ذكرنا في مقال سابق كيف
اختارت الدعوة العباسية الموقع الجغرافي الذي ستبدأ منه نشاطها، وكيف كانت معايير
هذا الاختيار.
ولما استقر الاختيار على خراسان، انطلق إليها رجل الدعوة
ومؤسسها هناك بكير بن ماهان، فالتقى بمَنْ كان قد رأى منهم حبًّا لآل البيت واستعدادًا
لدعوتهم، واستطاع في هذه المهمَّة أن يكسب بعض الأتباع المهمين، والذين سيكون لهم أثر
بعيد في الدعوة، وعلى رأسهم سليمان بن كثير، وكذلك إسماعيل بن عامر، ويزيد بن النهيد،
وشبر بن النهيد، ومالك بن الهيثم، وعمرو بن أعين، وزياد بن صالح، وطلحة بن زريق، وخالد
بن إبراهيم، وعلاء بن الحارث، وموسى بن كعب، وآخرون من خزاعة إضافة إلى بعض الموالي[1].
وبهذا أسس بكير بن ماهان نواة الدعوة العباسية في خراسان؛
وطبيعيٌ ألا نعلم كيف تمَّ هذا على وجه مفصَّل؛ فإن مثل هذا مما لا يُسَجَّل في كتب
التاريخ، ولا يعرفه إلَّا أصحابه الذين يكتمون التفاصيل عن أنفسهم فلا يعرف أحد منهم
إلَّا ما ينبغي له أن يعرفه فحسب .. لئن كان هذا طبيعيًّا؛ فالثابت أن تأسيس الدعوة
في خراسان كان قويًّا ومتميزًا، كما دلت على ذلك ثمراته فيما بعدُ.
وقد احتاجت خراسان إلى كبير للدعاة يقوم على أمر الدعوة؛
ذلك أن الدعوة تحتاج وجود بكير بن ماهان في الكوفة، فأرسل محمد بن علي أبا عكرمة زياد
بن درهم السراج إلى خراسان، وأمره بالسير على طريقة بكير بن ماهان، وكانت وصيته له
هكذا:
«أوصيك بتقوى الله، والعمل ليوم مرجعك، واعلم أنه لا تخطو
خطوة فيما تذهب إليه إلَّا كتب الله لك بها حسنة، وحطَّ عنك بها سيئة، ولا تظهرنَّ
شيئًا من أمرك؛ حتى تقدم جرجان وتلقى بها أبا عبيدة[2]، وتُلقي إليه ما أُلقي إليك، ثم تأتي مرو فتلقى أهلها بتجارتك،
وتلابس العامة بسنتها، وتلقى سليمان بن كثير والنفر الذين استجابوا لأبي هاشم (بكير
بن ماهان).
ولا تظهرنَّ جدًّا ولا دعاء إلى سَلَّةِ سيف، وأقلل مكاتبتي
ومراسلتي، وأنفذ كتبك إلى أبي الفضل وإلى أبي هاشم إن رجع إلى العراق، وإن دعوت أحدًا
من العامة فلتكن دعوتك إلى الرضا من آل محمد، فإذا وثقت بالرجل في عقله وبصيرته؛ فاشرح
له أمركم، وقل بحجتك التي لا يعقلها إلَّا أولو الألباب، وليكن اسمي مستورًا عن كل
أحدٍ إلَّا عن رجل عَدَلَكَ في نفسك في ثقتك به، وقد وكدت عليه، وتوثقت منه، وأخذت
بيعته، وتقدَّم بمثل ذلك إلى مَنْ تُوَجِّه من رسلك، فإن سُئِلْتم عن اسمي فقولوا:
نحن في تقية، وقد أُمِرْنا بكتمان اسم إمامنا.
وإذا قدمت مرو فاحلل في أهل اليمن، وتألف ربيعة، وتَوَقَّ
مضر، وخذ بنصيبك من ثقاتهم، واستكثر من الأعاجم، فإنهم أهل دعوتنا، وبهم يُؤَيِّدُها
الله، واحذر غالبًا ورهيطًا قد ظاهروه على رأيه من أهل الكوفة[3]، فإنهم قوم قد سعوا في الفتنة، وقد برئنا منهم فابرءوا منهم».
كما أمره ألا يضمَّ إلى الدعوة من له علامات مميزة؛ كالمديد الطول، أو الشديد القصر،
أو القوي البياض، أو الجعد الشعر .. وما إلى ذلك، أو مَنْ كان غاليًا في حبِّ العلويين
على التحديد، وشدَّد عليه في عدم الثورة، أو الخروج بالسيف؛ حتى يأتي الإذن منه بذلك[4].
ذهب أبو عكرمة زياد بن درهم السراج، ويُسَمَّى -أيضًا- أبو
محمد الصادق، إلى خراسان فكان أول كبير للدعاة فيها، ويحسب له تنظيم أمر الدعاة في
خراسان؛ إذ اختار اثني عشر نقيبًا يتولون أمر الدعاة[5]، فبهم بدأت مرحلة تنظيم الدعوة في خراسان، وهو الإنجاز الذي
سيُبنى عليه فيما بعد .. وكان الاتصال قائمًا مع مركز الدعوة في الحميمة، ويُشير الطبري
إلى لقاء (104هـ)[6]، وقد كان أبو عكرمة -فيما يبدو- من النشاط والحماسة، إلى
الحدِّ الذي وصلت معه بسرعة أخبار الدعوة التي يقودها إلى والي خراسان، وكان في ذلك
الوقت أسد بن عبد الله القسري، فقبض عليه ومعه صاحبه حيان العطار، ويبدو أنه كان متحققًا
مما كانا يدعوان إليه، فقتلهما وصلبهما (107هـ)[7].
وكانت هذه سياسة الولاة الأمويين في خراسان من بعد أسد القسري
كالجنيد بن عبد لرحمن، الذي قتل مَنِ استطاع القبض عليه من دعاة العباسيين[8].
بعد أبي عكرمة تولَّى أمر الدعوة في خراسان سليمان بن كثير،
وكان معه خمسة آخرون؛ هم: مالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، وخالد بن الهيثم، وطلحة بن
زريق، ومضوا في الدعوة بين الناس في قرى خراسان؛ حتى وصلت أخبارهم إلى والي خراسان
أسد القسري -وكان قد عُزِل، ثم عاد لإنهاء حركة تمرُّد الحارث بن سريج- فواجههم بهذا،
فأنكروا واتهموا من وشى بهم بالعصبية القبلية، واستثمروا كونهم من العرب اليمانية
-التي منها الوالي- فاستعاذوا به أن يُؤذيهم -وهم من قومه- لوشاية واشٍ من المُضرية،
وكان تقدير أسد أن يهدئ الأجواء، ولا يستعدي قبائلهم بقتلهم في ظلِّ ما تمور به خراسان
من اضطرابات، فأطلقهم إلَّا موسى بن كعب؛ فقد عذبَّه حتى كُسِرت أسنانه وأنفه، ولاهز
بن قريظ فقد جُلِد على الرغم من كونه من المضريين، وحين كتبوا بما حدث معهم للإمام
أمرهم بالتهدئة والمزيد من الاستخفاء، وأن يعملوا بدعوتهم بعيدًا عن العاصمة «مرو»؛
فانتقل أساس نشاطهم إلى المدن الخراسانية الأخرى؛ مثل: بخارى، وسمرقند، وكش، ونسف،
والصغانيان، وختلان، ومرو الروذ، والطالقان، وهراة، وبوشنج، وسجستان[9].
وانتشرت دعوتهم في هذه المدن حتى بلغت الأخبار إلى والي خراسان؛
فندم على تركهم من قبلُ، وحاول أن يقبض عليهم مرَّة أخرى فلم يستطع؛ إذ يبدو أنهم كانوا
محتاطين للغاية لمثل هذا الأمر، ثم لم يجد الجنيد بن عبد الرحمن والي خراسان إلَّا
أن يرفع الأمر إلى والي الكوفة خالد القسري، الذي رفعه بدوره إلى الخليفة هشام بن عبد
الملك، غير أن هشامًا -الذي كان منشغلًا في ذلك الوقت بأخبار المغرب والأندلس[10]- لم يكن مستعدًا لفتنة أخرى حربية تشتعل في المشرق، فأرسل
إلى خالد أن يأمر الجنيد: «ألا يرغب في الدماء، وأن يَكُفَّ عمَّنْ كَفَّ عنه، ويُسَكِّن
الناس بجهده، وأن يطلب النفر الذين يدعون الناس حتى يجدهم، فينفيهم»[11].
مهارة شعار «الرضا من آل محمد»
كان دعاة العباسيين، وعلى رأسهم إمامهم، يُخططون ولا يتعجلون،
ولا يطلقون شعارًا قبل دراسته، وعلى أي ساحة يُطلقونه، وفي أي ساحة يحقِّق لهم الأهداف،
ويكسب لهم الأتباع، فكان شعار «الرضا من آل محمد» مدروسًا وَفق منهج الدعوة، فإذا اشتمَّت
المخابرات الأموية ما يفوح بهذا الشعار راحت تترصَّد كل علوي، وربما زجت به في السجن
أو قضت عليه بالقتل، فتزداد النفوس اشتعالًا وتربح الدعوة أنصارًا، ولم يكن سهلًا أن
تظن الدولة الأموية الحاكمة في العباسيين، الذين ارتضوا بالظلِّ في مقابل نار العلويين
التي لم تهدأ[12]. فحقق الشعار ثلاث سمات: «خلاب، فضفاض، غامض»[13].
نشر في ساسة بوست
[2] هو أبو عبيدة
قيس بن السري، ويبدو من النص أنه مسئول الدعوة في جرجان، وكان من السابقين في الانضمام
إلى الدعوة.
[9] الدينوري: الأخبار الطوال ص335،
336، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 162، 163، والمطهر المقدسي: البدء والتاريخ 6/ 60.
[10] في هذا الوقت
انتشرت في المغرب دعوات الخوارج، وكثر خروجهم على الولاة من بني أمية، كما خرجوا -أيضًا-
في الأندلس التي كانت في هذه الأثناء قد دخلت في آخر عهد الولاة، وهو العهد الذي فشت
فيه العصبية القبلية بين أهل الأندلس، ففضلاً عن الخوارج انقسم العرب إلى قيسية ويمانية،
واندلعت بينهم الحروب؛ حتى لقد فقد المسلمون الأراضي التي فتحوها في فرنسا، وأراضي
الشمال الإسباني، وتوسعت على حسابهم ممالك الصليبيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق