وهو مصداق حديث نبينا صلى الله عليه وسلم "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياكم من زلازل الإيمان، وزلازل البلدان!