لعل أحكم تعريف للتاريخ هو أنه "ما يحتاج الناس إلى
تذكره"[1]، وعند بعض المؤرخين والفلاسفة أن التاريخ كله "إنما هو تاريخ من ظهر
في الدنيا من العظماء، فهم الأئمة وهم المكيفون للأمور، وهم الأسوة والقدوة"[2]، وفي زمن الثورات والمواجهات وافتقاد الزعماء الملهمين
يحتاج الناس إلى تذكر زعاماتهم الثورية، التي ودُّوا لو أنها كانت حاضرة تقودهم في
المحنة وترشدهم في المعضلات، وهذا بعض معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا
أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب"[3].
وقد ناهز الشيخ الغزالي ثمانين عاما وقعت فيها ثورتان في
مصر، الأولى (1919م) لم يدركها وإنما عاش آثارها إذ وقعت وعمره عامان فحسب، وأما
الثانية (1952م) فقد عاشها كلها منذ البذور وحتى الثمار، وكان عقدا الخمسينيات
والستينيات حافلا بالثورات في أنحاء العالم العربي والإسلامي، فكان حضور شأن
الثورة وأبطالها واقعا في فكر كل مهموم بحال الأمة فضلا عمن كان في الصدر من
دعاتها ومشايخها كالغزالي. فإن زدنا على هذا أن الثورتين كلتيهما فشلتا وانتهتا
إلى عكس مقصودهما وعادتا على المسلمين بالوبال الذي كان سابقه خيرا منه فلا بد لمن
كان مثل الغزالي أن تكون له في تلك الأمور نظرات وتأملات وآراء أنشأتها المعاناة
ومرارة الحصاد.
خلاصة مشروع الغزالي
يسوق الاستقراء العام لإنتاج الشيخ وتتبع مواضيعه
المُلِحَّة إلى نتيجة مفادها أن نكبة الأمة التي كانت على يد الاستعمار الحقود والاستبداد
المظلم إنما ترجع إلى تخلف الأمة وضعفها، وضعفها هذا راجع إلى أن أهل الدين فيها
لم يقوموا بدورهم الواجب عليهم، وتقصيرهم هذا إما راجع إلى الجهل وسوء الفهم أو
إلى الأمراض النفسية وسوء الخلق.
وهكذا نستبين أربعة أمور متضافرة تعمل على إنهاك الأمة
وإضعافها وإبقائها في الضعف: الاستعمار، الاستبداد، والجهل، وسوء الخلق. ومن تلك
الأربعة تنتج سائر الأمراض:
1. الاستعمار يهودي وصليبي وشيوعي ووثني وكله يفتك
بالمسلمين شرقا وغربا، ويحاول تثبيت هيمنته بالغزو الفكري والثقافي الذي يقوى
ويتمدد في الفراغ الذي تحدثه الأسباب التالية
2. والاستبداد وريث الاستعمار وهو من ثمرته إلا أن له
جذورا في تاريخنا وتراثنا ينبغي التصدي له إلا أنه في حالتنا المعاصرة مدعوم
بالاستعمار وخادم له ومنشيء لأمراض غير مسبوقة من الفساد والمظالم والجرائم.
3. الجهل الذي يُمَكِّن للاستعمار والاستبداد في أرضنا،
وأصله انحراف في الفهم الصحيح للدين يجعل المسلمين متعلقين بالوهم والخرافات أو
لديهم تشوه في النظر الصحيح المعيق لفهم القرآن والسنة ومراتب الأدلة وطريقة الفقه
والترجيح السليم، وهو ما يؤدي إلى انحراف المجهود من مواجهة العلل الحقيقية
والكبرى إلى قضايا هامشية فرعية، وقد يحرف الغاية إلى حرب المصلحين أنفسهم
4. سوء الأخلاق الذي ينتج من سائر الأسباب السابقة ثم هو
يرسخها ويُمَكِّنُها، ويكون من وسائلها وأدواتها في مهاجمة المصلحين وتشويه
رسالتهم وأغراضهم.
والحل الذي دندن حوله الغزالي يتلخص في معالجة تلك
الأمور الأربعة، وتكون بدايته بمجدد أو مجموعة منهم تحقق فيهم رقي الخلق وحسن
الفهم، تبث في الأمة أو في شبابها على الأخص روح الهمة العالية المتسلحة بالفقه
الصحيح لتجاهد موروثات الجهل والضعف ودعائمها من الاستبداد والاستعمار. ونستطيع أن
نضع كل إنتاج الشيخ الغزالي في واحدة من تلك الأربعة، وبتقدير عام نستطيع القول إن
مؤلفات الغزالي انقسمت بين مواجهة الاستعمار والاستبداد من ناحية وإصلاح الجهل
وسوء الخلق من ناحية أخرى، مع زيادة ملحوظة في إنتاجه الموجهة نحو إصلاح الجهل
وسوء الخلق.
على وفق مشروع الغزالي رُسِمت ملامح الزعماء في فكر
الشيخ، فهو حفيٌّ بكل من انطلق من الإسلام[4] فضرب سهما في الاستعمار أو الاستبداد وجاهد أيا منهما،
ثم هو شديد الحفاوة بكل من ضرب سهما في باب إصلاح الجهل وتحطيم الوهم والخرافة أو
في باب إصلاح الخلق وتقويم السلوك وتقديم نموذج في العدل والإنصاف، ثم هو منزعج من كل تعطيل وتشويه
وتحقير يطال أولئك المصلحين القائمين بتلك المهمة.
رؤية جامعة
ولذلك
يجتمع في عقل الغزالي وقلبه من يُنظر إليهم كاتجاهات متقابلة أو متوازية أو حتى
متضادة في وعي آخرين أو في التصنيف المعتمد على اعتبارات أخرى، فالمصلحون الكبار
عند الغزالي الذين تكرر منه ذكر أسمائهم هم "محمد بن عبد الوهاب، وابن إدريس السنوسى، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد
عبده، وعبد الرحمن الكواكبى، وحسن البنا"[5]، وأضاف إليهم في مواطن أخرى أحمد عرابي[6]، واجتمع لديه من الحركات الإصلاحية: "حركة جمعية العلماء فى الجزائر،
وحركة السنوسية فى ليبيا، وحركة الإخوان المسلمين فى مصر، والحركة السلفية فى الجزيرة
على يد المجتهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركة توحيد الجزيرة العربية بقيادة الملك
عبد العزيز.. السلفى العاقل والسياسى المحنك رحمه الله"[7].
ما
يجمع بين هؤلاء عند الغزالي أنهم "نظروا إلى المسلمين
على أنهم أمة واحدة، وإلى أسقامهم الموروثة على أنها علَّة مشتركة، وعالجوها بروح يستهدف
كتاب الله وسنة رسوله مباشرة"[8]، وأنهم كانوا "يحترقون دأبا فى تعريف الجماهير الغافلة بالله وحده ويمسحون
عن قلوبها الذليلة أرجاس العبودية للأوهام والأسماء"[9].
ولا يضر بعدئذ أن تعددت
طرقهم وتنوعت طرائقهم، "فجمال الدين الأفغاني كان مشغولا بالإصلاح السياسى، ونفخ
روح الحياة فى أمة خمدت أنفاسها تحت أقدام الطغاة. ومحمد عبده وصاحبه رشيد رضا كانا
مَعْنِيَيْن بالإصلاح العلمى ومحو الخرافات التى شلت التفكير الإسلامى دهرا طويلا.
ومحمد بن عبد الوهاب ركز اهتمامه فى تطهير الإيمان من أدران الشرك والعودة بالأمة إلى
اليقين المصفى الذى ورثته عن رسولها العظيم"[10].
حفاوة وتقدير
وكان الغزالي محتفيا
بإنجاز أولئك الرجال وحركاتهم أشد الاحتفاء، فهم الذين "أبقوا سرادق الإسلام منصوبًا،
وشأنه مرموقا! على حين كان الساسة الحاكمون يخبطون في دنيا الغرور و الهوى ولا يهتدون
سبيلا"[11]، ويرى أنهم "قدموا للدعوة من الخير ما قدمه مثلا أبو حنيفة ومالك وسائر
الأئمة الفقهاء فى ميدان الفتوى والتشريع، وما قدمه من قبل الخلفاء العدول والفاتحون
العسكريون.. فى ميدان السياسة الداخلية والخارجية"[12]، ولولاهم "لدرست معالم الدين"[13].
ولقد تحسر الغزالي على
لحظات تاريخية فارقة أفلتت من الأمة لأنها لم تحظ فيها بقيادة واحد من أولئك
الزعماء، وقد تساءل آسفا "لو أن جمال الدين (الأفغاني) عاصر مصطفى كمال فى تركيا،
أكانت نهضة القائد المنتصر تميل عن الإسلام هذا الميل؟ أو لو كان محمد عبده العالم
الثائر أو حسن البنا المربي النابه، لو أن أحدهما صاحَبَ الثورة الكبرى سنة 1919، أكانت
تأخذ اتجاهها المدنى (العلماني) المحض مبتوتة الصلة بآلام الإسلام وآماله؟ إن القصور
الشنيع فى أفكار علماء الدين ورؤساء الجماعات الإسلامية يومئذ جر على الإسلام هزائم
متلاحقة"[14].
إنصاف وإعذار وحراسة
ومن هنا نرى الغزالي كثير
التقدير لأولئك الزعماء، كثير الدعوة إلى إنصافهم والاعتذار لهم والإغضاء عما قد
يكون وقع من أخطاء في مسار حركتهم، شديد الحساسية تجاه من يحتقرهم أو يطعن فيهم،
ولديه في هذا مادة غزيرة ومتكررة في إنتاجه، وهو يصرح بأن مسلك هدم الكبار قد يُحتمل
حين تكون الأمة في عفية وسعة، "أما اليوم وهم غنائم باردة لما
هبَّ ودبَّ فليغيروا من سلوكهم وليحسنوا أدبهم مع الله ومع أنفسهم.. فجمع الشمل أولى
والتلاقى على أركان رسالتنا أهم من التخاصم على سفساف الأمور"[15].
بل لقد اعتبر الطعن فيهم
خيانة عظمى، يقول: "أدركت أننى أمام خيانة عظمى، وأن خصوم التوحيد وأعداء الله
ورسوله قد نالوا من أمتنا منالا هائلا!! تحقير لأبى حنيفة فى الأولين، وتحقير لحسن
البنا فى الآخرين، وتبقى أمتنا بلا تاريخ. ثم ينطلق الأقزام والأمساخ يعرضون أفكارهم
على الأمة اليتيمة، لتجرى وراءهم إلى الهاوية.. إننى أحذر من الثقافة المسمومة التى
تقدم للشباب الغض"[16].
وما ذلك إلا لأن الطعن
فيهم ليس مجرد طعن في شخص، فإن "شتم جمال الدين، ومحمد عبده، ورشيد رضا، لا يعنينا
لو كان تجريحا شخصيا، إنه محاولة للقضاء على نهضة أمة ورسالة دين؟ ماذا قلت؟ لماذا
لا يعنينى تجريح رجالنا والنيل من مكانتهم؟ هذا خطأ كبير. إن الجهود المجنونة التى
تستبيح قادتنا وكبراءنا فى ميدان العلم والأدب والسياسة لها غاية يجب فضحها، والتحذير
من مغبتها، إنها تريد القضاء على تاريخ أمة، وعندما تكون أمتنا بلا تاريخ، فلن تكون
أمة، ما قيمة أمة ليس لها رجال؟ وما قيمة دين لم يصنع رجالا على تراخى العصور؟ إنه
لابد من استنقاذ تراثنا من أيدى المسعورين والهدامين، والواقفين على مبعدة ينبحون القوافل
المارة"[17].
ويبدو من تلك العبارات
ضيق نفسه بهذا المسلك في هدم الرجال، وهو أضيق نفسا حينما يكون مدخل الطعن فيهم
سوء فهم الدين واضطراب المعايير، فعندها ينقلب الحال ليكون الطعنُ فيهم أداءَ
واجبٍ في الدين عند فاعله، ومسألة اضطراب المعايير وتشوه الأولويات تلك من أكثر
الأبواب التي خاضها الغزالي مقاتلا فيها حتى لربما اشتط أحيانا وخانته العبارة،
وفي سياقنا هذا يستنكر الغزالي فهم السوء الذي جعل أمثال بعض أولئك الزعماء القادة
ناطقين عن الغرب أو مخالبه في بلادنا، يقول: "وجمال الدين (الأفغاني) ومحمد عبده
ورشيد رضا كانوا ينصرون الإسلام حين يذكِّرون بالشّورَى، وكانوا يستمدّون من تعاليمه
لإصلاح ما ساد عصرهم من اعوجاج، بل لقد كانوا يعالنون بسلفيتهم إذ أن السلفية فيما
يعلم أولو الألباب شيء آخر فوق إحفاء الشوارب! إن الإسلام يضيره أشَدّ الضير أن تختص
أرضه وحدها بأجرأ الناس على اغتيال المال العام والخاص، وأجرأ الناس على تدويخ الشعوب
وإذلال من أعز الله وإعزاز من أذلّ الله. وسيقال: طبيعة نظمه أوحت بذلك أو سكتت عليه.
وهذه في نظرى أقبح فِرْيَة بعد الشِّرْك بالله"[18].
ولا يستنكف هو نفسه أن
يعود فيرجع ويعتذر عن تقييم خاطئ وقع فيه لزعيم مسلم أو حركة إسلامية، فقد صدَّر
الطبعة الثالثة من كتابه "الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية" بقوله: "كنا
قد وقفنا من بعض الصور الاجتماعية والاقتصادية التى كانت قد وصَّلَّتْ إلينا الموقف
الإسلامى الذى أملاه علينا ضميرنا الإسلامى.. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كما وصلنا..
فقد كان هناك شطط فى المصادر التى نقلت هذه الصور وبالغت فى تشويهها..!! وقد أيقنت
بعد تجارب كثيرة أن الحركات الإصلاحية السليمة تخضع لتشويه كبير من قبل أجهزة راصدة
مشبوهة"[19].
نشر في مدونات الجزيرة
[1] ألبرت
حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة: 1798 - 1939، ترجمة: كريم عزقول،
(بيروت: دار النهار، 1962م)، ص19.
[4] الانطلاق
من الإسلام هنا شرط أساسي في اعتبار الغزالي للزعماء، فإنه لا يلتفت لمن اعتمد على
مناهج أخرى في التغيير، ويتلخص موقفه المبدئي في قوله: "الإسلام وحده هو وجودنا
المادى والأدبى، وهو العنوان المشترك بل الموضوع المشترك بين ماضينا ومستقبلنا، ولن
نقبل أن يبتعد حاضرنا عن الإسلام قيد أنملة". الغزالي، علل وأدوية: دراسات
في أمراض أمتنا ووسائل الاستشفاء منها مع تصحيح لما وُجِّه إلى التاريخ الإسلامي
من أخطاء، ط3 (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص80.
[7] الغزالي، الإسلام
والأوضاع الاقتصادية، ط3 (القاهرة: دار نهضة مصر، أكتوبر 2005م)، ص7 (مقدمة
الطبعة الثانية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق