الأربعاء، يونيو 05، 2024

{فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}

 

بينما نُعِدُّ لهذا العدد الجديد، أخبرت أستاذنا الفنان الكبير د. علاء اللقطة الذي يصمم لنا غلاف المجلة، بأن العدد سيحوم حول معانى الحج وغزة.. فما لبث أن جاءنا بهذا الغلاف البديع الذي حوَّل مسار مقالي هذا تماما.

كنت أخطط لأن أكتب حول هذه المعاني:

1. إن أولى ما ينبغي الكلام فيه الآن هو: كيف ينبغي أن تستثمر الأمة موسم الحج في نصرة غزة، بداية من الدعاء ومرورا بالمقاطعة والحث على النصرة وتحريض المؤمنين، وانتهاء بالمشاركة بالمال والسلاح في هذا الجهاد الشريف.

2. ما أقرب الحج من الجهاد، وما أقرب الجهاد من الحج، وقد جاء الاقتران بينهما في عدد من أحاديث النبي ﷺ، كقوله ﷺ حين سُئل عن أفضل الأعمال: "إيمان بالله ورسوله، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور"[1]. وكقوله ﷺ جوابا لسؤال عائشة رضي الله عنها: نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال ﷺ: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور"[2]. ولهذا فقد أتبع بعض العلماء الحديث عن الحج بالحديث عن الجهاد، كما فعل الإمام النووي في أشهر كتبه: رياض الصالحين. ففي كلا الأمرين: الحج والجهاد، يخرج المسلم من حظ الدنيا ويترك الأهل والولد والديار، ويتعرض للصعاب والمشقات، وتفرض عليه العبادة الزهد في الدنيا من ملبس ومأكل ومشرب، ويقترب بنفسه وبقلبه من يوم القيامة والدار الآخرة. وفي كلا الأمرين: يرى المسلم نفسه متبعا لخطوات نبيه ﷺ وخطوات الصدر الأول: إما في المكان كما هو حال الحاج، أو في الهدي والطريقة والسبيل كما هو في الجهاد.

3. إن نصرة غزة الآن وبذل المال والجهد لها مُقدَّم على الحج، لا سيما إن كان حج النافلة، فإن الحج فريضة فردية لازمة ونصرة غزة فريضة يتعدى نفعها للأمة، وإن الحج فريضة على التراخي بينما النصرة الآن واجب الوقت الذي لا يحتمل التراخي. فمن كان يرجو ثواب الله حقا لا حظ نفسه، فإن رضا الله في نصرة عباده.

4. إن الأنظمة والحكومات التي تُصَعِّب طريق الحج وتقيم دونه الحواجز هي ذاتها التي تقطع الطريق على نصرة غزة وتقيم دون الجهاد فيها كل الموانع والحواجز. ومن الغريب المثير للتأمل والتفكر أنهم يفتحون البلاد للسياحة ويسهلون زيارتها بغرض الترفيه والرقص والطرب ومطالعة آثار الكافرين، ثم هم أنفسهم يعاقبون ويتشددون في تعقب من يزور بيت الله الحرام ومسجد نبيه ﷺ ويحيطون ذلك بجملة من التصريحات التي تصد عن سبيل الله وعن بيته! فكل نظام يحاول أن يستصفي من أموال الحجاج ما استطاع، وهم يعرفون أن في هذه الأمة من الفقراء والضعفاء من يقضي عمره كله يجمع الأموال ليحج إلى بيت الله الحرام.. إن هؤلاء الذين يصدون عن المسجدين هم أنفسهم الذين فرطوا وخانوا المسجد الثالث، ويقفون الآن يدا واحدة مع الصهاينة في تهديده وتهويده وقتل المجاهدين المدافعين عنه!

هذا ما كنت أنوي الكتابة فيه، حتى جاءني هذا الغلاف الذي ترونه لهذا العدد.. فدارت رأسي حقا، وأنا أتأمل وجها جديدا من الشبه والقرب لم أنتبه إليه:

1. هذه الخيام التي ينزلها الحجاج، ما أقرب مشهدها بالخيام التي يأوي إليها النازحون المشردون الذين أفلتوا من نيران العدو الصهيوني وجحيمه!

2. وهذا الاغتراب عن البيوت والديار، ما أقرب الشبه فيه بين حاجٍّ وبين لاجئ، كلاهما قد فارق أهله، واستبدل بهم أهلا وجيرانا آخرين!

3. وما أقرب القائمين في هذه الخيام ممن يعظون أهلها عن المناسك والعبادة بالذكر، بالقائمين في خيام النازحين يعظونهم في الصبر والثبات والاستبشار بنعيم الجنة وبالثواب العظيم الذي كتبه الله للمجاهدين وأهلهم الصابرين الثابتين.

هذه مشاهد القرب.. ولكن، كما قيل: ما أقرب ما بينهما وما أبعده!

فهذه الخيام ما أقربها في الشبه، ولكن ما أبعد ما بين الخيمتيْن من وسائل الراحة، وما أبعد ما يشعره النازلون فيها من الأمن ومن الخوف، وما أبعد الأمل الذي يرفرف على خيام الحجاج من الكرب الذي يخيم على خيام اللاجئين!

ما أبعد ما بين خيمة الحاج فيما مُهِّد لها من الطرق ومن الخدمة وما بين خيمة اللاجئ التي يعاني فيها من الحصول على الطعام القليل، والماء الشحيح، وضرورات الحياة البسيطة التي يحتاجها كل كائن حي!

ثم يأتي بعض أولئك فيفتخر بما يقدم للحجيج من وسائل الراحة من بعد ما استصفى أموالها من الحجيج ومن المتصدقين والمتطوعين لخدمة ضيوف الرحمن، وهو نفسه الذي يساهم بأموال المسلمين الذين غلب عليهم في ذبح المجاهدين هناك وفتح الطرق البرية والجوية والبحرية لدعم الصهاينة وإسنادهم! فكأنما فيهم نزل قول الله تعالى {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 19، 20].

وبين المشهدين المتشابهيْن والمتباعديْن، اختار صاحبنا الفنان أن يكتب قوله تعالى {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]. فيا لحسن هذا الاختيار!!

كأنما استدار الزمان على هيئته مرة أخرى، وتقلبت صفحات اليوم ليشبه آخرها أولها:

ففي ذلك الزمن البعيد نادى بها إبراهيم يسأل الله أن ينقذ زوجه وابنه المحرومين المحتاجين في أرض الجدب والصحراء، فما أشبه ذلك بحرمان المحاصرين الذين أغلقت عليهم المنافذ والمعابر حتى صار الطعام والشراب أثمن ما يحتاجون إليه! ما أشبه الكرب الذي كانت فيه هاجر وابنها الرضيع إسماعيل بالكرب الذي فيه الآن أهل غزة، لا نصير ولا ظهير ولا أنيس ولا رفيق، كم في غزة الآن من امرأة تشبه أمنا هاجر، تضرب الأرض وتأكلها الحيرة بحثا عن شيء تطعمه ابنها الصغير الذي يوشك أن يموت من الجوع؟!

وقد استجاب الله دعوة إبراهيم، فهذه الخيام الكثيرة التي نراها في الحج هي دليل الإجابة لذلك النداء القديم البعيد، فلقد أقبلت الأفئدة تهوي إلى البيت العتيق، ومنها ستصدح الحناجر بالدعاء للمجاهدين والنازحين في غزة، وعسى الله أن يقر أعيننا فيستجيب! ونرى المواكب تسير إلى غزة ومنها إلى المسجد الأقصى، تلبي وتكبر وتتلو آيات الفتح المبين!

وتأمل –أخي القارئ- في أن إبراهيم عليه السلام حين دعا ربه لم يبدأ بطلب الطعام والشراب، بل بدأ بطلب الأنس والرفقة والصحبة، طلب أن تهوي إليهم الأفئدة.. أن تذهب إليهم القلوب، ثم أردف بطلب الرزق من الطعام والشراب، قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37]. فلما أجابه الله تعالى أخرج لهم الرزق، ماء زمزم، ثم جاء لهم بالناس!

لكن الوقفة هنا هي في قول إبراهيم عليه السلام {أفئدة}..

وقد ذكر المفسرون أن "أفئدة" يمكن أن تكون جمعا لكلمة "وفود"، أو تكون جمعا لكلمة "فؤاد".. فالمعنى قد يكون: اجعل وفودا من الناس تحنّ إليهم، وقد يكون: اجعل قلوبا من الناس تحنّ إليهم.

ولا يتعارض المعنيان! فلربما حنَّت القلوب وعجزت الأجساد كما هو حال من لم يستطع أن يحج ومن لم يستطع أن يغيث غزة في كربها، فعجزت الوفود عن الوفود! ولربما قست القلوب فلم تحنّ ولم تهوي فذلك هو الكفر والجحود والإعراض عن أمر الله بالحج، وذلك هو الخيانة والخذلان والإعراض عن أمر الله بنصرة المسلمين المستضعفين المكروبين.

ولهذا استعاذ نبينا ﷺ، وعلَّمنا أن نستعيذ في كل صباح ومساء، من العجز والكسل.. فالعجز هو وجود الإراد وافتقاد القدرة، والكسل هو وجود القدرة وافتقاد الإرادة!

نعم، المعركة معركة قلوب في المقام الأول، ثم هي معركة قدرة في المقام الثاني.. وبهما يكون الظفر، وقد قال الشاعر الذي وجد القدرة ولم يجد العزيمة:

وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا .. إذا لم يكن فوق الكرام كرام

وقال الآخر الذي وجد العزيمة وفاتته القدرة:

لا تلم كفِّي إذا السيف نبا .. صح مني العزم، والدهر أبى

ولئن كان حجاج بيت الله الحرام قد أكرمهم الله بالقدرة والهمة، فها هي الأمة كلها تقف عاجزة أمام إخوانهم في غزة، بل كثير من قلوب غير المسلمين تحركت لأجل غزة وما استطاعت أن تغيثها حتى الآن بما ينفع!

وهذا هو المشهد:

قومٌ يملكون أن يفعلوا ولكنهم قلوب قاسية لا تلين ولا تحن، هي قلوب الأعداء المجرمين من الصهاينة، وقلوب من يساندهم من الغربيين والأمريكان، ثم قلوب من يخدمهم من أنظمة الخيانة والعمالة.. قلوبٌ لا تؤثر فيها الدماء ولا الدموع ولا الأشلاء.. قلوب من الصفوان الصلد الصلب! قلوبٌ وصفها الله تعالى بقوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].

وقومٌ لا يملكون أن يفعلوا مهما تقطعت قلوبهم وتمزقت أحشاؤهم وضاقت عليهم نفوسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ومنهم من تعرض في سبيل نصرة غزة بالكلمة والتغريدة ورفع العلم والهتاف إلى السجن والتنكيل والحرمان من شهادته الجامعية ومن العمل... إلخ! بل منهم من قُتِل كما وقع قبل يومين من كتابة هذا المقال عن الجنود المصريين الذين أطلقوا النار على قوة إسرائيلية عند معبر رفح، فنشبت معركة استشهد فيها جنديان.

لقد شرع الله هذه العبادات الجامعة لمقصديْن كبيريْن: تطهير القلب والشعور بوحدة الأمة. فالمرء المسلم حين يصلي فيعرف أنه في نفس هذا الوقت يصلي المسلمون مثله حول العالم، وحين يصوم في رمضان فيعرف أنهم يصومون مثله في نفس هذا الشهر حول العالم، ثم هو حين يحج يرى إخوانه وقد جاؤوا إلى هذه البقعة ذاتها من كل فج عميق! في كل عبادة من هذه يتقارب المسلمون؛ بداية من أهل الحي الواحد الذين تجمعهم الصلوات الخمس، وحتى أهل المعمورة كلها حين يجمعهم البيت الحرام.

وليس يمكن أن يوجد مسلم يلتزم بدينه ثم هو لا يشعر بإخوانه المسلمين حول العالم، فكيف إذا كانت مآسي المسلمين قد أيقظت من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من فطرة ولو كان كافرا؟!!

إذا لم تهوي أفئدة المسلمين الآن إلى غزة وإلى السودان وإلى المسلمين في الهند وفي بورما وفي تركستان، فأين ستهوي وأين ستذهب؟!

وإذا هوت الأفئدة والتقت الوفود، فهل يعقل أو يقبل أن يمضي هذا الاجتماع وينفض كأن لم يكن؟!

ما كان هكذا حج المسلمين منذ زمان نبيهم ﷺ، بل كان الحج هو مؤتمر المسلمين الأكبر، وهو مشهدهم الأعظم، وهو ملتقاهم الأضخم، فمن أكرمه الله بالحج فلا يفوت هذه الفرصة في نصرة إخوانه المكروبين، ومن لم يكن من أهل الحج في هذا العالم فليعلم أن واجبا أعظم من الحج في انتظاره: وهو واجب نصرة المسلمين المستضعفين المظلومين! وكل امرئ أعلم بما يستطيع!

فإذا صدقت الأفئدة، التي هي القلوب، ظهر هذا في العمل، كما قيل: من صحّ منه العزم أُرْشِد للحيل، وهو مأخوذ من قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ومن قول نبينا ﷺ: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"[3]

كذلك إذا صدقت الأفئدة، التي هي الوفود، ظهر ذلك في الظفر، وقد قال تعالى {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174، 175].


نشر في مجلة "أنصار النبي ﷺ"، يونيو 2024


[1] البخاري ومسلم.

[2] البخاري.

[3] البخاري ومسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق