الأحد، نوفمبر 02، 2025

تحت راية الطوفان في بيت حانون!


محمد إلهامي[1]

 

مهما طالت الحياة فإنها تساوي على الحقيقة تلك اللحظات التي يختزنها صاحبها في ضميره، لا ينساها مهما تطاولت السنون، ويتذكرها مهما باعدتها الأيام، فالحياة هي اللحظات المؤثرة.. ولذلك ترى الناس كلهم يشعرون أن أعمارهم قد انقضت سريعا وأن أيامهم قد مضت كلمح البصر!

وقد كان نبينا الأعظم ﷺ في أواخر عمره وهو بالمدينة، وقد قامت دولة الإسلام وترسخت وانتصرت بعد أهوال وأهوال، يتذكر مواقف مكة القديمة، تسأله عائشة عن أشد ما لقي في حياته، فلا يذكر يوم أحد بل يذكر يوم طُرد من الطائف، وكيف هام على وجهه مهموما فلم يستفق إلا في قرن الثعالب، المنطقة التي تبعد عن مكة نحو ستين كيلا، أي أنه مشى تسع ساعات لم يشعر بها من شدة الهم. كذلك فإنه لما تذكر أشد الكروب عليه لم يكن شيء من ذلك في الهجرة أو في المدينة، بل كانت جلسة التحقيق التي نصبها له كفار قريش لما أخبرهم أنه قد أُسْري به، يقول: فكربت كربة لم أكرب مثلها قط!

أتذكر ذلك الآن، لأن واحدة من تلك اللحظات التي لست أنساها، كانت حين وصلتني رسالة من الشهيد القائد محمد زكي، صاحب هذا الكتاب، وكان ذلك صبيحة عيد الفطر (1445ه = 2024م)، ولم أكن أعرفه ولا بيننا اتصال قط.. غير أني لقيت أخاه أبا عبد الله –حفظه الله ووفقه- مرات قليلة في اسطنبول ضمن فعاليات عامة، وحتى في ذلك كان الحديث بيننا قليلا.

أرسل إلي أبو عبد الله رسالة من أخيه، يهنئني فيها بعيد الفطر، وهي رسالة كتبها في أنفاق بيت حانون، أي على خط المواجهة الأولى في أقصى شمال قطاع غزة!!

وقد غمرتني الرسالة بطوفان من المشاعر؛ أشدها علي وأعظمها عندي، العجبُ من أن رجلا في بيت حانون -بين المعارك والأشلاء والكر والفر- يتذكر رجلا مثلي منعما ممتعا في اسطنبول!!

فشكرته ما أسعفتني لغتي في الشكر، ثم صرت أرسل بالاطمئنان عليه بين الفينة والأخرى!

ثم ما لبث بعدها شهورا، أن أتحفني –حين انعقدت الهدنة التي بدأت في يناير 2025م- أن أتحفني بأمرٍ هو أعز وأغلى وألذ وأحلى.. فقد أخبرني أبو عبد الله أن أخاه أبا زكي كتب كتابا بين الأنفاق والعُقَد القتالية، سمَّاه "تحت راية الطوفان".. دَوَّن فيه بعض ما رآه في هذا الطوفان من عجائب وكرامات ومن شدائد ومحن!!

فطلبتُ إليه أن أقرأ الكتاب قبل نشره، لشدة حرصي على تتبع أخبار الرجال الذين لا يظهرون على الإعلام، ولا يبثون مشاعرهم حتى على مواقع التواصل. فوافق مشكورا مأجورا..

وأخبرني أبو عبد الله أن أخاه القائد الشهيد كان يتابعني بل لقد كان يُدَرِّس بعض كتبي للشباب معه! وقد علم الله، لشأني في نفسي أحقر من هذا وأدنى وأهون.. ولَأَن يجري اسمي على لسان مجاهد لهو شَرَف عزيز، فكيف بهذا المقام؟!

وبينما كنت أقرأ الكتاب –الذي هو الآن بين يديك- وألتهمه، وأتشرب ما فيه من رائحة الأنفاس وصهيلها، وهدير المعارك ولهيبها، وما تثيره من المعاني في القلوب والعقول، وما تثيره من الغبار في الأنوف والصدور.. إذ فوجئت بصاحبنا يذكرني في كتابه بثناء حسن.. فصرت في بحر من الحيرة، لا أدري من أي شيء أعجب، ولا على أي شيء أتحسر.. وأسأل الله أن يسترنا بستره الجميل.. غير أن ثناء المجاهد لا يعدله عندي ثناء مهما عَظُم صاحبه في شأن الدنيا!!

ولك أن تتخيل حال رجل مثلي، عاجز في مكانه، آمن في سربه، معافى في بدنه، عنده أقوات يومه وغده وبعد غده.. كيف يكون حاله إن جاءه ثناءٌ من رجل ترفرف روحه فوق رأسه، يخوض أشرف معارك الأمة؟!!

وقد كنت حينها أمرُّ بكربٍ شديدٍ، فأطمعني هذا الكرم الحاتمي السيال، فأرسلت إليه أطلب دعاءه ودعاء من في الثغور لينفك هذا الكرب، فما أقرب أن يستجيب الله لهؤلاء.. فكان كما هو أهله: أجابني بدعائه الشجي الندي، وقد شاء الله بفضله وكرمه وانحل الكربُ بأمر يشبه المعجزة.. فما أحسب إلا أن هذا كان من كراماته!!

ومضت الأيام، وبعد شهور، إذا به يرسل إليّ يطلب مني أن أكتب مقدمة لكتابه "تحت راية الطوفان"، بعد أن أضاف إليه شيئا من أخبار تجدد القتال بعد انهيار الهدنة في مارس الماضي.. ومن ذا يتخلى عن مثل هذا الشرف!

ثم ما هي إلا أربعة أيام بعدها حتى جاءني نبأ استشهاده.. فلما عرفت اسمه ورأيت صورته وسمعت مقاطع نشرت له عرفتُ بعين اليقين ما كنت شعرت به حين قرأت الكتاب بعلم اليقين.. ذلك سمت شهيد! طال الوقت أم قصر!!

إن في الكتاب روحا من صاحبه، وفي الكتاب ترى رجلا ناهلا من القرآن متعلقا به يحسن الاستشهاد منه على المعنى الذي يريده، حركيا عمليا متعاملا مع نفوس الناس وما يصدر عنها حين الشدة من أوجه ضعف أو خوف أو تردد، فقيها يتكلم في عبادات المجاهد: كيف يصلي وكيف يتطهر، بل كيف يعيد بناء المسجد الذي تهدم في المنطقة التي أبيدت لكي يثبت قلوب الناس ويعيد بث الحق والخير فيهم.

فإذا سمعتَ صوته ورأيت صورته -كما في المقاطع التي نشرت له- رأيت شابا وادعا قد أقام القرآن فصاحة لسانه، وللقرآن أثر في لسان قارئه المدمن له يُعرف من مواضع ترقيقه وتفخيمه ومدِّه وقصره ونحو هذا.. وإذا رأيت ثم رأيت وجها منيرا وسمتا مريحا وإلفا محبوبا!!

ما كان مثل هذا ليكون إلا شهيدا..

ولقد شاء الله ألا يكون استشهاده آخر فضائله علي.. فلقد أرسلت زوجه الكريمة -أفرغ الله على قلبها السكينة والرضا- تقول: كان يحب الشيخ محمد إلهامي فأخبروه أن يدعو له!!

فيا لله، كيف أدعو أنا لمن كان غاية أملي أن أرزق شفاعته من بين سبعين؟!!

ثم وصلني بعد ذلك فرحته وثناؤه حين علم بأني سأكتب المقدمة لكتابه.. ومضى قبل أن يعلم أن فرحتي بذلك أعظم وأشد.. وذلك هو الأليق والأكرم، فإنما يسعد مثلي ويشرف بأن يخدم مجاهدا في أشرف معركة!!

***

هذا عن الشهيد وفضله عليّ.. وبقيت كلمة في شأن الكتاب نفسه!

إنه مهما تابعنا الأخبار وحرصنا عليها فإن القائم في قلب المعركة يعرف منها ما لا نعرف، ويرى فيها ما لسنا نراه..

***

لما قرأت الكتاب، وقد قرأته مرتيْن، كان أشدَّ ما لفت نظري كلمته هذه: "لم يُقْتَل أحد من المجاهدين في كتيبتنا جراء الاشتباك مع قوات العدو الراجلة، كل شهدائنا العظام ارتقوا إلى الله بسبب القصف الجوي".

وصاحبنا الشهيد نفسه قد قضى أيضا بالطيران..

ومعضلة الطيران هذه لا بد أن تكون على رأس أولويات العاملين المخلصين في أمتنا، كلٌّ في مجاله وفي ثغره.. ولو قد كان بيدي أمر هذه الأمة، فلربما جعلت نصف مقدراتها لحل هذه المعضلة وحدها، فمعضلة الطيران هذه هي التي تسببت في هزائمنا طوال هذا القرن الماضي، ولو تخيلنا تاريخ هذه الأمة وعدوها والمعارك التي نشبت فيها وحذفنا منها الطيران لكنا الآن نكتب تاريخا آخر تماما!

إن رجال أمتنا في كل معركة مقاومة يثبتون أنهم على قلتهم وضعف عتادهم قادرون على الصمود لجيوش هائلة من عدوهم، لولا هذا السلاح اللعين الذي يرمينا بحممه من السماء ولا نستطيع له دفعا!

ونعم، إن معضلة الطيران هي فرع واحد من معضلة الأنظمة الخائنة التي تحكم بلاد العرب والمسلمين، فأولئك هم الذين أخضعوا الأمة وأذلوها ومنعوها أن تتقدم وحرسوا تخلفها ليزداد العدو تفوقا، فهم أصل كل بلاء وجذر كل نكبة وبذرة كل مصيبة تعيشها أمتنا.. نعم، المعضلة الكبرى في تاريخنا المعاصر هي الأنظمة الحاكمة الخائنة التي خانت الله ورسوله والمؤمنين ومَكَّنت العدوَّ منا.. ولن نتقدم شبرا قبل أن نتعامل مع هذه الأنظمة باعتبارها أنظمة احتلال أجنبية، مهما بدا أنهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.

أقول: إن معضلة الطيران هي فرع من هذه المعضلة الكبرى، لكنها على الحقيقة أشد هذه المعضلات وأخطرها في الباب العسكري.. ويحتاج هذا الأمر تفكيرا مطولا وعملا مضنيا ومخلصا من سائر العاملين لحلِّها.. ونعم، إن الحل الجذري الأول هو إسقاط هذه الأنظمة الحاكمة الخائنة، ولكن حتى بعد إسقاطها وقبله وإلى أن نتمكن من ذلك فيجب أن يبدأ تفكير ونقاش وعمل طويل في حل هذه المعضلة!

لست متخصصا في شيء من هذه المجالات ولكن أذكر هذا لإثارة الأفكار:

إن من واجب المهندسين والكيميائيين والفنيين وأمثالهم: العمل على تطوير طيران مكافئ للعدو، فإن لم يمكن فتطوير سلاح مضاد للطائرات يصده، فإن لم يمكن فتطوير طيران يستطيع أن يمثل رادعا، فإن لم يمكن فتطوير سلاح آخر يمكن أن يصيب من عدونا مثلما يصيبون منا فيتحقق توازن الردع إن لم يتحقق توازن القوة!

ومن واجب المبرمجين والقراصنة الإلكترونيين وأمثالهم: بذل غاية الجهد والوسع في العمل على اختراق أنظمة الطيران، وإفسادها وإتلافها وتضليلها، أو اختراق قواعدها أو أبراج مراقبتها، أو الرسائل المشفرة المتبادلة بين الطيارين والقواعد الجوية!

ومن واجب هؤلاء القراصنة وأمثالهم اختراق الأنظمة وقواعد البيانات والوصول إلى بيانات الطيارين أو العاملين في القواعد الجوية أو نحوهم ممن يمكن عبر الوصول إليهم بالاختراق أو الاستمالة أو التحييد أن يتعطل سلاح الطيران!

ولا يقتصر الأمر على أبناء العلوم التطبيقية البحتة التقنية الفنية، بل حتى العلماء والفقهاء والدعاة والمتخصصون في علم النفس والاجتماع والقانون وغيرهم، كل هؤلاء ينبغي أن يفكروا كيف يمكن أن يخدموا الأمة في حل معضلة الطيران هذه..

هذا المتخصص في علم النفس هل يستطيع أن يستخرج لنا صفات نفسية خاصة تتكون لدى الطيارين والعاملين في سلاح الجو، ويقترح علينا أساليب التعامل معها، فنأخذها منه ونوصلها للعلماء والفقهاء والدعاة والإعلاميين والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي؟!

وهذا المتخصص في علم الاجتماع، هل يستطيع أن يستخرج لنا أو يفيدنا بأنماط ينبغي أن نفهمها أو نتعامل معها في بيئة الطيارين والعاملين في سلاح الجو، فنبثها عنه على ألسنة الدعاة والإعلاميين والمؤثرين، بحيث نستطيع كف عادية هؤلاء من خلال نبذهم اجتماعيا أو إشعارهم بالعار؟!

ألا ينبغي أن يتداعى العلماء إلى مؤتمر فقهي جامع يجمعون فيه المسائل المتعلقة بالطيران وواجبات الأمة فيه، بداية من واجبات التصنيع والتطوير التي هي على الحكام والدول، مرورا بواجبات المتخصصين في كل فن، وإصدار الفتاوى للطيارين المسلمين والعاملين في سلاح الجو وفي الدفاع الجوي، حول ما يملكون من وسائل دفع العدو، سواء بإذن قادتهم أو بغير إذنهم، أو في ضرورة نشر تقنية الطيران تصنيعا وترويجا وحثا، بل وفي ضرورة نشر ثقافة تضليل الطيران المعادي، وكيف يمكن للناس أن يساعدوا المجاهدين في ذلك، وفي حث الناس على التبرع والتطوع والوقف لتطوير هذا المجال.. إلخ!

وقل مثل هذا في كل مجال وباب.. إن نازلة الطيران هذه يجب أن ينهض لها كل عامل مخلص ليرى ما الذي يمكنه أن يفعل فيه!

 

***

يعد هذا الكتاب من الردود العملية الشافية للضلالات الفكرية المنحرفة التي تظهر في عصرنا، والتي يحملها منتسبون إلى المشيخة، فمنهم الفاسقون ومنهم الضالون، ومنهم الذين اشتروا الدنيا بالآخرة..

أولئك الذين يطعنون بعقيدة المجاهدين –زعموا- وأنها لم تكن نقية، وأنها رايات ملتبسة.. وكذبوا!

فالعقيدة كما تظهر في فلتات لسانهم هي الاقتصار على ركن التصور النظري الرابض في زاوية علم الكلام، وعلى القضايا التي لم تُثر في عصر الصدر الأول أصلا.. وأما العقيدة كما تظهر في فعالهم فهي متابعة هوى السلطان مهما كان خائنا ومتخاذلا بل مهما ظهر منه الكفر البواح!

وبئس المنتسب إلى العلم، يطعن في العمالقة المجاهدين..

ومن الردود النافعة على هذا الانحراف والضلال مثل هذه الكتب.. تلك التي تنقل حياة المجاهدين وزوايا نفوسهم، فترى فيها هذا النَّفس العالي في فهم الإيمان وقضاياه، وفي التعلق بالقرآن واستنباط معانيه، وفي الحرص على العبادة والطاعة في فروع الفقه عند المجاهدين، وفي هذه الشفافية الرقيقة في التعامل مع خطرات النفس ووساوسها..

تأمل مثلا هذه العبارات المنقولة من هذا الكتاب:

"يظن من يقرأ أخبار المجاهدين أن مقابلة العدو هي البلاء الوحيد في الميدان، والحقيقة أن الميدان طريق مليء بالبلايا، فبالرغم من قسوة المعركة ووعورة المسير، هناك عقبات أخرى، قد تكون من قبيل المخمصة والعطش وأوامر لا توافق الهوى، وهذا ما تقرره الآيات، وكل هذه الاختبارات وظيفتها تهيئة النفوس وإعدادها، فعلى مثل هذا فلتوطن النفس أيها المجاهد"

"النيات تتقلب على المجاهدة، وهنيئا لمن تفقد نيته"

"اعلم أنك إذا جردت القصد له تعبداً، فيلزم أن تصبر لما يختاره لك، فقد تحب الخشوع بلا كلفة، فيختار لك عبودية المجاهدة، ويبتليك بالشواغل وفقد اللذة ونحوها، حتى تجر د قصدك له وتصطبر لعبادته، ثم سيفيض عليك بلطفه ورحمته ولو بعد حين"

"سورة إبراهيم سورة الفتوحات، عاهدت رب ي أن أتلوها وأنا في طريقي لغزوة مباركة ففتح الله بالفتوحات الكثيرة"

"إن تغيير السياسات وأسلمة المجتمع له ضريبة باهظة، وأعداؤنا يعرفون هذا جيداً، فلقد سمع الكبير والصغير أن من أهداف الحرب عند اليهود هو إنهاء حكم حماس في غزة، ويعتقد كثير من الناس أنه لا ينبغي لنا طلب الحكم، وأن سبيل الأنبياء هو الدعوة فقط"

"رجال الله في غزة لو قادهم سين من العلماء لعلمهم التوحيد على مقاييسه النظرية، ولو قادهم سين آخر من الفقهاء لعلمهم البدعة وخطرها على العقيدة، ولو قادهم سين ثالث من العلماء لعلمهم آداب الحديث وعدم رفع الصوت على الأجانب، وأخلاق النبي المتواضع الحنون، ولو قادهم سين من الناس لعلمهم التوبة من الذنوب، وأنه ينبغي ترك جهاد الشوكة حتى نجاهد أنفسنا، ولو قادهم خامس لفصل لهم في الفرق الضالة وبين لهم خطرها عليهم، وأن معركتنا الحقيقية معهم لا مع العدو الكافر الصائل المجرم، هذا غاية ما سيضيفونه على قاموس رجال الله العاملين المجاهدين".

وأكتفي بذلك..

ولكن الذين يتكلمون في شأن المجاهدين، من أولئك القاعدين المترفين، هم الذين نتشكك حقا في عقيدتهم، ليست العقيدة بمعنى التصور النظري الكلامي، بل بمعنى حب الله وخشيته ورجائه وتولي أوليائه والتبرؤ من أعدائه.. إلى آخر هذه الأصول الكبرى التي ضلوا عنها وأضلوا! فصاروا ينطقون بكلام المنافقين {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا}.. فهم أولى بالطعن وبالشك، فسمتهم ولسانهم ينبيء عن منافقين لا عن متشرعين ومتفقهين!

***

رحم الله حبيبنا القائد الشهيد أبا زكي محمدا بن زكي حمد.. وتقبله في الصالحين، ورفع درجته في عليين..

اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها!

ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون..

محمد إلهامي

4 ربيع الثاني 1447ه

اسطنبول 26 سبتمبر 2025

 



[1] هذا المقال هو مقدمة كتبتُها لكتاب "تحت راية الطوفان" للشهيد القائد محمد زكي حمد، ورأيت نشره في مجلة أنصار النبي لتعميم الفائدة والتعريف بالكتاب وصاحبه.

السبت، أكتوبر 04، 2025

إلى السادات الأكرمين من المجاهدين والمرابطين

 


رسالة إلى السادات الأكرمين المجاهدين والمرابطين من أخيكم المقصر، المحبوس في عجزه المقهور في بيته..

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المجاهدين وقائد الغر الميامين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

أما بعد..

فإلى سادتي الكبار الأجلاء، الأولياء الأصفياء، العمالقة الميامين، من اصطفاهم الله على كل العالمين، فأسكنهم في خيرة أرضه التي يجتبي إليها خيرته من خلقه، واصطفاهم على العالمين فجعلهم من المجاهدين عند مسرى نبيه في الأرض المقدسة المباركة، واصطفاهم على العالمين فجعلهم من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله!

إني أتصاغر في نفسي حين أتحدث إليكم، تصاغر من فاتته المقامات العظيمة التي أقامكم الله فيها، حتى أجرى على أيديكم المعجزات والكرامات، وأعاد بكم إحياء النفوس والقلوب، وأدخل بكم في دينه أفواجا من الناس كانوا من أهل الكفر فأسلموا لما رأوْه من صبركم وثباتكم وبطولتكم.. فمن كان هذا حالهم، فلا ريب أنهم عند الله في المكان الرفيع، في مقام القرب والاطصفاء..

ولئن ابتلاكم الله بالشدة والأذى، فتلك سنة الله في أوليائه المقربين المصطفين، فإن أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.. ولا يزال البلاء بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، فهنيئا لكم من رجال تقدمون على الله بلا خطيئة.. وإنه لمقام وحالٌ لا يشعر به ولا يتحسر على فواته إلا من فاته هذا الاصطفاء والاختيار، فهو يعرف كيف يكون قدومه على الله!!

سادتي المجاهدين المرابطين الميامين..

إني وإن تصاغرت في نفسي حين أكلمكم، فإن لي بابا إليكم، وهو باب النصيحة في الدين، فقد جعلها الله تعالى نصيحة عامة، يجوز فيها للأدنى أن يتكلم مع الأعلى والأرفع، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

وإن في نفسي أمورا، أبسطها بين يدي سادتي المجاهدين المرابطين، لعلهم يرون فيها ما يستحق النظر والأخذ بعين الاعتبار..

وإني وإن كتبتها من مكتب وثير في أمنٍ وعافية، فلقد كتبتها بروح تحلق عندكم، وبصر يتعلق بكم، وقد فارقنا منذ نشبت هذه الحرب لذة الطعام والشراب والنظر إلى أهل وولد، فما نأكل شيئا إلا ويذهب طعمه لتذكرنا إياكم، ولا ننظر في أهل ولا ولد إلا ضاعت لذتها لمعرفتنا بما تعانونه في ذلك.. فاقبلوها مني على الضعف والعجز والتقصير.. فإن الذي أضمنه من نفسي أني أحبكم غاية الحب، وأحرص عليكم غاية الحرص!

سادتي المجاهدين المرابطين..

إن الذي دخل منكم في طريق الجهاد هذا إنما دخله وهو يطلب الشهادة، فإن الله تعالى لم يضمن لأحدٍ من الناس النصرَ، إنما ضمنه لعموم الأمة، وأما آحادها وفئاتها وبعض حركاتها وجماعاتها فإنهم يقاتلون لأن ذلك هو الواجب عليهم، ولأن الشهادة هي الأجر المضمون لهم.

ولذلك فإن الله تعالى وعد المجاهدين بالمغفرة والنجاة من العذاب والخلود في الجنة، وجعل ذلك ثمرة التجارة مع الله، ثم جعل النصر في الدنيا أمرًا على البيع لعموم الأمة، قال تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟

تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لك إن كنتم تعلمون.

يغفر لكم من ذنوبكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم.

وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب}

وأصرحُ من ذلك وأوضح قوله تعالى في سورة التوبة {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يُقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله؟! فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم}

فها أنت ترى آية لا حديث فيها عن النصر في الدنيا. هذا مع أن السورة نزلت في وقتٍ كان المسلمون فيه منتصرين وقد عادوا من غزو الروم في تبوك.. ولكن العقد والوعد هو كما كان أول الأمر: الجهاد مقابل الجنة. والنصر قد يأتي وقد لا يأتي لكل مجاهد.

وعلى ذلك مضى النبي وصحبه الكرام، وقد قُتِل في مكة مسلمون تحت التعذيب لم يروا النصر ولعله لم يخطر لهم ببال. بل إن الزعماء الذين بايعوا النبي على تأسيس الدولة المسلمة –في بيعة العقبة الثانية- ماتوا قبل أن تنتصر الدولة، وبعضهم مات قبل أن تقوم الدولة أصلا[1].

ولقد قُتِل جلة من الصحابة في بدر وأحد والخندق، ولم يروا حتى بلوغ الدولة المسلمة درجة الأمن والاستقرار!

وأما الذين بقوا منهم، أولئك الذين رأوا مشاهد النصر والفتح، فقد جال بخاطرهم أن قد حان وقت الراحة، فما هو إلا أن ذَكَّرهم الله تعالى وحذَّرهم من هذا الخاطر، وأنزل عليهم {وأنفقوا في سبيل الله، ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، فإذا القتال عند الله هو النجاة، وإذا ترك القتال في سبيل الله هو التهلكة.

فالعهد الذي أخذه الله على عباده هو الجهاد والقتال في سبيله، والمقابل هو: الجنة!

ولهذا بشَّر النبي ذلك المجاهد المتجرد من شأن الدنيا القائم في مكانه حيثما وضعه أميره، فقال: طوبي لعبد آخذ بعنان فرسه، أشعثٌ رأسه، مُغْبَرَّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع".

أقول هذا كله مخافة أن يكون قد تسرب إلى النفوس بعض تعلق بالدنيا، أو بعض جزع بعد طول الصبر، أو بعض ملل وتشوق إلى الراحة.. وإنها لثغرة في النفس قد تحمل صاحبها على أن تتشقق صلابته أو تُخْتَرَق صرامته، أو يتخلى عن بعض احتياطاته.. فنُنْكَب فيه، وليس يعوضنا عنه شيء من أهل هذه الدنيا.

لقد فهمت من سيرتكم ومشاهدكم شيئا لم أفهمه من الكتب ولا من الشروح ولا من العلماء، فهمتُ من حربكم هذه كيف أن أجر الرباط فوق أجر القتال، وقد جاء هذا في أحاديث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم:

1.    "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه أجري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأَمِنَ الفتان".

2.    وفي حديث آخر: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل".

3.    وفي حديث آخر: "كل ميت يُخْتَم على عمله، إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن فتنة القبر".

تلك أحاديث لم أفهمها إلا في هذه الحرب الأخيرة: إن المرابط هو اليقظ الصبور، هو ذلك الذي لا يمل مقامه في الرباط، ولا تفتر يقظته مع طول المراقبة والانتظار، فهو فوق المقاتل في ضبط النفس وتملكها والتمكن منها وإخضاعها للوازم الجهاد في سبيل الله، فإن المقاتل قد تعينه نفسُه الشجاعةُ المقدامة إذ هو يقاتل ويهاجم، ولكن المرابط الصبور يحمل نفسَه الملولةَ على الصبر والرباط.. فلهذا كان له أجرٌ ليس لغيره.. لئن مات وهو مرابط، فإن أجره يبقى مكتوبا كأنما هو مرابط حتى يوم القيامة!!

فتأمل أخي المرابط المجاهد في رجلٍ رابَطَ شهرين أو ثلاثة أو عامين أو ثلاثة، ثم يرى ميزانه يوم القيامة وقد رابط خمسين سنة أو مائة سنة أو خمسمائة أو ألف سنة بحسب ما يفصل بينه وبين يوم القيامة!!

إن الصبر نصف الإيمان.. ولقد طالت هذه المعركة بما لم يكن أحد يحسب، ولكننا والناس نرى منكم بعد هذا الطول شدة وبأسا وبسالة وإقداما يجعلنا في حيرة: أي بشر هؤلاء؟ وكيف هم بعد كل هذا ما زالوا يقاتلون ويذيقون عدوهم من بأس الله الذي وعدهم به {ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب}..

لولا اشتعال النار فيما جاورت .. ما كان يُعرف طيب عُرف العود

ولولا طول المعركة ما عرفنا أصالة معدنكم ولا سمو نفوسكم ولا اصطفاء الله لكم من بين خلقه!

إنكم لا تعرفون ماذا يفعل الله بقلوب الناس بكم، ولا كيف يحيي بكم النفوس، ولا كيف يوقظ بكم الضمائر.. ولئن طال الوقت واشتد الصبر فهو خير لكم في الآخرة، وهو لحكمة يعرفها الله في الدنيا، فالله قد عوَّدنا الجميل ونحن نقيس على ما تعودنا منه سبحانه.. فلئن شئتموها طوفانا يتحرر به الأسرى فلعل الله قد شاء أن يجعلها المعركة الكبرى التي يتحرر فيها المسرى.. فيكون لكم من الأجر فوق ما طلبتموه، ليس أجر تحرر المسرى فحسب، بل أجر إيقاظ الأمة والنفوس!

إنني في مكاني بالخارج أرى ماذا فعل الله بكم في نفوس الناس: قوم نشطوا بعد يأس، وقوم عملوا بعد قعود، وقوم أسلموا بعد كفر، وقوم تابوا بعد غفلة، وقوم يدخلون في سلك الجهاد بعد أن كانوا متنعمين لا يفكرون في دين ولا في جهاد.. إنكم تغرسون غرسا عظيما، يوشك أن ينبت، وأن يثمر.. والله يدبر أمرنا وأمركم، ويدبر بكم ولكم، ويصنع لنا ولكم وبكم.. وهو وحده الحكيم اللطيف علام الغيوب.

ولقد تفضل الله على قومٍ فساقهم إلى الجنة في السلاسل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.. ألا تعرفون كيف أن بعض الأسرى في الفتوح الإسلامية قد صاروا في صفوة المجاهدين الفاتحين؟.. نعم، كان الأسر والسلاسل في أول أمرهم طريقهم إلى الدرجات العلا من الجنة.. فكم من شدة ومحنة كانت هي نعمة الله الكبرى على عبده، وهي التي أصاب بها الفردوس الأعلى!

فتعلقوا بالصبر، وتمسكوا بالصبر، وتشبثوا بالصبر.. وكونوا كما أراد الله من عباده {اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله، لعلكم تفلحون}

واعلموا –سادتي المجاهدين والمرابطين- أنكم أهل العمل.. وأنكم الخبر والموضوع.. ومثلكم أجل وأعلى من أن يتعلق بكلام المحللين والسياسيين ومن يبيعون الكلام على الفضائيات ونحوها.. إنما هذه أسواق منصوبة للكلام، وهي أحيانا من مراكز التضليل والخداع.

وقد رأيتم كيف أن ترمب كان يُعلن أنه ينهى إسرائيل عن ضرب إيران، ثم ضربت إسرائيل بعدها بساعات، وتبين أن هذا التصريح من ترمب كان جزءا من الخداع والتضليل. وقد نَدَر جدا أن يُستشف من الفضائيات والأخبار شيءٌ ذو بال. ومن كان عارفا بالحال حقا زهد في هذه الفضائيات وما فيها ومن فيها.. إنما يُستفاد منها فهم عقل العدو كيف يعمل في جانبه الإعلامي.. وأما المحللون، فقومٌ مهروا في توليد الكلام وتشقيقه وتفريعه بلا طائل.. وأغلبهم تستطيع أن توجز كلامه في الساعة في عبارة واحدة لا تزيد عن السطر الواحد، ولكنه يجب أن يملأ الوقت ويكثر الثرثرة، فتلك هي مهمته!

أنتم أعلى وأجل من أن تتعلق نفوسكم بقول هؤلاء وتحليلهم.. فهم في الجملة أدنى عقلا منكم، وأدنى معرفة بالحال منكم، وأعجز عن استشفاف القادم منكم أيضا.

وإن من إحسان الله إلى عباده المقربين أن يجردهم من كل تعلق إلا به، وأن يقطع عليهم كل سبب إلا سببه، {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا: جاءهم نصرنا}.

فما هو إلا الصبر..

أسأل الله تعالى أن يفرغ عليكم الصبر والسكينة والرضا والبركة، وأن يسدد رميكم وأن يقذف الرعب في قلوب عدوكم.. إنه ولي ذلك والقادر عليه!

 

أخوكم المحب لكم



[1] لمن أحب أن يراجع التفاصيل، ينظر: www.youtube.com/watch?v=3I53LN5iBso

الأحد، سبتمبر 14، 2025

درس مهم في مستقبل أفغانستان

أبدأ هذا المقال باعتذار لإخواني في الإمارة الإسلامية بأفغانستان، فلقد شغلتنا المصائب القريبة في مصر وفلسطين ومنطقتنا العربية عن متابعة أحوالهم والعناية بها على النحو اللائق. على أن لهذا النسيان جانب طيب، وهو ما لدينا من الثقة في قيادة هذا البلد، تلك القيادة التي أنجزت التحرير، وأنجزت معه معركة التفاوض.. ومن طبيعة المرء أن ينشغل عن الأمر الذي يتولاه الكفء ثقة فيه، ثم يذهب للاعتناء بالأمر الذي لا يجد الأكفاء!!

وقد بدأت بهذا الاعتذار، لأنني سأذكر في هذا المقال أمورًا لستُ أدري ماذا تكون سياسة الإمارة الإسلامية فيها: هل هم يعرفونها ويقومون بها، أم ثمة قصور في المعرفة أو في التطبيق. فإن كان الأمر على ما يرام فالحمد لله رب العالمين، وإن كانت الحاجة إليه قائمة، فتلك السطور هي أهم ما يرى مثلي أنها أمور أحق بالعناية بها.

لقد احتفلنا –وحق لنا الاحتفال- بالتحرر الأفغاني من الاحتلال الأجنبي، وقد مضى من الوقت ما يكفي لأن ننتقل من مقالات الاحتفاء والاحتفال إلى مقامات النصح والبيان، فالدين النصيحة، وهو واجبٌ علينا في كل وقت.

وإن من أشد ما أخشاه للتجربة الأفغانية، بل ولكل تجربة إسلامية أخرى أدركت التحرر، أن تذهب في اتجاه: بناء دولة حديثة مركزية، كما هو النموذج الشائع في العالم كله، وإن نموذج "الدولة الحديثة" هو نموذج شديد الإغراء لكل منتصر وزعيم، وذلك أنه يوافق لذة نفسه في تمكين سلطته، وهو يوافق النظام العالمي القائم، وقد يرى المنتصر المُحَرِّر أن إقامة هذا النموذج هو الذي يحقق بالفعل مصلحة البلد ويقيها أخطار التمزق والتفرق! وقد يجد في علماء المسلمين من يتقبل نموذج الدولة الحديثة هذا ويرى له تخريجا إسلاميا يجعله غير مخالف للدين.. وهكذا.

أريد أن أقول هنا إن من أعظم مزايا الإسلام، ومن أعظم معجزاته في بنائه لنظامه السياسي أنه كان ضد فكرة الدولة الحديثة ومنطقها، حتى قبل أن توجد هذه الفكرة في واقع الناس!

لقد حرص الإسلام على بناء سلطة قوية نعم، لكنها سلطة محدودة الصلاحيات، تهتم بجوانب الأمن والدفاع وما يتعلق بهما، وأما بقية الجوانب والأنشطة من الاقتصاد والتعليم والثقافة وغيرها، فهي من شأن المجتمع الذي ينطلق لخدمتها وإشباعها، فالسلطة لا تهيمن عليها ولا تتحكم فيها، إنما تدعمها وتراقبها.

ومن هاهنا اهتم الإسلام كثيرا بتقوية المجتمع وتمتينه وتعميق روابطه: روابط الإسلام والأرحام والجوار، وكانت عبادات الإسلام وشعائره وأحكامه ميدانا خصبا لتنمية هذه العلاقات وتقويتها، بحيث ينشط المجتمع من تلقاء نفسه ولا يكون رهينا بالسلطة!

إن شرح هذا يطول، ولعل من أراد الاستزادة أن يرجع إلى كتابيّ "منهج الإسلام في بناء المجتمع" و"سبيل الرشاد".

ومن أهم ثمرات هذا الوضع أن الحضارة الإسلامية واصلت ازدهارها حتى في أوقات ضعف السلطة أو انهيارها، ومن أهم الثمرات أيضا أن السلطة إذا انهارت كان المجتمع قادرا على مقاومة المحتل الأجنبي واستئناف مقاومة شعبية، كما أنه كان قادرا على تدبير شؤون نفسه وإدارتها بمعزل عن سلطة الاحتلال أو سلطة العملاء.

وتلك كانت العقدة التي واجهت الأمريكان في احتلال أفغانستان، والتي عبَّر عنها صُنَّاع القرار عندهم، إن قوة المجتمع وضعف السلطة الأفغانية جعل الاحتلال الأجنبي لا يعرف كيف يقضي على المقاومة، ولا كيف يمسك بخناق هذا الشعب الباسل، إن المقاومة روح عامة سارية، والشعب يمكنه أن يدير نفسه دون احتياج إلى السلطة، وبذلك فشلت محاولاتهم في إنشاء سلطة مركزية على نمط الدولة الحديثة، تلك السلطة التي تستطيع أن تكبل المجتمع وتقيده.

سأذكر بعض تلك الأقوال التي سجلوها بأنفسهم في كتبهم، لكي يطِّلع إخواننا الأفغان على أهمية هذا الأمر، ومن خلاله يطَّلعون على خطورة أن يذهبوا باتجاه إقامة دولة حديثة ذات سلطة مركزية مهيمنة، وذلك كي تبقى مسيرة بناء الحكم الجديد متسقة مع الإسلام أولا، ونافعا للشعب الأفغاني ثانيا، ومخالفة لهوى الأعداء ثالثا..

أوردت كونداليزا رايس –وقد شغلت منصبي وزير الخارجية ومستشارة الأمن القومي الأمريكي- في مذكراتها أن بول وولفوتيز، معاون وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، اقترح أن يكون البدء بضرب العراق لا أفغانستان، مع أن العراق لا علاقة له بأحداث سبتمبر، والسبب في ذلك أن مواجهة جيش نظامي في العراق سيكون أسهل كثيرا، مما يمكن معه تحقيق نصر سهل وسريع تحتاجه المعنويات الأمريكية! لم يؤخذ برأيه في نهاية الأمر لأسباب سياسية، لكن الرجل قد كشف عن السرِّ، وهو السر الذي تحقق بالفعل كما نراه جميعا[1].

لقد كان تركيز الأمريكان، كما يقول روبرت جيتس الذي تولى منصبي مدير المخابرات الأمريكية ثم وزير الدفاع بعد رامسفيلد، هو: "في إنشاء حكومة مركزية قوية في بلد لم يسبق له عمليا أن كانت فيه حكومة"[2].

والأمريكان يحبون تسمية الدولة غير المهيمنة على كل شيء باسم قبيح، "الدولة الفاشلة"، لا لكونها تفشل في خدمة شعبها، بل لكونها ثغرة في جدار النظام الأمني العالمي الذي يخدم أمريكا، تقول رايس: "تبين لنا أن الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا على الولايات المتحدة. فهي لا تستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمن للإرهابيين، لذلك فإن إعادة بنائها يشكل مهمة ضخمة وهامة في آن... ومع أن هذه الفرق (فرق الإعمار الإقليمي) كانت متنوعة التركيب والنشاط إلا أن لها جميعا هدفا واحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية"[3].

وهذه العبارة الأخيرة ذاتها يقولها أيضا روبرت جيتس، "كانت عشرات الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية منخرطة في محاولة مساعدة الأفغان على تأسيس حكومة فاعلة"[4].

وقبيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كان هنري كيسنجر متأسفا على الخطأ الذي قام به أوباما حين حدد مواعيد نهائية لانتهاء المهمة في أفغانستان، وذلك أن كيسنجر يرى أن هدفا مثل تأسيس حكومة مركزية في بيئة أفغانية هو شيء لا يمكن أن يُلتزَم فيه بالوقت، لكونه يحتاج أمدا طويلا.. والسبب في هذا أن أفغانستان لم تتعود على هذه الحكومة المركزية، يقول: "فقدنا التركيز الاستراتيجي. لقد أقنعنا أنفسنا أنه في نهاية المطاف، لا يمكن الحيلولة دون إعادة إنشاء القواعد الإرهابية إلا من خلال تحويل أفغانستان إلى دولة حديثة ذات مؤسسات ديمقراطية وحكومة تحكم البلاد بطريقة دستورية. ومثل هذا المشروع لا يمكن أن يكون له جدول زمني قابل للتوافق مع العمليات السياسية الأمريكية"، ويواصل قائلا: "إن بناء دولة ديمقراطية حديثة في أفغانستان، بحيث تسري أوامر الحكومة بشكل موحد في جميع أنحاء البلاد يعني ضمنا أن يكون هناك إطار زمني يمتد لسنوات عديدة، بل عقودا؛ وهذا ما يصطدم مع الطبيعة الجغرافية والعرقية الدينية لأفغانستان. لقد كان تناثر مناطق أفغانستان، وعدم إمكانية الوصول إليها وغياب السلطة المركزية هي على وجه التحديد التي جعلت منها قاعدة جذابة للشبكات الإرهابية في المقام الأول"[5].

وكان هنرى كيسنجر نفسه، حين بدا له الانسحاب الأمريكي وشيكا من أفغانستان، قد أراد تحريض سائر دول المنطقة ليكملوا هم ما فشل فيه الأمريكان، فنادى على باكستان وإيران وروسيا والصين، أن انهضوا للحفاظ على أمنكم بعد أن يرحل الأمريكان عن أفغانستان، فأنتم أشد حاجة من أمريكا إلى هذا الأمان[6].. وصدق الذي قال: برز الثعلب يوما في ثياب الواعظين!

تحتاج التجارب الإسلامية اليوم إلى اجتهاد ذكي ومنضبط، يراعي تنزيل الشرع الإسلامي على أرض الواقع غير الإسلامي، وفي بيئة المنظومة الدولية التي شكلتها الهيمنة الكُفرية على العالم، فإنه لن يمكننا الانخلاع من العالم ولا من تقاليد الحكم فيه مرة واحدة، كذلك لن يمكننا تطبيق الإسلام كما كان في عهد النبي والراشدين دفعة واحدة. يجب على الأقل أن نعرف ماذا نريد وأن نحث السير إليه، حتى لو كانت الظروف لا تسمح بتطبيق ما نريد على النحو الذي نريد.

وفق الله رجال الإمارة الإسلامية لما فيه خير البلاد والعباد.. وأسأل الله تعالى كما أيدهم بالنصر على أعدائه وأعدائهم أن يؤيدهم بالنصر على أنفسهم وأن يستعملهم في مرضاته وأن يُمَكِّن لهم خير ما يمكن به لعباده الصالحين.

نشر في مجلة الصمود - الناطقة بلسان الإمارة الإسلامية في أفغانستان - سبتمبر 2025



[1] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص114، وما بعدها.

[2] روبرت جيتس، الواجب، ص238.

[3] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.

[4] روبرت جيتس، الواجب، ص248.

[5] مقال هنري كيسنجر في الإيكونوميست بتاريخ 25 أغسطس 2021م.

[6] هنري كيسنجر، النظام العالمي، ص313، 314.

الخميس، سبتمبر 04، 2025

ماذا كان يمكن أن يفعل الفلسطينيون غير 7 أكتوبر؟


محمد إلهامي[1]

يندهش العرب والمسلمون دهشة شديدة من هذه الدهشة الشديدة التي يبديها الغربيون –الأوروبيون والأمريكان- إزاء حدث السابع من أكتوبر. كأن هذا الحادث شيء لا يمكن تفسيره، بينما يبدو مثل هذا الحادث شيئا متوقعا لأي إنسان يقرأ التاريخ أو يقرأ الواقع؟!

ربما تكون الدهشة حقيقية إزاء الجرأة التي أبداها المقاتلون في قطاع غزة، وإزاء قدرتهم على تنفيذ هجوم بهذا الاتساع في ظل فارق هائل بين قدراتهم التقنية وبين القدرات الإسرائيلية، لكن هذا جزء فني تفصيلي لا يتعلق بتفسير الحدث وفلسفته، بل يتعلق بإجراءاته وأدواته، بمعنى أنه إذا أخفق المقاتلون من غزة في هجومهم هذا تماما، فلن يكون المدهش هنا هو: لماذا فعلوا هذا وأقدموا على هذا الهجوم الانتحاري؟

إن العالم كله –بخلاف الغربيين بالطبع- يفهم تماما لماذا قام المقاتلون في غزة بهجوم السابع من أكتوبر، بل الواقع أن هذا الهجوم كان متوقعا تماما، بل لم يكن يمكن توقع شيء آخر، فهذا هو منطق التاريخ، ومنطق الطبيعة البشرية، ومنطق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ومنطق الصراع حين لا يمكن حله بالوسائل السلمية، ومنطق كل إنسان متدين حين يرى مقدساته الدينية واقعة تحت التهديد. إن كل شيء كان يقول: سيقع مثل هذا الحادث، إن لم يكن في السابع من أكتوبر 2023م، فربما في الثامن من نوفمبر 2024م، أو في التاسع من ديسمبر 2025م، أو في أي تاريخ آخر.

"التاريخ لم يبدأ في 7 أكتوبر"

هذه هي الجملة الأشهر المتداولة في الإعلام الغربي على لسان المتحدثين المتفهمين لهذا الحادث، تبدو جملة بديهية وطبيعية ومفهومة، لكن تكرارها وشهرتها وتداولها يدل في الحقيقة على أذن غربية صماء وعلى عقل غربي مصمت لا يريد أن يسمع ولا أن يفهم. نعم، التاريخ لم يبدأ في 7 أكتوبر، فلماذا يحاول الغربيون تجاهل التاريخ؟!

إسرائيل كيان لم يكن موجودا قبل 1948م، مؤسسو إسرائيل أنفسهم كانوا يحملون جوازات سفر كُتب عليهم أنهم من "فلسطين"، العملات النقدية التي لا تزال موجودة ويمكن ببساطة البحث عن صورها على الانترنت مكتوب عليها "فلسطين"، طابور من الأدلة لا يمكن دحضه، أي كتاب قد صدر قبل 1948، أو أي أطلس للخرائط لا يكتب فيه شيء عن "دولة إسرائيل"، بما في ذلك الخرائط الغربية نفسها!

فما الذي حدث إذن؟!

الذي حدث بكل وضوح أن الاحتلال الغربي، البريطاني تحديدا، سيطر على هذه المنطقة وقرر أن يمنحها لليهود، في تجاهل تام لكون هذه الأرض يحيا عليها شعب آخر عريق لم ينقطع وجوده منذ بدأ التاريخ المعروف. وإذن، كيف برر الغربيون ذلك؟ ببساطة شديدة اعتبرهم تشرشل مجرد حيوانات، وقال مقولته الشهيرة: إن الحظيرة لن تكون أبدا ملكا للثور لأنه نام فيها طويلا!

تفاصيل كثيرة يعرفها المؤرخون والباحثون، بمن في ذلك المؤرخون الإسرائيليون، خلاصتها: جرى تهجير وإبادة عدد من القرى والمدن الفلسطينية، والإتيان بأمواج وأفواج من المهاجرين اليهود من كل بلاد العالم، وقبل نهاية المشهد كان لا بد من غطاء قانوني لهذه العملية الإبادية الإحلالية، فخرج قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة، ليكون أول قرار فريد من نوعه يتحكم في مصير شعب، وينشئ دولة غريبة على أرضه، دون الرجوع إليه ولا استفتائه ولا معرفة رأيه!

وهكذا جاء شعب آخر، غُرِس في هذه الأرض بقوة السلاح، بعد سلسلة من المذابح المشهورة، ثم بعد حرب هزلية خاضتها قوات عربية محدودة كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني نفسه، بقيادات عسكرية بريطانية، لتثبيت قرار إنشاء الدولة اليهودية.

حسنا.. فماذا حصل بعدها؟!

حتى الآن، وربما هذه معلومة لا يعرفها الغربيون، لا تعترف إسرائيل بحدودها، بل –ويا للطرافة- ترسم على علمها وتكتب في وثائقها ويتكلم الكثير من المسؤولين فيها بأن حدودها تمتد من النيل إلى الفرات!.. أي أن حدود 1948م، لم تكن إلا قطعة الأرض الأولى التي ستتوسع منها الدولة.

لا يعرف الغربيون أيضا –فيما عدا الباحثون والمؤرخون- أن إسرائيل لم تُهاجَم أبدا من قبل أي دولة عربية، إن طبيعة الأنظمة العربية من جهة، وطبيعة الدعم الغربي المتدفق دائما من جهة أخرى، كان يجعل إسرائيل دائما في موقع الهجوم والاستيلاء على الأرض. ويمكن لأي قارئ لا يصدق أن يرجع إلى أرشيف الأمم المتحدة، ويمسك بأي تقرير لتقصي الحقائق عن الخروقات لخطوط الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل، وسيرى ذلك بنفسه!

بعد نحو عشرين عاما من التأسيس جاء التوسع الثاني؛ في 1967م احتلت إسرائيل سائر فلسطين التي لم يكن بقي منها حينئذ إلا قطاع غزة (تحت الإدارة المصرية) والضفة الغربية (تحت السيادة الأردنية)، وشبه جزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية. وجاء توسع ثالث في 1982 لتحتل إسرائيل الجنوب اللبناني، ولا تزال بعض المناطق اللبنانية خاضعة للاحتلال.

استطاع المصريون شنّ هجوم مفاجئ في 6 أكتوبر 1973م، ثم مدوا أيديهم بالسلام، ووقعوا اتفاقية السلام (1979م)، ولم يحصلوا على كامل أرضهم إلا بعد عشر سنوات في (1989م) بعد مفاوضات مضنية وتحكيم دولي، وتنازلوا عن بعض أرضهم مثل قرية أم الرشراش، وعن سيادتهم على أراضٍ أخرى متاخمة لإسرائيل (في نسختها التوسعية الثانية). كذلك تنازل الأردنيون عن الضفة الغربية (1988م)، ووقعوا اتفاقية سلام أخرى (1994م)، وما زال السوريون لم يسترجعوا أرضهم حتى هذه اللحظة!

إذا وضع القارئ نفسه مكان الفلسطيني الذي جرى احتلال أرضه، ويجب ملاحظة أن الأرض الفلسطينية تحتوي على مقدسات إسلامية ومسيحية تهم الجميع، ولئن كان المسيحيون الغربيون قد تخلوا عن مقدساتهم فيما يبدو، فهذا الأمر لم يفعله المسلمون حتى الآن. في الواقع لدى الغربيين نفاق فظيع فيما يخص إسرائيل تجعلنا في العالم العربي نرى إسرائيل كنسخة أخرى من الممالك الصليبية في القرون الوسطى، بل أسوأ، لأن إسرائيل تعتدي بالفعل على المقدسات المسيحية دون أن يهتم الغربيون لهذا كثيرا.

ليس هذا موضوعنا الآن، ولكن: الفلسطيني الذي يريد تحرير أرضه، كما هي طبيعة كل إنسان يقع تحت الاحتلال، لا بد له أن يقاوم، حتى لو كانت مقاومته هذه تبدو عبثية وغير ذات فائدة، هذا هو الأمر الذي فعلته كل الشعوب عبر التاريخ. ليس شيئا عجيبا ولا غير متوقع! يعرف من قرأ التاريخ أن الاحتلال الإحلالي الإبادي الذي يريد سحق شعب وإسكان آخر مكانه، إما أن ينجح في الإبادة (كما فعل الأوروبيون في الأمريكتين وأستراليا) أو سيبقى يواجه موجات متجددة من المقاومة، مثلما أخفق نفس هؤلاء الأوروبيون في سائر المناطق الأخرى عبر العالم واضطروا إلى تصفية الاستعمار والبحث عن بدائل أخرى توفر لهم الهيمنة دون الوجود العسكري والحكم المباشر. كما هو الحال الآن!

في أواخر الثمانينات من القرن الماضي انطلقت انتفاضة شعبية، تبدو عبثية تماما، ماذا يفعل شعب ليس عنده إلا الحجارة أمام دولة إسرائيل المدججة بالسلاح، يمكن للقارئ أن يبحث قليلا في الانترنت ليرى كيف كان الجنود يُمسكون الفلسطيني فيكسرون ذراعه لئلا يلقي بالحجارة مرة أخرى! سيرى خلال بحثه كيف أن المرأة العجوز تحمل طفلا صغيرا بيدها اليسرى وتلقي الحجارة بيدها اليمنى! يبدو المشهد عبثيا حقا، حتى إن كثيرا من جنود الاحتلال الإسرائيلي كان يطلق النار ثم يضحك عائدا لرفاقه!

غير أن هذه الانتفاضة، لأنها تنسجم مع الدين والتاريخ والطبيعة البشرية، كانت واسعة وشاملة ومفاجئة، سرعان ما تطورت إلى عمليات –تبدو عبثية أيضا- للرمي بالمقلاع والطعن بالسكين ووضع الحجارة في طريق مدرعات الاحتلال. ساعتها فكر الإسرائيليون والغربيون في امتصاص هذه الانتفاضة عبر تكوين سلطة فلسطينية، تتولى هي تأمين المناطق الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، التأمين هنا بمعنى حماية الاحتلال، وتتولى إدارة الشؤون اليومية لهؤلاء، هذا هو الذي يُعرف باتفاق أوسلو. فرض على الفلسطينيين تأمين إسرائيل مقابل مفاوضات مفتوحة لم تنجح أبدا!

سار ياسر عرفات في هذا المسار عشر سنين، ولم يحقق شيئا، بل الأغرب، أن الحكومة الإسرائيلية التي تأتي بها الانتخابات كانت تملك أن توقف مسار المفاوضات أو تلغيه، وبالفعل: قدم عرفات كل ما يمكن تقديمه لإيهود باراك في كامب ديفيد الثانية (2000م)، ولكن باراك لم يُرضه هذا. وفشلت المفاوضات. ومنذ ذلك الوقت كانت الحكومات الإسرائيلية ضد فكرة الدولة الفلسطينية أساسا!

قُتِل عرفات بالسُّمّ في (2004م)، ولم يستفد عرفات أي مكسب من القمع الذي سلطه على الفلسطينيين لتأمين إسرائيل، وجيئ بعده بمحمود عباس الذي يبدو أكثر "مرونة" واستعدادا للتنازل عن أي شيء، لكن محمود عباس لم يجد أبدا أي شريك للتفاوض، مع أنه منذ عشرين سنة يعمل بكفاءة تامة في قمع الفلسطينيين ومطاردة من يريد مقاومة إسرائيل، وتعمل أجهزة الأمن الفلسطينية بكفاءة نادرة في التعاون مع الأجهزة الإسرائيلية، وكثيرا ما جرى تسليم فلسطينيين لإسرائيل، أو قتلهم تحت التعذيب في سجون السلطة الفلسطينية!

لكن عباسا كان يريد أن يحوز نوعا من الشرعية، فأجريت انتخابات فلسطينية –برضا إسرائيلي- (2006م) غير أنها جاءت بمفاجأة صاعقة: لقد فازت حركة حماس في الانتخابات. وساعتها حدث مشهد جديد لم يكن يتوقعه أي مراقب في العالم: الغرب الذي يعتنق دين الديمقراطية رفض الاعتراف بالانتخابات النزيهة، وقرر مقاطعة الحكومة المنتخبة وفرض حصارا على فلسطين.

حاول المهزومون في الانتخابات اغتيال الفائزين بها، نفذت السلطة حركة انفلات أمني واسعة، ولكن حركة حماس –القوية في غزة- استطاعت صد الأجهزة الأمنية في غزة عن محاولاتها، فقرر محمود عباس الانقلاب على الانتخابات فحلَّ الحكومة المنتخبة وانفرد بحكم الضفة الغربية.

ومنذ ذلك الوقت (2007م) وحتى (2023م) عاشت غزة تحت حكم حماس حصارا هائلا أدى لكثير من الوفيات فضلا عن الحياة التي لا تطاق، لقد كانت أكبر سجن في العالم.

وفوق ذلك، حكومة نتنياهو التي يعاد انتخابها دائما، تخطط لكثير من الإجراءات التي تهود المسجد الأقصى وتقرر اقتراب البدء بهدمه، وتسمح للمستوطنين والجماعات الدينية المتطرفة بتنفيذ طقوس شعائرية تشي بقرب تحطيمه!

إن كنت أنت مكان الفلسطيني، بالذات لو كنت في غزة، أخبرني إذن.. ماذا كنت ستفعل؟!

ماذا ستفعل، وقد فشلت محاولات السلام، فشلت المفاوضات، انسحبت الدول العربية الداعمة من المعركة، يقترب هدم المسجد الأقصى، تعيش في حصار لا نهاية له!!

إن كان لديك جواب غير السابع من أكتوبر.. تفضل أخبرنا به!

نشر في مجلة أنصار النبي - سبتمبر 2025



[1] طلبت هذا المقال صحيفة أوروبية واسعة الانتشار، ثم لم تنشره! وها هو ينشر الآن على صفحات مجلة "أنصار النبي صلى الله عليه وسلم"