في عام 1936، وهو عام اندلاع الثورة الفلسطينية
الكبرى، أي قبل الإعلان عن دولة إسرائيل باثنتي عشرة سنة، وصل إلى فلسطين شاب
يهودي من بولندا في التاسعة عشرة من عمره، واتخذ قرارا بالاستقرار في
"إسرائيل"، وهناك عكف على البحث والتنقيب في عصر الحروب الصليبية لكن من
زاوية تندر فيها المؤلفات، ولم تمض خمسة أعوام حتى صدرت دراسته الأولى "دور
اليهود في تجارة العصور الوسطى" (1941)، وظل يوالي البحث والتأليف لنصف قرن
بعد هذه المدة، وقد انتقل للاستقرار في القدس الشرقية بعد الاحتلال الصهيوني لها
(1967م)، حتى صدرت آخر مؤلفاته في القدس، وهو "تاريخ بيت المقدس: الحملات
الصليبية والحقبة الأيوبية" (1991)، وهو ذات العام الذي توفي فيه.
هذا الشاب هو يوشع براور، مؤسس وزعيم مدرسة
المؤرخين الإسرائيليين المتخصصة في دراسة الحروب الصليبية، وهو أبرز مؤرخ إسرائيلي
في هذه الحقبة، وتلاميذه هم أهم المؤرخين الإسرائيليين في هذه الفترة، مثل: سلفيا
سكين وبنيامين كيدار وأرييه جرابوا وغيرهم. وقد صدر له بعد وفاته كتاب تكريمي
احتوى على 22 دراسة في التأريخ للحملات الصليبية ومملكة بيت المقدس كتبها أبرز
مؤرخي تلك الحقبة في العالم، ومنهم ستيفن رانسيمان ورايلي سميث وكلود كاهن وغيرهم.
وضع براور كافة طاقته في خدمة الشروع الصهيوني،
ليس فقط من حيث التأليف العلمي الحافل، وإنما بمشاركته منذ أيامه الأولى في القتال
والمعارك، فقد انضم مطلع قدومه إلى العصابات الصهيونية، وأصيب في بعض معاركها،
وعاصر سائر الحروب التي خاضها الكيان، ومات وهو يشهد الانتفاضة الفلسطينية، فختم
حياته بذات المشهد الذي افتتحها به: مشهد المقاومة الفلسطينية المستمرة. وما بين
البداية والنهاية عمل مستشارا للحكومة الإسرائيلية في التعليم، وفي مناصب أخرى
ساهمت في تشكيل الوعي الصهيوني صغارا وكبارا، بل إنني وجدت ضمن خبر منشور (هاآرتس: 28 نوفمبر 2016) أن مريم زوجة رئيس الوزراء الصهيوني ليفي أشكول
عملت كباحث مساعد مع يوشع براور.
أجاد براور خمس لغات: الإنجليزية والفرنسية
والألمانية والإيطالية واللاتينية إضافة إلى العبرية، وكتب مؤلفاته بالعبرية
والإنجليزية والفرنسية، مما أكسبه اطلاعا واسعا على مؤلفات الحروب الصليبية
المصدرية، وكان حريصا على ترجمة بعض الكتب وإعادة نشرها بعد نفاد طبعاتها القديمة
مثل كتاب مؤرخ الكنيسة الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللو، ومتابعا للجديد الذي يصدر
في هذا المجال. إلا أن الذي تميز به براور عن سائر السابقين له هو تركيزه الكبير
على التكوين الداخلي لمملكة بيت المقدس، وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية، وطبيعة سكانها والعلاقات بينهم، كذلك التوفر على دراسة الينابيع وموارد
المياه، ودراسة القلاع التي بناها الصليبيون من حيث كونها مستعمرات للاستفادة
بخبرتهم وتجنب ما قد يكونوا أخطأوا فيه، وله دراسات أخرى عن الحدود الجنوبية والشمالية
لمملكة بيت المقدس.
ومن اللافت للنظر أنه نشر عام 1956 دراسة عن
عسقلان، ثم نشر عام 1967 دراسة بعنوان "إعادة الاستقرار اليهودي في بيت
المقدس الصليبية"، وهو دليل على أن الرجل لم يكن منظرا أجوف ولا كان عمله
مجرد التنظير، بل كان عمله ضمن المشروع الصهيوني الذي يجري تطبيقه على الأرض، ومن
ثم رافق بحثه عن عسقلان العدوان الثلاثي على مصر كما رافق بحثه عن تهويد القدس
احتلال القدس الشرقية.
لا يتسع المقام لأكثر من هذا عن يوشع براور
ومدرسته، ويمكن الرجوع إلى المزيد عنه ضمن كتاب "المؤرخون الإسرائيليون
والحروب الصليبية" للدكتور محمد مؤنس عوض، وعن هذا الكتاب استفدت ما كتبته
هنا، وكذلك إلى مقدمتي ترجمتي كتابيه إلى العربية: "عالم الصليبيين"
بقلم: د. قاسم عبده قاسم، و"الاستيطان الصليبي في فلسطين: مملكة بيت
المقدس" بقلم: د. عبد الحافظ البنا.
والشاهد المقصود من إيراد
كل ما سبق لفت النظر إلى الاهتمام الإسرائيلي المبكر جدا للاستفادة من التجربة
الصليبية، تجربة بدأت قبل الإعلان عن إسرائيل نفسها، لقد استوعب صانعو المشروع
أهمية التأسيس العلمي، كما استوعب العلماء أهمية أن يدرسوا للعمل والتطبيق لا
لمجرد المتعة العلمية وإعادة إنتاج وتوليد نفس الأفكار بعبارات أخرى أو بترتيب
آخر.. وهو درس لا بد من استيعابه في حركتنا لتحرير بيت المقدس.
والواقع أن ما يتسرب من
الإنتاج العلمي الإسرائيلي ليشهد بقوة ونضج ومجهود ممتاز، ولا نزال في العالم
العربي لا نرى شيئا منه، وأحسب أنها مهمة تقع بالمقام الأول على عاتق من يجيد
العبرية سواء من أبناء فلسطين أو ممن يتخصصون في اللغة العبرية.. ونحن على الحقيقة
لن نستطيع خوض صراع مع إسرائيل دون معرفة دواخل مجتمعاتهم والاطلاع على دراساتهم.
لقد كنت قبل أسبوعين في
المؤتمر الدولي السابع عشر لدراسات بيت المقدس، والتقيت فيه أحد إخواننا من عرب
الـ 48، وجرى بيننا حوار حول عبء الترجمة عن العبرية الواقع عليه وعلى أمثاله،
فقال لي بأن المهمة ضخمة حقا، وأن الدراسات الإسرائيلية عن ينابيع فلسطين وحدها
بالعشرات، وعن نباتاتها بالمئات، وعن جغرافيتها بالآلاف، فضلا عن الدراسات
المتعلقة بالفرص والمخاطر الحربية والمواقع العسكرية وغيرها.
المهمة عظيمة حقا.. ولكن
الموارد والإمكانات البحثية في العالم العربي قادرة عليها، وتظل المشكلة الرئيسية
الكبرى التي هي أصل وجوهر كل المشكلات: مشكلة الأنظمة العربية التي تعرف أن مهمتها
حماية إسرائيل وتدمير مقومات الأمة، ولذلك تتعطل كل المجهودات وتتكسر على تلك
الصخرة العتيدة.
وهو ما يعيدنا إلى القول
المكرر دائما: نجاح الثورات العربية هو الطريق الوحيد لإزالة إسرائيل.
***
قبل أيام انتهت في اسطنبول ندوة مئوية الشيخ
محمد الغزالي رحمه الله (وُلِد في 1917م)، وكانت ندوة مباركة سعى فيها وبذل لها
وتابعها الأستاذ الكريم د. وصفي عاشور أبو زيد، وهو من تلامذة الشيخ الغزالي
المهتمين به والمتخصصين فيه، وهو يرفعه فوق كل طبقة عصره وله نحوه عاطفة حارة..
وأحسب أن الله علم صدق نيته فهيأ له الجهود التي تكفلت بإقامة الندوة وطباعة
أوراقها العلمية في مجلدين أنيقين، وكان من عجائب ما وقع فيها أن تلاميذ الشيخ
انبروا في الكتابة عنه حتى إن الشيخ الأسير د. صلاح سلطان كتب خلف القضبان دراسة
في مائة ورقة عن المناهج العلمية والأصولية للشيخ الغزالي في كتاب "السنة
النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وكتب د. جمال عبد العزيز بحثا عن "الغزالي
لغويا" من ثلاثين صفحة في ليلة واحدة. وقد شهد المجلدان حضورا لأعلام الفكر
والدعوة المعاصرين بأوراقهم كالشيخ القرضاوي ود. محمد عمارة والمستشار طارق البشري
ود. عماد الدين خليل والشيخ مجد مكي ود. حلمي القاعود ود. خالد فهمي وغيرهم من
العلماء والدعاة والباحثين، ومن ثم فقد كانت فرصة ثمينة لأمثالي من شباب وصغار
الكتاب والباحثين مجاورة هذه الأسماء.
لكن يلفت النظر أن مئوية الغزالي لم يكن ممكنا
أن تحتضنها مصر وهي بلده، ولا السعودية التي درس فيها وتوفي فيها مدافعا عن
الإسلام وهو مدفون بها، ولا الجزائر التي درس فيها فأثمر وكان ميزانا اعتدلت به
الحالة الإسلامية ولم يزل تلاميذه الجزائريون أسرع الناس إلى الاحتفاء به.. ولا
دولة أخرى من بلاد العرب! لقد تحولت تلك البلاد إلى عواصم حرب على الإسلام وأهله
أو في أحسن الأحوال تتجنب أن يُنسب إليها شيء من نصرة الإسلام وأهله وإحياء ذكرى
مشايخه.
ومن عجيب الاتفاق أن كلا الرجلين: الشيخ الغزالي ويوشع براور وُلِدا في نفس العام (1917)، لكن شتان ما بين ما فعلت إسرائيل في الحفاوة برجلها ومؤرخها، وبين ما فعلت بلاد العرب بشيخها وداعيتها.
نشر في مجلة كلمة حق
كلام جوهري بارك الله فيك.لا بد من إدارة مشاريع مؤسسية من قبلنا بخصوص التعليم و البحث و التمويل و التجميع من دون التعلق بأنظمتنا المجرمة و إيجاد قاعدة تنظيمية صلبة من أجل مواكبة فرص الزمان التي تفيد مشروع نهوض أمتنا.إنشاء محفظة تجمع كبار رجال الأعمال مثلا تتبنى تأسيس مراكز أبحاث و تعليم في الجوانب المحتاجة يستطيع أن يجدي نفعا مثلا و تخصيص دخل على فئة من العلماء و الباحثين حتى يتفرغو للبحث ايضا عمل مركزي في هذا الاتجاه. أفكار عديدة أرجو معرفة ان كان لديك أي معرفة بطرق تنفيذها أو أمثلة ناجحة ان وجدت.
ردحذفكلام في الصميم...وخطوة في الاتجاه الصحيح لمن أراد التقاطها ومتابعة السير
ردحذفمن أول يوم نزل المهاجرين اليهود إلى فلسطين عملوا على بناء بيوتهم بيديهم بغض النظر كونه عاملا أو مهندسا أو طبيب.كل أفراد العائلة تساهم في بناء البيت ليقوى علاقتهم وتمسكهم به. ونحن لانزال نستخدم الشركات الاجنبية في تعمير بلادنا
ردحذفبينما يحتفي الصهاينة بعلمائهم يقوم صهاينة العرب باعتقال وتعذيب والتشويه بعلماء الأمة ومفكريها ،
ردحذفحسبنا الله ونعم الوكيل
ردحذف