من أهم ما وصلني من تعليقات على المقال السابق هو ما ذكره إخواننا المحبون للروايات والمتحمسون لها، يرون أنها لا تقل
أهمية عن المذكرات الشخصية، إذ في كلا الحالتين: يروي المؤلف ما وقع له، وتصطبغ
روايته بالذاتية والانحياز والتوجه الفكري، ويزيد على ذلك في حالة الروايات قدرة
الروائي على نسج الحكاية في أسلوب مشوق وتسلسل جذاب يكون أحسن حالا بلا شك من كاتب
المذكرات الذي إن وفق في تسجيل روايته فلن يوفق في عرضها كما يفعل الروائي.
وفي الحقيقة ليس لدي جديد أضيفه على حجتي التي كتبتها في
المرة السابقة، وخلاصتها أنه مهما سلمنا بهذا، فإن الحقيقة هي المتضرر الأكبر، فالروائي
يحكي خياله، أما كاتب المذكرات فيحكي واقعه، ومهما حاول الذي يحكي الخيال أن يجعله
واقعيا فلن يكون أقرب إلى الحقيقة من الذي يحكي الواقع مهما حاول تلوينه وتوجيهه، ولا
بأس هنا بمثال واحد لتقريب الصورة.
رباعية "الوسية" التي ألفها خليل حسن خليل،
وتحول الجزء الأول منها إلى مسلسل تلفازي مشهور، هذا الجزء الأول ينتمي إلى عالم
المذكرات الشخصية، رغم كونه مصاغا بأسلوب أدبي ثري وقوي.. ثم يأخذ هذا الطابع في
التحول تدريجيا في الجزء الثاني "الوارثون" ثم الثالث
"السلطنة" حتى يأتي الجزء الرابع والأخير "الخلاص" ليكون رواية
تامة، رواية خيالية، يحاول صاحبها من خلال الترويج لفكره اليساري.
بقدر ما كان الجزء الأول كتابة أدبية قوية وذا قيمة
تاريخية ممتازة في مجال التاريخ الاجتماعي، بقدر ما كان الجزء الأخير رواية تافهة
بائسة مثيرة للشفقة. إن الرجل الذي روى صباه وشبابه في أيام الملكية استطاع أن
ينقل صورة نابضة بالحياة، شخصيات إنسانية مركبة تعمل في سياق يمثل بذاته حبكة فنية
دون الحاجة لاختراعها (وبرأيي أن الواقع دائما أشد ثراء وتركيبا من الخيال، ولكن
الموهوب هو القادر على استخراجها)، وظل هذا يخفت في الجزء الثاني ثم يخفت أكثر في
الثالث لحساب فن الرواية حتى جاء الجزء الرابع مؤسفا: شخصيات سطحية وحبكة ساذجة
وحوارات فقيرة.. صورة متكاملة ليساري بائس يحاول الترويج ليساريته دون حتى أن
يحاول فهم خصومه من الإسلاميين والليبراليين، فلم يجد إلا تسطيحهم وتشويههم.
ربما في مقام آخر أتمكن من التوسع والتفصيل في شأن هذه
الرواية، لكنني هنا أضرب بها المثل في مجال أن المذكرات أصدق إنباء من الرواية،
ودليلي أن الكاتب الواحد نفسه لما كتب مذكراته أجاد وأفاد، ولما تخيل رواية يكتبها
كانت الثمرة ميتة ذابلة!
قد يُقال: لعل الرجل لم يُؤت موهبة الرواية، ولو أوتيها
لكان آخره كأوله بل لربما كان أحسن من أوله. وأقول: ربما، وهو أمر أترك النقاش فيه
لمحبي الأدب والرواية، ولكن من موقع الباحث في التاريخ الذي تهمه الحقائق والوقائع
في المقام الأول، والذي يحاول تقريب التاريخ من عموم القراء، أقول: إن موهبة
الرواية هنا ستكون كموهبة التزوير، إنها القدرة على صياغة خيال أشبه ما يكون
بالواقع، وأحسن منه: أن يُسرد الواقع كما كان بقدر الوسع والاستطاعة، فلئن كان
صاحب الرواية التاريخية ذا موهبة أدبية فقد اجتمع الحسنيان: نقل الواقع مع دقة
الوصف.
تلك المقدمة التي طالت كانت تمهيدا لسؤال آخر من أكثر ما
يردني، ويزداد ورودوه مع اقتراب موعد معرض الكتاب، حول المصادر المرشحة لتاريخ مصر
الحديث.. الذي يبدأ من الحملة الفرنسية ويمتد حتى اللحظة الراهنة.
وقبل الإجابة لا بد من ذكر ثلاثة أمور مهمة:
1. أن مصر من أغنى البلاد بتاريخها، فهي لموقعها
وأهميتها وثقلها الثقافي والسياسي كُتِب في تاريخها أكثر من أي بلد عربي آخر، وهي
لطبيعتها الجغرافية لها شخصية حددت جغرافيتها منذ قديم، فلا تختلط مع بلد آخر، ومن
هنا كان المكتوب في تاريخ مصر على يد أبنائها وغير أبنائها من الكثرة والغزارة
والتنوع بمقام لا أحسب أحدا يستطيع الإحاطة به، كما أن المكتوب عنها بغير اللغة
العربية ضخم وثري للغاية. فكل ما يُرشَّح في هذا الباب من أي باحث سيكون قاصرا بل
ومتهما لدى باحثين آخرين لهم بحسب تنوع واختلاف السعة والاهتمام، وفي النهاية
فعملية الترشيح هي اجتهاد ككل اجتهاد يصيب ويخطيء.
2. أن التاريخ هو رواية إنسانية للوقائع، وهذه الرواية
تنتج متأثرة بالبيئة والواقع وعلاقات القوى المسيطرة عليه، وهذا معنى
"التاريخ يكتبة المنتصر" لأن السلطة حريصة دائما على إنتاج المعرفة
والأفكار، ومن هذا الحرص: إنتاج روايتها للتاريخ التي تدعم شرعيتها وأفكارها
وقيمها وغاياتها. لذلك فكلما ابتعدت الفترة المدروسة عن تسجيلها كلما كانت كتابتها
أفضل لخفوت تأثير القوى المسيطرة والكشف عن روايات ووثائق أرادت لها السلطة أو
شبكات القوى أن تختفي، ولهذا ترى مدارس تاريخية أخرى أن التاريخ ينتصر على السلطة
في نهاية الأمر، لأنه يمكن دائما استخلاص التاريخ الذي شاءت السلطة تغيبه. ومن هنا
فبقدر ما نعاني حتى الآن نقصا في مصادر تاريخ مصر الحديث باعتبار أن دولة محمد علي
العلمانية العسكرية الحديثة لا تزال مستمرة، بقدر ما أن معرفتنا بالتاريخ تتناقص
تدريجيا، فنحن نعرف عن دولة محمد علي أفضل مما نعرف عن دولة السيسي، فتظل معرفتنا
تتناقص كلما اقتربت الفترة التي نبحثها.
3. الخلاف حول تفسير التاريخ، كما يقول جلال كشك، ليس
ترفا نظريا وإنما هو في حقيقته خلاف حول المستقبل. ومعنى كلمة جلال كشك ببساطة: أن
الذي يعتبر أن الحملة الفرنسية كانت خيرا ستكون رؤيته للمستقبل نقيض الذي يعتبرها
شرا، كذلك الذي يرى أن محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة وباني نهضتها ستكون رؤيته
للمستقبل على عكس الذي يراه رجل الغرب وممثل مصالحه وأول من مزق المجتمع المصري
وقضى عليه ومكَّنَ للأجانب فيه... وهكذا.
ثم نأتي للكتب المرشحة، وسأكتفي بعشرين عنوانا فقط،
قسمتها في أربع تصنيفات، في كل تصنيف خمسة، وهي في التاريخ السياسي فحسب:
أولا: الكتب ذات المجلد الواحد
- موجز تاريخ مصر في الحقبة العلمانية، أسامة حميد
- تاريخ مصر الحديث، د. محمد مورو
- ودخلت الخيل الأزهر، محمد جلال كشك
- الحركة السياسية في مصر، طارق البشري
- ثورة يوليو الأمريكية، محمد جلال كشك
ثانيا: كتب متوسعة
- عجائب الآثار، عبد الرحمن الجبرتي
- تاريخ الأستاذ الإمام، محمد رشيد رضا
- تقويم النيل، أمين سامي
- حوليات مصر السياسية، أحمد شفيق باشا (وبالتأكيد أن هذا
لا علاقة له بأحمد شفيق المعاصر)
- تاريخ الحركة القومية في مصر، عبد الرحمن الرافعي
ثالثا: المذكرات الشخصية
- مذكرات أحمد عرابي، بتحقيق: د. عبد المنعم الجميعي
- مذكرات اللورد كرومر (مصر الحديثة)
- مذكرات سعد زغلول
- مذكرات محمد حسين هيكل (مذكرات في السياسة المعاصرة)
- مذكرات عبد اللطيف البغدادي
رابعا: كتب مستشرقين
- لمحة عامة عن مصر، كلوت بك
- قاموس تراجم مصر الحديثة، آرثر جولد شميت
"الابن"
- الأصول الاجتماعية والثقافية لحركة عرابي، جوان كول
- التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر، ولفرد سكاون بلنت
- رؤية جديدة لمصر: 1919 - 1952، تحرير: آرثر جولد شميت
وآخران
وفي النهاية أذكر بما تعلمناه من أسلافنا العظماء
العلماء من أن "العلم ينادي بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل"، والعلم لا
يبقى في الصدور إلا حين يريد صاحبه استثماره في الواقع، والثقافة لمجرد الثقافة
عبث وتضييع أوقات وأعمار.
نشر في مدونات الجزيرة
احسنت استاذنا
ردحذف