الأحد، نوفمبر 04، 2018

سِحْر الفراعين


لما عاد موسى عليه السلام إلى مصر ونزلت عليه الرسالة تَوَجَّه إلى فرعون، وما إن بدأ الحديث معه في الشأن العظيم: شأن الإله والرسالة حتى ترك فرعون ذلك كله، وتذكر شيئا واحدا: تذكر قتل موسى لرجل بالخطأ في شجارٍ قبل عشر سنوات!! ووصف هذا القتل الخطأ بالجريمة العظمى التي يستعظم أن يذكرها صراحة، قال (وفعَلْتَ فَعْلَتَك التي فعَلْتَ وأنت من الكافرين؟). تأمل في أنه لم يقل "وقتلت نفسا" بل عبَّر عنها تعبير المتهول لذكرها كأنها جريمة خارقة كبرى غير مسبوقة، وتأمل في أنه قال "وأنت من الكافرين" ولم يقل: من الغاوين، من الضالين، من الظالمين.

وهذا الذي يتحدث هو فرعون نفسه، الرجل الذي قتل آلاف النفوس بغير رحمة ولا تردد ولا شعور بالأزمة، الرجل الذي أصدر قرارا بقتل الذكور الرُّضَّع لمجرد إذلال الفئة التي يضطهدها أو لمجرد التخوف الذي رآه يوما في منامه "أن ملكه يزول على يد واحد منهم".. فرعون الذي يمارس القتل يوميا بلا حساب استنكر على موسى قتل رجل واحد بالخطأ وجعلها جريمة عظمى!

ردَّ عليه موسى ببساطة واضحة، قال (فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم)، أي: إنما فعلت ذلك عن غير عمد، ولو كان عندكم عدل لبقيت، ولكنني فررت خائفا من ظلمكم. فأثبت على نفسه الخطأ غير المقصود وأثبت على فرعون الظلم الذي يخاف منه البريء فكيف بالمخطيء غير العامد؟

لكن الذي يهمنا هنا الآن هو ذلك السلوك الفرعوني الذي يستبشع قتل رجل واحد بالخطأ بينما هو يمارس القتل بلا حساب ودون شعور بالأزمة!

***

حين جاء موسى بمعجزته جمع له فرعون آلاف السحرة، لم يجمع له ساحرا واحدا أو حتى عشرة.. ولم يتركهم هكذا حتى نظَّم حملة إعلامية طاغية تأييدا لهم، ونطقت أجهزة الإعلام الفرعونية تحشد الناس تحت هذا الشعار (هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين)!

جهاز الإعلام الفرعوني لم يقل للناس: لنجتمع ونرى وننظر من الغالب! لا، بل وجَّه الناس في اتجاه وحيد: تأييد السحرة ضد موسى! وانتظار أن يغلبوه!

ولما جاء الموقف المشهود الموعود، آمن السحرة أنفسهم لكن الناس الذين احتشدوا للمشاهدة لم يؤمنوا، لماذا؟ لأن فرعون اخترع في نفس اللحظة رواية جديدة تبناها الجهاز الإعلامي من فوره، هذه الرواية تقول: هذه مؤامرة على مصر، وعلى فرعون، مؤامرة دبَّر لها موسى الرئيس السري لتنظيم السحرة، ولكن الجهاز الأمني والعسكري للدولة المصرية العريقة سيتصدى لهم بالمرصاد (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى).

وفي التو واللحظة، انقلب السحرة من رموز الوطن المنتظرين في المعركة المنتظرة، إلى رموز المؤامرة على الوطن، ثم إلى مسالخ التعذيب والتقطيع والصلب أمام الناس.

وهكذا وقعت المعجزة نفسها أمام ثلاثة أصناف: السحرة فآمنوا، الناس المحتشدون فخافوا وسكتوا، عناصر الشرطة والجيش فتولَّوْا هم تعذيب السحرة وتقطيعهم!!

لا ينبغي لأحد أن يستهين بأثر الطغيان القاهر على النفوس، هؤلاء الناس لم يجرؤوا على اتباع السحرة الذين احتشدوا لاتباعهم من البداية، وهؤلاء العناصر من الجيش والشرطة قد توحدوا مع الطاغية حتى أنهم عذبوا المؤمنين ولم يحاولوا التفكير في أن يؤمنوا بموسى بعدما رأوا هذه المعجزة الساطعة!

في كل قصة فرعون الطويلة لم يذكر القرآن أحدا قد آمن من آل فرعون إلا رجلا واحدا، مؤمن آل فرعون، ومعه امرأة واحدة هي زوجة فرعون وبها ضرب الله مثلا للذين آمنوا، ليعلم الناس أن صاحب الإيمان الحق يستطيع أن يحقق الإيمان في أحلك أحلك الظروف، في بيت أكفر الناس وأطغاهم وأظلمهم.

***
ما مناسبة كل هذا؟!

مناسبته أننا نعيش الآن قصة فرعون ذاتها لكننا لا نفهم ولا نتعظ!!

قبل نحو أسبوعين أعلن جيش حفتر أنه اعتقل هشام عشماوي، ضابط الصاعقة المصري المنشق عن الجيش المصري، والمتهم بتنفيذ عمليات ضد أفراد هذا الجيش!

حتى القنوات والصفحات المحسوبة على الثورة تعاملت مع هشام عشماوي على أنه إرهابي، فكان أحسنهم حالا من طالب بمحاكمة عادلة، وكان أكثرهم تفاؤلا –أو قل: بلاهة- من تساءل: هل ينهي القبض على عشماوي الإرهاب في مصر أم أن السيسي سيبحث عن ذريعة أخرى ليستمر في قبضته على مصر؟!

لقد تعامل الفراعنة المعاصرون مع هشام نفس تعامل سيدهم القديم مع موسى، خرجوا يستبشعون ويستنكرون الدماء البريئة التي تسبب فيها مع أنهم يقتلون يوميا منذ ظهروا بلا حساب ولا شعور بالذنب، سواء في مصر أو في ليبيا، بل لقد سجلوا هم بأنفسهم أرقاما قياسية في المذابح التاريخ في مصر وفي شرق ليبيا! هذا مع أننا لو حسبنا وصدقنا كل ما اتهموه به لن نجد فيها قتلا لأحد من المدنيين بل كانت عملياته ضد المقاتلين المجرمين عناصر الأجهزة التي مارست المذابح في الناس وقتلت منهم الآلاف!

هشام عشماوي نفسه ضابط صاعقة سابق بالجيش المصري، كان يملك أن يستمر في صفوف العسكر، يتمتع بامتيازاتهم وأموالهم ونفوذهم، ويكون له حق قتل أي مصري كما يشاء وهو آمن من العزل والمحاسبة.. كان يملك أن يكون أحد القتلة الأغنياء الأثرياء أصحاب النفوذ والجاه! لكنه لم يفعل..

كذلك فإنه لم يقعد في بيته ويعتزل الصراع، بل تحمل مسؤولية أن يقاوم إلى جوار المظلومين المقهورين المقتولين الذين كان يملك ببساطة أن يكون واحدا من قاتليهم والقاهرين عليهم..

ماذا ينبغي أن يكون تعامل أي كاره للظلم وللفراعنة مع شخصية كهشام عشماوي؟!

المأساة الحقيقية، وهي مأساة مريرة بقدر ما هي مثيرة للضحك والسخرية، وغريبة بقدر ما هي مثيرة للاشمئزاز.. هي أولئك الذين كم هتفوا ونادوا وصاحوا على (شرفاء الجيش) الذين لا يرضون عما فعله السيسي.. أولئك هم الذين يتوافق خطابهم الآن مع خطاب السيسي على أن هشام عشماوي إرهابي!

إذا لم يكن عشماوي واحدا من شرفاء الجيش الذي ناديتم عليهم.. فأين هم أولئك الشرفاء؟ وماذا تريدون منهم أن يفعلوا؟! هل تريدون شرفاء ساكتين خاملين يسمعون ويطيعون للسيسي؟! أم تريدونهم شرفاء يمتنعون عن القتل ثم يستسلمون للاعتقال والمحاكمات العسكرية بتهمة عصيان الأوامر العسكرية؟! أم تريدونهم شرفاء يعتزلون ويجلسون في بيوتهم ويتحولون إلى متفرجين على مشاهد القتل والذبح والاضطهاد يتمتعون بمعاش ومزايا العسكريين السابقين؟! ماذا يفعل (شرفاء الجيش) هؤلاء لكي يرضوا هذه الخطابات المخنثة التي تزعم أنها ثورية فيما هي في الحقيقة ضد كل فعل ثوري طبيعي فطري.. بل وتسميه إرهابا؟!

****

ألا ترى الآن أنه نفس الجمهور الذي كان يرى في السحرة رموز الوطن حين كانوا تابعين للفرعون، فلما انشقوا عليه وآمنوا بالله صاروا أعداء الوطن الخونة المتآمرين عليه؟!..

لقد قالها السيسي بنفسه، قارن بين أحمد المنسي وهشام عشماوي، وهما ضابطان تزاملا في سلاح الصاعقة، أحدهما وهو المنسي مات وهو في جيش السيسي ينفذ أوامره ويمارس القتل والذبح، والآخر وهو عشماوي انشق عن السيسي وجيشه فطورد وقوتل حتى وقع أسيرا!.. لماذا صار هذا رمزا للوطن وصار هذا عدوا له؟!

ذلك هو خطاب فرعون.. وإعلام فرعون.. والمصيبة كل المصيبة أن نكون نحن أيضا: جمهور فرعون!!

هشام عشماوي.. رجلٌ طاردته سلطة العسكر في مصر، ثم اعتقلته سلطة حفتر في ليبيا.. هذا رجلٌ تشهد ظواهر الأمور على أنه في معركة الحق ضد الباطل، الباطل والشر اللذان يتجسدان في سلطة السيسي وحفتر!

وهذا الخطاب الانهزامي المخنث الذي لا يتعامل مع عشماوي كبطل حقيقي ضحى بكل شيء بانتقاله من معسكر الغالبين الظالمين إلى معسكر المقهورين المقتولين، هذا الخطاب هو أحد أسوأ ما وقع للثورات العربية كلها، فبه اقتربت النخب الثورية من خطاب السلطة وبه ابتعدت وأبعدت الجماهير عن الطريق الوحيد الصحيح الفعال لأي تغيير.. وهذه الهزيمة على مستوى الخطاب والأفكار هي أسوأ الهزائم بحق لأنها تنزع الشرعية عن الثائرين المقاومين.. ثم لا تبقى مقاومة إلا أن نصرخ في الفضائيات صراخا مؤدبا مهذبا محسوبا أو نجري في أروقة المؤسسات الدولية مع إنفاق ملايين الدولارات ثم لا تسمن ولا تغني من جوع!

ما هكذا كانت الثورات يوما..

ولم يسقط نظام بمجرد المجهود الإعلامي المعارض..

ولم تنجح قضية في أروقة محكمة دولية في إسقاط نظام أبدا..

فما هذا الذي نفعله بأنفسنا حين يتحول الخطاب الذي يفترض أنه ثوري ليكون هو نفسه ضد الثورة وضد الثوار؟!!
كيف يكون المقتولون المقهورون المسحوقون المهاجرون الهاربون من القتل هم أنفسهم حائط صد ضد من حاول أن يعدل هذا الميزان فيضحي في سبيل ذلك بنفسه وماله وأهله.. وكيف بمن يضحي بكل امتيازات المال والنفوذ والجاه لينتقل من صف الغالبين القاهرين إلى الدفاع عن المغلوبين؟! ماذا صنع الأبطال الثوريون، رموز الكفاح والنضال عبر التاريخ، غير هذا؟!.. ماذا صنع جيفارا -مثلا- غير هذا؟!

****

أكاد أتصور وأتخيل: لو أن هذا الانقلاب لم يقاومه أحد على الإطلاق.. ماذا كان سيُقال عن شعب اغتصبت إرادته ونصبت له المذابح في الشوارع؟! كم كان سيُسَبُّ ويُطعن فيه وفي شرفه ونخوته وكرامته؟! بم كان سيوصف من الجبن والنذالة والذلة والضعف؟!

ثم حين يتخذ الناس رد الفعل الطبيعي الفطري الذي يتخذه أي بشر ذو كرامة، يخرج من يطعن في هؤلاء ويؤكد على وصفهم الذي أطلقته عليهم نفس السلطة المجرمة القاتلة (إرهابيون)!!

هل نحتاج كل هذا الكلام والتطويل للإقناع بما هو بديهي فطري طبيعي.. شعب ذُبِح فخرج منه من يقاوم ويحاول تعديل الميزان.. ولم يتوجه في عمله هذا إلا ضد أدوات السلطة المجرمة التي تنفذ القتل والتعذيب والإجرام؟!

أين أولئك من القرآن الكريم ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل أين أولئك من شعور البشر وفطرتهم واستجابتهم الطبيعية إذا أريد بهم الذل؟! بل أين أولئك من شعور الحيوانات التي تقاتل عن نفسها وعن صغارها وتدفع عن نفسها وعنهم الأذى بما استطاعت؟!

هل حقا لو كنا في عهد نبي الله موسى كنا سنؤمن به رغم أنف فرعون؟ هل كانت ستقنعنا معجزاته أم سيرهبنا سيف الفرعون وإعلامه وعسكره وشرطته لكي نؤمن بفرعون ونكفر بالله، ونصدق رواية فرعون ذي العذاب الحاضر وننصرف عن نبي الله؟!

هذا سؤال مرعب حقا لمن كان يؤمن بالله ويخشى على نفسه!

ولئن كان الله قد أهلك فرعون وجنوده غرقا، فلقد كان هذا آخر إهلاك الله لأعدائه، فمن بعدها كلَّف الله عباده الصالحين بالجهاد والمجاهدة للطغاة والمجرمين الظالمين، وكلَّفهم بالعمل لإقامة الدين، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نصرا ينزل من السماء على قوم لم يجاهدوا..

فكَّ الله أسر هشام عشماوي وأمثاله، وثبَّتهم وأيدهم، وصرف عنهم الشر والسوء.. وإنه والله لأولى بالتعاطف من خاشقجي، ولكن عزاؤنا أن موازين السماء غير موازين الأرض، وما هي إلا فترة من الزمن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ثم يُنصب ميزان العدل الحق المبين، وحينها تُكشف الحجب ويظهر المستور، وترى مقامات الناس عند الله غير مقاماتهم في هذه الدنيا.. والله أحكم الحاكمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق