في الأدبيات الغربية المهتمة بالحركات الإسلامية تفريق
واضح بين "التمرد" و"الإرهاب"، وليس التفريق طبعا بغرض الدقة
العلمية أو بغرض الحقوق القانونية، بل بغرض فهم وإنتاج السياسة المناسبة للتعامل
مع الخصم بما يفضي في النهاية لهزيمته وكسره.
أبرز الفوارق بين "التمرد"
و"الإرهاب" أن التمرد مدعوم بتأييد شعبي كبير، فالتمرد يكون ضد حكومة لا
تحظى بالشرعية لدى السكان بينما الإرهاب عكس هذا، فهو عمل مجموعة صغيرة ضد حكومة
مستقرة الشرعية، ولذلك لا يحظى بتأييد الغالبية من السكان. التمرد يستهدف النظام
والسلطة بينما الإرهاب يستهدف المدنيين. التمرد يحاول أن يجتذب إليه قوات الجيش
والشرطة بينما الإرهاب في العموم لا يفعل. وبطبيعة الحال فكل "إرهاب"
يحاول أن يصل إلى مرحلة "التمرد".. ساعتها يكون قد نجح في نزع شرعية
النظام وفي الحصول على دعم جماهيري واسع.
ولذلك فتوصيات الدراسات الأمنية الغربية تفرق بين
الأمرين لأنها تسعى إلى معالجة الحالة بما يناسبها فلا تزداد تفاقما، ولا تزال
أغلب الدراسات الغربية الجادة التي تنشر ما يحدث في مصر تصف الوضع فيها بأنه
"تمرد" لا "إرهاب"، بما في ذلك الدراسات التي تتناول الوضع في
سيناء. وحين أصدرت "راند" تقريرها في 2008 (كيف تنتهي
المجموعات الإرهابية) كانت تعتمد هذا التوصيف. وكان غرضها أن تحاول التعامل مع
حالة تنظيم القاعدة بعدما ثبت خطأ السياسة الأمريكية في التعامل معها ضمن
"مكافحة الإرهاب".
خلص
تقرير راند إلى نتائج تفرق بين التعامل مع "التمرد" والتعامل مع
"الإرهاب"، فالحركات "الإرهابية" ينتهي أغلبها (43%) بالتسوية
السياسية بينها وبين الحكومة حيث يجري احتواؤها ضمن عملية سياسية انتقالية. ثم
ينتهي (40%) منها بالاختراق الأمني المخابراتي المعلوماتي الذي يؤدي إلى اكتشاف
قياداتها ومفاصلها الرئيسية ومن ثم اغتيالها أو اعتقالها، وهو مجهود لا يصلح
للقيام به الأجهزة الأجنبية بل يُلقى على عاتق الأجهزة المحلية الأكثر معرفة
بالبيئة الداخلية. ثم ينتهي (10%) منها بتحقق أهدافها، و(7% فقط) بهزيمتها عسكريا.
وهذا ما يعطي التوصية بأن المكافحة العسكرية هي أقل الوسائل نجاحا في القضاء على
المجموعات "الإرهابية"، فيما يتعاظم العمل حول "الإصلاح
السياسي" ثم "العمل الأمني الاستخباري".
ولاحظ
واضعو التقرير أيضا نتائج أخرى من أهمها:
1.
أن التنظيمات
الدينية هي الأطول عمرا.
2.
أن التنظيمات
الكبيرة أقدر على الصمود والبقاء والانتصار من التنظيمات الصغرى
3.
التنظيمات
التي اشتركت في "تمرد" لا تنتهي بسهولة.
وتلك
النتائج الثلاثة الأخيرة نستخلص منها أمورا في غاية الأهمية والخطورة، وهي على
الترتيب:
1.
أهمية الدين وأنه
أقوى وأرسخ من سائر الأيديولوجيات النضالية، فما من حركة كفاح إلا واعتنقت فكرة،
ومع هذا فقد كانت الحركات الدينية أطول نفسا وأقوى صمودا.
2.
أهيمة الإعداد
وضرورته، فالحركة التي تستطيع أن تكتسب أفرادا أكثر تعبر عن قدرة استيعابية
وتشغيلية، ومن ثم ينعكس هذا على نتائج المعركة.
3.
القدرة على
تثوير الناس والمجتمع والانضمام إلى لحظتهم الثورية يمثل انتقالة فارقة في تاريخ
أي حركة.
اللافت
للنظر في تقرير راند هذا أن الحركة التي تهدف إلى تحقيق الخلافة الإسلامية لا يمكن
التفاهم معها عبر التسوية السياسية (النتيجة الأكثر فعالية في القضاء على الحركات
"الإرهابية")، ومن ثم فلا بد من تفعيل وتوسيع وتعظيم النشاط الأمني
الاستخباري، ثم النشاط العسكري الذي ينبغي –كما يوصي التقرير- أن يُعهد به للجيوش
المحلية لا للجيش الأمريكي.
هذه
المقدمة الطويلة أحاول أن أدخل منها إلى معنييْن على وجه التحديد، أحدهما يتعلق
بكوني واحدا من أبناء الثورة المصرية والحركة الإسلامية المصرية، والثاني يتعلق
بكوني باحثا في التاريخ والحضارة الإسلامية. وهذا مع أن الفائدة الكبرى في هذه
الأمور إنما تكون للمهتمين والباحثين في الشؤون الأمنية والعسكرية.
أولا:
موقع الشرعية في السياسة
يصر
النظام المصري على أنه يواجه "الإرهاب" لا على أنه يواجه
"التمرد"، فالتمرد يطعن في شرعية النظام مباشرة، وقد حاول النظام القديم
منذ أوائل عهد الرئيس مرسي أن يرفع شعار "سقطت شرعيتك يا مرسي"، وأن
يبني لنفسه شرعية بكل الوسائل، ليس فقط بمشهد المظاهرات المصنوعة والمحشودة، بل
أيضا بمشهد الانقلاب الذي جمع الرموز المتنوعة بمن فيهم الفئة التي لا يطيقها
النظام "السلفيون"، ثم بمشهد الاستفتاء على دستور الانقلاب حيث لا بد أن
يصوت عليه أكثر ممن صوتوا على استفتاء دستور الثورة، ثم بمشهد انتخابات الرئاسة
الذي يحوز فيه السيسي 97% من الأصوات، وهي محاولة لتسويق وجود "إجماع
شعبي" و"شرعية كاملة". وإلى الآن تتناثر في خطابات السيسي وقيادات
العسكر التأكيدات على أنه لم يخن ولم يغدر ولم ينقلب وإنما اضطروا للتدخل كي لا
تضيع مصر!
والواقع
أن سائر من يعارضون الانقلاب (الانقلاب نفسه كنظام لا السيسي كشخص) ليس بيدهم ورقة
شرعية ولا قانونية ولا حتى أخلاقية سوى شرعية الرئيس مرسي، وهذا بغض النظر الآن عن
مسألة القدرة أو الإرادة في استثمار هذه الورقة وتفعيلها. فالتخلي والتنازل عن هذه
الورقة هو نفسه تثبيت لشرعية الانقلاب ولشرعية أي انقلاب.
وأخطر
ما تتعرض له الثورة المصرية في لحظتها الحالية هو إيجاد قبول عام بالاستسلام
للنظام، ولمؤسساته، والقبول بأي عرض يرجع الحال به إلى ما قبل 2011. صحيح ربما
نتفهم أن العجز قد بلغ بالبعض أن يقنعوا بهذا (وهنا يجب ألا ننسى أنه عجز صنعوه
بأيديهم بل هم كافحوا وحاربوا بكل طاقتهم كل من أرادوا كسر العجز وتفعيل
المقاومة)، لكن يجب ألا ينسينا هذا أننا نبيع الثورة ونعترف بفشلها ونسلم بانتصار
الانقلاب.
وبالمناسبة،
فنفس الوضع الذي يتم على المستوى المحلي يتم أيضا على المستوى الدولي، فعندما
تضطرب الأمور في بلد ما، ينزل إليها دائما هذا الكائن البغيض المسمى "المبعوث
الدولي"، هذا الكائن له مهمة وحيدة، وهي هدم الشرعيات وتصفير الأوضاع، يدعو
دائما لحوار بين كل الأطراف بلا شروط مسبقة. وهكذا يمثل الصغير كالكبير وتُمسح
مكاسب الشعب السابقة لحساب صناعة اضطراب جديد، ثم لا يصل حواره أبدا إلى حل، بل
يظل يكسب الوقت حتى تعمل الآلة الدولية على دعم عميلها بالمال والسلاح ليسيطر على
الأرض. عندها يسافر الكائن البغيض مرة أخرى معلنا فشل "الحوار الوطني"..
للأسف!
لقد
كتبنا كثيرا جدا في معنى الشرعية من قبل[1]، والجديد هنا
أننا نشير لكون معنى الشرعية ليس مجرد معنى سياسي يختص السياسيون به، بل هو داخل
في صميم العمل الثوري المقاوم، فلا بد للحركة المقاومة من نشر أفكارها ومفاهيمها
التي تؤصل وتبين شرعية عملها وغاياتها، فالعنف الصامت –كما تقول الفيلسوفة
اليهودية الألمانية حنة أرندت- عمل حيواني، وإنما يتميز الإنسان بما يضفيه عليها
من المعنى الشرعى.
وحيث
نتحدث في بلادنا عن حركات المقاومة الإسلامية، ففي أمتنا العربية والإسلامية،
اختفت وذابت الحركات غير الإسلامية ولم يبق سوى الحركات الإسلامية. أقول: حيث
نتحدث عن حركات تستمد حركتها من الإسلام فإن الإسلام يوفر أساسا راسخا ومتينا في
مسألة الشرعية، وهو أساس ضارب في كتب الفقه ويحتفظ بقداسته من نصوص القرآن والسنة،
وهذا ما يجعل نشره بين الناس أسهل كثيرا كما يوفر له من أهل البسالة والتضحية
أفواجا وأمواجا وأمدادا في كل حين.
فالنظام
الشرعي في الإسلام هو النظام الذي يطبق الشريعة..
هذه
العبارة البسيطة لو استطاعت الحركات المقاومة أن تنشرها وتغرسها بين الناس لوفرت
على نفسها جدالات هائلة ومجهودات رهيبة في تكوين وبناء شرعيتها.. وهذه العبارة
البسيطة يُستدل لها من القرآن والسنة وعمل السلف الصالح وسيرة العلماء وجهاد
المجاهدين بمادة غزيرة لا تنفد.. فإن تاريخ الإسلام كله هو تاريخ إسقاط الأنظمة
غير الشرعية لإقامة النظام الشرعي.
وهنا
تلتقي خلاصة التوصيات الغربية والجهادية معا.. فبقدر ما تنتهي الدراسات الأمنية
الغربية إلى توسيع الفجوة بين الحركة الجهادية وبين الأمة، تنتهي التوصيات
الجهادية إلى جسر وردم الفجوة بين الحركة الجهادية والأمة[2].
ثانيا:
شرعية النظام في التاريخ الإسلامي
وهنا
أدخل إلى المعنى الثاني المتعلق بالتاريخ الإسلامي. وسأوجزه كثيرا..
ما
دلت عليه الشريعة وسنة الخلفاء الراشدين أن النظام الشرعي في الإسلام يتوفر بناء
على ركنين: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير.. وهذا مذكور في أول خطبة لأبي بكر
"وليت عليكم ولست بخيركم... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله
ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
والخلافة
الراشدة هي الخلافة التي تحقق فيها الركنان: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير.
فما إن تحولت الخلافة إلى الملك حتى فقدت صفة "الراشدة".
السؤال
هنا: لماذا قبل المسلمون، انتقال الخلافة إلى الملك في لحظة تولي يزيد؟ ثم لماذا
قبل العلماء فيما بعد بولاية المتغلب وجعلوا التغلب من طرق حصول الخلافة؟
الإجابة
بإيجاز وتبسيط شديد هو أن ذلك كان في لحظة اضطرار، في لحظة الاضطرار هذه حصل ما
نسميه في لفظنا المعاصر "التضحية برأس النظام للحفاظ على النظام نفسه"،
نفس المبدأ الذي استعمله الأعداء ضدنا في الثورات المضادة حين تخلوا عن زين
العابدين ومبارك والقذافي وصالح ليبقى النظام. وقد سوومت الثورة السورية في
بدايتها –كما روى رياض الأسعد- نفس المساومة: أن يرحل بشار مقابل الحفاظ على
الأجهزة الأمنية والعسكرية، فلما رفض رياض الأسعد قيل له: إذن ستطول الحرب.
هذا
المبدأ كانت نتيجته: القبول بمن لم تختره الأمة اختيارا حرا طالما أنه سيقيم
الشريعة ويحفظ الثغور وينشر الأمن ويحمي بيضة الدين. ومع هذا فقد بقيت كتب السياسة
الشرعية تؤكد أن هذا اضطرار وأن الأصل هو بقاء ركني الشرعية معا "تطبيق
الشريعة والاختيار الحر للأمير"، ومما ترتب على هذا أن الخارج على المتغلب
ليس خارجا على إمام شرعي، ولا يأخذ حكم الخوارج الذين خرجوا على علي، وأن هذا
المتغلب الجديد إن استقر له الأمر فقد تغلب ولم يُسْعَ في استعادة السابق لأنه لا
شرعية له، بخلاف الإمام الشرعي الذي يُقاتل معه ويُسْعي في استنقاذه إن أُسِر
وإعادته للإمامة، ومن آثار هذا أيضا أنهم لا يبايعون للمتغلب إلا إن استقر تغلبه
وصار في حكم الواقع، وصارت بيعتهم في حكم تحصيل الحاصل. ثم مع هذا كانت حركة
العلماء والمصلحين والثوار لإعادة الأمر إلى نصابه ومقاومة ما عليه هؤلاء من
الانحرافات.
لكن
الشاهد الذي يهمنا في مقامنا الآن هو أن مسألة الشرعية في الإسلام تتعلق أول ما
تتعلق بتطبيق الشريعة، فهذا هو جوهر النظام وأصله وأساسه، بغض النظر عن القائم
عليه وطريقه وصوله للإمامه.. فهذا القبول الاضطراري بالمتغلب وبالتوريث لم يقابله
تهاون في مسألة الشريعة نفسها، بل العلماء يتفقون على أن الحاكم إن كفر فإنه ينعزل
عن الإمامة ويُقام عليه، فإن كان ثمة عجز سُعِي في الإعداد للقيام عليه. فالتهاون
كان في شأن الشخص لا في شأن الشريعة التي هي النظام.
نشر في مجلة كلمة حق
بارك الله فيك
ردحذفاوجزت وكفيت
ليت لنا رجال مثلك