الاثنين، أغسطس 27، 2012

سيف الدولة الحمداني والروم

كانت الدولة الحمدانية على شطرين، شطر يحكمه ناصر الدولة الحمداني ثم ابنه أبو تغلب الحمداني في العراق ومركزهم في الموصل، وشطر آخر يحكمه الأمير الشهير سيف الدولة الحمداني في الشام ومركزه في حلب، وهذا الجزء الأخير تولى مواجهة الروم في منتصف القرن الرابع الهجري، والذي نحاول إيجازه في هذه السطور القادمة

***

نستطيع أن نقسم الحرب بين سيف الدولة الحمداني وبين الروم البيزنطيين إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى هي أقرب إلى التعادل أو توازن القوى حيث كانت الحرب سجالا بينهما غير أن قلة عدد وعدة سيف الدولة الحمداني بالمقارنة مع الامبراطورية البيزنطية يجعلها بطولات كبيرة لسيف الدولة على المستوى المعنوي أو التقديري، أما على المستوى العسكري والحربي فلا يمكن اعتبارها نصرا أو تفوقا على الروم، والمرحلة الثانية هي تفوق واضح للروم البيزنطيين وهزائم قاسية مريرة لسيف الدولة، ذلك أن الروم كانوا قد أعطوا لسيف الدولة قدره من الاهتمام بعدما بدا لأول وهلة واليا على إمارة غير مستحق لكثير اهتمام فقاتلوه قتال الأنداد، كذلك فإن الروم في ذلك الوقت تمتعوا بقادة عسكريين تاريخيين بلغوا شأنا عظيما في القوة والكفاءة.

1. مرحلة توازن القوى (335 – 345 هـ)

تبادل الروم والمسلمون الأسرى (335 هـ) وقام بعملية التبادل نصر الثملي –أمير الثغور التابع لسيف الدولة الحمداني، وكان أسرى المسلمين نحو ألفين وخمسمائة أسير، وهم يفوقون أسرى الروم بمائتين وثلاثين فدفع سيف الدولة فداءهم.

وانطلق سيف الدولة في غزوة إلى بلاد الروم (337 هـ) ما يدل على استعداده وثقته بالنصر، لكنه هُزِم أمام الجبش الرومي الكثيف بل وخسر بلدة مرعش الحدودية -والتي تمثل واحدة من أهم الحصون الإسلامية على الحدود- ثم اقتحموا ثغر طرسوس فأوقعوا بأهله بأسا شديدا، فكانت حملة فاشلة وهزيمة قاسية.

غير أنه عاود المحاولة مرة أخرى (339 هـ) فتوغل في بلاد الروم فاتحا ومنتصرا وسقطت أمامه حصون كثيرة وحاز الغنائم الهائلة وأسر عددا كبيرا، ثم واصل توغله في أرض الروم حتى ابتعد عن الحكمة وغَرَّه النصر المتتابع، لهذا ما إن انتهى من التوغل وعاد إلى بلاده حتى كان الروم قد أعدوا له كمينا قاتلا على طريق عودته، فاستطاعوا هزيمته أبشع هزيمة، واستخلصوا أسراهم وغنائمهم، وفوق هذا قتلوا غالب جيشه حتى إن سيف الدولة نجا بصعوبة بالغة في عدد قليل من جنوده، وذلك لأنه كان في مؤخرة الركب.

ثم أخذ الروم زمام المبادرة فهاجموا مدينة سروج (341 هـ) فقتلوا وأسروا وغنموا الأموال والنفائس وخربوا المساجد، وردَّ عليهم سيف الدولة في العام التالي (342 هـ) بتوغل كبير في أرض الروم "فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر آخرين، وغنم أموالا جزيلة، ورجع سالما غانما"[1].

ثم حقق سيف الدولة نصرا عظيما (ربيع الأول 343 هـ) إذ دخل وتوغل في أرض الروم وخاض معارك قوية مع جيوش محلية فهزمهم وقتل منهم وأسر وغنم، وكان من بين من قتلهم قسطنطين بن الدمستق[2]، مما كان له أثر عظيم في الروم فجمع الدمستق جيشا كبيرا واستعان به بفرق المرتزقة من الروس والبلغار وانطلق إلى أملاك سيف الدولة الذي تصدى له ودار بينهما قتال عظيم عند الحَدَث[3] (شعبان 343 هـ) أسفر بعد الصبر والبسالة عن انتصار كبير للمسلمين، وقُتِل كثير من جيش الروم وأُسِر عدد من قادتهم مثل صهر الدمستق وحفيده الشاب وكثير من البطارقة[4].

ثم كان الهجوم الرومي التالي مختلفا، إذ دخلت القوات البحرية على خط المواجهة، فهاجم الأسطول البيزنطي مدينة طرسوس (جمادى الآخر 345 هـ) وهي خط المواجهة وعاصمة الجهاد البحري وقت استقرار الدولة العباسية في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، فاقتحموها وقتلوا من أهلها نحو ألف وثمانمائة رجل، وأحرقوا القرى التي حولها، وعندئذ رَدَّ سيف الدولة بتوغل كبير في أرض الروم (رجب 345 هـ) حتى بلدتي خرشنة وصارخة[5] واقتحم عدة حصون ثم بقي مستقرا في أذنة[6] واستقبل هناك رئيس طرسوس وكافأه كي يؤكد سيادته على المنطقة، ثم عاد إلى حلب. على أن الروم الذين لم يواجهوه توجهوا بجيوشهم إلى ميافارقين فأحرقوا ونهبوا وخربوا وأسروا.

2. مرحلة تفوق الروم (347 - 363 هـ)

اقتحم الروم (347 هـ) بلدة آمد ثم ميافارقين وقتلوا ألفا وخمسمائة إنسان، ثم استولوا على مدينة سميساط وأخربوها، ثم أعادوا اقتحام طرسوس واقتحموا الرها (348 هـ) فقتلوا وأسروا وغنموا وعادوا دون مقاومة.

وحتى حين عاد سيف الدولة لغزو الروم وحقق توغلا كبيرا في أرضهم (349 هـ) وصل به إلى خرشنة وسقطت أمامه كثير من الحصون وحقق كثيرا من الغنائم، كرر الروم كمينهم السابق الذي نفذوه قبل عشر سنوات، حيث أوقعوا به في طريق العودة إلى حلب، فاستردوا غنائمهم وأسراهم ثم هزموه هزيمة شنيعة وقتلوا أكثر جيشه ولم ينجُ إلا في فرقة قليلة من جنوده بصعوبة بالغة، ودفع بهذا ثمن استبداده بالرأي وإصراره على العودة من طريق حلب رغم النصائح التي بذلها له أهل طرسوس أن لا يعود من طريق حلب الذي استولى عليه الروم وأن يعود معهم من طريق طرسوس، وكان ثمنا فادحا وغاليا، إذ انتهى به عصر التوغل في أرض الروم وبدأ عصر الهزائم القاسية، حتى لقد كان يطلب الهدنة والتفاوض ولم يكن يُجَب إلى ما طلب!

في العام التالي (350 هـ) جرت محاولات حربية أخرى من والي أنطاكية لكنه وقع في كمين للروم فانهزم أكثر جيشه ونجا هو بصعوبة، والمحاولة الأخرى للقائد العسكري نجا وهو من قواد سيف الدولة الحمداني إذ استطاع التوغل في أرض الروم على حين غرة منهم (رمضان 350 هـ) فغنم أموالا كثيرة وأسر من الروم وعاد سالما دون مواجهة.

ثم شهدت الحرب بين الروم والحمدانيين تطورا كبيرا لصالح الروم، فمنذ هذه اللحظة سيكون الروم الأعلى كعبا والأقوى يدا وبطشا، لأكثر من سبب، منها:

1. أن بيزنطة ألقث بثقلها في حرب سيف الدولة الحمداني فسيظهر منذ الآن نقفور امبراطور الروم الذي سيقود الحرب بنفسه متسلحا بالآلة العسكرية الرهيبة للامبراطورية البيزنطية.

2. ضعف سيف الدولة الحمداني عسكريا بعد الهزائم التي نزلت به، وضعف جيشه معنويا.

3. الاضطرابات الداخلية في إمارة سيف الدولة نفسه، إذ تمرد عليه بعض قادته الولاة على المدن واستقلوا عنه كابن الزيات والي طرسوس (351 هـ) وكالقائد نجا الذي هو من قواد سيف الدولة (352 هـ)، كما انشغل أكثر من مرة بحروب وغارات الأعراب في بادية الشام، وهم –كعادة اللصوص وقطاع الطرق- أبعد الناس عن تقدير الموقف العام وأكثرهم انشغالا بمطامعه الخاصة، وكم تدفع الدولة ثمنا فادحا من الأرواح والدماء بسببهم.

4. عدم وجود الظهير سواء من الحمدانيين في الموصل أو البويهيين في بغداد، والخليفة العباسي مغلوب على أمره لا يملك لنفسه سلطانا فضلا عن أن يعين سيف الدولة، ثم إن القرامطة يقاتلون العبيديين (الفاطميين) في جنوب الشام وما من أحد يفكر في إعانته.

5. استبداد سيف الدولة وسوء سياسته على أكثر من مستوى، حتى إن ظلمه لفرع من عائلته الحمدانيين دفع بهم إلى الانحياز للروم والقتال معهم، وليس هذا مبررا بالطبع، فكانوا أقسى على المسلمين من الروم بما لهم من خبرة سابقة بأحوال المسلمين وأراضيهم وبلادهم، كذلك استبداد بعض ولاته ببعض البلاد كما في حران (352 هـ) وأنطاكية (354 هـ) مما جعل تلك المناطق تستغل حالة الضعف التي يمر بها سيف الدولة أمام الروم فتتمرد عليه فيزيد الوضع سوءا وتزيد الأزمة تعقدا ويزيد جانب المسلمين ضعفا أمام الروم.

وبعد هذه الأسباب أو قبلها تأتي شخصية العدو نقفور، قائد الجيوش، وملك الروم الذي سيكون رجل هذه المرحلة، وعلامة في تاريخ هذه الفترة، وهي الشخصية التي تستدعي أن نتوقف عندها لبعض الوقت:

كثيرا جدا ما أخبر التاريخ بأقوام دخلوا في الإسلام ثم ظهر منهم أبطال كبار دخلوا تاريخ الدنيا، وقليلا جدا ما كان يحدث العكس، أن ينتصر مسلم ثم يصير من قادة الحرب على المسلمين، من هؤلاء كان نقفور هذا.

كان أبوه ابن الفقاس رجلا من المسلمين من أهل طرسوس، ثغر الجهاد ضد الروم، فتنصر أبوه ثم نشأ هذا الفتى نصرانيا، ونبغ في الحرب وتدرج به الحال حتى صار الدمستق الوالي على آسيا الصغرى في الإمبراطورية البيزنطية، وفي عودته من إحدى حروبه مع المسلمين كان الامبراطور الروماني أرمانوس قد توفي وترك ولديه الصغيرين، فرأت القيادات العسكرية أن يكون هو الوصي عليهما حتى يكبران فيدير شؤون الإمبراطورية، فكان هذا، وتزوج من أرملة الامبراطور، واستقر له الأمر، يقول ابن الأثير: "جعل همته قصد بلاد الإسلام والإستيلاء عليها وتم له ما أراد باشتغال ملوك الإسلام بعضهم ببعض فدوخ البلاد وكان قد بنى أمره على أن يقصد سواد البلاد فينهبه ويخربه فيضعف البلاد فيملكها وغلب على الثغور الجزرية والشامية وسبا وأسر ما يخرج عن الحصر وهابه المسلمون هيبة عظيمة ولم يشكوا في أنه يملك جميع الشام ومصر والجزيرة وديار بكر"[7]، ويصفه ابن كثير بأنه كان "من أغلظ الملوك قلبا، وأشدهم كفرا، وأقواهم بأسا، وأحدهم شوكة، وأكثرهم قتلا وقتالا للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرا، واستمرت في يده قهرا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا... وبالغ في الاجتهاد في قتال الاسلام وأهله، وجد في التشمير، فالحكم لله العلي الكبير. وقد كان لعنه الله لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال، وسبى النساء والاطفال، وجعل جامعها اصطبلا لخيوله، وكسر منبرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله"[8].

وكان هذا الدمستق قد استكتب أحد من تنصروا من العرب قصيدة طويلة في سب الإسلام والنبي والتوعد بالقضاء على الدين كله والعزم على غزو مكة، وهي القصيدة التي تولى الرد عليها فيما بعد الإمام ابن حزم رحمه الله بقصيدته المشهورة.

***

لكل ما سبق كانت الأيام التالية عصيبة على المسلمين، ولهذا حديث قادم بإذن الله تعالى

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] ابن كثير: البداية والنهاية 11/257.

[2] الدمستق: القائد العام للجزء الشرقي من الامبراطورية البيزنطية.

[3] الحدث: حصن حدودي يبعد عن أنطاكية نحو 70 ميلا.

[4] البطريق: هو القائد على عشرة آلاف جندي.

[5] مدينتان بالقرب من ملطية، وهي الآن (Malatya) التركية.

[6] هي الآن مدينة أدنة (Adana) التركية، إلى الشمال الشرقي من مدينة طرسوس.

[7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/320.

[8] ابن كثير: البداية والنهاية 11/277.

الخميس، أغسطس 23، 2012

أصنام مأكولة!

1. يؤيد بقاء العسكر سنتين بصلاحيات مطلقة تشريعية وتنفيذية.. لكنه لا يحتمل شهرين بذات الصلاحيات لرئيس منتخب!

2. يحترم القضاء حين يستبعد حازم والشاطر.. ويطالب بمجلس رئاسي مدني حين يفشل هو!

3. يصيح هاتفا بالإفراج عن المعتقلين.. ثم ينتفض مصعوقا من الإفراج عن المعتقلين الإسلاميين!

4. ينادي بالحرية والديمقراطية وحرية الشعب.. وتاريخه وثيق العلاقة بالمستبدين ومنظماتهم!

5. لا تهتز له شعرة إن قتل المئات في العباسية.. وتهتز كل شعيراته العصبية إن قال أحدهم كلمة تسيئ ليساري أو لإلهام شاهين!

6. لا ينطق بكلمة أمام الكذب والتحريض المهووس.. ثم تظهر التغريدات والتصريحات أمام الرد على التحريض!

7. هو قائد ثورة لم يشارك فيها ولم يدعُ إليها.. ويتحسر على قوم كانوا جنودها لأنهم "ركبوها"!

8. شعاره فيما قبل "الديمقراطية يا فلان".. وشعاره فيما بعد "الانتخابات لا تعبر عن الشعب"!

9. منزعج من "التكويش" على السلطة.. وبعد دقائق: يبشر باكتساح كامل لكل الدوائر!

10. حرية التعبير مكفولة طالما لم يشعر هو أنها إساءة.. فإذا شعر بشئ هاجم "التخوين والإقصاء"

لعله قد دار في خلدك أني أتحدث عن البرادعي أو صباحي.. "أبسوليوتلي".. إنما الحديث عن المنهج!

احترام القانون - احترام القضاء - حرية التعبير - حرية الإعلام - رفض التخوين والإقصاء - الديمقراطية - حقوق الإنسان ... إلخ

كلها أصنام يأكلها العلمانيون واحدة تلو الأخرى للنكاية في الإسلاميين..

ترى متى سنصدق قول ربنا "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا"؟ .. وقوله تعالى "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"؟..

النقد الذاتي صفة العظماء

"عبر حياتي كنت أبحث عن معنى معين لم أجده إلا في الإسلام" [جارودي]

***

النقد الذاتي هو صفة الأحرار ولا يستطيعه العبيد ولا أهل التقليد ولا أهل التقييد، المنطلقون من الأغلال وحدهم يستطيعون النظر إلى مسارهم ومسيرتهم وإعادة تقييمها وتصحيحها جزئيا أو كليا، ذلك أن جوهر الإنسان وأصل الإنسانية هي الحرية والقدرة على الاختيار والقدرة على تغيير نمط الحياة، فبذلك يرتفع الإنسان ويتميز عن غيره من الكائنات!

أمتع المذكرات والسير الذاتية هي تلك التي يرويها أناس قضوا حياتهم في البحث عن الحقيقة، فانتقلوا من وجهة إلى وجهة أخرى، ذلك أنها مكنوزة بتحليلات نفسية معمقة وتأملات مبتكرة وزوايا نظر مختلفة، ويجمع بينهم مخزون ثقافي واسع، ومهما تعددت طرقهم في الاهتداء فإن الهداية في النهاية تجمعهم! يقول د. عبد الوهاب المسيري في رحلته الفكرية: "وهكذا، بدلا من الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصلت إلى الله من خلال الإنسان، ولا يزال هذا هو أساس إيماني الديني"[1].

***

وليس النقد الذاتي منحصرا في الهداية الدينية بطبيعة الحال، بل هو أمر يشمل الدين، والمذهب، وطريقة الحياة، ومنهج التفكير، وبهذا النقد الذاتي الناتج عن البصيرة واليقظة ورقابة الأداء يحفر العظماء أسماءهم في سجل التاريخ.

وقد آثرنا أن يكون حديثنا عمليا واقعيا سجلته ذاكرة الأيام ليكون المثال مُغنيا عن طول المقال! واخترنا ثلاثة نماذج: في الدين، وفي المذهب الفكري، وفي التخطيط الاستراتيجي.

1. الجيل الفريد

لقد كان النقد الذاتي هو الفارق بين من أسلموا لله رب العالمين، ومن كفروا به وقد رفعوا شعارهم (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) حتى ولو كان هذا الشعار في وجه من جاءهم يقول (أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟! قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون)!

إن تبرؤ الصحابة من دين آبائهم ليس أمرا سهلا أبدا، ولك أن تتخيل مثل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، فهؤلاء آمنوا بدين يُلزمهم أن يؤمنوا بأن آبائهم في النار خالدين فيها وبئس المصير! وكيف تبرأ أبو بكر من ابنه حتى لقد أعلن أنه لئن كان رآه في صف المشركين في غزوة بدر لكان قد قتله، وكيف استطاع الأنصار تغيير ما ألفوه من العداوة التاريخية الطويلة بين الأوس والخزرج فصاروا أنصار الله ورسوله، وضربوا الأمثلة الخالدة في الإخوة فيما بينهم ثم في الأخوة مع المهاجرين حتى لقد جاءت القصص بما لا يصدقه العقل من اقتسام الأموال والأملاك بل والزوجات!

ولا يجوز أن نتحدث عن النقد الذاتي دون أن نتذكر ذلك النموذج الفريد، هذا الشاب القادم من أرض فارس، حيث ترك المنزلة الرفيعة والحياة الرغيدة ليبحث عن الحقيقة، إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه، الذي آمن أن الحق لن يكون في عبادة النار، فهام على وجهه ينتقل من راهب إلى راهب إلى راهب حتى مات الراهب الأخير وقد ترك له وعدا بأنه قد اقترب زمان النبي الأخير، فظل ينتظر ويترقب ويتسمع الأخبار حتى التقى النبي (صلى الله عليه وسلم) فآمن به، فصار بهذا من خيار الصحابة وكبارهم وممن إذا غضب من أحد غضب الله له كما في قول النبي: "يا أبا بكر لعلك أغضبتهم (سلمان، وصهيب، وبلال) لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك".

إن النقد الذاتي أمر لا يستطيعه غير الطبقة العالية في الفضلاء، فكم من فضلاء كرام لا يستطيعون تغيير أفكارهم وقناعاتهم، وهذا أبو طالب نفسه الذي قام بالدور الأهم في حماية النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يستطع رغم كل ما رآه، ورغم كل الإلحاح الذي بذله النبي أن يؤمن، فكان آخر موقفه وهو على فراش الموت "بل على دين عبد المطلب"!

***

2. الأشعري.. من الاعتزال إلى منهج أهل السنة والجماعة

لا يغيب مكان الإمام الشعري ومكانته عن أحد في مجال الفكر الإسلامي، فهو أحد أعلام الأمة وأئمتها عبر تاريخها حتى لهو أحد الذين يتنازع فيهم الناس، كل ينسبه إلى مذهبه وطريقته، وليس يعنينا النزاع قدر ما يعنينا تبيين مكانته، فهو "العلامة إمام المتكلمين" كما يصفه الإمام الذهبي، وهو الذي كان الإمام الباقلاني يقول فيه: "أفضل أحوالي أن أفهم كلام الأشعري".

لقد نشأ ذلك الإمام بين المعتزلة، وكان زوج أمه واحد من أئمتهم الكبار وهو الجبائي، فتربى وتعلم على يديه، حتى تشرب المذهب وأتقنه ونَظَّر له وألف فيه كتبا، ثم هو بعد هذا العمر والرفعة في المذهب بدا له فساده، وكانت القاصمة تلك المسألة المشهورة التي سألها للجبائي عن "وجوب الأصلح على الله" وهو ما يقول به المعتزلة.

سأل الأشعريُّ الجبائيَّ: ما تقول في ثلاثة أخوة أحدهم كان براً مؤمناً نقياً، والثاني: كافراً فاسقاً شقياً، والثالث: كان صبياً. فماتوا، فكيف حالهم؟ قال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات وأما الصغير فمن أهل السلم، فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزهد يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجة بحسب طاعته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات؟ فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة؟ فقال الجبائي: يقول البارى جل وعلا: أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك. فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم رعيت مصلحته دوني؟ فقال الجبائي: وسوست؟ فقال الأشعري: ما وسوست، ولكن وقف حمار الشيخ (أي لم يجد جوابا).

وكان هذا بداية تركه لمذهب الاعتزال، ثم أعلن هذا في مسجد البصرة، ويكفي أن تعلم أن الفقيه الحنبلي المشهور البربهاري لم يقبل الأشعري لأنه لم يصدق أن مثله قد يعود عن مذهبه! لكن الأشعري بدأ بعدئذ رحلته الثانية في الرد على مذهبه الأول ونقضه، وألف هو نفسه كتبا في الرد على الكتب التي ألفها سابقا، وفي الرد على شيخه الجبائي، حتى نصر مذهب أهل السنة إلى حد قال فيه الفقيه الكبير أبو بكر الصيرفي: "كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم، حتى نشأ الاشعري فحجرهم في أقماع السمسم".

***

3. المنصور بن أبي عامر.. الإنجاز الحضاري والخطر العسكري

كان المنصور محمد بن أبي عامر ذروة تاريخ الأندلس وعصرها الذهبي، بلغ بالأندلس من القوة والازدهار والحضارة ما لم يبلغه أحد قبله ولا أحد بعده، وفتح من الحصون والبلاد ما لم يصل إليه أحد قبله ولا بعده، وحكم في الأندلس ستا وعشرين سنة نفذ فيها اثنتين وخمسين غزوة لم تسقط له راية ولم يُكسر له جيش ولم تنهزم له سَرِيَّة، وكان من تلك الشخصيات الأسطورية التي تبهر الجميع وترهبهم، حتى لقد كتب المسلمون على قبره شعرا يقول:

آثاره تنبيك عن أخباره .. حتى كأنك بالعيان تراه

تالله لا يأتي الزمان بمثله .. أبدا، ولا يحمي الثغور سواه

لقد حقق المنصور إنجازا عسكريا ضخما بإقرار السيادة الكاملة للمسلمين على جزيرة الأندلس، وحقق كذلك إنجازا حضاريا هائلا بما أنجزه من عمارة وإصلاح، لكنه اكتشف قُبيْل موته أن اندفاعه الحضاري في جانب التعمير كان ينبغي أن يراعي الضرورات الحربية، ذلك أن تعميره لسائر المدن الأندلسية بما فيها المدن على الحدود والثغور سيعطي فرصة للعدو في لحظات تفوقه العسكري أن يستعين بها في حصار المسلمين والتفوق عليهم، ولقد كان الأولى أن يترك هذه المناطق بلا عمارة لتكون مناطق عازلة بين المسلمين وعدوهم.

هذه المراجعة والنقد الذاتي كانت في حوار بينه وبين حاجبه كوثر، لما "حضرته الوفاة بكى، فقال له حاجبه كوثر: مم تبكي يا مولاي؟ لا بكت عيناك. فقال: مما جَنَيْتُ على المسلمين، فلو قتلوني وحرقوني ما انتصفوا مني، فقال له: كيف ذلك؟ وانت أعززت الإسلام وفتحت البلاد وأذللت الكفر وجعلت النصارى ينقلون التراب من أقصى بلاد الروم إلى قرطبة حين بنيت بها جامعها؟ فقال: لما فتحت بلاد الروم ومعاقلهم، عمرتها بالأقوات من كل مكان، وسجنتها بها حتى عادت في غاية الإمكان، ووصلتها ببلاد المسلمين، وحصنتها غاية التحصين، فاتصلت العمارة، وليس في بَنِيَّ من يخلفني، وسيشتغلون باللهو والطرب والشرب، فيجيء العدو فيجد بلادا عامرة وأقواتا حاضرة فيتقوى بها على محاصرتها، ويستعين بوجدانها على منازلتها فلا يزال يتغلبها شيئا فشيئا، ويطويها طيًّا فَطَيًّا حتى يملك أكثر هذه الجزيرة، ولا يترك فيها إلا معاقل يسيرة. فلو ألهمني الله إلى تخريب ما تغلبت عليه وإخلاء ما تملكت، وجعلت بين بلاد المسلمين وبين بلاد الروم، مسيرة عشرة أيام فيافيا وقفارا، لا يزالون لو راموا سلوكها حيارى، فلا يصلون إلى بلاد الإسلام إلا بمشقة وكثرة الزاد صعوبة المرام. فقال الحاجب: أنت إلى الراحة إن شاء الله أقرب، فتأمر بهذا الذي رأيت. فقال له: هيهات! حال الجريض[2] دون القريض، والله لو استرحت وأمرت بما ذكرت، لقال الناس: مرض ابن أبي عامر فأورثه مرضه جنونا وهوسا تمكن من دماغه، فخرب بلاد المسلمين وأجلاهم وأقفرها"[3].

***

يمكن أن نسهب ونطنب كثيرا في النقد الذاتي وأهميته وضرورته للفرد والأمة، لكننا بعد طول المسير نجد أنفسنا ندندن حول قول رسوال الله (صلى الله عليه وسلم)

"لا يلدغ المؤمن من جُحْرٍ واحد مرتين"

نشر في المركز العربي للدراسات والبحوث



[1] د. عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، فبراير 2009. ص305.

[2] الجريض: أي الغصة، وهو مثل يقال عما فات وقته.

[3] ابن الكردبوس: الاكتفاء في أخبار الخلفاء، تحقيق: د. أحمد مختار عبادي، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، مدريد، العدد 13، ص64 وما بعدها.

في فقه "الفيس بوك وتويتر وآسك"

لا ريب أن الانترنت من أجل نعم الله على هذه الأمة، وعلى الشعوب المقهورة بشكل عام، فهي المساحة الوحيدة التي يعتدل فيها أمر الحياة لتكون "الشعوب فوق السلطة"، من بعد ما قامت الدولة المركزية الحديثة بقلب هذه المعادلة لتكون السلطة دائما فوق الشعب، ولتكون الشعوب دائما عبيد وموارد عند السلطة.

ثم كانت شبكات التواصل الاجتماعي من أجل نعم الله، وهي الآن ذروة تطور هذه الحالة المجتمعية، فهي توفر فرص ربط بسيطة لعدد ضخم من الأفراد والكيانات، فبعدما كان المرء قبل عشر سنوات مضطرا لزيارة العديد من المواقع ليقرأ، أو الاشتراك في العديد من المنتديات ليتحاور، أو يتابع العديد من المدونات.. صار كل هذا بسيطا جدا، تأتيه به صفحة واحدة، فتوفر عليها أوقات الانتقال ثم توفر له إمكانيات النشر بشكل سهل بسيط!

على أن الحياة لا كمال فيها، وما من شيء إلا وله سيئات وسلبيات..

وهنا، أحب أن أركز النظر على أمر أحسب أن كثيرين لم ينتبهوا له!

لقد صُنِعت هذه الشبكات لتكون تواصلا اجتماعيا وشخصيا بالمقام الأول، ولا بأس عليها في ذلك فإن الذين صنعوها قوم مُترفون، بينما تلقاها المقهورون في العالم فجعلوا منها وسائل سياسية بامتياز، فبها يناهضون السلطات القاهرة وينظمون سبل مقاومتها!

منذ المنتديات.. ثم المدونات، وبشكل أكبر الفيس بوك، وبشكل أعظم وأعظم تويتر.. توفر هذه الوسائل فرصا كبيرة للحديث عن النفس! والحديث عن النفس -لغير فائدة عامة- هو مدخل كبير للغرور وتضخم الذات.. وأحيانا للتفاهة!

من الشباب من يقضي وقته –منذ زمن المنتديات والمدونات وانتهاء بالشبكات الاجتماعية- في الحديث عن نفسه وماذا سيفعل في يومه وليلته، ماذا سيسمع وماذا سيشتري وماذا يفعل الآن وماذا سيفعل بعد قليل.. ربما كان هذا لائقا في قوم مترفين لا قضية لهم، وهو أبعد ما يكون عن قوم لهم رسالة وقضية وفكرة!

إلا أن الأخطر –بتقديري- هو شخص آخر يملك فصاحة أو رأيا أو فكرا، ثم أعطته هذه الوسائل فرصة انتشار كبيرة فوجد له جمهورا ما كان يحلم به من قبل، ومن ثم صار له متابعون وأحباب ثم أنصار ومتعصبون أيضا! فذلك شخص أحرى أن يصيبه الغرور وتضخم الذات والكِبْر والاستعلاء!

إن عدد "الإعجابات" أو "التشارك" يزرع الكثير من ثقة النفس في الكاتب.. غير أنه يجب أن ينتبه إلى أن "المغرور هو من غرَّه ثناء الناس عليه"، وأن الذين يعجبون به إنما هم معجبون "بستر الله عليه"، وأنه لو كشف لهم سرائره لكان عندهم في مقام آخر ومكان آخر (نسأل الله أن يسترنا جميعا بستره الجميل)!

فزيادة عدد المشتركين على الفيس بوك أو المتابعين في تويتر إنما هو مسؤولية وأمانة قبل أن يكون دليل تفرد وتميز، وهو لا يعد على الإطلاق "معيار نجومية"! هذا ونحن المسلمون يجب أن يكون لدينا معيار آخر للنجومية غير المعيار المادي..

لكن فتنة الشاب في نفسه تحدث وتحدث كثيرا جدا، ويشاهد المرء بنفسه بوادر السقوط بعد الغرور عند كثيرين، وفي كل عبارة يجب أن يخشى المرء على نفسه من أن يدخل في قلبه كبر أو عجب أو غرور، فتلك هي مُحْبِطات الأعمال؛ إذ "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر"، و"من عمل عملا أشر معي فيه غيري فهو لشريكي كله"، والرياء نوع من أنواع الشرك بل هو الشرك الذي وصف بأنه "أخفى من دبيب النمل"!

***

لقد تفجرت كل هذه الخواطر من مكامنها بعد أن شاهدت الموقع الجديد (ask.fm) والذي يضع المرء في موضع النجومية مباشرة، فكأنه "نجم/ عالم علامة/ مفكر باحث/ خبير اجتماعي... إلخ" وتُوجه له الأسئلة ثم يقوم هو بالإجابة..

مثل هذا الموقع نقل هذه السلبية من شبكات التواصل من كونها سلبية في وسط مزايا أخرى لتكون موقعا قائما بذاته ومنفردا بها، وهو لذلك أدعى أن يكون المشترك فيه على خطر، ويجب عليه أن يحذر إذا قرر الدخول فيه!

لست أدعو لعدم الاشتراك فيه –وإن كنت في هذه اللحظة أحبذ هذا وأراه الأفضل- لكني أنبه من قرر ذلك أو ينويه إلى ضرورة أن يراجع نفسه وحال قلبه، وأن يكون يقظا وحذرا أمام تسرب الكبر والغرور والعُجْب إلى نفسه!

وعلى كل حال.. فنحن قوم، كان من خيارهم "الأتقياء الأخفياء.. الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفتقدوا"!

نشر في رابطة النهضة والإصلاح