الاثنين، أبريل 24، 2023

من فضل الله الذي تم علينا في رمضان

يسَّر الله تعالى، بفضله وكرمه وجميل عطائه، إنتاج برنامجين في شهر رمضان الماضي.. ولقد لقيت فيهما من تيسير الله ما لا أحسن وصفه.. فلله المنة والفضل الجزيل.


(1)

أولهما: برنامج "قصة الفتنة الكبرى" التي تتناول ما وقع من الخلاف والقتال بين الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم أجمعين، منذ بداية التمرد على عثمان رضي الله عنه، وحتى استشهاد علي رضي الله عنه.. وقد استفزني إلى سرعة إخراج هذا البرنامج ما أعلنته قناة MBC عن بث مسلسل "معاوية"، وهو ما ردَّت عليه جهات شيعية في العراق ولندن ببث فيلمين عن "أبي لؤلؤة المجوسي" -لعنه الله- وعن السيدة عائشة -رضي الله عنها-.. ثم قضى الله وقدَّر وأوقف بث هذه جميعا.

لقد يسر الله في هذا البرنامج كل شيء، جرى تصويره في أربعة أيام متتالية، بإمكانيات بسيطة، وكنت حينها ما أزال أعاني من أثر الأنفلونزا، ثم تطوّع بالمونتاج له أخ فاضل قدير، ترك ما بيده من عمله وشأنه ليتوفر عليه، وجرى تيسير عجيب في انتقاء كلمات لنشيد التتر ثم تلحينه وتسجيله صوتيا، وكان هذا التتر كله إهداء من قناة التناصح التي رحبت إدارتها بالبرنامج بحفاوة كبيرة، ثم جرى بثه على بعض القنوات الفضائية مثل: مكملين (مصرية) والتناصح (ليبية) والأنيس (جزائرية)، فضلا عن منصات يوتيوب مثل القناة المتميزة "شؤون إسلامية".

وتم فضل الله تعالى بأن لقي البرنامج ما لم يلقه شيء قبله من القبول، وكان أعظم ما أدهشني أن بعض العلماء والباحثين المتخصصين في الفتنة والذين تتلمذت على كتاباتهم، كانوا يتابعونه يوميا، ويمدونني بالملاحظات والتعقيبات بعد كل حلقة، ويثنون عليه ثناء ما خطر ببالي أن يكون أبدا!! والحمد لله أن أغلب هذه الملاحظات كانت في أمور دقيقة جدا وتخصصية -مثل ضبط الألفاظ وأسماء الرواة- لا تؤثر على المادة أو الأفكار.. وانتفعت بذلك أيما انتفاع، وهو ما سأستفيد منه حين يخرج كتابي عن الفتنة إن شاء الله.

وهنا أعيد الشكر والثناء لكافة من أرسلوا إلي تعليقاتهم على منصات التواصل الاجتماعي أو على بريدي أو على وسائل التواصل المختلفة، وأعتذر لهم أني لم أستطع التفاعل مع هذه الرسائل والتعليقات، ولكني قرأت كثيرا منها.. وإذا يسر الله تعالى في الأيام القادمة، فقد نفرد بعض الحلقات أو الجلسات لمتابعة ما ورد من أسئلة وتعقيبات.. فلا تنسونا من صالح دعائكم بعلو الهمة والبركة في الوقت، وأن يرزقنا الله وإياكم الإخلاص في القول والعمل.

وبالأمس، تفضل علي أخي "مصطفى الشرقاوي" بكرم جديد.. وقد تطوع قبل ذلك بأنه يعيد مونتاج الحلقة لضبط بعض الفنيات الدقيقة المتعلقة بالصوت قبل أن يبثها عنده، أسأل الله أن يجزيه عن ذلك.. ثم أتم فضله هذا بأن صنع ملفا واحدا للحلقات كلها (31 حلقة) لتكون في فيديو واحد بمدة 12 ساعة.

رابط السلسلة: https://cutt.ly/I5hPcro

رابط السلسلة في حلقة واحدة: https://youtu.be/QWCvPVya7fk

 

(2)

وثانيهما: برنامج "في أروقة رمضان"

فلئن كان البرنامج الأول صعبا وثقيلا، فهذا برنامج طريف لطيف، كنا نتوقف في كل يوم من رمضان عند حدث وافق حصوله ذكرى هذا اليوم.. فكان كالحديقة أو المتحف، يوما مع ابن خلدون ويوما مع المقريزي ويوما مع المنصور بن أبي عامر ويوما مع ابن ماجه ويوما مع أسامة بن منقذ ويوما مع علي بن أبي طالب ثم مع ابنه الحسن بن علي..

ويوما مع فتح مكة وفتح الأندلس وفتح الإسكندرية وفتح حارم ومعركة البويب وإنقاذ بغداد من الدولة البويهية..

ولم يخل الأمر من أحداث مريرة ومؤلمة قصدنا به أن ننظر في العبرة والعظة منها كالحديث عن الباطنية والقرامطة والمغول وفتنة بابك وثورة إبراهيم بن المهدي العباسي!

وهذه أيضا ثلاثين حلقة جرى تصويرها في سبعة أيام، صحبت فيها الفريق المتميز لقناة "الرافدين" العراقية، والذين لقيت منهم انضباطا واحتراما وحفاوة فوق ما كان منهم من التميز الفني وحسن المتابعة، فالشكر لهم جميعا من المدير العام إلى المدير التنفيذي إلى فريق التصوير والمونتاج.

رابط البرنامج: https://cutt.ly/R5hDHIe


(3)

ثم تفضلت قناة التناصح مرة ثالثة فأعادت -في رمضان أيضا- عرض البرنامج الأخير الذي كان عندهم، هو برنامج "ويبقى الأثر - الموسم الثاني".. وفيه تناولنا مذكرات بعض الساسة والزعماء والأدباء، توقفا عابرا، نلتقط منها بعض المواقف المهمة التي تنير لنا بعض الإفادات التاريخية الثمينة، استفادة من خلاصات مسيرتهم الحافلة!

وسائر هذه الحلقات تجدونها على قناتي على يوتيوب ( youtube.com/melhamy ) أو على منصات هذه القنوات المشار إليها.

أكتب هذا المنشور اعترافا بفضل الله ومنته أولا.. ثم شكرا لكل من ساعد وبذل شيئا في إتمام هذه الأعمال، ومنهم من لا أعرفه ومن لا أستطيع أن أوفيه، ثم شكرا وامتنانا لكل من تابع ووفر من وقته ليستمع وينتفع، ولكل من نفعني بتعليق أو ملاحظة أو دعاء..

وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على الخير المجتمعين في طاعة الله، ثم في جنته ومستقر رحمته ودار كرامته!

الخميس، أبريل 20، 2023

معركة الإسلام في تركيا

  

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..

لا يخفى على مهمومٍ بأحوال الأمة الإسلامية، أنها مقبلة على معركة كبيرة وفاصلة، وهي: الانتخابات التركية في مايو 2023م، وتلك معركة لا يهتم لها المسلمون وحدهم، بل يهتم لها كذلك الغرب والأنظمة العربية، وجميع هؤلاء يعرف ويعلم حجم الفارق الضخم والتأثير العظيم والمدى الخطير بين فوز أردوغان بها وبين فوز كمال كليتشيدار أوغلو، زعيم المعارضة العلمانية.. ولأنهم يعملون، فهم يعملون كذلك!

وبداية، وقبل الدخول في الموضوع، فإن ثمة أمرًا أرى أن العرب في بلادنا لا يعرفونه ويغفلون عنه، وإني أهتم بذكره هنا لأن العرب هم جمهوري الذي يقرؤون ما أكتب.. يحسب الأكثرون أن تركيا تمثل ملجأ للعرب الفارين من بلادهم، سواءٌ فرُّوا من القتل والسجن، أو فرُّوا من الفقر والحاجة.. وهذا جزء من الصورة. من كان في تركيا هنا يعرف أن تركيا صارت ملجأً للمسلمين جميعا! لا للعرب وحدهم!

فهنا في تركيا ترى شعوب الترك والأوزبك والطاجيك والشيشان والقوقاز والتركستان والروهينجا، بل ترى كذلك الذين فَرُّوا من أوروبا وأمريكا بعد أن تبين لهم استحالة المحافظة على دينهم هناك، أو تعرض أولادهم لخطر الاختطاف الذي تمارسه الدول الغربية لأبناء المسلمين إذا هم علموهم دينهم أو حثوا بناتهم على الحفاظ على شرفهن.. فتلك الأمور هي من التهم والجرائم واضطهاد الأطفال عند الحكومات الغربية، وبها ينتزعون الأطفال من أسرهم، وهذا موضوع مأساوي شنيع بشع لا تتسع له هذه السطور.

وإلى فترة قريبة كانت مصر وأرض الحرمين والشام من البلاد التي يهاجر إليها هؤلاء المضطهدون من شعوب آسيا المسلمة من الترك والقوقاز والأوزبك والطاجيك وغيرهم، حتى جاءنا زمان السيسي وابن سلمان وبشار، فإذا بهم جميعا يتقربون من الصين بتسليم المسلمين والمسلمات إليهن، ففرغ الأزهر من شطر كبير من طلابه الآسيويين، لا سيما التركستان، وأما النشطاء الروهينجا فهم الآن في سجون ابن سلمان، ولم يبق طالب علم من أهل القوقاز في الشام إلا وخرج بنفسه إذا لم يُسَلَّم إلى بوتين.. فهؤلاء جميعا تراهم الآن في تركيا!!

ويعلم جميع الناس، أن تركيا لم تصر ملجآ لهؤلاء العرب والمسلمين إلا لأنها تحت قيادة أردوغان، وأنه لو زال عن هذه القيادة غدا لصار هؤلاء جميعا في مهب الريح.. وفيهم العلماء والفضلاء والصالحون وأهل الدين، فضلا عن النساء والأطفال والعجائز!

ولا يخفى على متابع هذا الغزل المتبادل بين المعارضة التركية وبين أنظمة دول آسيا الوسطى وغيرها، ولا نواياهم في إخراج هؤلاء اللاجئين وتسليمهم إلى بلدانهم!

وزيادة في حماية هؤلاء، فقد منح أردوغان لكثير منهم إقامات استثنائية أو طويلة أو دائمة، ومنح كثيرا منهم أيضا الجنسية التركية. ومع أنه أبدى مرونة أو خضوعا (والتوقف عند اللفظ لا يهمني الآن) في إعادة علاقاته مع أنظمة الشر العربية ودولة الكيان الصهيوني، فإنه في ذات الوقت أبدى تصلبا تامًّا وعنادًا حديدًا في مسألة تسليم اللاجئين إليه، مع أن نظام السيسي –كمثال- وضع هذا البند على رأس مطالبه، وأَخَّر من أجله كل ملفات البلد المهمة كغاز المتوسط والوضع في ليبيا، فكان ذلك دليلا آخر على أن هذا السيسي عدو الله ليس إلا رئيس عصابة مجنون بنفسه! ليس له في حب الوطن أدنى نصيب.

والقَصْدُ: أنه لو لم يكن من فضل لأردوغان إلا أنه صيَّر بلده ملجآ للمظلومين لكان ذلك الفضل كافيا في إيجاب دعمه والوقوف من خلفه، كذلك: فلو لم يكن من خطرٍ يترتب على خسارته إلا تشرد هؤلاء الملايين وتعرضهم للطرد والإذلال وخطر السجن والموت وعودة القادرين منهم إلى أوروبا إلى حيث يفقدون دينهم وأبناءهم، لو لم يكن من خطر إلا هذا، لكان هذا كافيًا في تحريم التخلي عن هذه المعركة لكل قادر، فضلا عن تحريم دعم هذه المعارضة ولو بأقل القليل!

ووالله، لو كان أردوغان على هذا الحال ليس إلا رئيسا كافرا لدولة أوروبية، يفعل هذا انطلاقا من شعور إنساني فحسب، لكان المسلمون هم أجدر الناس أن يدعموه ويقفوا من خلفه ويحرصوا على فوزه وبقائه، بل لو قيل: من يحارب معه؟ لكانوا هم أولى الناس بذلك وأسبقهم إليه.. فكيف وهذا الاحتضان للاجئين ليس إلا حسنة من حسناته؟!

ولا أقصد بحسناته هنا الإنجاز الاقتصادي فحسب، وهو إنجاز ضخم هائل يستحق وحده أن يكون سببا كافيا لدعمه ولكن لست أخوض فيه لأن الكلام فيه كثير، بل حتى إنجازه في نشر الإسلام في بلده، ومن كان على مشارف الأربعين –مثلي- فقد شهد بنفسه كيف تحولت المسلسلات التركية من العشق الممنوع والعلاقات المحرمة إلى بطولات أرطغرل وعثمان وألب أرسلان وعبد الحميد الثاني... وغيرها. ولما قدمنا إلى تركيا سمعنا ممن كانوا يقيمون بها قديما ما لا يكاد يصدق عن أحوال هذا البلد الأخلاقية والمعيشية وازدراء أهل الدين فيها.. وهذه أمور لا يُحسن تصورها ولا تصويرها مثلُ الذين عاشوها.. إن أردوغان –في نظر العلمانيين الأتراك وفي نظر الغرب- أعاد فتح تركيا وأدخلها في الإسلام من جديد! وهذه العبارة وإن لم تكن دقيقة إلا أنها توضح لك حجم التحول الذي يرصده الأعداء!

وهو ذاته هذا التحول الذي سترتد إليه تركيا لو فقدت رجلا مثل هذا، وجاء بعده من كانوا قبله! هل تصدق عزيزي القارئ أن المعارضة العلمانية نفسها التي كانت تقنن نزع الحجاب وتطرد المحجبات من المستشفيات لا تترك الآن ملصقا ولا مظهر دعاية لها إلا ووضعت عليه صورة المحجبة؟!!

سيقول السفهاء من الناس ما يحمله على الدفاع عن أردوغان إلا أنه لاجئ في بلده أو حتى مستفيدٌ منه، فلو شئت والله أن أدفع عن نفسي لفعلت، ولكنهم أتفه من أن أضيع معهم وقتا. ولقد قال سفهاء الناس مثل هذا يوم كنتُ أدافع عن مرسي وكانوا يتوقفون في الدفاع عنه (إما لأنهم ثوريون جدا لا يقبلون بخدش نقاء الثورة، أو أهل دين جدا لا يقبلون بأقل من حكم الشريعة)، فأدَّاهم هذا الغلو –في الثورية وفي الدين- إلى أن يكونوا حميرا يركبها السيسي حتى ضاع الدين وضاعت الثورة على الجملة، وصار بعض أولئك كلابا أحذية ينافقون السيسي ويبررون له، وصار أحسنهم حالا طريدا مثلنا، فمن كان ذا نفس سوية أقرّ بالخطأ والندم (وقت أن لم ينفع الندم) ومن كان ذا نفس خبيثة لفَّق لنفسه الأعذار والمبررات!!

ولقد كنا وقتها نحدثهم ونجادلهم بالتاريخ، فنقول انظروا من البديل، وتذكروا عصر عبد الناصر.. فالآن نجادلهم بالواقع ونقول: انظروا من البديل، وتذكروا مرسي والسيسي.. فمن كانت له عند أردوغان مظلمة أو مثلبة أو منقصة فليعلم أن منافس أردوغان وبديله ليس واحدا من الخلفاء الراشدين!!

وفي الأتراك هنا، كما عندنا في العالم العربي، سفهاء من السلفيين والمتصوفين الذين يقولون أيضا إن الديمقراطية كفر وإن أردوغان عميل للصهاينة والأمريكان، ولا يفطن هؤلاء أنفسهم إلى أنهم لا يستطيعون أن يقولوا هذا ولا أن يختاروا ولا أن يتعلموا لولا هذا الفضل الذي جاءهم به أردوغان نفسه.. وكم في الناس من مطموس البصيرة، يورد نفسه الحتوف راغبا راضيا..

ولكن الطريف هنا، أن هؤلاء بدؤوا يظهرون في البرامج التركية، تريد المعارضة بهم أن تصرف أهل التدين عن انتخاب أردوغان لأنه لا يحكم وفقا للدين والشريعة، أو أن تصرفهم عن الانتخاب بالكلية ولينتظروا في كهوفهم حتى يأتيهم من جديد نظام البيعة الشريعة المعقودة من أهل الحل والعقد!!

تماما مثلما فتحت الفضائيات وقنوات التليفزيون المصري في عهد مرسي مساحات للتكفيريين ليقولوا عبر هذه الشاشات: الانتخابات كفر، وكل من شارك فيها كافر.. وفتحوا الباب كذلك لرؤوس المنافقين من المداخلة وحزب برهامي ليقولوا بأن مرسي لا يطبق الشريعة، والعلماني الصريح خير من العلماني المتخفي مرسي.. فجاءهم العلماني العسكري الصريح فجعلهم حيث يستحقون، من لم يكن جارية في بلاط السيسي كان كلبا في حراسته ينبح على من خالفه!

لست فقيها ولا مفتيا، ولكني لا أعرف فقيها ولا مفتيا له من الاطلاع على الواقع نصيب إلا وهو يؤكد على ضرورة دعم أردوغان.. ومما لا يعرفه كثيرون أيضا أن ما لقيه جماعة العلماء من حفاوة وإكرام في هذا البلد ما كانوا يحلمون بشيء منه في بلادهم التي أخرجتهم.. ولا يخلو الأمر من أخطاء.

وفي حدود ما أعرف من الدين، فلا أحسب أن أحدا من المسلمين يمكنه أن يساهم في هذه المعركة بسهم فيسعه أن يتخلى أو يمتنع، وفي مقدمة هؤلاء أولئك الذين حصلوا على الجنسية التركية وصار لهم حق الانتخاب، وكذلك الإعلاميين والكُتَّاب وأهل اللسان والبيان ممن يستمع لهم الناس ويملكون أن يؤثروا فيهم، ومثلهم الإعلاميون الجدد مثل اليوتيوبرز والتيكتوكرز وغيرهم ممن يجمعهم اسم "المؤثرين" (الانفلونسيرز)، فعليهم كذلك هذه المسؤولية الواجبة التي يُسألون فيها أمام الله، فما القضية نصرة حاكم ولا رئيس، بل هي قضية مصير للمسلمين.

وهل ننسى ما كان في واقعنا قريبا، هل ننسى كيف كانت ليلة محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا (15 يوليو 2016م)، يوم أن تعلقت قلوب الجميع بالمشهد التركي، فقام كل عدو لهذا الدين ولهذه الأمة فرحا مسرورا يرجو نجاح الانقلاب، ثم ردَّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. وقام كل مسلم صالح ناصح يرجو أن يفشل هذا الانقلاب فمنهم من نزل بنفسه ومنهم من لم يجد غير الدعاء يبذله!!

نعم، إن المشاعر تُنسى! ولو أن المرء يتذكر هذه الليلة ويتوقع ماذا كان سيكون تأثيرها على المسلمين، لوجد أن السواد التام يعم ديار المسلمين كلها!

وقد طال المقال ولم نقل شيئا عن مواقف الرجل السياسية الخارجية، فليس أول ذلك منعه اجتياح قطر سنة 2017، ولا آخرها إداناته للإساءة إلى النبي ولما يحدث في الأقصى.. ومواقف أخرى طويلة وكثيرة.. ربما ينتقدها البعض الآن ويرى أنها ليست كافية، ولكنه ينسى أن إذا كان غير هذا الرجل في هذا المكان، لكانت هذه المواقف أحلام لا تراود حتى الخيال!

ها نحن نودع شهر رمضان، ولقد رأيت من نفسي ومن غيري حرصهم على الدعاء له في أوقات الإجابة، وأكثر هؤلاء الذين يدعون ويتضرعون لم تمسهم من الرجل منفعة ولا مصلحة، وإنما كانوا مثل جدهم عبد الله بن عمر، يفرح للغيث إذا نزل في أي أرض للمسلمين. وإني لأشهد أن هذا الرجل في هذا الزمن هو من نعم الله الكبرى على أمة المسلمين أجمعين.

الثلاثاء، أبريل 04، 2023

هل يمكن أن يصدر القرآن عن كاذب؟.. نظرة نفسية!

 

جاء نبينا ﷺ بكثير من المعجزات الحسية والمادية، ومع ذلك ظلت معجزته الكبرى والخالدة هي هذا الكتاب: القرآن الكريم..

ومع أن هذا الموضوع طالما كُتِب فيه، إلا أنه بدا لي أمورٌ فيه لم أرها فيما قرأتُ، وإن كنت موقناً أني مسبوقٌ إليها، لكني لجهلي وقلة بضاعتي لم أقع عليها، أو لعلي قرأت ونسيت فبقيت المعاني في نفسي وذهب عني موردها.

 لقد تعددت وجوه إعجاز القرآن الكريم، أي: تعددت الطرق التي يثبت بها أن هذا القرآن هو كلمة الله!

ومن وجوه الإعجاز تعامل النبي ﷺ نفسه مع القرآن، وتعامل القرآن مع النبي ﷺ، أقصد بذلك هذا الأمر النفسي والنزعة النفسية والطبع الإنساني، فإن التأمل في هذا يقطع بأن القرآن كلام الله، وليس كلاماً من عند محمد.. ترى هل يمكن أن يقال عن ذلك "إعجاز نفسي؟!".. الله أعلم! وليس من مقصدي ابتكار الاصطلاحات.. ولكن النظر يحمل على سؤال علماء النفس والخبراء بالطبائع عن الأمر من هذا الباب.. الباب النفسي!

 إن وقفة واحدة، من منظور النفس وطبائعها، مع آيات القرآن تقطع بأن محمداً لا يمكن أن يكون قد أَلَّف القرآن أو جاء به من عند نفسه، ليؤيد بذلك دعواه (الكاذبة) في أنه نبي من عند الله..

 وبداية السؤال تقول: إن هذا الذي يزعم أنه نبيٌّ، لماذا يفعل ذلك؟

إنه ليس أحد زعم لنفسه النبوة إلا وقد ابتغى بذلك أن يكون زعيماً وقائداً وسيداً في قومه، وهذا الرجل الذي يريد ذلك إنما يندفع إليه تحت ضغط نزعة نفسه المترعة بالتعاظم والعجب واستحقاقه الرئاسة.

(1)

 مثل هذه النفس حين تزعم لنفسها النبوة فإنها تُقَرِّب ما بينها وبين الإله، لتأخذ من قداسة الإله ما يرفعها فوق البشر، وتمنح لنفسها من العصمة ما لا يزعمه لنفسه البشر.. فأما محمد ﷺ فعلى العكس من ذلك..

 فمع أن القرآن والسنة كلامٌ نطق به النبي ﷺ في قومه، إلا أنه كان حريصاً وواضحاً في التفريق بينهما، وأن الكلام الأول هو كلام الله بلفظه ومعناه، وأنه يتحداهم به، ويكرر عليهم التحدي أن يأتوا بكلام مثله.. وأما الكلام الثاني فهو ألفاظه هو -وإن كانت معانيه وحياً- وهذا قسم هو لا يتحداهم به، ولا يستغرب عليهم إذا أتوْا بمثله!

 ولا يقع الشك عند من له أدنى معرفة باللغة العربية أن الأسلوبين مختلفان، والفارق بينهما واضح! كذلك لم يقع الشك لدى من حاولوا حفظ القرآن والسنة في أن حفظ القرآن أسهل كثيراً كثيراً من حفظ الحديث!

 فلئن كان محمدٌ ﷺ يطيق أن يأتي بالكلام الأبلغ، والأيسر في الحفظ والتذكر، وإذا كان محمد ﷺ يطيق أن يصدر عنه أسلوبان مختلفان في الكلام والبيان.. فلماذا لم يجعل كل كلامه قرآناً ينسبه إلى الله ويتحداهم به؟!

 لماذا قبل أن يجعل كلامه الأبلغ المعجز كلاماً لله، وجعل كلامه هو في الدرجة الأدنى، حيث لا يتحداهم به، ولا يستغرب عليهم أن يأتوا بمثله؟!

 لقد ظل القرآن يكرر من الألفاظ والمعاني ما يُثَبِّت به منزلة محمد ﷺ:

 1.    فهو بشر لم يجاوز هذه المرتبة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110]

2.    وهو يتلقى الوحي ولا يخترعه: ﴿أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: 110]، ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]

3.    وهو لا يملك تبديل شيء فيه ولا تغييره: ﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: 15]

4.    ومثله في هذا مثل الأنبياء السابقين: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 9]

5.    وأنه لا يعلم الغيب: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: 9]، ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 20]

6.    وأنه كان في غفلة عن هذا كله طوال عمره السابق: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 16]

7.    وأنه لا يملك إعطاء الثواب، ولا يملك كذلك إنزال العقاب. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 46، 47]، وكذلك ﴿لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [الأنعام: 50]

8.    ولا يملك حتى إجراء المعجزات التي تجري على يده ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 109]، ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50].

9.    ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188].

10.          وهو نفسه مُخاطب بهذا الوحي ويخاف إذا عصى ربه أن ينزل به العذاب: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120]، ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾ [الرعد: 37]. 

(2)

كذلك، فمثل هذه النفس الممتلئة بحب الزعامة والصدارة والرئاسة، والتي تتصدر لدعوى النبوة، لا تقبل أن تسجل على نفسها خطاباً لأتباعه فيه ما حفل به القرآن الكريم.. لقد جاء في القرآن أنواع من الخطاب للنبي ﷺ لا يمكن معها الشكُّ في أن هذا من كلام النبي نفسه!

1.    فقد جاء في القرآن العتاب للنبي ﷺ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم: 1]، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس: 1 - 3].

2.    وجاء فيه التخطئة له ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال: 67]، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 105 - 107].

3.    وجاء فيه الامتنان عليه بتعليمه ما كان يجهله، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ﴾ [هود: 49].. وجاء فيه الامتنان عليه بتنبيهه إلى ما كان في غفلة عنه ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3].

4.    وجاء فيه نسخ وإزالة أمور كان قد فعلها النبي بنفسه، فنزل في التبني: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5]، ونزل في المؤاخاة والتوارث بها ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75].

5.    وجاء فيه الكشف عما يكتمه ويستحيي منه: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37]، ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب: 53].

6.    وجاء فيه الأمر الشديد له، والنهي الشديد كذلك ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا﴾ [هود: 112]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1]، ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [آل عمران: 60]، ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ [السجدة: 23]، ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 108]، ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [يونس: 95].

7.    وجاء فيه القطع والجزم بأن الأمر ليس على ما يهوى، ففي أشد لحظة مرت عليه حيث أصابه قومه وأدموه، قال: "كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟"، فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: 128]. ويوم رأى عمه الحبيب ممثلا بجثمانه فأقسم على الثأر له بسبعين نزل قول الله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: 126]

8.    بل وجاء فيه الوعيد له: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 74، 75]، وكذلك ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44 - 47]

9.    وانقطع عنه في مرات احتاج إليه فيها، حتى عرف ذلك المشركون يوما فقالوا: إن ربَّ محمد قد قلاه، فنزل القرآن بسورة الضحى ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 3]. وانقطع كذلك عندما اتهم المنافقون أم المؤمنين عائشة في حادث الإفك، وهذا أخطر موقف يتعرض له رجل زعيم في قومه، وانقطع فيه الوحي شهرًا، فلو كان ﷺ يكذب في موقف واحد في حياته لاصطنع قرآناً في هذا الموقف! وحاشاه ﷺ!

10.          وتحدث القرآن عن زوجات النبي ﷺ حديثاً طويلاً، ما كان للعربي في ذلك الوقت مع شدة الغيرة العربية، ثم ما كان لنفسية الزعيم المتطلع للسيادة والرئاسة أن تقبله فضلاً عن أن تخترعه وتؤلفه: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: 30]، ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: 32، 33]، ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم: 3]. 

(3)

وتكاد كل صفحة في المصحف يُستخرج منها شيء كهذا في خطاب الله لنبيه، يثبت به أن هذا الكلام ما كان ليكون أبداً، كلام رجل كتبه بنفسه، ليؤيد به دعواه في النبوة!

ومن الآيات ما لا يوضع تحت عنوان مما سبق، لكن التأمل فيها يقطع أنها لا يمكن أن تصدر عن رجل يكذب، إذ هي خطاب لا يؤلفه أحد يخاطب به نفسه، فمنها:

 ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94].. فما من كاذب يزعم لنفسه النبوة والوحي، يلقي على نفسه هذه الشبهة، أو يضع نفسه تحت هذا الاحتمال!

 ومنها: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 106، 107].. فما من كاذب يزعم لنفسه النبوة يوجّه إلى نفسه هذا الكلام!

 ومنها: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ [يوسف: 110].. فما من كاذب يزعم لنفسه النبوة، يريد بذلك السيادة، يصوِّر نفسه في هذه اللحظة من الضعف والوصول إلى حافة اليأس!

 وثمة أمور أخرى تدخل أيضاً في هذا الباب، ولكن نتركها لمن يتوسع فيها.. مثل: لئن كان محمد ﷺ زعم النبوة لنفسه رغبة في السيادة والزعامة، فلماذا اهتم بالطبقات والفئات التي لا يرجى منها كثير نفع في هذا المشروع الطموح، بينما تثير قضاياها مزيداً من المشكلات؟!

لماذا كل هذا الكلام عن النساء وحقوقهن في الميراث والمهور والزواج والطلاق، في مجتمع قد استقر فيه الأمر على امتهان المرأة.. إن إثارة هذا الموضوع، ووضع هذه الأحكام لا يأتي إلا بالصعوبات والعراقيل في مشروع الزعامة والسيادة المأمول!

وذات هذا الكلام يقال عن فئة العبيد والموالي، فإنهم في ذلك المجتمع لم يكونوا ركناً يلجأ إليه في حال الضعف، أو قوة يستعان بها في حال الاستعانة! وما تأتي إثارة موضوعهم ولا إعطائهم حقوقهم ولا الحث على تحريرهم إلا بالمزيد من النافرين!

بل أشد من هذا الكلام يقال عن تعاليم النبي في معاملة الحيوان والنبات.. إن الثروة الهائلة في نصوص النبي للرفق بالحيوان ورعاية النبات لا محل لها من الإعراب إن كان النبي رجلاً زعم لنفسه النبوة لكي يتوصل بذلك إلى السيادة والزعامة والرئاسة!

وكذلك لهجة التحدي التي تحداها النبي لبني إسرائيل، وهم أهل علم وكتاب وفيهم بقية آثار النبوات السابقة، فمثلما تحدى العرب أهل الفصاحة بأنهم عاجزين عن مشابهة القرآن، فقد تحدى أهل الكتاب بأنه يكشف لهم ما يخبؤونه من الأحكام أو من قصصهم مع أنبيائهم، أو قصص عقوباتهم كالذين سخط الله عليهم فجعلهم قردة وخنازير.. إلخ!

 إن لهجة التحدي الحافلة التي ينطق بها القرآن، والتي تحرج الخصم إحراجا هائلا، وتضربه في أعمق ما يتميز به.. تلك اللهجة هي مخاطرة لا يقدم عليها كاذب يزعم لنفسه غير الحقيقة!!

فهل يبقى بعد ذلك شكٌّ في أن النبي ﷺ هو رجل الصدق، وأن القرآن هو كلام الله حقا؟! وأنه المعجزة الخالدة!