اختار العباسيون خراسان كمقر انطلاق للدعوة لأسباب
عديدة، وهو درس في اختيار مكان الثورة. ثم أسسوا خلايا سرية تعتمد على توجيهات واضحة في الاختيار والانتقاء
والانتشار والتخفي، فهو درس في تكوين وتأسيس الخلايا الدعوية، واليوم يقدم لنا العباسيون درسا آخر في مواجهة
الاختراقات التي قد تصيب بنيان الدعوة.
اختار بكير بن ماهان داعية
جديدًا ليتولَّى أمر خراسان (118هـ)، فوقع اختياره على عمار بن يزيد، وكان عمار بن
يزيد من النصارى الذين أسلموا في الكوفة، وكان داعية موهوبًا، وأحدث تقدُّمًا في الدعوة
في خراسان، والتفَّ حوله كثير من الأتباع، وكان قد غيَّر اسمه إلى «خداش»؛ وفجأة بدا
أن خداشًا يسير في طريقة أخرى غير طريق الدعوة؛ إذ دعا أتباعه إلى مذهب الخرمية؛ فأحل
لهم نساء بعضهم، وأسقط عنهم الصلاة والصيام والحج؛ باعتبار أن الصلاة المطلوبة هي الدعاء
للإمام، وأن الصيام هو الصيام عن ذكر اسم الإمام، وأن الحج هو القصد إلى الإمام، وكما
فَرَّقَت هذه الآراء جموعًا كثيرة عنه، فهي قد جذبت إليه آخرين من أصحاب الجهل والهوى؛
لا سيما وهو يغلف هذه الدعوات بتفسيرات قرآنية؛ مثل: أخذه بظاهر الآية: {لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا
وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]، ويزعم أنه يقول هذا نقلًا عن الإمام
صاحب العلوم من آل البيت، ولم يكن غريبًا -وقد وصلت هذه الأفكار إلى الدعوة- أن يصل
خبرها إلى والي خراسان أسد بن عبد الله القسري، الذي قبض على خداش وعذَّبه؛ حتى عرف
منه اسم إمامه محمد بن علي العباسي ثم قتله[1].
ما من شكٍّ في أنها أزمة قاسية
نزلت بالدعوة العباسية ورجالها؛ وذلك على مستوى سمعتها بين الناس أو على مستوى انكشاف
بعض رجالها أمام السلطة الأموية، وقد استدعى هذا تحركًا سريعًا؛ إذ قام الإمام محمد
بن علي بإرسال بكير بن ماهان بنفسه إلى خراسان، وهناك قام بكير بمهمتين أساسيتين: أولهما
البيان والشرح بأن أفكار خداش إنما هي أفكار منحرفة، ولا تمت للدعوة بصلة، ولا يرضاها
الإمام، ويتبرأ منها، والثانية إعادة هيكلة الدعوة في خراسان بما يُعالج أي انكشاف
كان قد وقع في هذه الأزمة[2].
وصل بكير بن ماهان إلى خراسان
ومعه رسالتان؛ رسالة إلى العامة، ورسالة أخرى إلى خاصة أهل الدعوة.
جاء في الرسالة الأولى،
وهي طويلة مسهبة، توصيات حافلة واضحة ناصعة تؤكد على معاني تعظيم الله وعلى الزهد
والعبادة والتقوى والصبر والعمل للآخرة، والتحذير من المعصية والاغترار بالدنيا
ونسيان الآخرة ومصاحبة قرناء السوء، وبعد موعظة طويلة ذكر ما فيه إنكاره على
الأفكار المنحرفة التي أعلن بها خداش، وقال "فاتقوا الله ولا تكونوا أشباهًا للجفاة؛
الذين لم يتفقهوا في الدين، ولم يُعطوا بالله اليقين، وإن الله أنزل عليكم كتابًا واضحًا
ناطقًا محفوظًا، قد فصل فيه آياته، وأحكم فيه تبيانه، وبيَّن لكم حلاله وحرامه، وأمركم
أن تتبعوا ما فيه، فاتخذوه إمامًا، وليكن لكم قائدًا ودليلًا، فعليكم به فعوه، ولا
تُؤَثروا عليه غيره؛ فإنه أصدق الحديث، وأحسن القصص، وأبلغ الموعظة، به هدى الله من
مضى من الأولين والآخرين. و {اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 41 - 44]. {وَاجْتَنِبُوا
قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30، 31]، فإن الله
قد بيَّن لكم ما تأتون وما تتقون، فقال لنبي الرحمة: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... } [الأعراف: 33] الآية، وقال لنبيه:
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
... } [الأعراف: 29] الآية. أسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم مهتدين غير مرتابين، والسلام
على المرسلين، والحمد لله رب العالمين"[3].
وقد جاء في الرسالة
الطويلة فقرة تؤكد على معنى طاعة أولياء الأمر، تقول " ولا تقطعوا رحمًا ماسة محقة، ولا ترموا بريئًا، ولا تعصوا إمامًا، ولا تركبوا
زيغًا، ولا تطيعوا إثمًا، ولا تفتحوا مغلقًا، ولا تقفلوا مفتوحًا، ولا تختانوا ولاة
أموركم، وأحسنوا مؤازرتهم وصيانة أمرهم، أعينوهم إذا شهدتم، وانصحوا لهم إذا غبتم،
وأقسطوا إذا حكمتم، واعدلوا إذا قلتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدُّوا إذا ائتمنتم، واصبروا
إذا ابتليتم، واشكروا إذا أعطيتم".
وهذه الفقرة عليهم تحتمل معنيين؛
الأول: أن محمد بن علي العباسي لما علم بأن خداشًا قد انتسب إليه سارع بتبرئة نفسه
علنًا أمام بني أمية برسالة يرسلها إلى عامة أهل خراسان، ويتولى تسريبها إليهم بكير
بن ماهان، فكان طبيعيًّا أن يُعيد التأكيد على براءته من فتنة خداش البراءة من الأفكار
المنحرفة عن الدين، والبراءة من الدعوة للثورة على بني أمية. والثاني: أنها رسالة إلى
عامة أهل الدعوة لا إلى عامة أهل خراسان، وحينها ينصرف معنى ولاة الأمور إلى قادة الدعوة
لا إلى أمراء بني أمية؛ رغبة في ضبط الأفراد داخل سياق التنظيم، وإلزامهم عدم الاجتهاد
من أنفسهم في شيء قد يجر على الدعوة وبالاً كثيرًا.
وجاءت الرسالة الثانية التي
هي خاصَّة لأهل الدعوة قصيرة مركزة مباشرة: «أما بعد؛ عصمنا الله وإياكم بطاعته وهدانا
وإياكم سبيل الراشدين. قد كنتُ أعلمتُ إخوانكم رأيي في خداش، وأمرتهم أن يبلغوكم قولي
فيه، وإني أشهد الله الذي يحفظ ما تلفظ به العباد من زكي القول وخبيثه، أني بريء من
خداش؛ وممَّنْ كان على رأيه ودان بدينه. وآمركم ألا تقبلوا من أحد ممن أتاكم عني قولًا
ولا رسالة خالفت فيها كتاب الله وسنة نبيه والسلام[4].
وكان محمد بن علي قد أرسل
رسالة أخرى مع قحطبة بن شبيب الطائي؛ لكنه تأخَّر لمرض أصابه، وكان نصُّها: «وفقنا
الله وإياكم لطاعته، قد وجهت إليكم شقَّة مني بكير بن ماهان، فاسمعوا منه وأطيعوا،
وافهموا عنه؛ فإنه من نجباء الله، وهو لساني إليكم، وأميني فيكم؛ فلا تخالفوه، ولا
تقضوا الأمور إلَّا برأيه، وقد آثرتكم به على نفسي لثقتي به في النصيحة لكم، واجتهاده
في إظهار نور الله فيكم والسلام"[5].
وكانت هذه الرسالة بمثابة
تفويض لبكير بن ماهات الذي بدأ في إعادة هيكلة التنظيم العباسي السري في خراسان
(118هـ)، فجعل الدعاة على مراتب ودرجات؛ فالهيئة العليا للدعوة في خراسان سماهم النقباء؛
وعددهم اثنا عشر، اختارهم أهل الدعوة في خراسان ليكونوا رؤساءهم، ثم في المرتبة الثانية
مجلس مكون من سبعين رجلًا (هيئة تأسيسية) يضمُّ الاثنى عشر نقيبًا، فهؤلاء هم رؤساء
الدعوة في مرو (عاصمة خراسان)، وأما في البلاد والقرى المحيطة فكل داعية من الدعاة
نقيب على من ببلدته من الذين يستجيبون للدعوة[6].
وبعدما تمَّ هذا الضبط
وإعادة الهيكلة للتنظيم والقيادة لم يسجل التاريخ أن اختراقا آخر حدث ولا نجح للدعوة
العباسية حتى قامت الثورة وصارت دولة.
نشر في ساسة بوست
[1] الطبري: تاريخ
الطبري 4/ 164، وابن عساكر: تاريخ دمشق 10/ 389 (ترجمة بكير بن ماهان)، وابن الأثير:
الكامل في التاريخ 4/ 420، وابن كثير: البداية والنهاية 9/ 351، وابن تغري بردي: النجوم
الزاهرة 1/ 357.
[3] مجهول: أخبار
الدولة العباسية ص208 وما بعدها.
ولا بد من القول بأنه من ناحية الإسناد، فإن
هذه الرسالة ضعيفة؛ لأنها رُويت بغير إسناد، ويزيدها ضعفًا طولها المفرط، الذي يصعب
أن ينتقل عبر الجيل دون أن يُصيبه التحريف، وعلى هذا فلسنا نقول بأنها صحيحة السند،
ولكنها مقبولة في إطار التأريخ؛ فهي لا تخرج عن الأطر العامة للدعوة العباسية وأفكارها،
كما أنها مناسبة لأن تُقال في ظرفٍ كالذي وقع في أزمة خداش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق