الأربعاء، فبراير 28، 2018

رأي الغزالي في محمد بن عبد الوهاب


على غير ما يتوقع الكثيرون، فقد احتفى الشيخ الغزالي بالحركة الوهابية وزعيمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب حفاوة كبيرة، ورآها ردة فعل إسلامية على ما ساد الدولة العثمانية وقتها من ظروف الانحراف، وقدر لزعيمها محمد بن عبد الوهاب غيرته الشديدة على التوحيد، وإنفاق الحركة طاقتها ومجهودها في تنقية العقيدة وإزالة الخرافات والأوهام التي علقت بأذهان الناس وقلوبهم، ويُفهم من بعض عبارته أن أتباع محمد بن عبد الوهاب لو تخلوا عن التشدد والغلو لما كان للحركة أن تُهزم.
وكنا ذكرنا في مقال سابق منهج الشيخ الغزالي وطريقته في التفكير وميزانه في تقييم للرجال، وكيف أنه بهذا المنهج قد اجتمع عنده في ميزان المصلحين من قد يُحسب أنهم متنافرون ومختلفون. وفي هذه السطور سنستعمل عبارات الغزالي مع الحد الأدني من التدخل للربط بينها، فالممارس لكتب الغزالي يعرف أن أغلب إنتاجه دفقات أديب، فالموضوع الواحد متناثر في كتبه مستلزم للمجهود في تتبعه.

1. زمنه وبيئته

يعدد الغزالي ظروف العالم الإسلامي المخيمة في تلك الفترة فيقول: "كان الجهل الغليظ يلف كل شيء، وكانت عجمة الدولة سبباً في تخلف المسلمين دينيا ومدنيا، وانتشرت البدع والخرافات، وتحول الإسلام إلى رسوم ميتة، وأحاديث واهية أو موضوعة، وكَثُرَتْ صور الشرك الجلي والخفي، وأعلن التصوف الجاهل على هذا كله إذ أن طرقه دخلت كل مدينة وقرية. ومن الناحية المدنية العامة توقف الركب الإسلامي في مكانه، لا يدري وراء حدوده شيئا بينما العالم يفور ويمور بحركات وفلسفات جديدة غيرت نظم الحكم، وكشفت المجهول من القارات، واستعملت قوى الكون وأسراره فى تجديد حياتها وأسلحتها، وقد ورث الحكم العثماني سيئات الحكم الفردى فى الدول الإسلامية السابقة وضم إليها جديدا من الجبروت والاستعلاء، وربما قتل السلطان جميع إخوته حتى لا ينازعوه السلطة، ومنح السلطان امتيازات أجنبية للطوائف النصرانية المختلفة جعلها دولة داخل الدولة، واستغل الأعداء ذلك أسوأ استغلال. ومع أننا نعيب على العرب تقاعسهم في خدمة الثقافة الإسلامية الصحيحة إبان هذه القرون الهامدة من الحكم التركي، إلا أننا نذكر أن الحركة الوحيدة التي نهض بها العرب لإصلاح العقائد والعبادات ومحو ما شابها من زيغ وانحراف قاومتها الدولة بالسيف حتى أجهزت عليها.. نعني حركة الإصلاح التي قام بها محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب"[1].

2. صفاته

في تلك الأجواء خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، "وهو من هو غيرة على عقيدة التوحيد ودفاعا عنها"[2]، وقد عُرف "بين الناس بأنه داعية غيور على عقيدة التوحيد، يحب أن يمحو من الأذهان أن هناك وساطة ما بين الخالق والمخلوق"[3]، ولقد كان "يعلم أن الإسلام عقيدة ونظام. وأنه دين يتعامل مع النفس والمجتمع والدولة"[4].

3. كفاحه وآثاره

من هنا بدأت "الحركة السلفية التى قادها فى القرن الماضى محمد بن عبد الوهاب، إن كل غيرة على التوحيد مشكورة، وكل جهد لتنقية العقائد من الشوائب والأقذاء مقدور! ونحن نأبى الإغضاء عن مسالك أقوام يرهبون الأموات أو الأحياء أكثر مما يرهبون الله، ويطلبون منهم ما لا يطلب إلا من الله سبحانه.. وما أعرف مسلما ذا عقل يخاصم هذه الحقائق أو يعترض أصحابها"[5]، وحيث كانت "الظروف التي يواجهها هي التي تحكم عليه بمنهج معين يتخصص فيه ويُعرَف به. رفع محمد بن عبد الوهاب شعار التوحيد، وحُقَّ له أن يفعل؛ فقد وجد نفسه في بيئة تعبد القبور، وتطلب من موتاها ما لا يُطلَب إلا من الله سبحانه"[6].

ومن ثَمَّ "فليس معنى هذا أنه استوعب تعاليم الإسلام كلها إيضاحا وتبيانا.. إن هناك مصلحين آخرين أمكنهم أن ينصفوا جوانب أخرى من الدين نالها الغمط وغطاها الجهل. واهتمام ابن عبد الوهاب بأمر العقيدة ضرب من التخصص العلمى أملى به المزاج النفسى وأوحت به ضروريات البيئة"[7].

"الواقع أن حركة ابن عبد الوهاب من الناحية العلمية سليمة، وقد تكون الوسائل الرديئة[8] هي التي هزمتها"[9]، "ولو رزق محمد بن عبد الوهاب أتباعا ذوى حكمة وبصيرة لكانت الأقطار التى انفتحت له أضعاف مساحتها الآن.. إن الدعاة المصابين بضيق الفطن، واصطياد التهم، وشهوة الغلب يضرون أكثر مما ينفعون"[10].

هذه شهادة رجل هو من أكثر الناس انتقادا لمسلك السلفية المعاصرة، بل ربما يُعَدَّ من ضمن أعدائها، وكم كان بينه وبينهم سجالات عنيفة، وهو أمر لا يفسر إلا في ضوء ما قدَّمناه من قبل عن منهج تفكير الغزالي.

والواقع أن الحركات الإسلامية في مثل حال الأمة هذا تحتاج أن تتعامل مع خلافاتها كتوظيف يتجه إلى التكامل والتضافر، ولعل الأمة لم تؤت من بابٍ أشد وأقسى مما باب تنازع وتفرق العاملين للدين حتى إن بعضهم وظفته الأنظمة الاحتلالية والاستبدادية ليعمل ضد البعض الآخر، وما درى المساكين أنهم يطعنون أنفسهم حين كانوا يطعنون إخوانهم، ثم لم يجن الغالب شيئا بعدما أقصي صاحبه، بل دارت عليه دائرة النظام فصار من المذبوحين إما بيد النظام وحده أو بيد النظام المتحالف مع فصيل إسلامي آخر!!

وباستقراء الواقع فإن الذين يحملون همَّ الدين والعمل له هم أكثر الساعين إلى الاستفادة من كل الطاقات والباذلين الجهود في إصلاح ذات البين وتقريب المسافات، بينما من انصرف عن همِّ الأمة فاعتزل في كهفه العلمي أو محضنه التربوي أو مكتسبه الحزبي أو محرابه التعبدي فإنه يتضخم لديه قيمة ما يفعل ويحقر من شأن غيره وعمله.

وفي هذا المعنى يقول الشيخ عبد الله عزام: "بالمعايشة مع الإنصاف يمكن أن تذوب كثير من الخلافات بين الجماعات وتنصهر الطاقات من شتى المآرب والدعوات في بوتقة العمل الواحد، وعلى حرارة الأحداث وسخونة الوقائع والمشكلات. وبالمعايشة فوق أرض المعركة تبددت كثير من الأوهام، وزال كثير من الغبش واللبس الذي نشأ في الظلام، وأدرك الإنسان أن العمل الجدي الواقعي غير الأحلام العذبة التي تداعب الخيال، وإن الآمال لا بد لها من عظام الرجال لينقلوها إلى وقائع وأفعال. وبالتجربة الحية الواقعية أدركت أن الجماعات الإسلامية يكمل بعضها بعضا، ولا غنى عن التعاون على البر والتقوى، ولا يمكن لأي حركة أن تقيم مجتمعا إسلاميا بدون الاستفادة من طاقات المسلمين، وأن تكسب كل ذرة خير تستطيعها في صالح العمل الإسلامي ابتغاء مرضات الله"[11].




[1] الغزالي، الدعوة الإسلامية في القرن الحالي، (القاهرة: دار الشروق، 1998م)، ص50 باختصار. وانظر: الغزالي، معركة المصحف، ص162 وما بعدها.
[2] الغزالي، السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، (القاهرة: دار الشروق)، ص20.
[3] الغزالي، معركة المصحف، ص162.
[4] نفس المصدر
[5] الغزالي، مستقبل الإسلام خارج أرضه: كيف نفكر فيه، (القاهرة: دار الشروق، 1997م)،ص56.
[6] الغزالي، مائة سؤال عن الإسلام، ط4 (القاهرة: دار نهضة مصر، يوليو 2005م)، ص270؛ الغزالي، معركة المصحف، ص162، 163.
[7] الغزالي، معركة المصحف، ص162، 163.
[8] أغلب الظن، وهو ما يوحي به سياق العبارة، أن المقصود بالوسائل الرديئة هي ما استعملته الدولة العثمانية وجيش محمد علي في تحطيم الحركة الوهابية، وقد تُحمل العبارة بنوع تكلف على وسائل الحركة الوهابية نفسها في الانتشار.
[9] الغزالي، مائة سؤال عن الإسلام، ص295.
[10] الغزالي، مستقبل الإسلام خارج أرضه، ص56.
[11] الشيخ عبد الله عزام، الذخائر العظام، 2/ 728، 729.

الأربعاء، فبراير 21، 2018

أيهما أفضل.. دولة فاشلة أم دولة قوية؟


"المكان الوحيد الذي يلقى فيه الجنود (الأمريكيون) الترحيب بالورود والأزهار تُلقى عند أقدامهم هو الأفلام السينمائية"
مذكرات كونداليزا رايس، ص282.

"كانت (لحظة القبض على صدام حسين) لحظة فرح، لكنني أذكر الآن أننا قد ارتكبنا غلطة، إذ قلت في نفسي: كان يجب أن يذيع النبأ رجل عراقي. ولكن الأوان قد فات لجعل لحظة اعتقال صدام لحظة عراقية وليست أمريكية".
مذكرات كوندليزا رايس، ص295.

***

تكفي هاتان العبارتان لفهم السياسة الأمريكية في الواقع المعاصر، ولفهم دور النظم المحلية ومهمتها، المسألة ببساطة أن الاحتلال الصريح غير مرحب به ويستثير مقاومة الشعوب، بينما تغطية هذا الاحتلال بوجه "وطني" محلي يحقق نتائج الاحتلال بكفاءة أعلى وتكاليف أقل! وهذا هو دور الأنظمة المحلية "الوطنية" التي تدعمها الولايات المتحدة وتدرب لها جيوشها وأجهزة أمنها وتقدم لها الدعم الكافي لتحقيق السيطرة الكاملة على الشعوب. ولهذا ينبغي أن يبدو أي تغيير وكأنه مصلحة وطنية تنفذها يد وطنية وينطق عنه لسان وطني!

على غير ما يتوقع الكثيرون ممن يملأون فضاءنا المقروء والمسموع فإن السلطة "المحلية" القوية المتحكمة في الشعب هي مصلحة أمريكية، بينما السلطة الضعيفة التي لا تتاح لها السيطرة التامة على الشعب هي تهديد بالغ للهيمنة الأمريكية!.. نعم، كما قرأتَ بالضبط! ما يسمونه "الدولة الفاشلة" هو في الحقيقة تهديد للهيمنة الأمريكية!

هل تصدق مثلا أنه بعد أحداث 11 سبتمبر بيومين فحسب اقترح بول وولفوتيز ضرب العراق لا أفغانستان. لماذا؟ لأن العراق يملك جيشا نظاميا فيكون تحقيق النصر عليه أسهل وأسرع، ومن ثَمَّ يتحقق الانتصار المعنوي المطلوب للشعب الأمريكي، بينما الأفغان ليس لديهم جيش منظم وستكون المهمة عسيرة وقد تطول لأن المقاومة ستكون شعبية، وهذا درس الاتحاد السوفيتي لم يبرد بعد! إلا أن طلبه قوبل بالرفض لأن البدء بالعراق قد يسبب شرخا في التحالف الدولي ويمثل انحرافا عن معنى الردّ على الاعتداء الواقع في سبتمبر! لكن تلك المسألة التي طرحها وولفوتيز أُخِذت بالاعتبار، فكانت خطة الحرب تعتمد على وجود أمريكي خفيف، مع الاعتماد على المقاتلين الأفغان المعارضين لسلطة طالبان مع إمدادهم بكل ما في الوسع من معلومات استخبارية وغارات جوية وتفوق تكنولوجي. (مذكرات كونداليزا رايس ص114 وما بعدها).

وفي فقرة أكثر وضوحا وصراحة تقول كونداليزا رايس: "بعد 11/ 9 تبين لنا أن الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا على الولايات المتحدة. فهي لا تستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمن للإرهابيين. لذلك فإن إعادة بنائها يشكل مهمة ضخمة وهامة في آن"، ولا تلبث بعد قليل أن تكشف أن مهمة "إعادة البناء" تستلزم كثيرا من الفرق المتخصصة والمتنوعة لكن "لها جميعا هدفا واحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية ومساعدتها على توفير الأمن والتنمية للشعب الأفغاني". (مذكرات كونداليزا رايس ص139).

هذه هي بوضوح مهمة السلطة الوطنية، أن تمثل خط الدفاع المتقدم للحفاظ على أمن الأمريكان، ولتحقيق مصالحهم في البلاد وتمكينهم منها، ضمن معادلة بسيطة تكون التكلفة فيها على القوات المحلية والغنائم فيها للاحتلال الأمريكي، وقيمة السلطة في أنها أقدر على التعامل مع الشعب لمعرفتها بثقافته وتاريخه وخريطته الاجتماعية وقدرتها على تجنيد مزيد من العملاء تحت شعارات الوطن والوطنية.

تذكرت هذا كله حين عرض علي صديقي وأخي العزيز الباحث أحمد مولانا ترجمة لدليل مكافحة التمرد الأمريكي، ولعلها تنشر قريبا إن شاء الله، ذلك أن هذا الدليل صدر بتوقيع كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في وقتها، وإلى جوارها روبرت جيتس وزير الدفاع.. وكانت الروح السائدة فيه هي ذاتها الروح السائدة في مذكرات كونداليزا رايس والتي دفعتني لإعادة التفتيش في ملاحظاتي التي سجلتها على هامشه.

ولا حاجة إلى القول بأن "التمرد" عند الأمريكان هو أي محاولة استقلالية تحررية تقاوم هيمنتهم والسلطات المحلية الموالية لهم، لكن المهم أننا سنظفر منه بكلام أكثر وضوحا وصراحة، من مثل هذا:

1. "خبرات مكافحة التمرد الأمريكية تستند على عدد من الافتراضات: منها أن الجهود الحاسمة لهزيمة التمرد نادرا ما تكون عسكرية  (على الرغم من أن الأمن هو الشرط الأساسي للنجاح). لذا فإن الجهود الأمريكية يجب أن توجه إلى إنشاء هياكل حكومية محلية ووطنية تخدم السكان، لتحل تلك الهياكل بمرور الوقت محل الجهود التي يبذلها الشركاء الأجانب".

2. "التمرد يمكن أن يزدهر في البيئة الحديثة، فالتوترات التي أوجدتها العولمة بانهيار هياكل الدول الضعيفة، والضغوط الديمغرافية والبيئية والاقتصادية، وسهولة التعاون بين الجماعات المتمردة والمجرمين، وظهور الأيديولوجيات الراديكالية المدمرة، تنبئ بفترة تكون خلالها الحكومات الحرة المعتدلة في خطر. وفي عالم اليوم، لا يمثل فشل الدولة مجرد مشكلة للمجتمعات المحلية، بل يمكن أن يتعدى ذلك سريعا ليشكل تهديدا للأمن العالمي".

3. "من الملح التنسيق بين الأنشطة السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية، وهو ما يتطلب توحيد الجهود بين جميع الجهات المشاركة في مكافحة التمرد: الحكومة المتضررة، والوكالات الحكومية الأمريكية، وشركاء التحالف".

4. "إذا قررت حكومة الولايات المتحدة أن تشارك في مكافحة تمرد معين، فيجب على صانعي السياسات أن يسعوا إلى تحقيق توازن دقيق يستخدم أكثر أشكال التدخل ملاءمة بحيث يبدو أكثر هدوءا وأقل فجاجة وتطفلا، فضلا عن امتلاكه لاحتمالية كبيرة لتحقيق التأثير المطلوب. لابد من الحفاظ على سيادة الحكومة المتضررة، فزيادة التدخل إلى درجة عالية جدا قد تؤدي إلى نتائج عكسية (تاريخيا كانت بعض التدخلات الأمريكية الأكثر نجاحا هي التدخلات غير المباشرة والبسيطة). وبمجرد أن تلتزم الولايات المتحدة بالمساعدة، لابد من وضع استراتيجية لمكافحة التمرد من خلال أفضل أشكال التعاون مع الحكومة المتضررة وشركاء التحالف الآخرين، نظرا لأن إدماجهم المبكر يمكن أن يساعد في التخفيف من آثار الاختلافات على المستوى العملياتي في الأهداف والقدرات والثقافة".

5. "من ضمن المزايا الأخرى لمعرفة المتمردين بأرضهم: فهمهم التفصيلي للجغرافيا والثقافة والتاريخ وعلم الاجتماع والسياسات الخاصة بالبلد الذي يعملون به، وإن كانت الدولة الأجنبية المتدخلة غالبا ستتعلم ذلك. وبما أن الولايات المتحدة لا تواجه حاليا أي تمرد داخلي محتمل، فمن المرجح أن تكون جميع حملات مكافحة التمرد التي تقوم بها على شكل تدخلات خارجية دعما لحكومة أجنبية، أو تدخلات في البلدان الفاشلة/ المنهارة".

6. "كثيرا ما يُنظر إلى التحالفات  المشتركة لمكافحة التمرد باعتبارها تحظى بشرعية أكبر من التدخل أحادي الجانب من جهة الولايات المتحدة. لكنها تتطلب التعاون والتنسيق بشكل فاعل. فإلى حد ما يكون التدخل المشترك أقل كفاءة منه فيما لو تدخلت أميركا بشكل منفرد".

7. هذه الفقرة أنقلها باختصار، وهي تُوَصِّف دور "الفريق القومي الأمريكي" لمكافحة التمرد، وخلاصتها:

تنفذ جميع استراتيجيات مكافحة التمرد ودعم الحكومة المتضررة من خلال الفريق القومي الذي يرأسه أقدم دبلوماسي في البلد المتضرر باعتباره الأعرف بهذه البيئة، ويتمتع بسلطة استثنائية في اتخاذ القرار بوصفه مسئولا رفيع المستوى في وقت أزمة، ويكون الفريق القومي مسؤولا عن التنسيق وتنفيذ الأعمال بين مختلف المؤسسات في بلد الحكومة المتضررة. يبدأ تشخيص التمرد في مراحله المبكرة لتقديم الإجراءات الإعلامية والأمنية والسياسية والاقتصادية اللازمة، ويمكنه الاستعانة بفريق "الاستجابة المدنية" الذي يجري تطويره حاليا بوزارة الخارجية، ويهدف إلى توفير مجموعة خبراء مدنيين في مجال التعمير والاستقرار ممن لديهم القدرة  على الاستجابة السريعة للبلدان التي تمر بأزمات. فإذا قرر استخدام البدائل العسكرية تواصل رئيس الفريق مع القائد العسكري الأميركي الذي  تقع منطقة التوتر ضمن النطاق  الجغرافي لقيادته، ليساعد في استباق حالات التمرد بتقديم المشورة العسكرية ودعم برامج تعزيز الأمن. فإن تقرر نشر قوات قتالية أمريكية لمساعدة الحكومة المتضررة، فالمسؤولية تقع على عاتق هذا القائد. ويجب أن تصمم كل الجهود لزيادة شرعية وفاعلية الحكومة المهددة في نظر شعبها. وهو ما يعني مجهودا تكامليا من الإدارات الأمريكية المختلفة، بما في ذلك تقديم الدعم الميداني للقوات (الوطنية).

أحسب أن هذه الاقتباسات كافية في الدلالة على المقصود، ويمكن للقارئ مراجعة النسخة الكاملة إن أراد المزيد.

الواقع أن مجرد الكلام في هذا الموضوع هو نفسه دليل حالتنا المتأخرة، لا زلنا نحاول أن نثبت ما هو واضح كالنهار، ساطع كالشمس، ملتهب كالنار.. إن مجرد اختلافنا في توصيف الداء بعد قرنين من الاحتلال والهيمنة الأجنبية لهو نكبة، نكبة معرفية خطيرة خطورة الخيانة الثقافية التي يرتكبها محسوبون على النخبة السياسية، مجرد الكلام عن أن الدولة العربية الحالية هي دولة وطنية وهي صيغة صالحة للحكم في عالمنا العربي هو مؤشر على مدى تأخر التحرر. إذ لم يعد ثمة دليل يمكن أن يُساق لإثبات الواقع خيرا من الواقع نفسه، الواقع الذي تحولت فيه الدولة الحالية إلى غول ينهش الشعوب ويخضعها لمصلحة الاحتلال الأجنبي.. وهذا باعتراف الجميع: اعتراف المحتلين الأجانب واعتراف العملاء المحليين أيضا (هنا عشر اعترافات موثقة صوتا وصورة كمثال بسيط).

حتى مقولة "أحسن من سوريا والعراق" تثبت هذه الحقيقة، فالعراق لم تقم فيه ثورة وإنما أضعفها الاستبداد حتى أسلمها فريسة للاحتلال، بينما سوريا التي قامت فيها ثورة نزل الاحتلال إليها ليحفظ بقاء النظام الوكيل.. الاحتلال والاستبداد وجهان لعملة واحدة في عصرنا، كلاهما يدعم الآخر ويحفظ وجوده، ويجب أن نعلم أن علامة نجاح الثورة في مصر أن نرى الاحتلال الأمريكي في الشوارع! تلك هي علامة نجاح الثورة حقا!

هي معركة ضخمة بكل معنى الكلمة، فهي ليست ثورة ضد مستبد، بل هي بالإضافة إلى ذلك معركة تحرر ضد الاحتلال الأجنبي، وهذا هو قدر أمتنا في هذه اللحظات والأيام المقبلة.

الخلاصة: الدولة التي تسمى فاشلة لا تسمى كذلك لأنها فشلت في توفير حياة كريمة لشعبها، بل لأنها فشلت في مهمة التحكم بشعبها فصار هذا الشعب بيئة حاضنة لحركات الاستقلال والتحرر التي تريد التخلص من الاحتلال والأنظمة الوظيفية التابعة له. والدولة القوية لا تسمى كذلك إلا بمقدار تحكمها وسيطرتها على الناس. والمهمة الأمريكية أن تحول الدول من فاشلة إلى قوية لتؤدي هذا الدور.


الأربعاء، فبراير 14، 2018

ملامح خطة عامة للأمة الإسلامية


منذ سمعت أبيات الشعر هذه حتى حفظتها في لحظتها، كانت قوية ومعبرة عن حال الأمة إلى الحد الذي تخترق فيه القلب والعقل معا:

قد استردَّ السبايا كلُّ منهزمٍ .. لم يبق في أسرها إلا سبايانا
وما رأيت سياط الظلم دامية .. إلا رأيتُ عليها لحم قتلانا
وما نموت على حدِّ الظُبا أنَفًا .. حتى لقد خجلت منا منايانا

كان أكثرها قسوة هذا البيت الأخير، فهو يُصَوِّر الأمة وكأنها في هروب جماعي من تكاليف البذل والجهاد والعطاء، والعدو من ورائها بسلاحه يقتنص ويلتقط وينتقي القتلى والأسرى والسبايا، حتى إن تلك الميتات قد خجلت أن تقع.

وبعيدا عن لغة الشعر والأدب، ومدى مبالغاتها ومفارقتها للحقيقة، فالمهم الآن أن الأمة لم تعد تموت وهي مدبرة، بل هي تخوض أشرف المعارك وتحاول التحرر رغم الثقل الشديد للاستبداد المحلي والطغيان العالمي وما أسفرت عنه سنين الاستبداد والاحتلال من فجوة هائلة علمية وعسكرية وسياسية واقتصادية. فلئن كانت الأمة لا تزال تعاني القتل والأسر –كما يصور البيت الأول والثاني- فإنها لم تعد تهرب من المواجهة، بل يموت شبابها وهم مقبلون لا مدبرون، يدفعون ثمن التحرر من أرواحهم ودمائهم وأموالهم وأهلهم..

على أن كثرة التضحيات لا تناسب الحصاد والثمرات، لا سيما ونحن لا نزال في بداية طريق التحرر، ولا تزال عصور الملاحم قادمة، فالعدو الذي ربض على أرضنا ويتمتع بخيراتنا سيبذل كل ما لديه من طاقة بكل ما فيها من التوحش والشيطانية لئلا نتحرر [راجع: مكافحة الوهم وطبقات الاستبداد].

أسباب عديدة تجعل التضحيات أكثر بكثير من المردود، منها الجهل بالواقع وبالسياسة وبالنظام العالمي وأساليبه وبالتاريخ والتجارب السابقة، ومنها حظ النفوس في السلطة والإمارة والوجاهة، ومنها الغلو والإفراط الذي يشوش الرؤية ويستثير الأعداء، ومنها افتقاد الخطة والمشروع والاكتفاء بمنطق رد الفعل... أمور كثيرة، نركز منها في هذا المقال على: الخطة العامة للأمة الإسلامية.

1.   نظرة عامة كبرى

تعاني الأمة استضعافا عاما، من أقصى مشرقها إلى أقصى مغربها، إلا أن التفكير في الإصلاح لن يكون بالسعي وراء كل فرد في هذه الأمة المليارية لنصلحه، إن اتساع المكان وكثرة البشر فضلا عن تجارب الأمم لا تقول بهذا.
يصوغ بعضهم "نظرية العواصم"، ومعناها ببساطة في موضوعنا هذا، أن كل هذه الأمة المليارية يمكن إصلاح أحوالها عبر إصلاح أحوال مناطق معينة رئيسية مركزية منها، فنحن إن اجتهدنا في تحديد أهم البلدان التي تصلح بصلاحها مناطق واسعة سنكون قد اختصرنا الطريق كثيرا. ثم لو استطعنا تحديد العواصم المركزية الملهمة في تلك البلاد فسنكون قد اختصرنا الأمة المليارية في مدن محددة.

بعد تفكير وبحث طويل مع العديد من عقول الأمة الذين التقيتهم عبر السنوات الماضية، كانت الآراء تؤول إلى هذه المدن الست: القاهرة، مكة، اسطنبول، دمشق، بغداد، الجزائر.

هنا مفاصل الأمة ومراكزها وعواصمها، إن استطاعت الأمة تحرير هذه العواصم وإقامة دول مستقلة تملك قرارها وتستطيع حماية نفسها، فهي قد خطت أكثر من نصف الطريق نحو التحرر النهائي للأمة. ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا أن هذه العواصم هي أواخر ما سقط من الأمة في رحلة الاحتلال الغربي التي بدأت قبل 500 عام ولا تزال مستمرة، لكنها أخذت في قضم أطراف الأمة، حتى كان سقوط كل عاصمة من هذه ضربة هائلة.

تبدو اسطنبول الآن أقرب هذه العواصم للتحرر ولامتلاك قرارها، وكانت ليلة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا ليلة للأمة كلها. مثلما كانت ليلة فوز الرئيس مرسي وليلة الانقلاب العسكري عليه ليلة للأمة كلها. وقد التقيت من أقليات الصين وإفريقيا وأوروبا ما أدهشني وأفزعني في الوقت نفسه: لم أكن أتخيل أن الانقلاب على مرسي في مصر قد ألقى بآثار بعيدة على المسلمين في الصين وأدغال إفريقيا والأقليات في أوروبا وروسيا والأمريكتين أيضا.

تلك العواصم ذات أثر هائل بعيد في كل الأمة، بما لها من عمق تاريخي وحضور ثقافي وقوة بشرية وموقع استراتيجي.. وهو أمر يعرفه العدو ربما أكثر مما نعرفه نحن، ولذلك فمعركة التحرر في هذه العواصم هي أصعب وأعسر المعارك الحضارية الكبرى. ولذلك لا يجدي الهروب منها بحال فإنها واقعة لا محالة، ولا بديل عنها، اللهم إلا إذا تخيل أحد أنه بالإمكان –تجنبا لمعركة التحرر- هداية مليار ونصف المليار شخص كل على حدة، هذا مع أنهم إذا اهتدوا فسيخوضون المعركة أيضا مع الاحتلال الأجنبي الرابض!

2. الفرصة السانحة

لئن كانت تلك العواصم مؤثرة في الأمة كلها فإن من حقائق الواقع أنه قد صارت لكل بلد منها مع طول فترة انقسام الأمة ظروفها ومشكلاتها وأوضاعها التي تجعل بعضها أقرب من بعض إلى لحظة الثورة والتحرر والتغيير. ولذلك بقدر ما تبدو عواصم كدمشق والقاهرة أقرب إلى إمكانية التحرر، تبدو عواصم أخرى أبعد في المدى المنظور كبغداد والجزائر، ويثور الخلاف حول مكة ما إن كانت قريبة أم بعيدة.

في تقديري أن أهم عاصمة مرشحة الآن لحصول التغيير فيها هي القاهرة، بل إن مجرد انفلات القاهرة من الهيمنة الأجنبية الغربية هو بحد ذاته مسكب واسع للأمة وخسارة واسعة لعدوها، [راجع: عاصمة الثورة]

ولهذا فالمعركة حولها ستكون هائلة، لكن كثيرا من الأوضاع الطبيعية والظرفية تجعل الأمر أسهل من أوقات كثيرة مضت:

فمن الأوضاع الطبيعية: أن القاهرة تختزل كل مصر، ولذلك ثورة مصر تندلع في القاهرة وتنتهي في القاهرة، لا كغيرها من البلدان التي ربما تقضي الثورة سنين قبل أن تصل إلى العاصمة. ومن الأوضاع الطبيعية أن الثورات فيها لا تطول لطبيعة القاهرة وناسها وطبيعة موقعها الجغرافي العالمي الذي يجعل كثيرا من الأطراف تحرص وتنحو إلى التهدئة.

ومن الأوضاع الظرفية وجود ثورة لم تنطفئ ولا يزال طيفها يداعب الخيال ويغري بالتكرار لدى كثيرين، ووجود حالة سخط شعبية عارمة على السيسي ونظامه، ولا تزال قوات الأمن والجيش غير محترفة ولا يمكنها الصمود في معركة شعبية غير سلمية، والبديل المتوقع في مصر ليس خطرا جذريا على المصالح الأجنبية والنظام العالمي بما يجعل الدفع الأجنبي مائلا نحو استكشاف البدائل واختبارها لا نحو إشعال معركة دموية حفاظا على السيسي.

مجرد اهتزاز النظام العسكري في مصر يساوي ما يشبه انقلابا في الخريطة السياسية الإقليمية، ويلقي بآثاره على غزة وليبيا والسودان والخليج والشام وتركيا، أما لو توقعنا بأن الثورة استطاعت تحرير مصر فسنكون في مستوى آخر من الآمال والتطلعات، ويكفي فقط أن يتكون محور مصري تركي ليكون هذا بداية وجود الأمة كفاعل على المستوى الدولي [راجع خلاصة هذه الدراسة].

3. ما يلزم حركة التغيير

أحسب أن لو كان للأمة خليفة يستطيع تجنيد طاقة الأمة في معركة بعينها لم يكن أمامه إلا معركة مصر في الوقت الحالي. ولو أن كل صاحب طاقة ومجهود في خدمة الإسلام أنفق من طاقته في معركة الثورة المصرية لعاد عليه هذا بأكثر مما يعود على المستثمر ما ينفقه في المشروع التجاري والمالي.

أهم ما تحتاجه حركة التغيير في مصر قيادة ثورية راشدة، تجمع بين الفهم للواقع وضغوطه وإكراهاته مع تمتعها بحلم كبير وأمل واسع وثقة في الأمة وقدراتها، فالأمة لم تخذل قيادة ناصحة راشدة من قبل، بل الأمة تفاجئنا في كل مرة بما لم نكن نتوقع.

ويجب أن يكون لهذه القيادة جهاز أمني، يجمع المعلومات ويضعها في صورة الواقع، فلا تكون كالتي تضرب وتخبط خبط عشواء لا تدري أين تضرب ولا من تصالح، من تعادي ومن تصادق ومن تتجاهل، فلا تقع بهذا تحت طائلة التضليل والإشاعات ولا تحت قصف الإعلام ونباحيه ولا تحت خيالات وتصورات المتفلسفة والمنظرين الذين تكونت أفكارهم من الكتب والأكاديميات وحدها، فأولئك ولو كانوا مخلصين وقامات علمية إلا أن حظهم من معالجة الواقع ضئيل ومضلل أيضا.

إذا وُجِد هذان فما سواهما أهون وأيسر، فالطاقات المطلوبة موجودة في الأمة لكنها كالمتناثرة لا تجد الخيط الجامع لها، ولا الملتقي الذي تتكامل فيه.. وصحيحٌ أن الناس كإبل المائة لا تجد فيها راحلة، إلا أن أمتنا أكثر من مليار ونصف المليار، ولهذا فرواحلها ملايين الرواحل.

إذا تمكنت هذه القيادة من تقديم خطاب إسلامي جامع، يجمع بين الرشد والنضج وبين التمسك والحماسة له، وسارت برؤية تهدف إلى تمكين المجتمع وإخراجه من عبودية "السلطة/ الدولة" [راجع طبقات الاستبداد] فهنا يكون قد بدأ طريق نهوض الأمة الإسلامية.

بهذا التصور يمكن لجميع المتشوقين لنهضة الأمة أن يكون له عمل ودور، في مجاله وتخصصه، في جمع المعلومات وتكوين خريطة المجتمع والنافذين فيه وشبكة العلاقات المهيمنة عليه وامتداداتها الخارجية والداخلية، في فهم وترتيب الأولويات المتعلقة بإصلاح كل مجال، في صياغة الخطاب الدعوي والإعلامي والسياسي والخارجي لمختلف الشرائح والفئات.. كل هذه الملفات ستشتد الحاجة إليها وسيتلهف عليها كل ساعٍ للإصلاح، وكلما صيغت الحلول على أنماط مجتمعية لا على قرارات سلطوية كلما كان تنفيذها أيسر وأسرع، وكلما رفع عبئها عن تلك القيادة المنتظرة.

ولعلنا في يوم قريب نهجر قول الشاعر الذي افتتحنا به المقال، لننشد مع الشاعر الآخر:
يا أمة الإسلام فجرك نوَّرا .. والروض في ساحات مجدك أزهرا
سُحُب المعالي في سمائك أمطرت .. غيثا، وأجرت في رحابك أنهرا
نشرت رياحك في جوانب كوننا .. أمنا، وإيمانا، وفكر نيِّرا
لبست به الأشجار ثوبا مورقا .. وغدت به الصحراء روضا أخضرا

لا تسمعوا لحمزة نمرة

لم أفكر في سماع أغنية حمزة نمرة إلا حينما رأيت صديقا أحسبه من الصادقين يقسم بالله أنه لم يستطع أن يكملها، من فرط ما فيها من طغيان الشعور.. لم يبعد الأمر كثيرا عما ظننت، لا حاجة إلى القول بأن الأغنية احترافية ومؤثرة ومعبرة عن شباب الربيع العربي المقهورين، نجاحها هو أبلغ ثناء وتعبير.

على أني أنتهز الفرصة هنا لأسجل بعض الخواطر التي أراها ضرورية لهذا الجيل، وهي خواطر حول الظاهرة والأزمة والأغنية، ولا تتعلق بحال بشخص حمزة نمرة، وإنما لهجة العنوان لغرض التشويق لا أكثر.

(1) أدركوا اللحظة الفارقة

اللهم فُكَّ أسر شيخنا الحبيب الكبير، الأسير البصير: حازم صلاح أبو إسماعيل! لم ير الناس في زمنه مثله، ولا رأى مثل نفسه.. ويعلم الله أني أكره المبالغة في الثناء والمدح.

لم يكن "أدركوا اللحظة الفارقة" مجرد شعار، كان خلاصة خبرة بالتاريخ والحياة، كان هذا الشعار نقيضا لخرافات وأوهام مثل "ميدان التحرير موجود"، "الشعب المصري بعد 25 يناير لن يعود أبدا كما كان قبل 25 يناير".. إلخ! وهي الشعارات التي صدمني أن سياسيين ومتخصصين في العلوم السياسية أطلقوها، وهو ما يفسر نكبة أمتنا حقا.

إن قوة اللحظة الثورية وعنفوانها لا تستمر إلى الأبد، هنا تظهر أعاجيب الشعوب، وهنا تتراجع سطوة السلطة، هنا يتحول المقهورون إلى جبابرة، ويتحول الجبابرة إلى حديث التهدئة والتفاهم والحوار.. هنا يرتجف السلاح بيد السلطة إذ تسقط هيبتها.. ويتفجر الأمل ويرتفع السقف لدى الذي عاش حياته كسيرا مقهورا.

§      في زمن الثورة وتباشيرها يكون الخطاب مفعما بالقوة والقدرة: احلم معايا ببكرة جاي، ولو مجاش احنا نجيبه بنفسنا.. إنسان جواك وجواي، إنسان له حلم له غاية
§      في زمن تباشير الهزيمة، يتحول الخطاب إلى مزيج من القلق والتردد والشكوى مع أمل يقاوم الخفوت: تذكرتي رايح جاي.. حياتي عمرها ما كانت باختياري.. يا مظلوم ارتاح، لك يا ظالم يوم
§      في زمن الهزيمة: بتودع حلم كل يوم، تستفرد بيك الهموم.

كان هذا المصير يراه الناصحون الصادقون، وكان حازم أبو إسماعيل إمامهم وأفصحهم فيه.. كل تطويل في المرحلة الانتقالية يعني هزيمة الثورة لأنه يعني خفوتها، وكل تأخر في الإجراءات الثورية يعني هزيمة الثورة لأنه يعني خفوتها لصالح استعادة النظام القديم لنفسه، وكل تأخر في مقاومة الانقلاب يساوي تمكنه.

لهذا بُحَّت الأصوات في التحذير من كل هذا، من تطويل الفترة الانتقالية، من برلمان غير ثوري، من رئيس غير ثوري، من أغبياء يتصورون أنهم أسقطوا الأنظمة بالهتاف في التحرير وحسابات تويتر! وأنهم قادرون على إعادة اللحظة كلما شاؤوا بغير أي تأمل في تبدل موازين القوى.. كما بُحَّت الأصوات ولا تزال في أن كل تأخر في مقاومة الانقلاب تساوي مضاعفة ثمن خلعه، والقاعدة مضطردة.

كشفت الأيام أن من صرخوا "يسقط حكم المرشد" و"النظام القديم لن يعود" و"ميدان التحرير موجود" و"العسكر في خدمتنا" منخدعين مغترين باللحظة الثورية غافلين عن قيمة الزمن.. كل أولئك إما صاروا في حضن النظام ومن منافقيه، أو من الساكتين الخانعين، أو من الضحايا في السجون والمنافي.

تماما مثلما كان يصدح حمزة نمرة يحرض على انتزاع الحلم إن لم يأتِ، ثم صار مستسلما للأحلام وهي تودعه كل يوم!
الثورة لحظة فارقة.. وأحسب أن الأمل لم ينته بعد، ولكن يجب ألا ننخدع بزخارف القول وهتافات الحالمين، فهاهو ميدان التحرير موجود، ولكن من يدفع كلفة الاقتراب منه الآن؟!.. ألا حفظ الله حازم صلاح أبو إسماعيل.

(2) الوقوف عند الحزن

صناع الحياة ومن يكتبون التاريخ لا يتوقفون عند لحظة الحزن.. بل يستنفرون عندها كل طاقتهم ليُفلتوا منها دون أن تأسرهم.. بل هم لا يسمحون بوجودها ويعملون على محاربة اليأس والإحباط ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولقد مدح عمرو بن العاص الروم لأنهم "أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وأحلمهم عند فتنة".. سرعة الإفاقة، وسرعة العودة إلى المعركة، ولا تزلزلهم المحنة فتطير صوابهم.

قبل نحو عام كتبت هذه الكلمات كمحاولة لفهم سيرة النبي وخلفائه في هذا الموضوع، أحسب أن إعادتها هنا مفيد:
"يوم اليرموك، نظر رجل من المسلمين فرأى حشود الروم الهائلة الممتدة فقال: ما أكثر الروم وما أقل المسلمين! فسمعه خالد بن الوليد فقال له: بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين.. إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالهزيمة.

كلمة ذهبية في أحوال النفس والجماعات.. ما تُغني الجموع الكثيرة إذا كانت تنهزم مرة تلو الأخرى (وهي حالة الروم يومئذ)، وكيف تقوى الجموع القليلة طالما تنتقل من نصر إلى نصر. كان بعض جنود الروم في اليرموك مربوطين إلى بعضهم بالسلاسل، فقد استشعرت القيادة أنهم قد لا يثبتون لهجوم المسلمين، فكان هذا مما ساهم في ارتباك انسحابهم ووقوع بعضهم فوق بعض!

لماذا أقول هذا الآن؟

أقوله لأن خبر براءة مبارك النهائي أضفى على الشباب مسحة يأس وحزن وأسف، وصار بعضهم يذكر بعضا بما قالوه من قبل: لو مبارك خد براءة هنزل التحرير ملط.. لو أمن الدولة رجع هفجر نفسي.. الموت أهون من أن يعود نظام مبارك.. إلخ

نعم، في كل اللحظات كان ميزان القوة المادية لصالح السلطة، لكن النظام وهو يعاني الارتباك والتردد والضعف كان ينهزم أمام الثوار الذين زادتهم انتصاراتهم قوة إلى قوتهم! أما بعد تلك الهزائم، فقد انقلب الحال.. وصار الضابط لا يتردد في أن يهاجم جمعا بمسدسه، بينما كان قبل ذلك يفر أمامهم برشاشه، وربما كان الجمع نفس الجمع والضابط نفس الضابط!

سُئل أبو مسلم الخراساني: من أقوى الناس؟ فقال: كل قوم في إقبال دولتهم.

كلمة ذهبية أخرى تفسر لك حركة الناس والتاريخ.. ولعله لهذا لم يسمح النبي أبدا أبدا أن تتكرر عليه هزيمة، ما إن وقعت في أحد حتى استعد لها في حمراء الأسد في اليوم التالي، بل وأمر ألا يخرج معهم إلا من كان معهم بالأمس! ثم هو لم يرض أن تبتلع نفوس المسلمين الهزيمة، فصار ينادي عليهم للرد على أبي سفيان: لا سواء.. قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!

ولهذا لم يسمح أبدا أن يتغلغل اليأس إلى القلوب، ففي الخندق حيث الأيام الرهيبة التي وصفها القرآن بالزلزال الشديد بشرهم بفتح فارس والروم واليمن!

ولهذا حين تزلزل جيش المسلمين في حنين، سارع النبي إلى الوقوف بمكان ظاهر ينادي في الناس، ويأمر العباس -لجهورية صوته- أن ينادي، ويذكرهم بمواقف الانتصارات القديمة: يا أصحاب الشجرة (أي شجرة بيعة الرضوان، حين بايعوا على الموت)، يا أصحاب سورة البقرة.. هلموا هذا رسول الله.. ونادى النبي قائلا: أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب، فصار المسلمون -كما يصفهم الرواة- يعودون إلى النبي كما تعود البقرة حنينا لأولادها، حتى أن الواحد منهم إذا لم يطاوعه فرسه على الرجوع ألقى بنفسه من عليه وتركه وعاد إلى النبي.

وهو فقه تَعَلَّمَه منه الصحابة فلم يكد يتكرر عليهم هزيمة إلا وكان النصر التالي في خلال أيام.. فقد هُزِمت جيوش لأبي بكر في الردة -كجيش شرحبيل وعكرمة في اليمامة- فأتبعها بخالد بن الوليد فانتصر عليهم وقضى على ردتهم.. وأخفق جيش خالد بن سعيد بن العاص مرتين أو ثلاثا في حرب الروم فأخرج له أربعة جيوش بقيادة أبي عبيدة وشرحبيل ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص.

وهُزِم المسلمون في معركة الجسر أمام الفرس بقيادة أبي عبيد بن مسعود الثقفي (15 شعبان 13 هـ) فلم تمض عشرون يوما إلا وانتصروا في البويب (13 رمضان 13 هـ). والأمر يطول استقصاؤه، ويقصر المجال عنه.. وانظر ماذا فعل النبي بمن غدروا بأصحابه فقتلوهم!

القصد هو القول بأن النبي، وخلفاؤه، بل وكل ناجح في التاريخ يعرف جيدا أثر الهزيمة على جيشه.. فيبذل كل شيء لئلا تقع، فإن وقعت بذل كل شيء ليمحو أثرها من النفوس! وقد وصف الله عباده المؤمنين بهذا الوصف العجيب الرهيب (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)

نحن ابتعدنا عن هذا المثال كثيرا كثيرا.. نحن لدينا قادة يعشقون الحياة في ثوب المحنة، يستلذون العذاب والتضحية، لا يرون في الهزيمة وتكرار الهزيمة إلا ابتلاء وتكرار الابتلاء.. ثم إن لديهم يقينا عجيبا بأنه ابتلاء حب من الله لا عقوبة منه! لا تدري.. هل اطلعوا الغيب أم اتخذوا عند الرحمن عهدا؟! ثم إنهم، فوق كل هذا، لا يتحركون ولا يعملون عملا فعالا، بل إنهم يوقفون عمل العاملين، يخشون على أنفسهم منهم!! ولا حول ولا قوة إلا بالله!

لأجل هذا كله نقول: لا ينبغي أن تفلت منا لحظة الثورة، التي أراها لم تنته بعد.. فإن إفلاتها عظيم المأساة شديد التكلفة عميق الأثر! ولا ينبغي أن ننشر اليأس لأنفسنا بأنفسنا.. ولا يعني هذا توزيع المخدرات بطبيعة الحال، فالسماء لا تمطر نصرا بغير عمل.. ولكن رب كلمة يأس ثبطت عاملا، ورب كلمة عزم ثبتت عاملا وثبطت ظالما!
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويُقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به)". (انتهى النقل).

المشكلة الكبرى في أغنية حمزة نمرة هذه أنها تقف عند الأحزان، وتبكي على الأطلال.. وليس من الفائدة في شيء أن نفعل هذا بأنفسنا!

(3) منهج الغذاء الصحي

قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما معناه: أن الجسم إذا أخذ حاجته من الغذاء ولو كان مؤذيا زهد في الغذاء الطيب لأنه اكتفى وشبع.. وهكذا النفس إن تعودت سماع الغناء لم يكن لها تأثر بالقرآن لأنها أخذت بنصيبها وشبعت من الغناء فزهدت في القرآن.

القرآن هو الذي بعث هذه الأمة من الرقود والسكون والظلمات، وهو الذي فجر طاقتها حتى كانت حدثا استثنائيا في تاريخ البشر، وحضور القرآن ضرورة لكل نفس وهو ضرورة عامة للأمة لا سيما في وقت ضعفها وفي محاولتها النهوض. يجب أن يحضر الخطاب القرآني على كل مائدة وفي كل جلسة نقاش وفي كل خطة عمل.

لن ينتفع بالقرآن من تشبع بالمصادر المعرفية الأخرى، وتلك على الحقيقة أهم نكباتنا المعاصرة، فالقرآن نور ولكن لا يهتدي به من لا يعرفه ولا يبصره ومن كان محجوبا عنه، (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء إلى صراط مستقيم)، (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقْرٌّ وهو عليهم عمى)، (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)، (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه).

إن عدم الاهتداء بالقرآن مؤشر على الخلل فينا نحن، وهي علامة خطر شديد في الواقع، خطر على آخرتنا، وخطر على دنيانا.. والذي يهمنا في سياقنا الآن أن منهج البكاء على الأطلال والتحسر على ما فات والوقوف عند لحظة الحزن ليس مذكورا في القرآن.. بل القرآن دائم الحث على المراجعة والتصحيح والجهاد وبذل الوسع والأخذ بالأسباب.. مع الوعد بالنصر والتمكين والهداية لمن سعى وعمل (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم)، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)، (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)، (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)، (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا).

فاللهم اجعلنا من أهل القرآن، فقِّهنا فيه، وعلِّمنا منه، واهدنا به..